حفلـة صـلبٍ في منتصف ظهيرة صـيف

كنتُ يافعاً آنذاك. مرتدياً قميصـي الفضفـاض ذا الخطـوط العريضـة الصـارخة، أسـير دون هـدى في شوارع مدينتنـا المزدحمـة الخـالية. كـان العـذارى يمسـن في خفيـف الثيـاب التي ألصـقها العـرق بالأجسـاد الغضـة اللـدنة فيثـرن الـدم الذي سـبتَ طويـلاً في العروق الآســنة.

يحمل الهـواء الثقيـل صـوت صفعـةٍ يتلقـاها شــحاذ طـردوه للتـو من حـانةٍ وضيـعة. وطـرقاً متواصـلاً تهتـز له الأرض من آلـةٍ تنتـزع من وجـه الشـارع أديـمه المجـدور. شـرطي مـرورٍ يحتمـي تحـت مظلة من الأسمنت الملتهـب يحـاول أن ينصـت الى نشـرة عن آخـر أخباري من مذيـاع أدنـاه من أذنـه ويتفجـر من فـوق لسانه الثخـين القـرمزي سـعالٌ لا ينقطـع.

حين رفعـت رأسـي إلى السـماء أبصـرت زفـس المبجـل منشــغلا برمـي قـداحه المبـرية من خشـب البلـوط المقـدس، ويصـغي، أو يتظـاهر بأنه يصـغي إلى حـديثٍ حمـيم لشـيوخٍ فـانين قـدموا الـيه من الشـرق البعيـد ليزوجـوا ابنتــه التـي لم تخـرج بعـد من رأسـه الى ابنهم الذي مـات في الحـرب.

كنت أرى وأســمع كـل شـيء. كـانت كـل المـوجودات عـاريةً أمـامي: قبيـحةً، غبيـةً، تثـير الغثيـان.

يـومها أدركـت مثـل عـراف أتتـه البشـارة بأن الجنـون وحـده سـوف ينقـذني من ورطـتي الأبـدية، وليـلتها، تحت جنح الظـلام، زرت مقـابر الكـلاب التـي قتـلها الحـزن. وليـلتها صـرخت في الحشـود التي جـاءت لتصـلبني: فلينزل عـرق الخـزي البـارد على ظهـوركم المحنيـة!

وحين دقـوا أول مسمـارٍ في كـفي صـرخت ثـانيةً: لتغــزُ البـراغيث أنـوفكم المتـورمة!

وحـين أرسـلوني أشـعةً ملـونةً إلى الفضـاء المتـرامي بكـيت، وبكى يهـوذا الذي أسـلمني، وبكـت أمـي العـذراء.

غيـر أنـي، في تلكـم السـاعة المرتعشـة، لـم أنـسَ أن أحمـل معي قلمـي. ولهـذا عـدتُ اليكـم.. لأصـلبَ في الصـيف القـادم من جديـد!

1980


لوحة بعنوان "صَلب" لسلفادور دالي

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية