موت في دلهي

للكاتب الهندي كاملشوار[1]

غلالة من الضباب تغطي كل شيء. لقد تجاوزت التاسعة صباحاً، غير أن دلهي مازالت أسيرة الضباب. الشوارع مبتلة، والأشجار نديّة، والرؤية غائمة. أما صخب الحياة وضوضاؤها فتتبدى في الأصوات، الأصوات التي تملأ الآذان. إنها تأتي من كل أرجاء المنزل. ها هو خادم آل فاشواني قد أوقد، كما في كل يوم، المدفأة التي بوسعك سماع أزيزها من وراء الجدار. وفي الغرفة المجاورة، يلمِّعُ آتول مافاني حذاءه. وفي الأعلى يضع السردارجي[2] دهن التثبيت الملمِّع على شاربيه، وخلف ستارة نافذته يومض مصباح كروي مثل لؤلؤة عملاقة. الأبواب كلها موصدة والشبابيك كلها مسدلة الستائر، لكن جلبة الحياة تتردد في أرجاء البناية. وفي الطابق الثالث كان فاسواني قد أغلق باب الحمام وأدار صنبور الماء.

تمضي الحافلات خلال الضباب، وأنين عجلاتها الثقال يدنو ثم يخبو في البعيد. عربات الركشو[3] تندفع في طيش. أحدهم ينزل عتلة عداد سيارة أجرة توقفت للتو، وجرس الهاتف يرن في عيادة الطبيب في البناية المجاورة، وثلة من الفتيات الذاهبات الى العمل يجتزن الزقاق الخلفي.

البرد قارس. وفي الشوارع المرتجفة تشق السيارات والحافلات طريقها في سحب الضباب وهي تطلق العنان لأبواقها. أما الأرصفة فهي تعج بالسائرين، لكن كل منهم (وقد تلفع بالضباب) يبدو مثل ندفة من القطن تذروها الريح.وكانت تلك الندف من القطن تتقدم في صمت نحو بحر الضباب ذاك.

الحافلات مكتظة بركابها، بعضهم يرتمي على المقاعد الباردة وسط شخوصٍ معلقة من الأذرع العرضية الممتدة مثل إيقونات للمسيح ولكن قضبان الحافلة اللامعة المتجمدة حلت محل المسامير المغروسة في الراحات.

وكان ثمة موكب جنائزي يتقدم على مهل من أقصى الشارع.

لا بد أنها الجنازة التي قرأت عنها قبل قليل في الجريدة: "توفي مساء اليوم في مستشفى إروٍين السيد سيث ديوانجاند، رجل الأعمال المحبوب البارز. وقد نقل جثمانه الى منزله، وسوف تشيع الجنازة في التاسعة من صباح الغد في شارع اريا ساماجا المؤدي الى ميدان بانجكوين لإحراق الموتى حيث تقام المراسيم النهائية"

لا بد أن هذا هو نعشه الذي يتقدم من نهاية الشارع. ثمة مجموعة من الناس يتدثرون باللفاعات ويعتمرون القبعات يسيرون خفه بصمت وبطء. لا يمكن رؤية كل التفاصيل بوضوح.

هناك طرقة على بابي. وضعت الصحيفة جانباً وفتحت. إنه أتول مافاني واقفاً على الباب:

" عندي مشكلة يا صديقي. لم يأت أحد ليأخذ الثياب للكي. هل يمكنني استعمال مكواتك؟"

تنفست الصعداء حين سمعت كلمات أتول، فقد كنت خائفاً من أن يسألني إن كنت سألحق بموكب التشييع. ناولته المكواة على الفور سعيداً بأنه لا يفكر إلا بِكيِّ بنطلونه ثم الانطلاق في جولة على السفارات. لقد كنت خائفاً، منذ أن قرأت خبر وفاة سيث ديوانجاند في الجريدة، من ظهور أحدهم ليقترح علي الانضمام الى الموكب برغم البرد الشديد. كان كل من في البناية على معرفة جيدة به، وكلهم أناس متكلفون يبالغون في إظهار الدماثة.

يهبط خادم السردارجي السلالم في جلبة ويفتح الباب ويهم بالخروج فأصيح به كي أزيد اطمئناني:

"ضارما ! الى أين؟"

وعندما يجيبني:

"ذاهب لشراء الزبد للسردارجي" أسرع بإخراج النقود وأطلب منه أن يأتيني ببعض السجائر.

السردارجي يرسل في طلب الزبدة لإفطاره، وهذا يعني، أنه هو الآخر، لا يخطط للانضمام الى موكب الجنازة، الأمر الذي زادني اطمئناناً: وبما أن كلاً من آتول مافاني والسردارجي لا ينويان الذهاب فإن الأمر مفروغ منه بالنسبة لي. هذان السيدان علاوة على آل فاسواني كانوا أكثر مني تردداً على منزل سيث ديوانجاند، أما أنا فلم أزره إلا في أربع أو خمس مناسبات. إذا لم يكونوا يفكرون في الذهاب فإن السؤال عن ضرورة ذهابي خارج نطاق البحث تماماً

وظهرت السيدة فاسواني في الشرفة الأمامية، وعلى وجهها الجذاب مسحة من شحوبٍ غريب، ولمسة من حمرةٍ تخلفت عن أحمر الشفاه الذي وضعته مساء الأمس. لم تكن ترتدي غير "روب" منزلي وقد عقدت خصلات شعرها الى الأعلى. "حبيبي" رنَّ صوتها "أحضر لي معجون الأسنان رجاءً"

وازداد اطمئناني. لا بد أن آل فاسواني هم أيضاً لن يحضروا المراسيم

ومن بعيد، عبر طريق آريا ساماج، يدنو الموكب على مهلٍ..

ويعود آتول مافاني ليرجع المكواة، فآخذها منه وأهم بإغلاق الباب، لكنه يدخل ويقول "هل سمعت بخبر موت سيث ديوانجاند بالأمس؟"

"لقد قرأت الخبر في الصحيفة للتو" أجبته ببرود محاولا قطع الطريق على مزيد من الحديث عن الموضوع. وجه آتول يلمع من النظافة، لا بد أنه قد حلق ذقنه قبل قليل.

"لقد كان فعلاً رجلاً ممتازا، ذلك الديوانجاند"

لو استمرت الملاحظات على هذا المنوال فسوف يترتب علي التزام أخلاقي بالانضمام الى موكب الجنازة، ولهذا أسرعت بالسؤال "ماذا حدث بشأن عملك ذاك؟"

"لقد أوشكت الماكنات على الوصول.وسوف أقبض عمولتي حالما يتم ذلك. شغل العمولات هذا أمر أحمق وعديم المعنى، لكن ما العمل؟ لو دبرت أمر ثمان أو عشر ماكنات فقط لاستطعت الشروع في تجارتي المستقلة" ويواصل آتول "أخي، لقد ساعدني كثيراً ديوانجاندجي عندما جئت الى هنا أول مرة. لولاه لما حصلت على عمل قط. الناس هنا يحترمونه فعلاً"

أشعر بوخزة في أذني عند سماعي اسم ديوانجاند، ثم يخرج السردارجي رأسه من النافذة ليسأل "سيد مافاني، متى نذهب؟"

"حسناً، لقد حددوا الساعة التاسعة، ولكن قد يحدث بعض التأخير بسبب البرد والضباب" لا بد أنهما يتحدثان عن الجنازة. كان خادم السردارجي قد أحضر لي السجائر وهو يعد الآن مائدة الشاي هناك في الطابق الأعلى. ثم تتكلم السيدة فاسواني "أعتقد بأن على بريميلا أن تكون هناك. ألا تتفق معي يا حبيبي؟"

"حسناً، ينبغي أن تكون هناك" يجيب السيد فاسواني وهو يجتاز الشرفة "أسرعي بالتهيؤ"

"هل ستأتي الى المقهى هذا لمساء؟" يسألني آتول.

"ربما" وألفُّ نفسي بالبطانية، أما هو فيعود الى غرفته.ثم يناديني بعد لحظات "أخي، هل خط الكهرباء مفتوح؟"

"نعم مفتوح" لا بد إنه يستخدم قضيب الغمس الكهربائي لتسخين الماء.

"تلميييييييع!" يعلن صباغ الأحذية الصغير بطريقته اليومية المؤدبة، فيستدعيه السردارجي الى الأعلى. يجلس الصبي في الخارج وينهمك في التلميع بينما يوجه السردارجي التعليمات لخادمه كيما يحضر الطعام دون تأخير في الواحدة تماما "لا تنس أن تقلي بعض الفلفل، وهيّئ بعض السلطة أيضاً"

أعرف أن الخادم شخص نذل، إنه لا يقدم الوجبات في مواعيدها ولم يسبق له قط أن طبخ ما طلبه منه السردارجي.

في الخارج ما زال الضباب الكثيف يغمر الشارع، ولا علامة على شروق الشمس. الرجل الذي يبيع الحمص وكعكات القمح جاء ونصب عربته كالمعتاد. إنه يلمّع الأطباق التي تقعقع بين يديه.

الحافلة رقم سبعة تغادر بمصلوبيها المعلقين داخلها، بينما يوزع الجابي البطاقات المسبقة الدفع على طابور من الواقفين وتخشخش قطع النقود المعدنية في كل مرة يعيد اليهم الباقي. إنه ليبدو، بزيه الغامق وسط تلك الكرات القطنية الغارقة بالضباب، مثل الشيطان نفسه.

واقترب الموكب الجنائزي قليلا.

"هل أرتدي سارياً أزرق؟" تسأل السيدة فاسواني، فيجيب السيد فاسواني بغمغمة تبين أنه منهمك بشد ربطة عنقه.

ينتهي الخادم من تنظيف بذلة السردارجي بالفرشاة ويعلقها في مكانها، بينما يقف السردارجي أمام المرآة وهو يلف عمامته.

يعاود آتول مافاني الظهور، وحقيبته الدبلوماسية في يده، وقد ارتدى البذلة التي خاطها الشهر الماضي. وجهه مفعم بالحيوية وحذاؤه يلمع. "ألن تذهب؟" يسألني. وقبل أن أسأله "الى أين؟" ينادي "هيا يا سردارجي، تأخر الوقت. لقد تعدت العاشرة"

بعد دقيقتين يشرع السردارجي بنزول السلالم. بينما ينظر فاسواني الى مافاني من أعلى السلم ويسأله "أين خطتَ هذه البذلة؟"

"هناك، في سوق الخان"

"إنها لطيفة جداً. سآخذ منك عنوان الخياط" ثم ينادي زوجته "هيا يا عزيزتي! سأنتظرك في الأسفل" وعندما يلتحق بمافاني والسردارجي يتحسس قماش البذلة ثم يسأل "هل البطانة هندية؟"

"انكليزية!"

"إنها ملائمة جدا" يقول وهو يدوّن على عجل عنوان الخياط الملصق بالبطانة. تظهر السيدة فاسواني في الشرفة فتبدو مثالا للكمال والنقاء في هذا الصباح البارد الرطب. يغمز السردارجي لمافاني ويبدأ بالصفير.

النعش الآن تحت نافذتي تماماً. بضعة أشخاص يسيرون خلفها، مستغرقين في الأحاديث، وزوج من السيارات يزحف بمواكبتها.

تنزل السيدة فاسواني السلالمَ وقد ثبتت وردة في شعرها، ويضبّط السردارجي المنديل البارز من جيب معطفه العلوي. وقبل أن يجتازوا الباب يسألني فاسواني "ألن تأتي؟"

"أسبقوني أنتم. سألحقكم بعد قليل" أجيب رغم أنني لا أعرف الى أين أذهب.

وتمضي الجنازة مبتعدة. تأتي سيارة من الخلف وتبطئ عندما تقترب من الموكب. يتبادل السائق بضع كلمات مع أحد المشيعين، ثم تندفع السيارة متقدمة. وتنسل بعدها السيارتان اللتان تتبعان الموكب وتندفعان وراءها.

أقف وأراقب السيدة فاسواني والرجال الثلاثة الآخرين وهم يتوجهون الى موقف سيارات الأجرة. تسدل السيدة فاسواني دثار الفراء على كتفيها أما السردارجي فهو أما أنه يقدم لها قفازاته الفرائية أو أنه يريها إياها فقط. يتقدم سائق التاكسي ويفتح لهم الباب فيدخل الأربعة. تنطلق السيارة الآن في هذا الاتجاه وأستطيع أن أسمع الضحكات في داخلها. يشير فاسواني نحو الموكب ويقول شيئاً للسائق.

أقف في هدوء وأراقب كل شيء، وأشعر بطريقة ما بأن أقل كان بوسعي فعله هو الانضمام الى موكب تشييع ديوانجاند. أعرف إبنه تمام المعرفة، وينبغي على الإنسان في أوقات كهذه أن يعلن تعاطفه حتى مع أعدائه. البرد يكاد يدمر عزيمتي، لكن مسألة الالتحاق بالجنازة تعذب ضميري.

تبطئ سيارة الأجرة عند اقترابها من النعش. يخرج مافاني رأسه ويقول شيئاً. ثم تستدير السيارة نحو اليمين وتنطلق الى الأمام.

اشعر بالهزيمة، فأرتدي معطفي وأضع خفين في قدمي وأنزل السلالم. تدفعني أقدامي بشكل آلي باتجاه الموكب فأجد نفسي وراء النعش تماماً. أربعة رجال يحملونه على الأكتاف، وسبعة آخرون يسيرون على جانبيه، سابعهم أنا. أتفكّر في الفرق الذي نراه حالما يموت المرء: قبل عام واحد فقط عندما تزوجت إبنة ديوانجاند حضر آلاف من الضيوف، وكانت السيارات تصطف أمام منزله..

وصلنا الى شارع لنكرود. بعد الاستدارة التالية سنبلغ ميدان بانجكوين لإحراق الموتى. عندما يستدير الموكب أرى حشداً من الناس وصَفّاً من السيارات. وهناك أيضاً عدد من الدراجات. ثمة لغط يتصاعد من مجموعة من النسوة الواقفات على جنب، كل منهن بتسريحة شعر مختلفة. كن واقفات هناك بنفس الطريقة من الانغماس في اللذة التي تراها في كونوتبليس[4]. يتصاعد دخان السجائر من جمع الرجال ويمتزج مع الضباب، وتبرق الشفاه الحمر والأسنان البيض في أفواه النساء وهن يتحدثن ويتحدثن وفي عيونهن غطرسةٌ وكِبَر...

كان النعش قد أُنزِل ووضع فوق منصة. يخيم الصمت الآن فيما يتجمع الحشد المتفرق حول الجسد المسجى، والسائقون الذين يحملون باقات وأكاليل من الزهور يقفون بانتظار إشارة من أعين سيداتهم.

وقعت عيني على فاسواني. إنه يحاول أن يشير الى زوجته كي تذهب لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان لكنها تواصل الوقوف في مكانها والحديث مع النسوة الأخريات. وقريبا منهن يقف السردارجي وآتول مافاني.

رفع الغطاء عن وجه الميت وشرعت السيدات الآن بوضع الزهور والأكاليل حوله، وتراجع السائقون وقد انتهت مهمتهم ووقفوا يدخنون قرب سياراتهم.

إحدى السيدات، بعد أن فرغت من وضع إكليلها، تخرج منديلا من جيبها، وتضعه على عينيها، وتنشُقُ قليلاً ثم تخطو الى الوراء. وبدأت كل النسوة بإخراج مناديلهن وصرتَ تسمع أصوات الأنوف التي تنفخ فيها.

أشعل بعض الرجال أعواد البخور وغرسوها حول رأس الجثمان ثم وقفوا دون حراك. وبدا من الأصوات أن حزناً متزايداً قد هيمن على قلوب السيدات. يخرج آتول مافاني ورقة من حقيبته ويريها لفاسواني. أعتقد أنها عريضة لجواز سفر.

إنهم يحملون الجثمان الآن الى داخل ساحة الحرق. يقف الحشد خارج البوابة وهم يراقبون. وانهى السائقون سجائرهم أو أطفؤوها ووقفوا على أهبة الاستعداد قرب سياراتهم.

صار الجثمان الآن داخل المحرقة. وهاهم السيدات والسادة الذين جاؤوا لتقديم العزاء يبدؤون بالمغادرة. وصار بإمكان المرء سماع أصوات الأبواب وهي تفتح وتغلق. ودارت محركات الدراجات وشرع بعض الحاضرين بالسير نحو محطة حافلات ريدنغ رود.

وما زال الضباب كثيفاً...

تمر الحافلات، وتقول السيدة فاسواني "لقد دعتنا بريميلا هذا المساء. سوف تأتي معنا، أليس كذلك يا حبيبي؟ ستكون هناك سيارة بانتظارنا. حسناً، اتفقنا؟"

ويهز فاسواني رأسه موافقاً.

السيدات اللائي يغادرن بالسيارات يبتسمن ويودع بعضهن البعض. وتنطلق السيارات..

آتول مافاني والسردارجي يتوجهان سيراً نحو موقف الحافلات. لو كنت أرتدي ثيابا لائقة لتوجهت من فوري الى عملي. لكنها الحادية عشرة والنصف.

أوقدت النار في المحرقة، وجلس أربعة رجال أو خمسة على مصطبة تحت إحدى الأشجار. إنهم مثلي، وجدوا أنفسهم داخلين الى الساحة. لا بد أنهم قرروا أخذ إجازة هذا اليوم، وإلا لكانوا يستعدون الآن للذهاب الى أعمالهم.

لا أستطيع أن أقرر إن كنتُ سأعود الى البيت وأغتسل وأذهب الى المكتب أم سأستغل عذر الوفاة لأحصل على إجازة. نعم، لقد توفي أحدهم بالفعل، وها أنا عائد من موكب تشييعه!




[1] Kamleshwar Prasad Saxena قاص وكاتب سينمائي وتلفزيوني بارز وأحد رواد القصة الحديثة في الهند، ولد عام 1932 وتوفي عام 2007

[2] السردار: وتعني القائد أو المقدم وتطلق على صاحب المكانة السياسية أو العسكرية، وكثيرا ما يضاف المقطع "جي" الى بعض الأسماء والألقاب لمزيد من التعظيم.

[3] عربات الركشو rickshaw عربات مغطاة ذات عجلتين يجرها إنسان أو تربط الى دراجة.

[4] Connaught Place أحد أكبر وأشهر الأحياء التجارية في نيودلهي.


عطارد
قصة: د.هـ.لورنس



اندفع الجميع في حركة غريبة واحدة ليحتموا تحت شرفة المطعم العميقة. محتشدين في صمت بين المقاعد الصغيرة. لم تكن السماء تمطر ، ولم تهب الريح بالفعل بل حل برد مفاجئ دفع الحشد إلى أن يلتصق بعضهم بالآخر.
ازدادوا التصاقاً شيئاً فشيئاً، في غمرة الظلام والترقب. لقد اتحدوا بشكل غريب وكأنهم انصهروا في جسدٍ واحد. وحين اندفعت موجة من الهواء الصقيعي البارد من خلال الشرفة ارتفعت همهمة خائفة. وكما تفعل الطيور تحت أوراق الشجر التصقوا اكثر فاكثر وكأنهم يبحثون عن ملجأٍ آمن في هذا الاتصال الجسدي.
بدت العتمة الحالكة كسواد الليل وكأنها ستبقى زمناً طويلاً. ثم تراقص البرق على حين غرة فوق أرضية المطعم والتمعت أضواء بيضاء واهتزت فوقها صاعدة نازلة كاشفة عن صورة رجل يهرول في الخارج. كان البرق يضيء نصفه الأسفل حتى الوركين وهو يمضي مسرعاً ،عارياً، شاحباً والنار تبرق من تحت أقدامه.بدا في عجلة من أمره، هذا الرجل الناري الذي لم يكن نصفه الأعلى مرئياً والذي تتطاير من أعقابه السنةٌ بيضاء صغيرة من اللهب.مرت أمامهم كالبرق صورة أفخاذه العبلة القوية وساقيه البيضاوين كالنار مندفعة في العراء، قبالة الشرفة وهي تجرجر من تحت كعوبها شعلاً صغيرةً من لهبٍ أبيض…كان يمضي مسرعاً إلى مكان ما..
في دوي الرعد الذي يصم الآذان تختفي كل المرئيات ، وترتج الأرض رجّـاً. وتتقافز البيوت في الظلام المطبق. وعندما تتسلل دوامة من ريح صَرصَرٍ باردة يتصاعد من بين الجموع أنينٌ خافتٌ من الرعب….إنه الانتظار الطويل : ما من مطرٍ يتخلل هذا الظلام الدامس.. وما من فرجٍ قريب.
وشق البرق من جديد صفحة السماء الحالكة في سطوع يعشي الأبصار، وارتفعت من خلال الغابة دمدمةٌ وحشيةٌ مريبة وانكشفت للناظر لوهلة واحدة كل الموائد الصغيرة وجذوع الأشجار المبهمة.
وانفجرت دمدمة الرعد المدوية ، فترنحت من هولها البيوت والجموع..هاهي العاصفة ترقص الآن فوق التلة نفسها . وانطلق من أعماق الغابة الصدى المتأخر لتمزق الأغصان.وامتد فوق الأرض من جديد وميض البرق الساطع، ولكن لم يتحرك شيء هذه المرة. ثم دوت كَرّةً أخرى من خلل الظلام دمدمةُ الرعد المتفجرة. هاهو الجمع يرتعد من الخوف إذ تبرق السماء المرة بعد المرة، ثم يرتفع ثانية صوت شيءٍ يتفجر، إذ تضرب الصاعقة في الغابة.
واندفعت أخيراً ريح هوجاء لتشق السكون حاملة معها وابلاً من الجليد عنيفاً وهديراً مفاجئاً يخترق الأشجار مثل هدير بحر متلاطم . أجفل الجمهور وتراجع مذعوراً حين لسعت كسر الجليد وجوههم كالنار . وتصاعد الهدير من أشجار الصنوبر وعلا حتى بدا وكأنه صمت من نوعٍ آخر لا يتخلله سوى أصوات أغصان تتهشم وجذوع تتهاوى وتتشظى بينما أخذ الإعصار يتجمع فوق التل.
ثم تساقط البَرَد في هديرٍ طغى على كل ما عداه من الأصوات وهو يجلد دون هوادة وجه الأرض وقمم الأشجار وسقوف البنايات.وفيما كان الجمع يندفع إلى داخل الأبنية خشية أن تسحقه كتل الثلج المتساقطة كانت أصوات تهشم الأشياء وتمزقها ما تزال تسمع وسط الفحيح الهادر الكئيب.
وفجأة انتهى كل شيء ، بعد ما حسبوه دهراً من الأهوال . وهناك في الخارج كانت الأضواء الصفراء تلتمع شاحبةً على صفحة الجليد وفوق كتلٍ لا تنتهي من حطام الشجر والهشيم.
كان البرد شديداً وكان كل شيء من حولهم يوحي بأجواء الشتاء القارص المتجمد. وفوق أرض الغابة الشاحبة السقيمة التي انتصبت أشجارها فوق الأرض الشهباء تناثرت أعدادٌ لا تحصى من كرات الثلج شاقةً طريقها إلى عمق ست بوصات مختلطةً بأغصان الشجر وكل ما خلفته العاصفة من حطام.
- نعم، نعم ! " قال الرجال وقد داهمتهم موجة من الشجاعة المفاجئة لدى رؤيتهم هالة الإصفرار التي غمرت الجو " الآن يمكننا أن نخرج !
وأطل بعض من أوائل الشجعان وشرعوا في التقاط كرات الجَمَد المتحجرة وتصويبها على الموائد المقلوبة.إلاّ أن البعض الآخر لم يتريث كثيراً وأسرع نحو محطة المصعد الجبلي ليتأكد إن كان الجهاز لا يزال شـغّالاً. كانت المحطة في الطرف الشمالي للتل. عاد الرجال من هناك وقالوا انها خالية من العاملين .فانتشر المتنزهون هنا وهناك ومضوا يتجولون في ترقب فوق الأرض التي ارتدت حلةً بيضاء من الجليد المتكسر تحت الأقدام وأخذوا ينتظرون قدوم عمال المصعد.
وهناك..في الطرف الجنوبي من برج المراقبة استلقى رجلان فوق الجليد الآخذ في الذوبان وقد استحالت البزات الزرقاء التي كانت عليهما إلى سواد متفحم…كان كلاهما قد فارق الحياة.وكانت الصاعقة قد جردت أحدهما من ثيابه فأضحى عارياً حتى الوركين..كان مضطجعاً هناك، وقد أدار وجهه نحو الجليد وخيطان من الدم يتدفقان من أنفه ليصبغا شاربيه الغليظين العسكريين الشقراوين.كان ملقى هناك، قرب الحجر النذري للإلــه عطارد. فيما تمدد رفيقه الشاب ووجهه إلى الأرض على بعد ياردات قليلة من خلفه.
أشرقت الشمس من جديد. حدق الجمع في هلع خائفين من لمس الجثتين..وتساءلوا علامَ جاء هذان الرجلان، عاملا المصعد، إلى هذا الطرف من التل على أية حال؟
كان المصعد عاطلاً، إذ طرأ عليه خلل ما أثناء العاصفة فشرع الناس بالنزول على أقدامهم عن التلة الجرداء فوق الثلج الزلق. وكانت الأرض في كل مكان قد ازدحمت بفروع الصنوبر وأغصانه المتهشمة المتشابكة وتعرت الأشجار المورقة والآجام من أوراقها تماماً وكأنما في معجزة. وفي أسفل التلة كانت الأرض جرداء عارية كما في الشتاء.
- إنه الشتاء بعينه ! " دمدم الناس وهم يهبطون في وجل عبر الممرات المتحدرة الملتفة، متجنبين فروع الصنوبر الهاوي.
وخلال ذلك…شرعت الشمس تتوهج في حرٍ شديــد !
شارة الشجاعة القرمزية

مقطع من رواية للكاتب الأمريكي

ستيفن كرَين

تراجع الفتى عن الرتل المتحرك حتى غاب الجندي ذو الأسمال عن ناظريه، ثم عاود المسير مع الآخرين، لكنه وجد نفسه في وسط حشدٍ من الجرحى المضرجين بالدماء.

كان سؤال الجندي ذي الأسمال قد جعله يشعر بأن عاره صار مكشوفاً للعيان، فأخذ يختلس النظرات الى الجانبين ليتأكد إن كان الرجال يبصرون أحرف الخطيئة الموشومة بالنار على جبينه. كان ينظر أحياناً الى الجنود المصابين بعين الحسد، ويعدُّ الرجال الذين تمزقت أجسادهم أناساً سعداء على نحوٍ خاص. وتمنى لو امتلك مثلهم جرحاً ما، شارةً قرمزيةً للشجاعة.

كان الجندي الشاحب كالأشباح الذي يسير الى جانبه يلُوح مثل تأنيبٍ منتصبٍ على قدمين، وكانت عيناه تحدقان في ثبات نحو المجهول، وأثار وجهه الرمادي المخيف انتباه الجمع فأخذ الرجال يبطئون كي يجاروا خطواته الحزينة، ويسايرونه، يناقشون مصيبته، يسألونه، ويمنحونه النصح، لكنه واظب على طردهم بعناد، والتلويح بيده كي يتركوه وشأنه. وأخذت الظلال تزداد عمقاً في وجهه، وبدت شفتاه المطبقتان كأنهما تحبسان أنّاتِ يأسٍ عظيم. وبدا في حركات جسده ضربٌ من التخشب، مثل من يبذل حرصاً شديداً ليمنع آلام جراحه من الاستيقاظ. وكان وهو يغذُّ الخطى كمن يبحث طوال الوقت عن مكانٍ بعينه، مثل إنسان يمضي ليختار قبراً.

وقفز الفتى كاللديغ وقد أثاره شيءٌ ما في مظهر الرجل وهو يبعد الجنود الجرحى الحادبين عليه فصرخ في هلعٍ، وتقدم نحوه مترنحاً ووضع يده الراعشة على كتفه، وعندما أدار الرجل وجهه الشمعي نحوه على مهلٍ صرخ ملتاعاً:

-" يا إلهي! جيم كونكلِن! "

فرسم الرجل الطويل ابتسامةً باهتةً على وجهه وقال:

-" أهلاً هنري "

تأرجح الفتى على ساقيه وحدق في ذهول، وأخذ يتمتم ويتلعثم:

-" آهٍ يا جيم.. آهٍ يا جيم.. آهٍ يا جيم.. آهٍ يا جيم ! "

أخرج الجندي الطويل كفه المدماة وقد امتزج عليها خليط من دمٍ أسود قديم ودمٍ قانٍ جديد.

- " أين كنتَ يا هنري؟" تساءل في صوتٍ رتيب "ظننتُ أنك قُتلتَ. لقد كان يوماً عصيباً. لقد خفتُ كثيراً "

واصل الفتى نواحه:

- " آهٍ يا جيم.. آهٍ يا جيم.."

- "أنت تعرف" قال الجندي الطويل "لقد كنتُ هناك" وأومأ بصعوبة "يا إلهي، أي سيركٍ كان هنالك! ولقد أُصِبتُ ، لقد أُصِبتُ. نعم يا فتى لقد أصبت"

وراح يؤكد هذه الحقيقة بطريقةٍ حائرةٍ، وكأنه لا يعرف كيف حدث الأمر.

ومد الفتى يديه الراجفتين كي يساعده، لكن الجندي الطويل مضى قدماً بإصرار وكأن شيئاً ما يدفعه دفعاً. والآن وقد صار لدى الجندي الطويل من يرعاه، فقد كف الجرحى الآخرون عن إبداء الكثير من الاهتمام، وانكفأوا ثانيةً يجرجرون مآسيهم الشخصية نحو الخطوط الخلفية.

وفجأةً، وأثناء سيرهما، تملك الجندي الطويل خوفٌ عظيم، واستحال وجهه الى ما يشبه الصلصال، فتشبث بذراع الفتى وأدار النظر حوله كما لو كان يخشى من يسترق السمع اليه، ثم راح يتحدث هامساً مرتجفاً:

- " أقول لك ما الذي أخشاه يا هنري. أقول لك ما الذي أخشاه. أنا أخشى أن أسقط، ثم ، أنت تدري- عربات المدافع اللعينة- سوف تدوسني. هذا ما أخاف منه..."

فصاح به الفتى في هستيريا:

- " سوف أعتني بك يا جيم! سأعتني بك! أقسم بالله أنني سأفعل!"

- " حقاً يا هنري؟ " تضرع اليه الجندي الطويل.

- " نعم.. نعم.. أقول لك، سأعتني بك يا جيم"

أكد الفتى متخبطاً في كلامه وقد غص بالعبرات. لكن الجندي الطويل واصل التوسل في صَغار. وتعلق بذراع الفتى كالأطفال. وتقلبت عيناه في صحراء خوفه.

- " لقد كنتُ دائماً صديقا وفيا لك، أليس كذلك يا هنري؟ لقد كنت دائما رفيقا ممتازا لك، أليس كذلك؟ وليس هذا بالطلب الكبير، أليس كذلك؟ أن تسحبني فقط خارج الطريق؟ كنت سأفعل هذا من أجلك لو أنك طلبته مني، أليس كذلك يا هنري؟"

وتوقف منتظرا رد صديقه في تلهفٍ يثير الشفقة.

وتملك الفتى حزن عظيم، فأخذ ينشج بدموعٍ سخينة، وجاهد كي يظهر إخلاصه، لكنه لم يقدر إلا على بعض الإيماءات الخرقاء. غير أن الجندي الطويل نسي فجأةٌ كل مخاوفه. وعاد من جديد شبحاً متجهماً منتصباً. ومضى يغذُّ السير بوجه متحجر. وتمنى الفتى لو أن صديقه استند عليه، لكن الأخير ظل يهز رأسه ويحتج بغرابة

-" كلا.. كلا..كلا.. أتركني يا فتى، اتركني.."

وثبتت عيناه من جديد على المجهول. كان ثمة هدف غامض يدفعه الى الحراك، وذهبت أدراج الرياح كل محاولات الفتى لمساعدته.

-" كلا، كلا، اتركني وشأني، أتركني يا فتى.."

واضطر الفتى الى الانصياع. وفي تلك اللحظة سمع صوتاً يهمس قرب كتفيه. فالتفت فإذا هو صوت الجندي ذي الأسمال:

-" يجدر بك إبعاده عن الطريق يا رفيقي. هناك بطارية مدفعية تنحدر في طريقها الينا، ولسوف تسحقه لا محالة. إنه على أية حال هالك خلال خمس دقائق كما ترى. من الأفضل أن تخرجه من الطريق. من أين يأتي بكل هذه القوة بحق الجحيم؟!"

-" العلم عند الله "

صاح الفتى وهو يهز يديه دون حول. وهرول على الفور وأمسك بذراع الجندي الطويل.

-" جيم، جيم " قال متلطفاً "تعال معي"

حاول الجندي الطويل أن يتخلص منه لكنه كان أضعف من أن يفعل.

-" هاه! " قال في بلاهةٍ وحدّق بالفتى لهنيهة. ثم تحدث أخيراً وكأنه يدرك بالكاد ما يقال:

-" أوه! الى الحقول؟ أوه!"

وانطلق دون هدى خلال الأحراش، والتفت الفتى فأبصر الركاب المندفعين والمدافع المترجرجة للبطارية القادمة، لكن صرخةً ثاقبة من الرجل ذي الأسمال أجفلته:

-" يا إلهي! إنه يركض! "

والتفت الفتى مسرعاً فأبصر صديقه يركض مترنحاً متعثراً نحو أجمة صغيرة. وكاد قلبه يثب من صدره لهذا المشهد فصاح متوجعاً، وبدأ هو والرجل ذو الأسمال بملاحقته. وانطلق الجميع في سباق شاذ غريب. وعندما أدركه الفتى أخذ يناشده بكل ما جعبته من كلمات:

-" جيم، جيم، ماذا تفعل؟ ما الذي يدفعك لفعل هذا. سوف تؤذي نفسك"

ولكن وجه الرجل الطويل ظل على تصميمه، وظل يحتج بطريقة بليدة وعيناه ثابتتان على المكان الغامض التي تنتهي اليه آماله.

-" لا، لا تلمسني! أتركني يا فتى! أتركني يا فتى"

وارتجف الفتى وغمره الخوف والدهشة، وتهدج صوته وهو يسأله:

-" الى أين تذهب يا جيم؟ ما الذي تنويه؟ الى أين تذهب؟ ألا تخبرني؟"

وتلفت الرجل الطويل مثل طريدةٍ حاصرها صيادون لا يعرفون الرحمة، واضطرمت عيناه بتوسل مُلحّ.

-" أتركني يا فتى، ألا تستطيع؟ أتركني لدقيقة واحدة"

وتراجع الفتى وقد غمرته الحيرة.

-" لماذا يا جيم؟ ما بك؟"

واستدار الرجل الطويل ومضى وهو يترنح بشكل خطير، وتبعه الفتى والجندي ذو الأسمال وهما يتلصصان مثل من يخشى سوطاً يرده على الأعقاب، وكانا يشعران بعجزهما عن مواجهته ثانية. وأحسا بأنهما يتهيآن لاحتفال مهيبٍ حزينٍ.

كان في حركات الجندي التعيس شيء أقرب الى طقسٍِ ديني لرجل نذر نفسه لعقيدةٍ وحشية مجنونة تمتص الدماء وتنتزع الأشلاء وتسحق العظام. وتراجعا وقد هيمن عليهما الخوف والخشوع، وكأنه يحمل بين يديه سلاحاً رهيباً فتاكاً.

وشاهداه أخيراً وقد توقف، ثم انتصب دون حراك. وحين هرعا اليه أبصرا وجهه وقد اكتسى تعبيراً ينم عن أنه وجد أخيراً ذلك المكان الذي جاهد لبلوغه. وانتصب بجسمه الهزيل، وتدلت يداه الملطختان بالدماء الى جانبيه دون حراك. كان ينتظر في صمت شيئاً جاء الى هنا من أجله. كان في الموعد تماماً.

وتوقفا منتظرين، ومرت برهة من الصمت. وأخيراً ارتفع صدر الجندي المنكود في حركة متشنجة ثم ازدادت الحركة عنفا وكأن حيواناً حبيساً يرفس ويركل كي يخرج من بين أضلاعه. وتلوّى الفتى من الألم وهو يرى صاحبه يختنق ببطء، وحين أدار الأخير عينيه نحوه أبصر فيهما شيئاً جعله ينهار الى الأرض وهو يُعوِل، ورفع صوته في نداءٍ أخير:

-" جيم، جيم، جيم.."

وران صمتٌ يملؤه الترقب. وفجأة تخشّب الجسد واستقام، ثم خضّته قشعريرة طويلة، وحدق الرجل في الفضاء، وأبصرا في أخاديد وجهه المتألم المريع مسحةً من جلالٍ عميق.

وشيئاً فشيئاً زحفت عليه هالة من غرابةٍ لفته تماماً. ولوهلة قصيرة دفعته ارتجافة ساقيه الى ما يشبه رقصة بدائية بشعة، وتطوحت يداه من حول رأسه في ضربات متتابعة وكأنها حركات جني مندفع. وتمطى جسده الطويل الى أقصى ارتفاعه, وسُمع صوت تمزقٍ خافت، ثم مال الجسد الى الأمام، في بطء واستقامة، مثل شجرةٍ هاوية، ودفعه التواء خاطف في العضلات الى أن يرتطم كتفه الأيسر بالأرض أولاً. وبدا جسده وكأنه يرتد عن الأرض قليلاً ثم يهمد.

-"يا إلهي!" صاح الجندي ذو الأسمال.

كان الفتى يتفرج مسحوراً ذاهلاً على هذا الموعد الاحتفالي. وتلوى وجهه مع كل تبريحة ألم تخيلها وهي تعتصر رفيقه المحتضر. وقفز منتصباً ثم تقدم منه، وحدق في الوجه الشبيه بالصلصال، والفم الفاغر والأسنان التي انكشفت عن ضحكةٍ غريبة. وحين انحسرت طيّة سترته أبصر ذلك الجانب من جسده وكأن ذئابا ضارية قد نهشته نهشاً. واستدار الفتى نحو ساحة المعركة في غضبٍ مستعر مفاجئ. وهز قبضته مثل من شرع في إلقاء خطبةٍ غاضبة:

-" الى الجحيم..!"

والتصقت الشمس الحمراء في عرض السماء مثل قطعة من البسكويت.

المصدر:

Crane, Stephen. The Red Badge of Courage. New York: W.W. Norton & Co., 1994.



الحادث

قصة للكاتب الجورجي: إراكي لوموري

حدث ذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من آذار عام 1982، في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر، في المترو، داخل محطة "الجامعة التكنولوجية".

كان ما يناهز العشرين فرداً يقفون عند رصيف الانتظار. لم تستطع التحقيقات أن تحدد، لسوء الحظ، عددهم الدقيق؛ إذ يقول أغلب الشهود إنهم كانوا تسعة عشر، مع أن البعض يدّعي أنهم كانوا عشرين، اختفى أحدهم فيما بعد دون أن يترك أثراً. لكن لدينا- على أية حال- شهادة سبعة عشر مسافراً واثنين من موظفي المترو.

في الساعة الثالثة ودقيقتين بعد الظهر انبثق موكب من أعماق النفق متحركاً في الاتجاه المعاكس للقطار المتوقع وصوله. كان الموكب قافلةٌ من الجِمال يتقدمها بعير ضخم أبيض ذو سنامٍ وحيد بولغ في زينته. تقدم البعير مختالاً، بطريقة احتفالية، وكان الرجل الذي يعلوه ملتفعا بالبياض ، يشهر سيفاً محدودباً وعلى وجهه الملثم الأسمر ما ينم على الوقار والصرامة والتجهم.

ثم مرت في أعقابه جمال ذوات سنامين مثقلة بالأحمال يحدوها بداةٌ بسطاء تدل وجوههم الرزينة الواثقة اللامبالية على الإرهاق الشديد. اندفعت الجمال في خطى سريعات، كان عددها عشرةٌ أو ربما عشرين أو ثلاثين (إذ لا يوجد اتفاق حول هذه النقطة). وجاء في المؤخرة بعيرٌ بدا للوهلة الأولى مفتقراً الى من يحدو به لكن حاديه ما لبث أن ظهر. إن ملابسات هذه النقطة الأخيرة هي الأخرى غير واضحة.

تجاوبت أصداء سير القافلة داخل المحطة مع رائحة العرق اللاذعة الكريهة. وفي تمام الساعة الثالثة وأربع دقائق غابت القافلة داخل النفق.

في الساعة الثالثة وخمس دقائق خرج القطار من النفق ولم يلاحظ المهندس ولا المسافرون أي شيء غريب. أما التسعة عشر الواقفون في المحطة فقد تجمدوا كالأصنام.

وكان أول من عاد منهم الى الحياة رجل يدعى "كايوز كيكوري" (34 سنة، عاطل عن العمل، مدمن على السكر ومتطفل وذو محكوميات سابقة لارتكابه أعمال شغب صغيرة) وقد أثبت الفحص الطبي اللاحق أنه لم يكن صاحياً ساعة وقوع الحادث. في الساعة الثالثة وست دقائق انفجر في نوبة من الضحك تجمد الدم في العروق كان سببها –كما اتضح- تخيلات ناتجة عن هلاوس كحولية. استمر في الضحك خمساً وعشرين دقيقة ثم تدهورت حالته. هذه الأصوات المريعة أدت الى إصابة الآنسة "ديانياش" (37 سنة، عزباء، مساعدة مختبر في معهد الطب البيطري) بتقلصات هستيرية وولادة مبكرة، بالرغم من أنها ادعت فيما بعد أنها لم تكن حبلى، بل وأنها عذراء.

في اللحظة نفسها أغمي على الآنسة "روزا م. جالويفا" (51 سنة، ربة بيت) وارتطمت بالأرض فأصيبت بفطر في الجمجمة وقامت على الأثر برفع دعوى قضائية ضد إدارة المترو مطالبةً إياها بتعويضٍ قدره (500) روبل عن الأضرار التي أصابتها، بالرغم من أنها لم تعانِ إلا من ارتجاجٍ بسيط.

اندفع الركاب النازلون من القطار الى مساعدة الآنستين "ديانياش وجالويفا" لكن انتباههم انصرف في اللحظة عينها الى ما يلي: أغمي في وقتٍ واحدٍ على أربعة عشر شخصاً آخرين "ثمان نساء وستة رجال" فيما جثا رجلٌ يدعى "ب. م. بتروف" (67 سنة، متقاعد) على ركبتيه وشرع بالصلاة والنحيب واللطم على صدره. أما السيد "د. كوبلاش" (47 عاماً، عضو عاملٌ في الحزب، ومدير المنفذ التسويقي رقم 20 التابع لهيئة التعاونيات الاستهلاكية في تبليس" فقد ابيض شعره تماماً، ثم تساقط، ثم نما من جديد في غضون دقيقةٍ واحدةٍ فقط. شخص وحيد حافظ على صوابه ورباطة جأشه وهو السيد "م. زوريكاش" (20 سنة، عضو عصبة الشباب، والطالب في جامعة تبليس التقنية) الذي استحقت أفعاله كل إطراء، فقد أسرع حال دخوله الرصيف الى استدعاء الشرطة والإسعاف ثم توجه الى مساعدة الآنسة ديانياش. وخلال نصف ساعةٍ نم الفراغ من نقل المصابين والطفل الحديث الولادة (الجنس: ذكر، الوزن: 8 ليبرات) الى المستشفى المحلي. ثم بدأت الإجراءات الجنائية وبوشر في التحقيق. قام فريق من دائرة المباحث الجنائية برئاسة النقيب "أميران توروش" بتفقد الموقع وعثر على الدليل المادي الأول (والأخير كما تبين بعد أيام) على صحة إفادات الشهود: مادة صلبة صفراء-بنية ذات رائحة كريهة نفاذة، الوزن: "1" ليبرة.

قامت لجنة استثنائية من الخبراء من مختلف الأقسام والهيئات المعنية بفحص دقيق للمادة وتوصلت الى استنتاج مفاده إنها عبارة عن غائط حيواني (يحتمل أن يكون لبعير). وبعد استجوابات واستجوابات ثانوية مفصلة أعيد بناء الأحداث، بالرغم من أن ذلك لم يساعد قط على تفسير الحادثة.

كشفت التحقيقات عن العديد من الحقائق الملفتة للنظر، لكن أيا منها لم يكن يتعلق مباشرة بحادثة الحادي والعشرين من آذار: فقد اعترف "د. م. كوبلاش" أن يده امتدت في مناسبا عديدة الى البضائع الموجودة في المخازن التي يشرف عليها. وأقر "ج. ج. جيكوري" بأنه حصل على أموالٍ عن طريق الابتزاز. كما اعترف "ك. د. كارالاش" لتلقي الرشاوى بصورة منتظمة. أما "أ. ن. لايادز" فقد أقر بأنه تزوج من أربع نساء في أماكن متفرقة من جورجيا.. الخ .. الخ. لقد اكتشف كل الركاب تقريباً أموراً تستحق الندم. ومن الأرجح أن تكون تلك الاعترافات الطوعية ناجمة عن حالة الصدمة التي تعرضوا لها.

فشلت دائرة التحقيقات الجنائية، بالرغم من كل ما بذلت، في التأكد من وجود الراكب العشرين أو عدم وجوده من الأساس، كما لم تتوصل الى كيفية ومكان اختفائه، هذا إن كان موجوداً أصلاً. فقد ادعت الآنسة "أرينا دياليش" (19 سنة، عضو عصبة الشباب، طالبة في جامعة تبليس) وهي التي أعطت الوصف الأكثر تفصيلاً للشخص رقم 20 المفترض (طويل، نحيل، أجعد الشعر،، ذو ذقن غير حليق، يرتدي سروالا متآكلا من الجينز الأزرق وسترة جلدية، عمره بين عشرين واثنين وعشرين عاماً)، ادعت إن الرجل الغريب إلتحق بالقافلة، لكن الشهود الآخرين لم يعززوا ما ذكرت.

بعد ثلاثة أشهر من العمل الشاق توصلت لجنة الخبراء الى أن تلك الحادثة لم تكن غير حالة من التنويم المغناطيسي الجماعي، مضيفة أنها لم تتمكن مع ذلك من تفسير وجود الغائط الحيواني داخل النفق. ثم أغلقت القضية وحٌجِبت عن السجلات الرسمية. وظلت المدينة تعج بالأقاويل زمناً طويلاً: فكان البعض يعزو الحادث الى اصطفاف الأفلاك، فيما عزاها آخرون الى التأثيرات فوق الصوتية وآخرون غيرهم الى مثلث برمودا أو الأطباق الطائرة. وشيئاً فشيئاً عاد المواطنون التسعة عشر الى أعمالهم اليومية، وفعل الزمن والعلاج فعلهما (وقد غُفر لهم على أساس حالتهم النفسية الخطيرة). أما السادة "كيكوري وكوبلاش، ولايادز" وآخرون فقد قوموا سلوكهم. فقط الآنسة "جالويفا" ما تزال تطالب بالتعويض، أما الطفل الذي وضعته الآنسة "ديانياش" (والذي سمّته "محمود" لسبب مجهول) فهو في صحةٍ جيدة بالرغم من أنه يعيش دون أب. إنهم كلهم على ما يرام، غير أنهم يتجنبون ركوب المترو –هذه الوسيلة الرخيصة المريحة للنقل رغم غرابة أطوارها).

لكن هناك استثناءً واحداً: إن السيد "ديفاليش" ينزل من القطار كل يوم عند محطة الجامعة التكنولوجية ثم يمضي ليجلس على إحدى المصطبات وكأنه ينتظر شيئا ما.

ماذا ينتظر ؟؟

Sputnik 6/1990


النشر الالكتروني.. ما له وما عليه


لقد أصبح كل من النشر الالكتروني والكتاب الالكتروني ظاهرتين راسختين لا غنى عنهما للعالم المعاصر حتى غدا الحديث عن ضرورتهما أو أهميتهما في هذا الوقت أشبه بالحديث عن ضرورة وأهمية الطائرة أو السيارة أو التلفزيون وغيرها من منجزات العلم والتكنلوجيا!

ولكن، ومثلما لم تختف وسائل المواصلات والاتصالات التقليدية بظهور اختراعات القرن العشرين، نظراً الى استمرار الحاجة اليها في بقاع عديدة من العالم، لوجود معوقات اقتصادية أو جغرافية أو طبيعية تحد من استعمالها هنا أو هناك أو بسبب تحولها الى استخدامات جديدة كوسائل للرياضة أو الترفيه أو المتعة على سبيل المثال، فإن الحاجة الى المنشور الورقي والكتاب المطبوع سوف تستمر بالتأكيد حتى فترة طويلة برغم الكم الهائل من المنشور الالكتروني على مواقع الانترنت أو مواقع التواصل أو المنتديات وغرف النقاش أو في وسائل النشر الالكتروني الأخرى॥

لسنا هنا إذن بصدد الدفاع عن هذا الأسلوب أو ذاك أو الحكم على قدرته على البقاء والاستمرار فهذه أمور تحددها مسيرة العلم والتكنولوجيا والحاجات الآنية والمستقبلية للإنسان، فالنشر الالكتروني يتقدم بخطى حثيثة ويكتسب يوما بعد يوم العديد من التحسينات والابتكارات المذهلة، غير أنه يترافق، شأنه شأن أي اختراع أو ابتكار أو أسلوب جديد، والعديدَ من المشاكل والصعوبات والمخاطر. من خبرتي المتواضعة في عالم النشر الالكتروني ومتابعتي منذ أواسط التسعينات لما يحدث في هذا العالم الرحب يمكنني أن ألخص النقاط التالية التي قد تحيط ببعض من مزايا وعيوب النشر الالكتروني، ولنبدأ أولا بالمزايا والحسنات:

1- ضمان الانتشار الواسع والسريع للمنتَج الفكري والثقافي وبشكل لا تستطيع المطبوعات التقليدية أن تجاريه في الحجم والمدى؛ فالمنشور الالكتروني يمكن أن يصل خلال لحظات الى أية بقعة في العالم متخطيا كل الحواجز الجغرافية والسياسية دون الحاجة الى المرور بالإجراءات الطويلة نسبيا المتعلقة بالتنضيد والإخراج الطباعي وعملية الطباعة نفسها ومن ثم إجراءات الشحن والتوزيع والتعرفة الكمركية والتسليم والاستلام والتسجيل ..الخ، وأن يطلع عليه عدد غير محدود من القراء والمهتمين.

2- رغم الحاجة الى بنية أساسية باهضة الثمن لدخول عالم الاتصالات الحديثة والانترنت والتقنيات الرقمية فإن النشر الالكتروني على المدى البعيد وفي الاستعمال اليومي زهيد الثمن الى حد بعيد إذا ما قورن بالتكاليف والمشقات التي يتحملها كل من الكاتب والناشر للمطبوع الورقي خصوصاً مع ارتفاع أسعار الورق والأحبار وأجهزة ومستلزمات الطاعة الأخرى.

3- النشر الالكتروني أكثر أمنا وسلامة من الناحية البيئية (السلامة المهنية لعمال المطابع، المخلفات الورقية والكيميائية..الخ)

4- المزايا المتعلقة بصغر المساحة المطلوبة في عملية إنتاج المنشور الالكتروني إذ يمكن لمكتب صغير أو غرفة صغيرة في أي منزل أن يخرجا الى الملأ صحيفة الكترونية يومية تحمل من المواد أضعاف ما تحمله أية مؤسسة صحفية عملاقة.

5- يوفر النشر الالكتروني للكاتب إمكانية تطوير وتعديل أو إعادة إصدار المادة المنشورة والتكيف مع ما يستجد من حقائق أو آراء في "طبعات" جديدة منقحة ويمنحه القدرة على التفاعل السريع مع الآخر وتقويم وتعديل التجارب والخبرات الثقافية.

6- يمنح النشر الالكتروني هامشا كبيرا لحرية الرأي والتعبير نتيجة عجز الرقابة الحكومية التقليدية والحواجز السياسية والثقافية عن منع وصول المادة الى المتلقي أو الناشر في معظم الأحيان.

7- سهولة التواصل والتفاهم والتفاعل بين الأطراف الأربعة للعملية الإبداعية : المبدع والناشر والمتلقي والناقد. كما يتيح النشر الالكتروني إمكانية عقد الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات بين أشخاص متباعدين جغرافيا.

8- سهولة التنقل بين المصادر والمراجع والمتون المنشورة يضاف اليها القدرة التوثيقية والتبويبية الهائلة للنشر الالكتروني. لقد أدخل الكومبيوتر ثورة هائلة في مجال توثيق وأرشفة المطبوع الثقافي والعلمي وصار من المستحيل عمليا تعرض هذا المنشور للتلف أو التآكل أو الضياع أو الاندثار مهما طال الزمان أو كثر الاستعمال.

9- قدرة هذه التقنيات على تضمين الأبعاد الصوتية والصورية والتفاعلية في المادة المنشورة مما يضفي عليها قدرا كبيرا من الوضوح والتشويق. كما تتيح تقنيات النشر الالكتروني للقارئ الكثير من التسهيلات المتعلقة بالإخراج الفني للمادة المقروءة أو المنشورة كنوع الخط وحجمه ولونه وسطوعه الخ وهو ما يمكن لكل من القارئ والناشر والكاتب التحكم به بكل يسر.

10- انتفاء الحاجة الى التفرغ الكامل للناشر أو الكاتب (فالغالبية العظمى من القائمين على النشر الالكتروني وخصوصاً في المواقع الأدبية والثقافية أو المدونات الالكترونية أشخاص غير متفرغين يمارسون هذا العمل في بيوتهم وفي ساعات فراغهم دون الحاجة الى البنايات أو المكتبات والمطابع ودور الكتب العملاقة مع ما يرافق ذلك من متطلبات اقتصادية وبشرية من إدامة وصيانة وحفظ وتجليد وطاقة كهربائية وإجراءات أمنية وصحية الخ.

11- يوفر الانترنت إمكانيات الترجمة الآلية السريعة للمادة المنشورة سواء عن طريق محركات ومواقع الترجمة الآلية التي تتيح ترجمة النصوص برمتها (رغم أنها ما تزال بعيدة عن الدقة والسلاسة خصوصاً عند الترجمة من والى العربية) أو عن طريق استشارة المواقع الخاصة بأمهات المعاجم والموسوعات.

12- يساهم النشر الالكتروني في احتفاظ المغتربين والمهاجرين بعلاقتهم مع الثقافة الأم ولغتها ومتابعة (بل والمساهمة الجدية) ما يجري في أوطانهم من أحداث وتطورات.

13- يتيح النشر الالكتروني إمكانية تشكيل الروابط والتجمعات الثقافية بين أفراد متباعدين جغرافياً وكذلك في تبلور المدارس والاتجاهات الجديدة في الفلسفة والفكر والأدب. كما يتيح النشر الالكتروني تأسيس مواقع متخصصة في أدق فروع التخصصات العلمية والثقافية مما يسهل على الباحث والقارئ والكاتب تقليل الجهد والوقت الضائعين بسبب تشتت المواد المنشورة وظهورها أحيانا في مجلات أو مطبوعات بعيدة عن مجال البحث.

.

بيد أن تقنيات النشر الالكتروني تترافق كما أسلفنا مع عدد من الأعراض الجانبية والمحاذير التي يمكن تلخيصها في:

1-السهولة النسبية لانتحال وسرقة المادة المنشورة أو إعادة نشرها أو توزيعها بوسائل الكترونية أو مطبوعة دون الاتفاق مع الكاتب مما يشكل إجحافا بحق المبدع والناشر الأصليين وخصوصاً في البلدان التي لا تلتزم بقوانين حماية الملكية الفكرية. لقد حظيت الجوانب القانونية للنشر الالكتروني باهتمام كبير في الدول المتطورة بل إن المسائل التشريعية المتعلقة بالجريمة الالكترونية وحماية حقوق الملكية وحماية الخصوصية عبر الإنترنت وغيرها من المواضيع المتشعبة غدت مبحثاً أساسيا في الدراسات القانونية في الوقت الذي ما زلنا نتخبط في بدايات متعثرة.

2-غياب طقوس القراءة والكتابة التقليدية التي أضفى عليها الزمن مسحة من الإجلال والجمال والخصوصية الفردية والاسترخاء والحميمية وغياب الوسيط وخصوصا عند كبار السن أو من يشعر بفوات الأوان على التمرس في هذه التقنيات الحديثة.

3-قيام بعض الجهات باستغلال الحرية شبه المطلقة في هذا الميدان لنشر أفكار متطرفة أو لتجنيد الإرهابيين أو إثارة التعصب والكراهية العرقية أو الطائفية أو الدينية أو ممارسة النصب والاحتيال والشعوذة أو الانحراف الأخلاقي.

4-غياب الحد الأدنى من المعايير الفنية في اختيار المنشور في بعض المواقع وخصوصا مواقع الهواة أو المواقع التي لا تحرص على حسن اختيار ما تنشر مما يؤثر سلبيا في المستوى الثقافي واللغوي للمتلقين من الشباب خصوصاً.

5-عدم قدرة قطاعات واسعة من المجتمع (خصوصا في الدول الفقيرة والنامية) على اقتناء أجهزة الكومبيوتر وملحقاتها رغم أن أسعارها تتجه بشكل مطرد وسريع نحو الانخفاض عكس المطبوع الورقي الذي يميل الى الغلاء.

6-يفضل الكثير من المعلنين نشر إعلاناتهم على صفحات المطبوعات الورقية مما يجذب مردودا ماديا أعلى مما يقابله في المنشور الالكتروني رغم أن كفة الأمور تميل بالتدريج لصالح الأخير وخصوصاً في الدول المتقدمةً. وهذا ما يقودنا للإشارة الى ضعف أو غياب المردود المادي الذي يحصل عليه الناشر والكاتب في حالة المنشور الالكتروني في أغلب الأحيان (والحديث هنا ينطبق بشكل أكبر على الدول النامية والمتخلفة ومنها دول المنطقة العربية والشرق الأوسط).

7-الحاجة الى إمكانيات فنية وعلمية لمواكبة التطور اليومي في العالم الرقمي وعالم الاتصالات والتغلب على المشاكل المعروفة مثل الصيانة الدورية والحماية من الاختراقات والفايروسات وانتهاك الخصوصية.. الخ. ناهيك عن حاجة المستخدم والكاتب والناشر الى تدريب متخصص (ولو بأبسط أشكاله) قبل الولوج الى هذا العالم.

8- ما يزال البعض من الدوائر الأكاديمية وأصحاب الاختصاص والقائمين على البحوث العلمية في مجتمعاتنا ينظرون الى النشر الالكتروني نظرة دونية مفضلين الكتاب المطبوع لموثوقيته العالية حسب رأيهم، وقد يشجعهم على هذا ضعف الدقة والمصداقية في الكثير من المواد المنشورة على صفحات الانترنت بسبب سهولة واستسهال النشر مقارنة بالكتاب المطبوع.

9-المخاوف والمحاذير الصحية والنفسية المرتبطة بالاستعمال المطول لأجهزة الكومبيوتر والإدمان على الانترنت .. الخ.

لقد شهد العالم، خصوصا في العقدين الأخيرين، تغلبا تدريجيا ومضطرداً للثقافة البصرية والسمعية (ثقافة الملتيميديا) على الثقافة المقروءة المطبوعة أو المكتوبة، وصار المزيد والمزيد من الأجيال الشابة يحصلون على المعلومة والخبر والمادة الثقافية والفنية والعلمية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة والكتابة.. ولا أراني مفرطاً في الخيال إذا رسمت صورة لعالمنا بعد عشرات السنين وقد تقلصت فيه معرفة القراءة أو الكتابة الى حدودها الدنيا وأصبحت حكراً على فئة قليلة منتخبة من الناس نظرا لسهولة حصول القطاع الواسع من الجمهور العادي على المعلومة واكتسابها وتبادلها بالطرق غير التقليدية التي لا تحتاج الى دراية كبيرة بالقراءة والكتابة.

غير أن تصوير الأمر وكأنه صراع بين المطبوع الورقي والالكتروني فيه أيضا قدر من مجانبة الحقيقة، فالمنشور الالكتروني لن يلغي، سريعاً، المجلة والصحيفة والكتاب المطبوع وإنما سيؤدي (حسب رأي الكثير) الى مزيد من التطور والتكيف مع المعطيات الجديدة، وهذا ما دفع غالبية المؤسسات ودور النشر (على سبيل المثال) الى الجمع بين الأسلوبين وإصدار طبعات الكترونية الى جانب الطبعات الورقية لمنشوراتها.

لقد ساهم النشر الالكتروني (الى جانب وسائل الاتصال الجماهيري العالمية الأخرى كالإذاعات العالمية والقنوات الفضائية) في دفع وتعزيز ظاهرتين متزامنتين من ظواهر العولمة الثقافية وأعني المضي قدما في تشكيل خطاب ثقافي (وضمير وذوق عالمي) موحد وفي الوقت نفسه القدرة على نشر مظاهر الثقافة المحلية للشعوب وانفتاح وتعريف الآخرين على تلك الثقافات المحلية.

غير أننا ينبغي أن نشير أخيراً الى أن التقنية لوحدها لا تخلق شعبا مثقفاً أو مجتمعا متنوراً، فالشعب الذي يفتقر الى تقاليد راسخة في الاهتمام بالثقافة والكتاب لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها الى شعب قارئ مثقف بمجرد إدخال تقنية حديثة مهما بلغت من تقدم.



هل يخون الشاعر قصائده؟

حسن سليفاني.. شاعراً .. ومترجماً


"ترجمة الشعر خيانة" حكم قاطع لا أدري –بالضبط- أول من أطلقه من بين العديد من النقاد والأدباء الذين حملوا على عملية ترجمة النص الشعري قديما وحديثاًً.متأثرين –أو مؤثرين - بالحكمة الرومانية الأكثر قسوة وشمولا: Traduttore traditore (المترجم خائن) سائقين الكثير من الحجج التي تدور في الغالب حول فشل المترجم في إيصال رسالة النص الأدبي في لغته الأصلية شكلاً ومضموناً وإحساساً.
ولكن ماذا لو أقدم الشاعر على ترجمة قصائده؟ هل ستظل التهمة قائمة بتوحد المبدع للنصين؟ هل ستتهافت تلك الحجج؟ هل ستقل صعوبة العملية أم ستبقى تلك القيود والمصاعب التي تحيط بالترجمة الأدبية عموما وبترجمة الشعر على وجه الخصوص؟
سأحاول، في هذه الانطباعات الأولية (التي لا تطمح الى أن تكون دراسة مفصلة) لاثنتي عشرة قصيدة ترجمها الشاعر لنفسه، أن أسلط بعض الضوء على تجربة الشاعر والروائي والمترجم الكردي العراقي حسن سليفاني في ترجمته لتلك القصائد التي ظهرت (باستثناء قصيدة صور مساء السبت) ضمن مجموعته الشعرية الأخيرة (ئةو خانما هةنىَ – تلك السيدة) الصادرة مؤخراً عن اتحاد الأدباء الكورد-فرع دهوك)
والصديق السليفاني –لمن لا يعرف- واحد ممن جمع كتابة الشعر الى ترجمته فصار بحق ممن "لا يكتفي بأن ينوء طوعا بحمل صليب الشعر الثقيل المدمى... بل يأبى إلا أن "يزيّن" جبينه بإكليل من أشواك الترجمة التي تنغرس عميقاً.." في زمن قل فيه من يحفل بالشعر ناهيك عن ترجمته وهذا –لعمري- يكفي لأن نسمي من يقدم عليه مغامراً.. أو عاشقاً.. أو غريب أطوار!
وهو –علاوة على تجربته في الترجمة من والى اللغتين العربية والكردية- يمارس كتابة الرواية والقصة والشعر باللغتين معا، يساعده في ذلك احتكاكه المباشر بكِلا الثقافتين (ذلك الاحتكاك الذي أتاح له فيما بعد إدارة مؤسسة ثقافية نشطة وناجحة وذات علاقات ممتازة مع المثقفين الكرد والعرب مثل اتحاد الأدباء الكورد- فرع دهوك). فقد ولد في دهوك عام 1957 وعاش ودرس في الموصل وبغداد وتعرف على (ثم اندمج في) الحياة الثقافية العراقية منذ الثمانينات وقرأ الكثير من الأدب العراقي والعربي والعالمي (المترجم الى العربية).ليبدأ الكتابة باللغة العربية (لغة التربية والتعليم الوحيدة المتاحة أمامه) قبل أن يبحر (شأن العديد من زملائه) في رحلة البحث عن الهوية الثقافية القومية قارئاً، ثم كاتباً باللغة الكردية.. دون أن ينسى إعجابه واحترامه للأولى.. ولم يكتف بهذا بل دفعه حبه للغات ودراستها الى الالتحاق فيما بعد بفرع اللغة الانكليزية بكلية الآداب لينال شهادة البكالوريوس في آداب اللغة الانكليزية، رغم أنه لم يقدم حتى الساعة (كما أحسب) على الخوض في مجال الترجمة من أو الى الانكليزية.
ثم إنه–أي السليفاني- يشعر بالتأكيد بجدوى ترجمة الشعر وضرورتها، مؤكداً "..أننا بحاجة ماسة للترجمة في الأدب الكردي.. لأنها جسر إنساني شاسع للتعارف والتمازج وتلاقح الثقافات، وحب الحياة" ومؤمنا أن "عدم ترجمة الشعر خيانة أخرى" مُقرا في الوقت نفسه بأن ترجمة الشعر ليست بالسهلة وبأن التمرين والتدريب المستمرين ومزج الترجمة بجزء من روح المترجم الأدبية أسباب أخرى لسد الثغرات أمام هفوات الترجمة.
ما أريد قوله في هذه المقدمة أن الزميل السليفاني قد استكمل العديد من الأدوات الضرورية التي يحتاج اليها من يقدم على خوض تجربة ترجمة الشعر بشكل خاص وهي الأدوات التي لا تخرج (في رأيي المواضع) عن: الإلمام الواسع باللغتين، الاحتكاك العميق المباشر أو غير المباشر بالثقافتين ومنجزاتهما وتراثهما الأدبي والشعري، الموهبة، الذائقة الشعرية (لكي لا أكون متشددا فأطالب بأن يكون المترجم شاعراً حصرا)، القدرة على الإحساس بالرسالة الجمالية والتعبيرية والرمزية للكلمات والنصوص، وأخيراً الحب أو التعاطف أو المشاركة أو الإعجاب (أو سمه ما شئت) مع النص الأصلي وكاتبه وهو في اعتقادي شرط ضروري للغاية قبل الإقدام على ترجمة النص الشعري والتغلب على الصعوبات العامة (من نحوية ومعجمية أو جمالية أو اجتماعية-حضارية أو سياقية أو بلاغية .. الخ) التي تواجه المترجم بشكل عام، ومترجم الشعر على وجه التخصيص.

فكيف تعامل السليفاني مع تلك الصعوبات؟ وما هي الآلية التي استخدمها لسد الثغرات أمام هفوات الترجمة التي يشير اليها؟
بداية أقول أن القارئ لشعر سليفاني سيكتشف بسرعة أنه (في قصائده هذه بالتحديد) بإزاء شاعر صورة، صورة مكثفة موحية تمتاز عادة بالإيجاز الشديد (وهي ظاهرة لافتة في الشعر الكردي المعاصر). وهو لا يكتفي بتسجيل هذه اللقطات الشعرية بل نص صراحة على كلمة صورة في العديد من عناوين قصائده مثل "صور مساء السبت" أو "ثلاث صور" التي يستخدم فيها تقنية الصور الموجزة المتتابعة الشبيهة بفلم توثيقي قصير من ثلاثة مشاهد تظهر في الأول ثلاث شخصيات هي التفاح غير الناضج والحسناوات والعصافير ينتهون جميعا ميتين من هول الأسلحة الكيمائية ليعود في المشهد الثاني ليرسم صورة الجنود الذين يتساقطون وهم يتقدمون نحو التفاح فيتساقطون هم أيضا وتظل الزنابير تعزف فوق رؤوسهم سيمفونية الموت ليختتم القصيدة بالمشهد الثالث الذي يظهر فيه الأطباء العسكريون الذين لا يملكون إلا العجب من هذا القلب القاسي الذي يمتلكه "هذا الرجل"
وهو ينجح في الوصول الى مستوى عال من الإيجاز والجمال في العديد من صوره القلمية:
ورقة الشجرة التي داعبتْ خدها
خبيرة كانت
أضافت لنفسها رائحة أخرى
لذا في الربيع الآتي
ستقصدها العصافير،
وستجيد لغة أخرى (من قصيدة نزهة تحت المطر)

أو في صورة الألوان التي لم تسمَّ بعد في هذا المقطع:

ابتسامة طفلتي
فرح انتفاضة
وألوان
لم "تسمى" بعد

لكن هذه الطبيعة التصويرية في تناول المواضيع الأثيرة لدى الشاعر (المرأة، الحب، الحرب، ويلات الأنفال، التطلع الى الحرية) لا تنفي أن أداة الشاعر في رسمها هي الكلمات وطاقتها الإيحائية والرمزية، فاللغة هنا أيضا (بالنسبة الى المترجم) عامل محدد لحرية المترجم رغم أن الطبيعة النثرية لقصائد السليفاني (وهي ظاهرة لافتة أخرى في الشعر الكردي المعاصر) تتيح للمترجم التحرر النسبي من القيود المتعلقة بالجانب الموسيقى وإغراءات محاولة مراعاته (إن لم يكن محاكاته) عند ترجمة النص.
إن الشاعر المترجم لشعره (مثل الزميل السليفاني) سيكون بالتأكيد أقرب الى فهم النص من سواه وسيكون أقرب الى الجو النفسي والإسقاطات الفكرية والسياسية والتاريخية لكلماته ورموزه مما يخفف كثيراً من صعوبة المرحلة الأولى لعملية الترجمة وأعني بها مرحلة دراسة النص واستيعابه وتمثله. لكن الصعوبات التالية المتعلقة بصياغة النص المقابل تظل قائمة خصوصا اذا كان يترجم من اللغة الأم الى لغته الثانية؛ فمن المعروف أن صعوبة ترجمة النص الفني تتضاعف عندما تكون اللغة-الهدف (target language) هي اللغة الثانية للمترجم أي أنه يترجم من اللغة الأم (حتى لو تأخر في الكتابة بها كما في حالة السليفاني) الى اللغة الأخرى، وهنا تكمن أغلب الصعوبات وتصادف أكثر الهفوات التي قلما ينجو منها مترجم.
وإحدى المسائل البالغة الحساسية حتى في حالة الترجمة "الذاتية" هي مقدار الحرية التي يسمح بها المترجم لنفسه حذفاً وإضافةً وتغييراً واسترسالا .. الخ. وقد يكون من الأجدى أحيانا للمترجم/الشاعر (وقد تحرر من الصراع الذي يثقل ضمير كل من خاض في هذا المجال بين شخصيته شاعراً وأمانته مترجما) أن يعيد كتابة القصيدة في لغتها/لغته الثانية، إلا إذا كان حريصاً على الجانب التوثيقي (إن صح التعبير) أو ارتأى، لهذا السبب أو ذاك، أن يتعامل مع القصيدة بحيادية الناقل الأمين لباقة من الزهور يرسلها حبيب لحبيب.. وهذا ما فعله الزميل السليفاني في أغلب الترجمات إلا في بعض الحالات التي منح لنفسه فيها قدراً أكبر من الحرية:
فقد يعمد أحياناً الى حذف كلمات أو عبارات من النص الأصلي أو نقلها كما هي بلغتها الأصلية أو الاكتفاء بترجمتها ترجمة صوتية (transliteration) لغياب مكافئ مقبول لها أو بسبب محددات أيديولوجية أو دينية أو لغوية وهي حالة معروفة في عالم الترجمة يصطلح عليها أحيانا بعجز الترجمة (under-translation) مقابل ما يسمى بفرط الترجمة (over-translation) أي إيراد عبارات أو كلمات غير موجودة في النص الأصلي بهدف إيصال رسالة النص أو إيضاح معناه. وقد يلجأ في أحيان أخرى الى تغيير بعض الكلمات أو العبارات كنوع من أنواع المرونة إزاء الاختلافات اللغوية والثقافية والبيئية بين اللغتين التي تصل أحيانا الى عدم قابلية ترجمة الكلمات من اللغة المصدر SL إلى اللغة المنقول إليها TL وهو ما يعرف بعدم القابلية على الترجمة (untranslatability).
ولقد كان النجاح حليفه في الشطر الأكبر من تلك الحالات:
ففي قصيدته "تلك السيدة" ترجم الشاعر المقطع التالي:
ئةو خانما دبةر مةرة بورى و
سةرىَ خوة يىَ قذاظذ هةذاندى
ياساييَن ظيانىَ دناسين
الى:
تلك السيدة التى هزت
شعرها الغجري
واجتازتنا
كانت تجيد قوانين العشق
مبدلا وصف شعر سيدته من"قذاظذ " (أشعث) الى "الغجري" لما للكلمة الأخيرة من وقع إيحائي ومدلول جمالي في الأدب العربي ربما يفتقده مقابلها في الأدب الكردي. ثم نراه في القصيدة نفسها يترجم هذا المقطع:
ئةو خانما هةنىَ
ئةوا خودى
د جوانيىَ دا داهيَلاى
بهذين البيتين:
تلك السيدة
التي قد غمسها الله
في دنً الجمال
فأضاف الى الصورة في النص الكردي التي تعني حرفيا "تلك السيدة التي غمرها الله بالجمال" صورة أكثر عمقاً عندما أضاف لفظة الدن الموحية بالخمر والعسل.
وفي مكان آخر، وفي قصيدته "3 صور" ترجم عبارة "شةظ ديلانا دلى ية" الى عبارة "الليل عرس القلب" متجاوزا المعنى الحرفي-المعجمي لكلمة "ديلان" التي تعني (رقصة، دبكة، حلقة رقص الخ) الى كلمة عرس التي حملت معنى دلالياً أكثر غنى في النص العربي.
وهو يلجأ أحيانا الى تخطي عبارات معينة حين يراها غير قابلة للترجمة بسبب الاختلافات اللغوية والبيئية التي أشرنا اليها مثل العبارة الكردية الشائعة " مالويَران " التي كثيراً ما تستعمل في الحديث اليومي كنوع من أنواع الإطراء أو التعجب أو الدعاء والتي نجد أقرب مكافئ لها في العبارة العامية العراقية "مهجوم البيت" أو العبارة المصرية "يخرب بيتك" وذلك في المقطع التالي من قصيدته "أنت":
وةرة ببينة كةربا رؤذىَ
ذ ديَمىَ تة يىَ مالويَران
الذي يترجمه الى:
أنظري الى غضب الشمس
من وجهك المشرق
ثم نراه يحذف (ربما للسبب نفسه) هذين السطرين الكاملين من نفس القصيدة، التي منحتها العبارات الدارجة في الأصل الكردي خفة وظرفاً يصعب نقلهما:
ئةو بؤ كىَ دكةنت ثرضا تة ؟
هةى ئةز طؤرى طةردةنا تة .
حيث يكمن وجه الصعوبة مرة ثانية في الدعاء الكردي المحبب في السطر الثاني الذي يمكن أن نعثر على أقرب مكافئ له في العبارة اللبنانية الظريفة :وليك تقبرني هالرقبة!
لكنه يجد ضالته في الترجمة الحرفية لدعاء ثالث من قصيدة تلك السيدة:
ئاظا بت مالا وىَ
فيهتف لسيدته الجميلة: ليزدهرْ بيتها!
وقد يغفل المترجم عن ترجمة كلمات أو عبارات بعينها دون مسوغ واضح مثل ما فعل في هذا المقطع من قصيدة صور مساء السبت:
طر ، طيانىَ طياى د كوزرينت
ذ كةربا ، ل بةر سيمفؤنيا سر و سةرمايىَ
دةست ب سةمايىَ دكت .
حين يترجمها الى:
الغضبُ يشتعل في روح العشب
الذي يبدأ الرقص غيظاً
حاذفا عبارة "ل بةر سيمفؤنيا سر و سةرمايىَ" التي لو لم تحذف لربما قرئ النص كالآتي:
الغضبُ يشتعل في روح العشب
الذي يبدأ الرقص غيظاً
أمام سيمفونية البرد القارس
كما يبتر أحيانا مقطعاً كاملاً من القصيدة مثل هذه الفقرة الجميلة من قصيدة تلك السيدة:
ئةو خانما هةنىَ
ئةوا ذ شيشا شةرابا
هةظالا من زةلالتر
هةذيية مرؤظ
مؤركيَن رستكا وىَ
ماضيكت
(تلك السيدة
الأصفى من كؤوس نداماي
ليس كثيراً عليها
أن أهوي مقبلاً
خرزات قلادتها –ترجمة مقترحة)
وقد يقع الحذف غير المبرر في عنوان القصيدة نفسه مثل ترجمة العنوان "سيَظيَن ساظا و سيانيد" الى "التفاح والسيانيد" مسقطاً عن التفاح صفة " ساظا " التي تعني الرضيع أو الغض أو غير الناضج كما يتبين من متن النص.
وقد يسبب حذف كلمة أو اثنتين في حيرة القارئ لهذا المقطع المترجم من قصيدة الفراشة:
نعم هذه الفراشة الملونة الرقيقة
لا تستطيع ان تكمل دورتها حول
روض الزهور
وكرعب الأسماك
في ليلي يحوم الظلام
حول النهر
تهرب الى الاعماق ‘ لتنام بسلام
التي تبدو ملتبسة المعنى بسبب حذف عبارة "ب ترس درةظت" (تفر مذعورة) التي لو لم تسقط في الترجمة لاستقام المعنى واتضح للقارئ أن الفراشة هي التي تفر مذعورة كذعر الأسماك في ليلة مظلمة تدفعها الى الهروب الى الأعماق.
ومن جانب آخر قد يلجأ بعض المترجمين (في محاولة منه للتغلب على بعض مصاعب الترجمة) الى ما يعرف بالترجمة الصوتية transliteration حين يعجز عن العثور على مقابل مقنع فينقل الكلمة حسب طريقة نطقها في اللغة المصدر كما حدث مع كلمات مثل الديمقراطية والتكنولوجيا والتلفزيون ومئات غيرها مما نقل كما هو الى اللغة العربية، وهذا ما فعله السليفاني أيضاً، لكن هذا الأسلوب لا يحبذ عند توفر المقابل السائغ المقبول كما في كلمة "كاذ" (قصيدة قمر الثلاثاء) التي ترجمها ترجمة صوتية الى كلمة "كاز" رغم وجود المقابل الدقيق وهو "الصنوبر" أو في ترجمة عبارة "ميَزيَن زيوانى" في القصيدة نفسها الى الموائد الزيوانية (حيث أن المقابل الدقيق لكلمة زيوان الكردية هو زؤان) رغم أن هذه الأخيرة تبقى غامضة حتى بعد تصحيح الخطأ، إذ إنها تكاد تكون مهجورة في العربية المعاصرة وكان من الأجدر ترجمتها الى أقرب المعاني اليها أو شرحها في الهامش (شوائب، عشب رديء ينبت بين أعواد الحنطة أو الشعير..الخ) حتى تتضح الصورة الجميلة التي تراها في النص الأصلي (وهو في رأيي أحد أجمل نصوص المجموعة). ولا أدري إن كانت ترجمته لكلمة "سيم" الى لفظة "سيم" العامية تقع في هذا السياق رغم توفر البديل العربي الفصيح: سلك، أسلاك شائكة الخ (قصيدة صور مساء السبت) أم أنها زلة غير مقصودة.
ويقودنا الحديث هنا الى الحاجة الملحة في بعض الأحيان الى تعزيز النص بهوامش مقتضبة لا تفسد متعة القراءة لكنها تعرف قارئ النص المترجم بالأشخاص والوقائع التاريخية أو الحقائق الجغرافية التي لا غنى عنها كما في قصيدة سليفاني الجميلة القصيرة "كاروخ" التي خلت ولو من إشارة بسيطة الى أن "كاروخ" جبل في كردستان يقع في المنطقة الفانية وحدثت فيه الواقعة الفلانية. كما يجدر بنا التنبيه الى بعض الزلات والهفوات التي لا ينجو منها كاتب أو مترجم مثل قوله "في الراديو الذي يلغي" (الصحيح يلغو -قصيدة عين الليل) أو "لم تسمى" (الصحيح لم تسم -قصيدة 3 صور) أو "لا زال الوقت مبكرا" (الصحيح ما زال أو ما يزال-قصيدة عين الليل) أو بعض الهفوات في الإملاء أو علامات الترقيم كعلامات التعجب والاستفهام والفاصلات. ولا عيب هنا على الإطلاق في استشارة منقح أو خبير لغوي، وهو الأمر الذي لا يتحرج منه كبار الكتاب العالميين حيث يوجد خبير مختص بإعداد العمل نظير أجور محترمة في أغلب دور النشر العالمية. ولا ننسى أن بعض كبار الشعراء القدامى (ممن أطلق عليهم الأصمعي لقب عبيد الشعر) اعتاد نمطاً متطرفاً من هذه الممارسة حين كان يعرض قصائده حولاً كاملاً على أهل بيته وحولا كاملاً على أبناء قبيلته قبل أن يعلنها على الملأ، حتى ذهب الشاعر الحطيئة الى أن "خير الشعر الحولي المنقَّح" وسمّى زهير بن أبي سلمى كُبرى قصائده الحوليات، والأمثال تضرب ولا تقاس!
...
إن هذه الملاحظات السريعة تؤكد –ولا تتعارض مع- الانطباع الإيجابي العام للجهد الكبير الذي بذله الزميل السليفاني في ترجمته لهذه القصائد (التي تشكل إضافة أخرى الى مشروعه الترجمي الغني: قصص من بلاد النرجس، قصائد من بلاد النرجس وغيرها) عندما نجح في إيصال محتواها ورسالتها الفنية والمحافظة على إيقاعها العام وجوها النفسي وتوالي صورها الشعرية الجميلة التي كشفت، عبر أساليبها التي تراوحت بين الواقعية والرومانسية، عن التماهي الجلي بين الذاتي والعام.. وبين المشهد أو المكون الطبيعي والمشهد النفسي الداخلي للشاعر فردا أو ناطقا بهموم المجموع وتطلعاته المشروعة وقضاياه الاجتماعية والإنسانية.

ماجد الحيدر
majidalhydar@yahoo.com
دهوك 9-9-2010

المراجع
• حسن سليفاني- ئةو خانما هةنىَ – مجموعة شعرية من منشورات اتحاد الأدباء الكورد فرع دهوك-2010
• محمد حسن يوسف-كيف تترجم-ط1- الكويت-1997
• يوئيل يوسف عزيز وآخرون- الترجمة العلمية والتقنية والصحفية والأدبية-ج2-وزارة التعليم العالي والبحث العلمي-العراق.
• صفاء خلوصي- فن الترجمة في ضوء الدراسات المقارنة- وزارة الثقافة والإعلام-بغداد 1982
• حافظ قاضي-فةرهةنطا قازي- دار سبيريز للطباعة والنشر-دهوك 2005
• محمد أمين دوسكي-قاموس سبيريز – دار سبيريز للطباعة والنشر-دهوك 2008
• مجمع اللغة العربية بالقاهرة-المعجم الوسيط
• ماجد الحيدر- ترجمة الشعر.. مهنة المجانين-جريدة الأهالي-العدد 265 في 27-8- 2008.
• جريدة الصباح-ملحق خاص عن الترجمة في 29-10-2008
• حسن سليفاني-حوار أجراه الكاتب والناقد العراقي جمال كريم – جريدة المدى في 4-11-2009
• Gwyneth Box- Poetry Translation- http://www.translationdirectory.com/article128.htm
• Sugeng Hariyanto -Problems in Translating Poetry-http://www.translationdirectory.com/article638.htm






عادات القراءة وممارسات الكتابة في بيئة الكترونية[i]


"ولكن من سيكون السيد.. الكاتب أم القارئ؟ "

من رواية ديدرو[ii] "جاك المؤمن بالقدر وسيده"

هذا التساؤل الذي طرحه ديدرو في القرن الثامن عشر يكشف الصراع الخفي من أجل الهيمنة بين الكاتب والقارئ: الكاتب الذي يفترض مقدماً سيادته من خلال اختيار وترتيب الفقرات والجمل والكلمات، والقارئ الذي يتمسك بسيطرته عن طريق فرض تأويله للنص. الكاتب يبدع ويخلق، والقارئ يقيّم ويقبل أو يرفض؛ الكاتب يمنح الأفكار شكلها المادي على شكل حروف وكلمات مطبوعة، والقارئ يمسك بذلك الشكل المادي للنص ويحيله الى خيال وتلميح وتجريد. إنه صراع حيوي ديناميكي لا يفقد أهميته في يومنا هذا ونحن نواجه أسئلة جديدة عن مستقبل الكتابة، وآفاقاً متجددة رحبة تتسم بحدود غير ثابتة وتخوم تتسع باستمرار.

حين نحاول تخيل مستقبل الكتابة من المهم أن نعترف بالدور الحيوي للقارئ، متلقي النص، الشخص الذي سيترجم الأفكار ويستخرج منها المعاني الخفية. كما إن عادات القراءة يجب أن تخضع لدراسة معمقة ومستفيضة، خصوصاً ونحن نتحول بشكل متزايد من الصفحات الى الشاشات، من السبورات والأوراق واللوحات المثبتة فوق سطوح مستوية الى بيئة الكترونية متحركة ومتعددة الأبعاد. لكننا ينبغي، بالمقابل، أن نكون منتبهين الى الطرق التي تؤثر بها الممارسات الجديدة للكتابة الرقمية على الطريقة التي نقرأ بها النص. إن العلاقة القديمة بين القراءة والكتابة تعود بنا الى الألواح الطينية المربعة أو المستطيلة للحضارة الرافدينية المبكرة التي كانت الأقلية السائدة (في العادة البيروقراطيون والكهنة) تتحكم بواسطتها بسجلات الضرائب، والمعلومات المتعلقة بحقوق الملكية والنصوص التشريعية. أما لفافات البردي فقد وفرت شكلاً أكثر ملائمة لمثل هذه السجلات ( لاحظ بأننا مازلنا نعبر عن امتنانا لتلك التكنولوجيا القديمة عندما نستعمل كلمات مثل "ملف" في العربية أو scrolling في الانكليزية – تستخدم الأخيرة للإشارة الى صعودنا ونزولنا أفقيا ونحن نتصفح شاشة الكومبيوتر).

من أجل تلبية احتياجات القراء المسيحيين الأوائل أخلت الرقم الطينية ولفائف البردي الطريق الى المخطوطات المصنوعة من القصب مما سمح للموظفين الحكوميين والكهنة والرحالة والطلاب أن يستعرضوا بشكل أسرع أقساماً متعددة من النص المكتوب علاوة على نقل المواد المكتوبة بشكل أسهل. وكما لاحظ "نيكولاس فيربيولز" مُعِد كتاب "نظريات التعليم" فإن "القراءة هي ممارسة غالبا ما تكتسب صفاتها من العلاقات الاجتماعية والبيئة المحيطة التي تجري فيها، ولهذا فإن الاختلافات الكبيرة في تلك البيئة والعلاقات لا بد أن تحدث تغيرا في تلك الممارسات"

إن واحدا من أمثلة هذا التبدل في العلاقات الاجتماعية يمكن أن نلاحظه في الاتجاه من التأكيد على القراءة باعتبارها ممارسة اجتماعية (عبد يجيد القراءة والكتابة يقرأ لسيده الروماني، أو كاهن منعزل يتلو الإنجيل على أخوته الهاربين من بطش السلطات) نحو ممارسة أكثر فردية وخصوصية يمارسها في خلواتهم الارستقراطيون القادرون على شراء مجاميع من النصوص المخطوطة.

لقد هيمنت الكنيسة، خلال العصور الوسطى، على إنتاج الكتب، وبضمنها كتاب الصلوات "أداة الإيمان النقّالة التي يمكن للمؤمنين أن يستخدموها سواء في الصلوات الكنسية العامة أو في صلواتهم الفردية" كما يصفها "البرتو مانغويل" مؤلف كتاب "تاريخ القراءة". وقد مهد قيام "غوتنبرغ" بطباعة الإنجيل بين عامي 1450- و1455 الطريق أمام الانتشار الواسع للنصوص، وما تبعه من اتساع في انتشار النصوص الدنيوية التي سهلت انتشار المُثُل الإنسانية وإعادة اكتشاف النصوص الكلاسيكية أوائل العصر الحديث. وصارت الكتب أسهل وصولاً الى الجماهير خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر مع طبع نصوص أصغر وأرخص. واستمر تحول طباعة الكتاب الى صناعة مستقلة خلال القرن التاسع عشر حين تحول الكتاب الى وسيلة إعلامية جماهيرية وبدأ الناشرون بتلبية احتياجات زبائن وقراء بعينهم. خلال القرنين الماضيين استمرت التكنولوجيا في التكيّف وعاداتِ القراءة، مع ازدياد تحول الناس هذه الأيام نحو الآلات الرقمية لمشاهدة الأفلام وسماع الموسيقى ومتابعة نشرات الأخبار وقراءة النصوص مهما اختلف طولها. وتطورت أدوات مثل الآي فون iPhone وقارئ الكتب الالكترونية Amazon Kindle لملائمة رغبات القراء في الوصول الفوري والاستفادة من الوسائط المتعددة multimedia استمرارا لتراثٍ من التحولات صاحب ظهور التصوير الفوتوغرافي والسينما والإذاعة والتلفزيون خلال القرنين التاسع عشر والعشرين.

إن سهولة حمل ونقل الكتاب لم تعد أفضلية مهمة في وقتنا الحاضر حيث يمكن الوصول الى الصفحات بواسطة الحاسبات المحمولة والمفكرات الالكترونية note books. هذه التقنيات الجديدة غيرت بدورها تجربة القراءة نفسها كما يؤكد "يربيولز" : "إن القراءة الفعالة من شاشة الكومبيوتر ليست كالقراءة في كتاب، إن الجوانب العملية للقراءة، وسرعة قراءتنا، ومتى نتوقف، وكم من الوقت يمكننا التركيز، وكم مرة نقفز فوق المواد أو نعود إليها أو نعيد قراءة ما قرأناه الخ يختلف بالتأكيد بين الحالتين، وهذه الاختلافات تؤثر حتما على طريقة فهمنا وتأويلنا وتذكرنا لما قرأناه"

لم يعد القراء محددين بتقليب صفحات الكتب، إذ يمكنهم التقلب بين شاشات متعددة في الكومبيوتر، أو يمكن بلمسة واحدة أن يجدوا طريقهم سريعاً الى سلسلة من الروابط، التي تتضمن الكثير من المؤثرات: الصور، لقطات الفيديو، الرسوم المتحركة، الملفات الصوتية، وهي كلها إشارات الى هيمنة المرئي والمسموع على ثقافتنا الرقمية. إن قراء القرن الحادي والعشرين، وعلى الأخص أولئك الذي فتحوا أعينهم في عالم رقمي، معتادون على الاندماج في فعاليات متعددة في نفس الوقت: فنراهم يطبعون نصوصاً على الانترنت فيما هم منهمكون بتفحص الرسائل الالكترونية واستعراض صفحاتهم الشخصية والاستماع الى الموسيقى من هواتفهم الذكية. تكتب إحدى الطالبات في مقالة لها: "أثناء الدروس كثيراً ما ألاحظ زملائي القريبين وهم يتحولون الى الشاشات البراقة لهواتفهم المحمولة ليرسلوا رسائل نصية الى أصدقائهم فيما يلقي الأستاذ محاضرته"

يعتقد بعض الدارسين أن هذا الميل الى تعدد المهام قد أدى الى تقصير فترة التركيز لدى الإنسان وانخفاض القدرة على التركيز الدقيق على نصٍ واحد. إننا نتعرض كما تقول "كاترين هيلز" الى تحول في أنماط الإدراك على مستوى الأجيال، مبتعدين عما تدعوه "الانتباه العميقdeep attention -التركيز القوي على هدف واضح لمدة طويلة نسبياً" ومتجهين نحو "فرط الانتباه-hyper attention" الذي يتميز بالتنقل السريع للانتباه ما بين مهمات مختلفة والانخراط في قنوات معلوماتية متعددة متزامنة والبحث عن محفزات عالية المستوى مع ضعف التحمل للملل" وهي تؤكد على أن كل نمط إدراكي له فوائده ومزاياه وأن على المربين أن يطوروا مناهج تعليمية تسمح للطلبة بممارسة كلا النمطين الإدراكيين.

في هذا السياق يمكن للطلبة، على سبيل المثال، أن يدرسوا كيفية تقديم صورة ذاتية لهم عبر الفيس بوك والتدرب على فرط الانتباه كمدخل الى الإستراتيجيات المعقدة لتقديم النفس كما يرد في كتاب "التربية" لهنري آدامز (وهو نص يحتاج الى تركيز عميق). يعتقد بعض المراقبين أن الانهماك في فعاليات تشجع فرط الانتباه (مثل ممارسة الألعاب على الانترنت) تزيد فعليا من القابليات الذهنية لليافعين كما يقول "ستيف جونسون"، فكل شيء سيء يحمل شيئاً من الفائدة!

كيف تجعلنا الثقافة الشعبية المعاصرة أكثر ذكاءً؟ لقد وجدت الدراسات التي أجريت خلال السنوات الأربع الأخيرة بشكل مضطرد أن الألعاب تعزز التعلم وتقلل الزمن المستغرق في إعطاء التعليمات والدروس، كما وجد الباحثون في جامعة كورنيل أن ممارسة ألعاب الكومبيوتر في أعمار مبكرة قد تساعد اليافعين على اكتساب كل من الانتباه العميق وفرط الانتباه. إن هذه الممارسات التي تستلزم القراءة والتفاعل مع الكومبيوتر قد أثرت بالطبع على الطريقة التي نكتب بها، فقد طور الشباب طرقا خاصة بهم من التواصل الاختزالي فيما بينهم عن طريق غرف الدردشة أو رسائل الإيميل، فهم، على سبيل المثال، يستعيضون عن كلمة you بالحرف u ويستعيضون عن كلمة for بالرقم 4 حتى أنهم يكتبون for you بحرفين فقط 4u وهلم جرا! وقد يجد بعض الطلاب أن التعبير عن الأفكار والمشاعر بأقل قدر ممكن من الكلمات نوع من التمرين المبدع حتى يتيسر لهم إرسال رسائلهم بأسرع ما يمكن. يقول أحد الطلبة عن تجربته في هذا المجال "لقد وجدت نفسي منهكماً بمحاولة ابتكار طرق جديدة لاختزال الكلمات من أجل كتابة أسرع للنصوص" ورغم أن هذا الطالب يعد نفسه ممارسا خبيراً في هذا الفن فإنه يعترف بأنه يتلقى أحياناً رسائل تشعره "بالعجز والضعف أمام هذا التدمير البطيء المؤلم للغة"

عندما طلب من بعض التلاميذ أن يعدوا تقارير تبحث كيفية تأثير التكنولوجيا على علاقاتهم و أنماط حياتهم، اعترف بعضهم بأنهم كثيراً ما يختلسون النظر الى صفحاتهم في الفيسبوك أو يرسلون رسائل سريعة عن طريق هواتفهم أو بريدهم الالكتروني فيما هم منهكمون في إعداد تلك التقارير! وهو ما سمته إحدى الطالبات "أخلاقيات العمل المتشظي". يتعرض الطلبة الى إغراء مقاطعة ربات الإلهام بالعديد من الأمور التي تشتت انتباههم، مثل الرسائل الفورية، ألعاب الفلاش على الشاشة، اختلاس النظر الى اليوتيوب أو جولة من ألعاب الطائرات أو القتال على الانترنت. ولكن العديد من الدراسات وجدت بأن استخدام الكومبيوتر يمكنه، رغم هذه الأمور المشتتة للانتباه، أن بعزز ويسهل تطوير المهارات الكتابية؛ فإنشاء النصوص عبر الانترنت يمكن أن "يدعم الطبيعة التكرارية الاستعادية recursive لعملية الكتابة" حيث يشعر الكتّاب بحرية أكثر وهم يتنقلون بين الأفكار ويجربون حالات متعددة من إعادة تنظيم الفقرات والجمل. ويلاحظ بعض الباحثين أن المعلمين يميلون بشكل متزايد الى الاستخدام الفعال لصفحات المدونات الالكترونية blogs والأشكال الأخرى للتحادث والتعبير عبر الكومبيوتر كوسائل ممتازة للتعليم، فتكليف الطلبة بالانخراط في محادثات مكتوبة يضعهم في بيئة ملائمة لـ"صناعة" المعاني تسمح لهم بالتفكير والكتابة وتنقيح أفكارهم وكتاباتهم وملاحظة كل تقدم يحرزونه في هذه العملية التي تتصف بما يكفي من الفورية رغم اتسامها بما يكفي من البطء الذي يتيح رؤيتها ومتابعتها في نفس الوقت.

إن الرغبة في النقل السريع للأفكار، واعتياد الناس على تعدد المهمات المتزامنة، وتقصير فترات تركيزنا، والأفضلية التي تتمتع بها الصور المرئية، كلها أمور ينبغي لكتاب المستقبل أن يأخذوها بنظر الاعتبار.

كيف يمكن للكاتب الاستحواذ بأفضل شكل على أكبر قدر من انتباه القارئ؟ رغم أن هذا السؤال جديد في أحد جوانبه، فإنه كان على الدوام تحدياً يواجه الكتاب منذ أقدم العصور، قبل أن يتبنى الإنسان المعاصر -ويعتاد على- الكتابة في بيئة الكترونية. ربما تبدو النصائح التالية مألوفة لدى مدرسي فن الكتابة:

-حاول الاستفادة من المقدمة لتشويق القارئ.

-لا تعمد الى إغراق القارئ بجمل وفقرات معقدة ومتداخلة ومطولة.

-تجنب إدخال الملل الى نفس القارئ.

يتمتع الكتاب في هذا العصر بمدى واسع من أدوات وتقنيات الكتابة والتدوين التي تتيح لهم الاستحواذ على اهتمام القارئ. كثيراً ما ننسى أن القراءة بحد ذاتها تعتمد الى حد كبير على ما يجده القارئ أمام عينيه، على الحروف التي يراها وهي تجري فوق الصفحات وتحفز المؤثرات العقلية في أدمغتنا. ربما اعتدنا منذ أقدم الأزمنة على تسطير تلك الكلمات والحروف في دفاترنا ومسوداتنا بنمط معين ثابت نسبياً، غير أن علينا الآن أن نسعى الى تقوية وتعزيز التأثير البصري التي تحدثه بواسطة استعمال أنماط متقدمة من الخطوط والتنسيقات وترتيب الفقرات بشكل فني مبدع. وليس هذا فحسب، فالتقنيات الحديثة تتيح لنا جذب انتباه القارئ عن طريق دفعنا الى تغيير الطرق التي نصوغ فيها الخبر أو نسرد بها الإحداث. لقد اعتدنا، ومنذ زمن طويل، على أن ننظر الى القصة على أنها تتكون من بداية ووسط ونهاية، ولكن، في النصوص الالكترونية ذات الارتباطات التشعبية hypertext لا توجد في العادة مسارات مقررة سلفاً، لذلك لا يظهر السرد كطاقم أو سلسلة من المشاهد أو الأحداث المتعاقبة، بل كشبكة من الاحتمالات يمكن للقارئ تفعيلها بطرق عديدة مختلفة. واحد من الأمثلة على هذه الشبكة من الاحتمالات يمكن رؤيتها في قصة متميزة كتبتها إحدى الطالبات وفازت بها في مسابقة نظمتها جامعة أمريكية: في هذه القصة التجريبية عمدت المؤلفة الى زرع العديد من تحليلاتها في قصة قصيرة لديفيد فوستر والاس عنوانها "الروح ليست دكان حدادة the soul is not smithy" عن طريق إدخال نصوص تشعبية خلقت قصةً خلفية للشخصية الرئيسية (معلم بديل اسمه ريتشارد جونسون تقتله الشرطة عندما يصاب بنوبة من الجنون ويحتجز عدداً من طلابه كرهائن). لا تركز القصة القصيرة على تفسير أفعال جونسون، وهو فراغ تستغله الكاتبة بإدخال رؤيتها الخاصة للبطل والأسباب التي تدفعه الى هذا السلوك الغامض.

من أجل تحديد مثل هذه التحولات الأدبية أو تلك التي تمتد أبعد منها، جرى استحداث مصطلح الأدب الالكتروني. واستناداً الى منظمة الأدب الالكتروني" يستخدم هذا المصطلح لوصف "الأعمال ذات الجوانب الأدبية المهمة التي تنتفع من الإمكانيات والبيئة التي توفرها أجهزة الكومبيوتر سواء بمفردها أو عند ربطها بشبكة الانترنت". هذه الأعمال كثيراً ما تُدمج الصوت أو الأعمال الفنية أو الصور المتحركة أو التصاميم أو عروض الباوربوينت أو المخططات أو الرسوم البيانية الخ. وهي عناصر تظهر أحيانا مترافقة مع النص المطبوع وتحل محله تماماً في أحيان أخرى. إن نشوء وتطور الأدب الالكتروني فتحا أمام القراء العديد من الاحتمالات لاستكشاف النص، فلم يعودوا بحاجة الى القراءة باتجاه واحد بل يمكنهم أن يثبوا الى الأمام أو الى الوراء وأن "يبحروا" من رابط الى آخر بشكل يمنحهم المزيد من "السلطة" على محتوى وتسلسل النص. في خضم النص الرقمي تصبح القراءة الفعالة عملية أكثر تعقيداً وتشابكاً، فهذه الأشكال الجديدة من الكتابة تدعو القارئ الى تخطي الحدود حين لا يكتفون بالفهم والتأويل والاستيعاب بل يخلقون أو يعيدون خلق النص.. فيصبح القارئ كاتباً والكاتب قارئاً.

ويستمر الصراع من أجل الهيمنة ليعيد صدى سؤال ديدرو الذي ورد في بداية هذه الدراسة : ولكن من سيكون السيد.. الكاتب أم القارئ؟

ربما قادنا مستقبل القراءة والكتاب الى أسئلة جديدة كلياً، ولكن... من هو القارئ.. ومن هو الكاتب؟


[i] هذه المقالة مبنية، مع بعض التصرف، على محاضرة مسجلة لجينا شبفر (Gina Victoria Shaffer)

للمزيد من الأبحاث حول هذا الموضع أنظر:

http://www.humanities.uci.edu/humanitech/writing/schedule.html

[ii] دنيس ديدرو Denis Diderot (1713-1784) أحد ألمع فلاسفة ومفكري عصر التنوير، شارك في تأسيس وتحرير الموسوعة الفرنسية الكبرى.


بحث هذه المدونة الإلكترونية