عبور الحاجز-قصائد من الشعر العالي


جمهورية العراق
وزارة الثقافة
دار المأمون للترجمة والنشر




عبور الحاجز
قصائد من الشعر العالمي







بغداد 2007
فهرست
تقديم
1- وليم إيرنست هنلي
الذي لا يقهر
2- رتشارد ألدنغتن
مناوراتُ الميدان (واجبٌ في الحجاباتِ الأمامية)
3- كارل ساندبرغ
الدرس الأول
أغنية الريح
4- إليزابيث بيشوب
فنٌ واحد
5- جيمس إلروي فليكر
الى شاعر ، بعد ألف عام
6- آن سكستون
القبلة
7- ادوارد سل
صلاة المهرج
فرصة
8- أرشيبالد ماكلِش
فن الشعر
9- إيدموند جارلس بلوندن
الأجداد
10- رالف والدو امرسن
ترنيمة الوئام
براهما
11- هيلدا دولِتِل
أدونيس
بِجماليون
12- و. هـ. أودن
القانون .. مثل الحب
13- فرانسيس هاربر
الأم المستعبّدة
14- ألفرد لورد تنيسون
آكلو اللوتس
تحطم .. تحطم
يوليسيس
كُـفَّ عن سؤالي
عبور الحاجز
15- إميلي ديكنسون
سماع طير يغني
في غفلة تنمو الجبال
العربة
لم أرَ السباخ الموحلات
وضعت قوتي في يدي
16- صموئيل تيلَر كولَرِج
قوبلاي خان
17- إليزابيث باريت براوننغ
طرق الحب
إن كان لزاما أن تعشقني
18- أوزوالد م. متشالي
رجالٌ في الأصفاد
19- سلفيا بلاث
آخر الكلمات
أغنية حب الصبية المجنونة
20- لويس ماكنيس
الحقائق
21- إميلي (جين) برونتي
أواجَه بالتعنيف
الرواقي القديم
22- د. م. دولبن
المزار المقدس
23- أندرو مارفِل
الى سيدته الحيية
24- روبرت فروست
الطريق الذي لم أسلك
الثلج والنار
المرعى
25- كريستينا جورجينا روزيتي
صعود التل
عيد ميلاد
26- جون ميسفيلد
تكريس
27- ولتر دولامير
إنه الماضي
28- كيم أدونيزيو
ما الذي تريده النساء
29- جون درايدن
أغنية لعيد القديسة سيسيليا
30- إدغار لي ماسترز
التل
نولت هوهايمر
وليم وأميلي
القاضي الجوال
توماس رودس
يوجين كارما
31- وليم بليك
مقدمة أغنيات البراءة والتجربة
شجرة السم
منظف المداخن
32- توماس بيدوز
بائع الأحلام المتجول
33- بايرون
سونيتة الى "جيلون
سنكفُّ عن التجوال
مرثية
34- وردزورث
رقدةٌ أطبقت على الروح
أبيات كُتِبت في أوّل الربيع
يثِبُ القلبُ منّي
35- كيتس
لماذا ضحكتُ الليلةَ ؟
نشيد للشعراء
36- شللي
سونيتة : إنكلترا 1819
الى وردزورث
أوزيماندياس المصري
37- ماثيو أرنولد
شكسبير
ساحل دوفر
38- سوِنبيرن
حديقة بروسرباين
أغنيةُ الصغير
القربان
39- روبرت ساوذي
في أثر بلنهايم
40- إدوَرد فِتزجِرالد
مروجُ الربيع
تقديم

لا أريد في هذه المقدمة الموجزة أن أضيف شيئاً الى ما بذله السابقون من جهد في التعريف بالأدب الإنكليزي ومدارسه وتاريخه الحافل بالعبقريات من جهة، وبيان الجوانب النظرية لهذا الفن (والعلم) الجميل .. ترجمة الشعر من جهةٍ ثانية. لكنني أريد أن أوضح في عجالةٍ "المنهج" الذي التزمتُهُ في إنجاز هذا الكتاب.
وفي يقيني أن القارئ الكريم لا يخفى عليه أن في ترجمة الشعر متعةً ما بعدها متعة، وعذاباً ما بعده عذاب! أو لنقل إن فيها –أي ترجمة الشعر- عذاباً لذيذاً آسِراً؛ عذابَ أن تنكبَّ على النصّ وتفتح مغاليقه واحداً واحداً. أن تفهم كلَّ معنى خفيٍّ وصريحٍ وكلَّ ظلٍّ لمعنىً خفيٍّ أو صريح! ثم أن تتفاعل مع القصيدة، أن تحبّها .. أو ربما تكرهها! وأن تقاومَ –ساعة تهمُّ بأن تزَّفها في لغتها الجديدة- أن تقاومَ الصراع بين "أمانة" الترجمة –ذلك الشرط الكلاسيكي الصارم- وبين شيطانِ الشعر الذي لا ينفكّ ينتابك ويغريكَ بالصراخ: مالي ومالكَ أيها القاموس! إن هذه القصيدة قصيدتي! نعم قصيدتي وسأكتبها كما أشاء!
والحقُّ أن في قولكَ الكثير من الواقعية والصدق؛ فالفشل أو النجاح في إيصال "رسالة" القصيدة المترجمة تتحمله أنتَ وحدكَ، وإقبال القارئ عليها أو إدباره عنها تتحمل أنت وزره؛ ومخاض استيلاد القصيدة في لغة ثانية أعسر بكثير من مخاض ولادة قصيدةٍ هي بنت بيئتها ولغتها –رأي مجرِّبٍ عانى الأمرّين! والاختيار –حتى الاختيار- أمرٌ ليس بالهيّن الليّن؛ فكم من قصيدةٍ لم أستطع أن أرغم نفسي على ترجمتها لأنني -ببساطةٍ شديدةٍ- لم أتعاطف معها! وكم من قصيدةٍ استعصت عليَّ وتمنّعت ، وأحسستُ بعجزي عن إيفائها مهرها أو أيقنتُ بأني سأقتلها إن ترجمتها رغم أنفها! وكم من قصيدةٍ أحببتها وتغنيت بها المرة بعد المرّة لكنني لم أستطع أن أرغم نفسي على تشريحها وتقطيع أوصالها –أعني تحديد وحداتها البنائية- من أجل إعادة تركيبها في لغةٍ أخرى فآثرتُ أن أشحَّ بها على جلاّسي!
والقصيدة –أي قصيدة- وليدةُ بيئتها مثلما هي وليدة مبدعها .. والشعر الإنكليزي لوحةٌ استعارت اصباغها وخطوطها من ميثولوجيا العالم القديم ، من الأساطير والأغنيات الانكلوسكسونية الفجة، من أناشيد الفايكنغ الأشداء، من تاريخ انكلترا القديم والحديث، من رقصات المهاجرين الأُوَل الى القارة الجديدة، من إيقاع الترانيم الحزينة التي حملها العبيد المختطفون من سهول أفريقيا وغاباتها الى مزارع القطن والتبغ، من صور الكتاب المقدس وقصصه الغارقة في القدم، من حلقات الطلبة الثائرين الماجنين في أكسفورد وكامبرج، ومن غرف الدرس الفلسفي التي يهطل المطر على شبابيكها الباردة الداكنة!
إن ترجمة الشعر عملٌ إبداعي بالدرجة الأولى، وهي فعل من أفعال التعاطف مع مؤسس النص الأصلي، والمترجم ها هنا واقع في اختيار صعب بين أن يخفي نفسه و"يذيبها" في طيات النص الجديد فيتحول الى جنديٍّ مجهولٍ كما ينادي البعض، نوتيٍّ ينقل هذه البضاعة الثمينة من ميناء لآخر؛ وبين أن يعلن عن نفسه بكل قوة ويضع بصماته الواضحة وأسلوبه وشخصيته على النص البديل ليعيد خلقه في لغة أخرى ووسط ثقافي آخر.
ومن البديهي أن أي متصدٍّ لترجمة الأدب عموما، والشعر خصوصاً، لا بد أن يلمَّ بأكبر قدرٍ ممكن مما أسلفت من تاريخِ وبيئةِ وثقافة الشعب الذي أنتج ذلك الأدب، ناهيك عن القلم/ الانسان الذي أبدعه. وهذا واحد من الأسباب التي جعلت ترجمة هذه الإضمامة الصغيرة من القصائد المختارة تأخذ من الوقت والجهد والتوتر ما يدنيها الى ضربٍ من الرياضة الروحية والعقلية القاسية العنيفة! فلقد راجعت، بأناةٍ وطول بال، المئات من المفردات والتصاوير والمقالات وأسماء الأماكن والأعلام والحوادث التاريخية والمخلوقات الخ معتمداً على كل ما توفر لي من مصادر مطبوعة ومنشورة على صفحات الانترنت لكي أحقق بعضاً مما وضعته نصب عينيّ من توازنٍ عسيرٍ بين "الدقة والأمانة" من جهة، والنجاح في إيصال "روح" القصيدة و"رسالتها" وأجوائها وتفاصيلها معتمدا على تمثل ما يتعلق بها وتستند اليه من خلفية تاريخية وثقافية، مقتفيا في ذلك آثار من سبقني من أساتذتي الأجلاء من الشعراء/ المترجمين ممن تفخر بهم المكتبة العراقية أمثال سعدي يوسف وجبرا إبراهيم جبرا وعلي الحلي وياسين طه حافظ وغيرهم الكثير.
إن مترجم العمل الأدبي، في رأيي ورأي الكثيرين، لا يترجم نصا من لغة الى أخرى، بل "يترجم" ثقافةً الى أخرى، ويزاوج بين طريقتين مختلفتين بهذا القدر أو ذاك في رؤية الحياة وفلسفتها وممارستها والإحساس بها. ومن البديهي أن يتعرض في أثناء ذلك الى مصاعب كبيرة في التعامل مع هاتين الطريقتين الأمر الذي يلجئه في أحيان كثيرة الى استخدام الكثير من الأدوات الفنية وضروب التخلص والتوسع والحذف وغيرها إضافة الى الاستعانة بالهوامش والتعليقات وهو الأمر الذي سلكت فيه طريقاً وسطا بين الإكثار منها والامتناع عنها –كما يحبذ بعض الباحثين في هذا المجال.
ولقد رأيت أن أقدم لكل شاعر في هذه المختارات بنبذة عن سيرته الحياتية والإبداعية استقيتها من مصادر متنوعة وأرفقت بها صورة حرصت على الحصول عليها لكل شاعر فوفقت في ذلك إلا في حالة شاعر واحد سيئ الحظ لم أستطع أن أعثر –في كل المصادر العالمية- على صورةٍ واحدة له أو حتى لقبره!
ولم يخضع اختياري للشعراء أو لقصائدهم إلى تسلسل زمني أو تفضيل الدارسين لواحد على آخر لكن الأمر كان نابعاً من اعتبارات أخرى لا تخلو من هوىً شخصي! على أنني آمل أن أتوسع في الأجزاء اللاحقة لأقدم صورةً أكثر شمولاً واتساعا لانطولوجيا الشعر الإنكليزي.
إن إسدال الستار على التعريف القديم للشعر (بشروطه اللحنية والشكلية الصارمة) وتحول العالم الى قريةٍ شعريةٍ كبيرة وتعدد مصادر الثقافة المعاصرة وتجاوزها للحواجز الجغرافية والفكرية قد مكنت جميعا من تجاوز الشكوك التي قامت زمنا طويلاً حول جدوى ترجمة النص الشعري وقدرته على العيش والتنفس في بيئته الجديدة، لكن ذلك لا يعني بالضرورة تجاوز القيمة الجمالية التي تشكل جوهر تفرد العمل الفني والإبداعي ويستدعي هذا بالضرورة أن يحاول المترجم –جهد إمكانه- الاحتفاظ بجمال النص الأصلي والتماعاته، وهذا ما حاولته رغم صعوبته فوفقت أحيانا وأخفقت أحيانا أخرى وحسبي من الغنيمة بالإياب!
شهربان
13/6/2006



وليم إيرنست هنلي

Henley, William Ernest(1849-1903) : شاعر بريطاني، وناقد ومؤلف مسرحي ومحرر أدبي ساهم من خلال المجلات التي أدارها في تقديم بواكير أعمال العديد من الكتاب الإنكليز في العقد الأخير من القرن التاسع عشر. أصيب هنلي في طفولته بمرض التدرن الذي أضطر الأطباء لاحقا الى بتر إحدى قدميه ولم يحتفظ بقدمه الأخرى إلا بفضل براعة الطرق الجراحية الحديثة لجوزيف ليستر الذي يعد مؤسس علم الجراحة الحديث. مكث هنلي بعدها في المستشفى عشرين شهرا وهناك بدأ كتابة أشعاره الحرة الانطباعية التي تدور حول حياة المستشفى وهي التي أسست لشهرته الشعرية (نشرت عام 1888 في مجموعته المسماة كتاب الأشعار). وتعود أشهر قصائده وهي القصيدة التي نقدمها للقارئ الكريم الى هذه الفترة (1875). جمعت شاعرنا صداقة حميمة طويلة مع الأديب البريطاني الشهير روبرت لويس ستيفنسون الذي استند على هذا الصديق المعاق المتحمس في رسم شخصية "سلفر جون الطويل" في روايته الشهيرة "جزيرة الكنز". فيما أعد هنلي ونشر عام 1887 كتاب ستيفنسون "الليالي العربية الجديدة".
كان هنلي شغوفا بدراسة تطور اللغة الإنكليزية وساهم في تأليف "قاموس الألفاظ العامية" واشترك في كتابة العديد من المقالات للموسوعة البريطانية. عمل في العقد الأخير من حياته رئيسا لتحرير مجلة "ناشيونال أوبزرفر" التي عرفت -رغم اتجاهها السياسي المحافظ- بتحرر ذوقها الأدبي ونشرها للأعمال الأولى للعديد من الأدباء الذين اشتهروا فيما بعد مثل توماس هاردي، وجورج برنارد شو، و هـ. ج. ويلز، وكبلنغ، وييتس، وكونراد. وقد عرف هنلي شخصيا برعايته السخية وتشجيعه للمواهب الحقيقية المغمورة وهجومه الضاري على أصحاب الشهرة الزائفة. اتسمت سنواته الأخيرة بعدد من الصدمات منها وفاة ابنته الوحيدة وانهيار صداقته الحميمة مع ستيفنسون وقد عاب عليه البعض كتابته لمقالة فاضحة تسيء الى الأخير بعد وفاته، كما يؤخذ عليه تحمسه الشديد للتوسع الاستعماري البريطاني الذي تجلى في عدد من مؤلفاته مثل "أغنية السيف 1892" و"من أجل إنكلترا: أشعار وأناشيد في زمن الحرب (حرب جنوب أفريقيا)1900".

الذي لا يقهر
و. ا. هنلي
خارجا من الليلِ الذي يغطيني
الداجي كحفرةٍ تمتدُ من القطبِ الى القطب
أحمَدُ الآلهةَ أيّاً كانوا
على الهِبةِ العظيمة : روحي التي لا تُقهر.
**
في القبضةِ الوحشيةِ لتقلّبِ الزمان
ما أجفلتُ يوما ، وما جهرتُ بالعويل
وتحت هراواتِ الحظِ التي ما أخطأَتْـني
ها رأسي مغتسلٌ بالدماء، لكنه ما انحنى قط.
**
لا شيءَ غيرَ رعبِ الجحيم
يلوحُ وراءَ ارضِ الغضبِ والدموعِ هذي
بَيدَ أنَّ وعيدَ السنين
يلقاني ، ولسوفَ يلقاني ، رابطَ الجأش
**
لا يُقلقني ضيقُ البوابةِ
أو ما في أدراجِ الكتابِ من ألوانِ العقاب
فأنا سيدُ مصيري
وأنا.. أنا ربّانُ روحي.




رتشارد ألدنغتن

Aldington, Richard (1892-1962) :أديب إنكليزي. مارس الكتابة في مختلف الأجناس الأدبية من شعر ورواية وسيرة وترجمة. كان في شعره واحداً من رواد المذهب التصويري (imagism) الذي ظهر في أوائل القرن العشرين كرد فعل على الرومانسية ويدعو كما لخص عزرا باوند الى المعالجة المباشرة للموضوع سواء كان ذاتيا أو موضوعيا، وتبني الصور الحادة الدقيقة، والكف عن استخدام الكلمات الفائضة، ونبذ الأوزان الشعرية لصالح الجملة الموسيقية. خدم خلال الحرب العالمية الأولى في الجبهة الغربية وقادته تجربته في الحرب الى كتابة روايته الأولى (موت بطل) عام 1929 التي ترجمت الى الكثير من اللغات. من أشهر أعماله القصصية (ابنة الكولونيل) عام 1931، (كل الرجال أعداء) عام 1932. أما في الشعر فقد كتب بعد تجاوزه المرحلة التصويرية مجاميع شعرية منها (مجنون في غابة) 1925، (القلب الممضوغ) 1929، (حلم في لوكسمبورغ) عام 1930. كما كتب العديد من السير الرائعة ومنها سيرة الدوق ولنغتن ولورنس العرب والشاعر والروائي الإنكليزي د. هـ. لورنس. كان واحداً من أكثر كتاب عصره ثقافةً وترجم الكثير من الأعمال عن الإغريقية والفرنسية واللاتينية.

مناوراتُ الميدان
(واجبٌ في الحجاباتِ الأمامية)
رتشارد ألدنغتن

أعشابُ الخريفِ العالية تحتَ جسدي
تبلِّلُ ثيابي بالندى
وتغوصُ ركبتايَ في الأرض
فأُحِسُّ بالترابِ الرطيب
**
في منخري رائحةُ العشبِ المُداس
وأكوازِ الصنوبرِ ، ولحاءِ الشَجر
**
قطعةٌ من الطريق البعيد.. تلمعُ كالفضَّةِ
خلالَ جذوعِ الصنوبرِ البرونزية
**
سرايا لا تنتهي .. من خيولٍ رماديةٍ وفضّية
تمخرُ في صفوفٍ طويلةٍ
حقولَ السماءِ الشاحبة
**
صمتٌ في المَدى ..
تُهسهِسُ الريحُ .. بين إبَرِ الصنوبرِ
وحفيفُ أجنحةِ العصافيرِ حولَ رأسي
يدوّي مثلَ رعدٍ بعيد
وطنينُ بعوضةٍ طائرة
أسمعهُ عالياً جلياً
**
عليَّ أن "أطلقَ النارَ على الرتلِ المعادي ..
بعد أن يكملَ المرور"
لكنَّ بندقيتي (المحشوةَ بالرصاصِ الخُلّبِ)
ترقدُ أمامي .. دونَ مساسٍ
وروحي تحلِّقُ وراء الغيومِ المُنسلَّةِ
وشفاهي تتمتمُ أغنيةً
عن أمٍّ ذاتِ جَمال
واقفةٍ ... والعشبُ الذهبيُّ يبلغُ صدرَها
هناك .. بين غاباتِ الصنوبرِ الإنكليزية !


كارل ساندبرغ

Carl Sandburg(1878-1967) : شاعر أمريكي. ولد لأبوين فقيرين هاجرا من السويد. ترك الدراسة وتقلب وهو صغير في مهنٍ كثيرة وتنقل متشرداً في أرجاء الولايات المتحدة. عرف في شبابه بميوله اليسارية. نشر مجموعته الشعرية الأولى (نشوة طائشة) عام 1904 متأثرا بأسلوب الشعر الحر لوالت ويتمان. في عام 1916 بدأت شهرته بالذيوع مع صدور مجموعته (أشعار شيكاغو). وفي عام 1920 نشر عمله المطول (الدخان والفولاذ) فكان بداية لمشروعه في استكشاف آثار الجمال في العالم الصناعي الحديث والتغني بجغرافية أمريكا وصناعتها وزراعتها ومناظرها الطبيعية وأناسها البسطاء. بدأ في العشرينات مشروعا كبيرا في ستة أجزاء لدراسة حياة الرئيس لنكلون وشرع قي الوقت نفسه بجمع الكثير من الأغنيات الفولكلورية وأغاني الأطفال سائحا وعازفا ومغنيا وجامعا للتراث الشفاهي للشعب. حصل مرتين على جائزة الغونكور والعديد من الدرجات الفخرية من الجامعات الأمريكية.


الدرس الأول
كارل ساندبرغ
لا تعبثْ بالكلمات الضخام
إحترسْ حين تطلقُها
فَرَدُّها عسيرٌ عسيرٌ
.....
في أحذيةٍ طوالٍ ، أحذيةٍ مِِتان
تسيرُ الكلماتُ وتسير
شامخةً ، غافلةً عن ندائك
لا تعبثْ بالكلماتِ الضِخام .. كلماتِ الفخار!


أغنيةُ الريح
كارل ساندبرغ
قديماً تعلّمتٌ فنَّ النومِ
في بستانٍ للتفاحِ ، حيثُ الريحُ تجرجرُ أذيالها
وتعُدُّ نقودَها ، ثم تذروها.
في بستانٍ أضنَتْهُ الريحُ، حيث الأغصانُ تمدُّ أذرعَها
وتصغي .. أو ربما لا تصغي...
في سربٍ من الأشجارِ، حيث الأماليدُ تحبسُ الريحَ
وتدفعُها للصفيرِ : مَنْ.. من أنتَ ؟
توسَّدتُ ذراعي ، عصرَ صيفٍ قديمٍ
وتلقَّيتُ درساً في النوم.
وهنالكَ مضيتُ مردّداً :
"أنا أعرفُ لماذا تنامُ .. أنا أعرفُ كيفَ تصطادُ الريحَ الماكرةَ"
قديماً تعلمتُ أن أصغي للريحِ التي تغنّي
تعلمتُ كيف أنسى ، وكيف أنصتُ للأنينِ القادمِ من الأعماقِ
إذ يَصفُقُ ، ثم يهوي
تحت زرقةِ النهارِ .. ونجيماتِ الليلِ : مَن .. مَن أنتَ؟
...
من يقدرُ أن ينسى
سماعَ الريحِ إذ تمضي
وتلَملِمُ دراهِمَها .. ثم تذروها ...



إليزابيث بيشوب
Elizabeth Bishop : شاعرة أمريكية. ولدت عام 1911. فقدت والدها وأدخلت والدتها الى مصحة للأمراض العقلية وهي في سن مبكرة. أكملت دراستها الجامعية ثم تنقلت سائحة في أرجاء أوربا وشمال أفريقيا قبل أن يستقر بها المقام في البرازيل حيث اقتصرت في علاقاتها بزملائها وأصدقائها على المراسلة. كانت شاعرة مقلة حتى أن أعمالها الكاملة لا تزيد على المائة قصيدة. لقبت بشاعرة الشعراء، وهي في شعرها تتجنب الكشف الصريح عن حياتها الشخصية وتلجأ الى الوصف المرهف لانطباعاتها عن العالم المادي وما يحيط بها من طبيعة أو تجارب في سفراتها العديدة في صور دقيقة نابضة بالحياة تعكس ذكاءها الحاد وإحساسها الأخلاقي. نالت عضوية أكاديمية الشعر الأمريكي عام 1964 وتوفيت في الولايات المتحدة عام 1979.

فنٌ واحد
إليزابيث بيشوب
فنُّ الخُسرانِ ليس صعبَ التعلُّمِ.
كثيرٌ من الأشياء مليئةٌ بنيّةِ الفقدانٍ
حتى أن خسرانَها ... ليسَ بالكارثة.

إخسرْ شيئاً كلّ يوم:
تقبّلِ الارتباكَ الذي يصحَبُ خسرانَ مفاتيحِ الأبوابِ ،
تلك ساعةٌ ستنفقها في الانزعاج.
فنُّ الخسرانِ ليسَ صعبَ التعلم.

ثم تمرَّنْ على خسرانٍ أكثر .. خسرانٍ أسرع:
للأماكنِ ، والأسماء ، والجهاتِ التي كنتَ تنوي الرحيل إليها.
لا شيءَ من ذلكَ ... يجلبُ الكارثة.

أضعتُ ساعةَ أمّي.
ثم أنظرْ! البيتُ الأخيرُ ، أو ما قبلَ الأخيرِ ،
من بيوتٍ ثلاثةٍ أحببتُها ... راحَ للأبد.
فنُّ الخسرانِ.... ليس صعبَ التعلم.

وخسرتُ مدينتينِ ، حبيبتينِ لقلبي.
وخسرتُ أشياءَ أعظمَ ، عوالمَ امتلكتُها ذاتَ يوم :
نهرينِ ... وقارّةً برمّتها.
أشتاقُ إليها .. نعم .. لكنْ لم تكنْ بالكارثة.

حتى خسرانُكَ أنتَ (بصوتكَ العذبِ ، وإيماءتكَ الحبيبةِ)،
ما كانَ عليَّ أن أكذبَ . الأمرُ واضحٌ وجلي:
فنُّ الخسران ليس صعب التعلم.
رغم أنه يبدو … (أكتُبْها!) ... يبدو كالكارثة.


جيمس إلروي فليكر

Flecker, James Elroy (1884-1915) : مع تسنم الملك جورج الخامس عرش بريطانيا عام 1910 اقترح بعض النقاد والشعراء إطلاق تسمية الشعر الجورجي على أعمال عدد من الشعراء المعاصرين منهم "روبرت كرايفز" و "والتر ديلامير" و"هارولد مونرو" و "ج. إ. فليكر" وآخرون. وقد نشرت بالفعل خمسة مجلدات من "الشعر الجورجي" بين عامي 1912 و 1922. وبرغم أن المواهب الفردية للعديد من هؤلاء الشعراء أمر لا يمكن تجاهله فإن هذه "الموجة" المتسمة بالرومانسية الفجة والعودة الى استلهام الطبيعة والريف سرعان ما خبا بريقها وطواها النسيان فصار مصطلح الشعر الجورجي يستعمل على غير ما أراد له مطلقوه. أكمل فليكر دراسته الجامعية في أوكسفورد وكامبردج حيث درس اللغة العربية وغيرها من اللغات الشرقية ونشر أول مجموعاته الشعرية "جسر النار" قبل تخرجه ، ثم قضى عددا من السنوات في القسطنطينية "استنبول" وفي لبنان حيث عمل قنصلا مساعدا غير أن صحته ما لبثت حتى تدهورت ليقضي نحبه متأثرا بمرض السل وهو في ريعان شبابه. كان فليكر شاعراً وكاتبا مسرحيا ومن أشهر مسرحياته "حسن" و"الرحلة الذهبية الى سمرقند" اللتان نالتا ثناء النقاد وتضمنتا بعضا من أحسن قصائده الغنائية. إن وصفه للعادات والتقاليد الشرقية مؤثر ويدل على معرفة جيدة بالشرق.

الى شاعرٍ ، بعدَ ألفِ عام
ج. إ. فليكر
أنا : الميتُ قبلَ ألفِ عامٍ
كتبتُ إليك هذه الأغنيةَ القديمةَ العذبةَ
وأطلقتُ الكلماتِ
رُسُلا في الطريقِ الذي لن أمرَّ عليهِ.

ليسَ يعنيني أنكَ ستمدُّ الجسورَ بين البحارِ
أو ستطيرُ آمنا في السماءِ القاسية
أو تُعلي شوامخَ القصورِ
من الحجرِ أو من المعدن.

ولكن أخبِرني : أما زالَ عندكم خمرٌ وموسيقى
وتماثيلُ ، و حبيباتٌ نجلاواتُ عيونٍ
وخواطرُ ساذجاتٌ عن الخيرِ والشرِ
وصلاةٌ تؤدّونَها للجالسينَ في العُلى ؟

وكيف سننالُ الظفرَ ؟ تهبُّ أوهامُنا
مثلَ ريحٍ في المساء،
قد قالها ميونيديسُ الأعمى العجوز
قبلَ ثلاثة آلافٍ من الأعوام.

إيهٍ يا صديقي الذي لمّا يولدْ، لمّا يُرى أو يُعرَف
يا دارسَ لسانِنا الإنكليزيِّ العذبِ
إقرأ في الليل وحيدا كلماتي حتى النهاية
لقد كنتُ شاعرا ، كنتُ فتِيّا.

ولأني لن أرى مُحَيّاكَ البتّةَ
ولن تصافحَ يدي يديكَ
أرسلُ إليك روحي عبرَ الفضاءاتِ والأحقاب
كي تقرأَ عليك السلامَ .. وستفهمُ أنتَ كلَّ شيء.



آن سكستون

Sexton, Anne (1924-1974) شاعرة أمريكية شهيرة. عُرِفت بمعالجتها الصريحة والجريئة للكثير من المواضيع المحظورة والحساسة، عانت في حياتها من فترات طويلة من المرض النفسي والكآبة والإدمان دفعتها الى الانتحار عام 1974تاركة وراءها العديد من المجاميع الشعرية وكتب الأطفال.

القُبلة
آن سكستون

فمي يتورَّدُ .. مثلَ جرحٍ.
عامٌ من القهرِ تحمّلتُهُ،
من ليالٍ مضجراتٍ ليس فيها
غيرَ أذرعٍ تآكلَتْ مرافقُها
وعلبٍ ناعماتٍ
من مناديلَ تصيحُ بي :
أيّتُها البكّاءةُ ، أيتها البكّاءةُ الحمقاء!
**
بالأمسِ.. كانَ جسدي عقيماً
لكنه الساعةَ .. ينشقُّ عندَ زواياهِ القائماتِ
ويمزِّقُ رداءَ "مريمَ" البالي .. عقدةً بعد عقدة.
هاكَ فانظرْ : إنهُ مشحونٌ بالبُروق:
زِنككك! أزيزٌ ... ثم انبعاث !
**
ولقد كانَ زورقاً ، يابساً ، مهجوراً
لا ملحَ في قعرِهِ.
يحنُّ للطلاءِ.
لم يكنْ أكثرَ من كومةِ أخشابٍ.
لكنكَ أخرجتَهُ للماءِ ، ورفَعتَ أشرعتَهُ
لقد اصطفيتَهِ للبحرِ!
**
عروقي تتوهّجُ .. إنّي لأَسمعُها
كَجوقٍ من الآلاتِ.
وهنا .. حيثُ كانتِ الطبولُ خُرساً
تلعبُ الأوتارُ في جنونٍ.
أنتَ فعلتَ هذا.
أيها العبقريُّ في العملِ
أيها الحبيبُ ..
وارتمى المؤلِّفُ في الحريق!


ادوارد سل

SILL, EDWARD ROWLAND (1841-1887) : يعد سل واحداً من أفضل شعراء الخط الثاني في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر . عمل أستاذا للأدب الإنكليزي في جامعة كاليفورنيا. كان مربيا وناقداً وشاعراً وصحفياً دؤوباً ذا موهبة شعرية خصبة. غير أن وفاته المبكرة قد حالت بينه وبين تبوئه المكانة التي يستحقها في سماء الأدب الأمريكي . هنا نقدم الشاعر في قصيدتين من أشهر قصائده.

صلاةُ المهرِّجِ
إدوارد سِل
وانتهتِ المأدبةُ الملكيةُ
واشتاقَ الملكُ المهمومُ
الى شيءٍ يُسْليهِ
فصاحَ بمهرِّجِهِ :
يا سيّدَنا الأحمقَ ، يا "سيرْ فُول"
إركعْ هذي الساعةَ
واتلُ علينا بعضاً من صلواتِ الحمقى.
**
نزعَ المُضحِكُ قبّعةً
يتدلى منها جرسانِ صغيرانِ ..
تَقَّدَمَ بينَ يديْ حاشيةٍ هازئةٍ
لم تُبصِرْ دمعَتَهُ
خلفَ قِناعِ الوجهِ الضاحكِ والأصباغْ.
**
أحنى هامَتَهُ وثنى رجلَيهِ
أمامَ سريرِ المُلكِ المُثقلِ بالديباجْ
وارتفعَ الصوتُ الضارعُ :
"آهِ ، إلهي ..
ارحمني ..
لستُ سوى مخبولْ !
**
ما مِن عطفٍ يغسلُ هذا القلبَ
الأسودَ من أحمالِ خطاياهُ
ويُرجِعُهُ كالقُطنِ نقيّا.
أعرفُ أنَّ العصيانَ تُداويهِ عصا التأديبِ
ولكنْ يا مولايَ ترفّقْ بي
لستُ سوى مخبولْ !
**
ليسَ لِشَرٍّ فينا
نمنعُ نهرَ الحقِّ من الجريانْ،
لكنّا حَمقى
وحماقتُنا منعَتْ حتى الساعة
أن تدنو الأرضُ من الملكوتِ الأعلى.
**
ما زلنا نتخبَّطُ في وحلِ المستنقعِ.
ما زالتْ أرجُلُنا الخرقاءُ تُمزِّقُ أكمامَ الوردِ
وما زالتْ هذي الأيدي الساذَجةُ / الفظّةُ
تعبثُ بنياطِ قلوبِ الأصحابْ.
**
ولَرُبَّ حقائقَ أخفيناها
في الصدرِ طويلاٌ
من يدري كيفَ تحزُّ وتجرحُ
أو بِنتِ شفاهٍ لم نجرُؤ أن نهمِسَها
من يدري كيف عَلَتْ
مثل دويِّ عملاقْ.
**
لا نسألُ عفواً عن أخطاءٍ كسبَتْها أيدينا
فالسَوطُ كفيلٌ بالتطهيرْ.
لكنّا حينَ نفكرُ في هفواتٍ جرَّتها الغفلةُ
نهوي خجلاً تحتَ عيونِ الأربابْ.
**
لا تحملُ هذي الدنيا ترياقا لخطايانا.
الناسُ تتوّجُ كلَّ أثيمٍ وغدٍ
ثم تحاسبُ آلاتٍ كانت في أيديهم.
لكن يا مولايَ ترفَّقْ بي
لستُ سوى مخبولْ !
**
رانَ الصمتُ على القاعةِ ..
في صمتٍ قامَ الملكُ المتفكِّرُ ..
غادَرَها
ومضى يسحبُ رجليه الى أفياءِ حديقته
ويدمدمُ في همسٍ :
مولايَ ترفقْ
لستُ سوى مخبـولْ !


فرصة
إدوارد سِل

هذا ما أبصرَتْ عيناي .. أو رأيتُ في الأحلام:
سحابةٌ من غبارٍ أطبقَتْ على السهلِ الفسيح
ومِن تحتِها ، أو بينَ طيّاتِها احتدمتْ حربٌ ضَروسٌ.
تصايَحَ الرِجالُ ، واصطكَّتِ السيوفُ بالسيوفِ والدروعِ.
وثمةَ أميرٌ : خفقَ لواؤهُ .. ثم تقهقرَ .. ثم أحاطَ به الأعداءُ.
وجبانٌ يتسكّعُ عند أطرافِ الميدانِ ويفكّرُ :
لو كان لي سيفٌ أكثرُ مَضاءً
كذاكَ الحسامِ الذي يحملهُ الأميرُ ..
ولكن ، آهٍ من هذه الحديدةِ العمياء !
ثم هوى .. ثم رمى سيفَهُ وانحنى
ومضى يزحفُ .. هارباً من حَومةِ الوغى.
بعد حينٍ جاءَ الأميرُ
مثخَناً بالجراحِ .. مهزوماً .. صِفرَ اليدينِ ..
أبصرَ السيفَ الكسيرَ
والقبضةَ المغروسةَ في الرملِ الممهّدِ اليَبيس
فجرى إليه .. انتزَعَهُ ..
وبصرخةِ حربٍ تصعدُ من جديدٍ
أعملَ السيفَ بأعدائِهِ
وأنقذَ قضيّتَهُ الكبرى
في ذلكَ اليومِ الملحمي !



أرشيبالد ماكلِش

) MacLeish, Archibald1892-1982) : شاعر ومربٍّ وناقد اجتماعي. ولد في ولاية الينويز وتخرج من جامعة يِل وكلية الحقوق في هارفرد. عاش في فرنسا في العشرينات من القرن الماضي وفيها كتب أول أشعاره. كان شديد الاهتمام بالقضايا الاجتماعية فساند إصلاحات الرئيس روزفلت المعروفة بالصفقة الجديدة (new deal) وتقلد عددا من المناصب في إدارته ومنها إدارة مكتبة الكونغرس العملاقة وترأس الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب إضافة الى قيامه بالتدريس في عدد من الجامعات الشهيرة. كتب الشعر والنقد وطور أسلوب المسرحية الشعرية في المسرح والإذاعة. نال جائزة البولتزر في الشعر لمرتين (1932 و 1953) إضافة الى نيله الجائزة نفسها في حقل المسرح الشعري عام 1958 عن مسرحيته _(J. B) المستوحاة من سفر يعقوب.

فنُّ الشعرِ
أرشيبالد ماكليش
لتكنِ القصيدةُ صامتةً
قابِلةً لِلّمسِ
مثلَ فاكهةٍ مستديرةٍ،
بَكماءَ
كرسومٍ ناتئةٍ قديمةٍ تجسُّها الأصابعُ،
ساكتةً كالحجارةِ الباليةِ
لِعَتَباتِ الشبابيكِ
التي غطّتها طحالبُ الزمانِ.
ولتكن خلوا من الكلماتِ
كتحليقِ الطيورِ.
لتكن ساكنةً عبرَ الزمانِ
كما يصعدُ القمرُ.
لتغادرْ – مثلما يحرِّرُ القمرُ
أشجاراً تعثَّرتْ في الظلامِ
غصناً بعدَ غصنٍ.
وكما يفعلُ القمرُ خلف أوراقِ الشتاءِ-
لتغادرِ الذهنَ ذكرى بعد ذكرى.
لتكن القصيدةُ ساكنةً عبرَ الزمنِ
كما يصعدُ القمرُ.
لتكن القصيدةُ نِدّا
لا حقيقةً.
لتكن أمامَ كلِّ تاريخِ الأوجاعِ
فناءً خاليا ووُريقةَ شجرةٍ.
ولتكن للحُبِّ عُشبا منحنيا وفنارينِ فوقَ البحرِ
....
ليس على القصيدةِ أن تعني شيئاً ...
عليها أن تكونَ شيئا!



إيدموند جارلس بلوندن
Blunden, Edmund Charles (1896-1974) : شاعر وأكاديمي وناقد وأديب إنكليزي. عرفت أشعاره ذات الشكل التقليدي بتعبيرها الغني الذكي عن الحياة الريفية الإنكليزية.
كان لعمله الطويل في التدريس في الشرق الأقصى أثرٌ بينٌ على أعماله المتأخرة التي أظهرت تأثره بالشرق مثل "في المنزل الهونغ كونغي 1962".أما كتابه "نغمات الحرب الخفيضة" الذي صدر عام 1928 وأعيد إصداره عام 1956 فقد أسس لشهرته العالمية وعد واحدا من أكثر الكتب إثارة حول الحرب العالمية الأولى.
الأجداد
إ. بلوندن
من هنا مروا ، ثيابُ العملِ على أجسادهم، والمحاجنُ بأيديهم
هنا كدحوا تحتَ الشمسِ ، واسترخوا في الظِلال.
هنا أخرجوا الطينَ من جدولِ الماءِ
وهنا صنعَتْ فؤوسُهُم فضاءً بأرضِ الغابةِ.
عشاءُ الحصادِ أيقظَ مرحَهُم،
وقمرُ الصيّادينَ أشعَلَ فيهم الرغبةَ والغزَلَ.
من هذهِ الكنيسةِ قادوا عرائسَهُم،
ومنها أُخرِجوا محمولينَ على الأكتافِ،
وعلى جوانبِ هذه الطرقِ قعدوا
وتناولوا الخبزَ والنبيذ.
قد ذهبَتْ أسماؤُهُم
لكنَّ أكواخَهُم تُحدِّثُنا عنهم.
قد اختفتِ الأسماءُ.. إلا القليلَ الذي
خَطُّوهُ بفظاظةٍ في الإنجيلِ البُنّيِ القديمِ.
أولئكَ كانوا رجالَ البأسِ والعضَلِ المفتولِ
الذين ما أغوَتهُم المدنُ.
لم يَقرءوا ، لم يُمسكوا الأقلامَ
لكنّهم شادُوا مخازنَ الغِلالِ ، وأفرانَ الحِدادةِ ، والطواحينَ.
على المُرجِ الأخضرِ راقبوا أولادَهم
وهم يلعبونَ ، حتى يحجبَ الليلُ الرؤى،
كما راقبَهم آباؤهم ذاتَ مرَّةٍ ،
وكما راقبَني أبي ذاتَ مرّةٍ،
بينما الخفّاشُ والخنفساءُ يطيرانِ
في الهواءِ الدافئِ المشبوكِ بالنَدى.
غيرُ معروفينَ
غيرُ مسجَّلينَ
الرجالُ الذين منهم تشرَّبتُ طِباعي.
هنا أعرفُكَ من ترابِكَ
لكنني لا أعرفكَ مِن الداخلِ.
وهناك الصمتُ ، هناك لا يعيشُ لحظةً من حياتكَ.
مثلَ النحلةِ التي سقطَتْ على يدي مثقَلَةً بالشّهدِ
من عرشِها الزَهريِّ المتداعي
في الأرضِ الخضراءَ العاصفةِ.
أنا الآنَ أتقلَّبُ في النعيمِ
جاهلاً مَن صَنََعَ العسلَ
قبل زمنٍ طويل.

رالف والدو امرسن

Emerson, Ralph Waldo (1803-1882) : شاعر وكاتب وفيلسوف أمريكي. ولد في بوسطن لعائلة تقلدت وظائف دينية جيلاً بعد جيل. تخرج من جامعة هارفرد وسلك طريق التدريس والخدمة الكنسية غير أنه استقال من منصبه الديني بسبب شكوكه الشخصية في عدد من المفاهيم والطقوس الكنسية وسافر عام 1832 الى إنكلترا حيث تعرف على كبار أدبائها أمثال وردزورث وكولردج وتوماس كارليل. تأثر امرسن بالرومانسية الإنكليزية والفلسفة الألمانية وعندما عاد الى الولايات المتحدة أصبح زعيما للتيار الفلسفي المعروف بفلسفة التسامي أو التعالي transcendentalism (وهي فلسفة ظهرت كرد فعل للفلسفة العقلانية وتؤمن باستحالة إدراك الحقيقة المطلقة عن طريق الخبرة أو التجربة وتعود في جذورها الى الأفلاطونية الجديدة وتأثرت بأفكار الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط والفلاسفة المثاليين الألمان أمثال فخته وشلنغ وهوسرل إضافة الى تأثرها بالهندوسية والرومانسية والصوفية). اشتهر إمرسن بقدرته البلاغية على بسط أفكاره بلغة شعرية مؤثرة. كان نصيراً متحمساً لإلغاء العبودية. كتب وألقى العشرات من المقالات والمحاضرات ويوميات الرحلات والدراسات الاجتماعية التي دأب على جمعها في كتب أصدرها بين الفترة والأخرى مثل (الطبيعة) 1836 و (مقالات) صدرت في عدة أجزاء كان أولها عام 1841، و(السلوك الحياتي) 1860، و (المجتمع والعزلة) 1870، و (التاريخ الطبيعي للعقل) 1893، إضافة الى العديد من المجاميع الشعرية مثل (أشعار) 1847، و (عيد أيار وقصائد أخرى) 1867 ، و (بارناس) 1874،

ترنيمةُ الوِئامِ
رالف والدو امرسن
عند القنطرةِ الفَجَّةِ التي بنوها لأجلِ السيولِ
نشروا أعلامَهُم في ريحِ نيسانَ.
هنا انتصبَ الفلاّحونَ المحارِبون يوماً
وأطلقوا الرصاصةَ التي دوَّت في أرجاءِ الأرضِ.
***
قد رقدَ الأعداءُ من زمانٍ بعيدٍ
مثلما رقدَ المنتصرونَ في سكونٍ
وجَرَفَ الزمانُ القنطرةَ الخرِبةَ
في النهرِ الداكنِ الزاحفِ نحوَ البحرِ
***
فوقَ هذا الجرفِ الأخضرَ، عند هذا الجدولِ الهادئِ
ننصبُ اليومَ مسلّةً من حجرٍ
كي تسترِدَّ الذكرى فَعالَهُم
حينَ يرحلُ أولادُنا .. كما رحلَ عنّا الآباءُ
***
أيتها الروحُ التي جعلَتْ أولئكَ الأبطالَ يجرؤونَ
على الموتِ ... وتركِ أبنائِهم أحرارا
مُرِ الزمانَ والطبيعةَ أن يحفظا في لطفٍ
الساريةَ التي نصبناها لهم ولك.


براهما
رالف والدو امرسن

إنْ كانَ القاتلُ المضرّجُ يظنُّ أنه يَقتُلُ
أو كانَ الذبيحُ يظنُّ نفسَهُ ذبيحاً
فهما لا يُدركانِ الطرائقَ الماكرةَ التي
ألزَمُها وأهجرُها.. وأعرِّجُ عليها من جديدٍ.
***
البعيدُ والمنسيُّ مِنّي قريبانِ.
ضياءُ النهارِ والظلُّ عندي سِيان.
الآلهةُ الزائلةُ تَظهرُ بينَ يديَّ.
وسِيانٌ عندي العارُ والاشتهارُ.
***
من يذَرني يعدّوهُ مريضا.
حين يطيرونَ عنّي أصيرُ جناحاً.
أنا الشكُّ والشَكّاكُ.
وأنا الترنيمةُ التي يُنشِدُها البراهميُّ.
تتحرَّقُ الآلهةُ الجبّارةُ لسُكنايَ
وكذاكَ المدائنُ السبعُ دونَ جدوى.
أما أنتَ ، يا مُحِبَّ الخيرِ القَنوعَ ..
جِدني ..وأَدِرْ ظَهرَكَ للسماء!


هيلدا دولِتِل

Doolittle, Hilda (1886-1961) : شاعرة أمريكية. عرفت بميلها الى المدرسة التصويرية في الشعر ثم تحولت الى استخدام الثيمات الميثولوجية. تركت دراستها الجامعية عام 1911 وسافرت الى اوربا حيث قضت معظم حياتها. وارتبطت في لندن بجماعة الشعر التصويري وزعيمها عزرا باوند الذي ساهم بتقديمها الى الجمهور تحت الاسم المستعار الذي ظلت تستعمله منذ ذلك الوقت وهو H. D). ) . ارتبطت بزواج قصير الأمد مع الشاعر الإنكليزي ريتشارد ألدنغتن وعانت في تلك الأثناء من مرض خطير وفقدت أخاها في الحرب العالمية الأولى ثم ارتبطت حتى أواخر أيامها بالروائي الإنكليزي ونفريد الدرمان Winifred Ellerman وقامت معه برحلات طويلة الى مصر واليونان وفرنسا والولايات المتحدة والنمسا (حيث خضعت لجلسات من التحليل النفسي قام بها فرويد في محاولة لاكتشاف الدور الذي تقوم به الصور في تقنيع المعاني).مع حلول الحرب العالمية الثانية هجرت دولتل الشعر التصويري وتوجهت نحو الميثولوجيا ذات الاتجاه النفسي التي تستلهم في الغالب من موضوعة الحرب. تركت الكثير من المجاميع الشعرية منها الحديقة البحرية (Sea Garden -1916 ) ، إله الزواج (Hymen-1921 ) ، وثلاثيتها الجدران لا تسقط The Walls Do Not Fall-1944) ) ، في الثناء على الملائكة (Tribute to the Angels-1945 ) ، إزهار العصا (The Flowering of the Rod-1946) ، وقصيدتها المطولة هيلين في مصر (Helen in Egypt -1961) وعددا من الروايات وذكرياتها مع عزرا باوند وسيغموند فرويد.


أدونيس
هيلدا دولِتِل
(1)
كلُّ واحدٍ منّا
مثلكَ ماتَ مرّة.
كلٌّ منّا
مثلكَ مرَّ فوقَ ركامٍ من أوراقِ الغابةِ
وصدَّعَتهُ الأيدي ولَوّتهُ
وشوهّتْهُ ثم سوَّتهُ
في صقيعِ الشتاءِ
وصهرتْهُ النارُ قطراتٍ من ذهبٍ
واتَّقدَ من جديدٍ
كهرماناً ذا غضونٍ ، قشوراً من أوراق ذهبيةٍ،
ذهباً تغيَّرَ .. وأُعيدَ لِحامُهُ
في أُتونِ الشمسِ
**
كلٌّ منّا
مثلك ماتَ مرةً
كلُّ منّا .. اجتازَ طريقا قديماً .. في غابةٍ ما
حتى وجدَ أوراقَ الشتاءِ
تبلغُ من بَريقها الذهبيِّ
في أتون الشمسِ
حدَّ أن أزهارَ الغابةِ الحيّةَ
تبدو داكنةً قُبالَتَها.
(2)
ذهبُ البواباتِ .. بواباتِ المعبدِ
حيثُ تقفُ الساعةَ
ليسَ ذهبياً كهذا.
كلا .. ولا الذهبُ الذي
يشدُّ نعليكَ،
ولا الذهبُ الذي انتزعَتْهُ الأزاميلُ
بين خصلاتٍ من شعركَ
يباهي بإشراقِهِ الذهبيِّ
هذي الوريقةَ الراقدةَ منذ عامٍ.
لا ، ولا كلُّ الذهبِ الذي
طَرَقوهُ .. ورَقّقوهُ .. وزخرَفوهُ
على وجهِ معشوقتكَ
وجبينِها .. وصدرِها العاري.
**
كلٌّ منّا
مثلكَ ماتَ ذاتَ مرّةٍ.
كلٌّ منّا
مثلكَ ينتصبُ منفرداً.
مثلكَ .. صالحاً للتقديسِ..


بِجماليون
هيلدا دو لِتِل
1
هل أتركُ نفسي محاصراً
وسطَ ناري أنا؟
هل أتركُ نفسي كي تتحطمَّ في لهيبي ؟
أو أفلقُ الصخرَ .. كما في القديمِ ،
وأحطَّمُ ناري .. على صفحَتِهِ؟
**
هذه النارُ .. هل تخذُلُني
وتخذلُ عملي .. أو براعتي؟
هل تحجبُ هذا الضياءَ؟
أيُّنا الإلهُ .. وأيُّنا الحجرُ الذي
يصادِرُهُ الإلهُ .. ويستخدمه ؟
2
أيُّهُما أنا :
الحجرُ .. أم القوةُ التي
ترفعُ الحجرَ عن الأرضِ ؟
هل أنا سيّدُ هذه النارِ ؟
هل هذه النارُ .. هي قوَّتي ؟
**
هل أنا سيّدُ هذه الدوامةِ تلوَ الدوّامةِ من الضياءِ؟
هل أنا مَن صَنَعَها
كما صنعتُ في القديمِِ
هذي الآلهةَ مِن الحجرِ ؟
**
هل صنعتُ هذه النارَ من ذاتي ؟
أم أنّ هذا ادعاءٌ وغرورٌ ؟
هل هذه النارُ إلهٌ ؟
يبحثُ عنّي في الظلامِ ؟
3
قد صنعتُ التمثالَ تلوَ التمثالِ
لأستخدمَها بنفسي.
قد صنعتُ التمثالَ تلوَ التمثالِ.
فلقد كانت "بالاّسُ" زنادي
وكان "هيفاستوسُ" عَوني

قد صنعتُ الإلهَ تلو الإله
وأطلَعتُهُم من الحجرِ الباردِ
وجعلتُ الآلهةَ أقلَّ من البشرِ.
فلقد كنتُ إنساناً
أمّا هُم فَصُنعُ يدي
**
وماذا جنيتُ في الأخير ؟
فلقد زعزعتِ النارُ يدي
وصار جهدي كلُّه .. محضَ غبار.
4
وماذا جنيتُ في الأخير ؟
تنتصبُ النارُ فوق رأسي
ورخاماتي متنبهةٌ ، يقظى
**
وكلُّ واحدٍٍ من الآلهةِ الكاملةِ
يصرخُ من حَنجرةٍ كاملةٍ:
"أنتَ عديمُ الجدوى
ما مِن رخامٍ يقدرُ أن يشدّني
ما من حجرٍ ينطقُ بالوحي"
5
قد ذابوا في الضياءِ
وعدتُ وحيداً
قد ذابوا
وغادروا المنصّاتِ .. واحداً بعد آخر
بأيّةِ آلامٍ .. أصوّرُ بليَّتي ؟
**
كلُّهم غادَرَ قاعدتَهُ الرُخاميّةَ
وغابَ في الضياءِ.
وعاد هباءً .. كلُّ ما فعلتُ.
6
والآنَ ..
هل أنا القوةُ التي
صنعتْ هذهِ النارَ
كما فعلتُ في القِدَم
وأطلقتُ من الصخرِ .. كلَّ هذي الآلهة
هل أنا الإلهُ
أم أنّ هذه النارَ
نحتَتْني .. من أجلِ نفعها ؟



و. هـ. أودن

Wystan Hugh Auden ولد في إنكلترا عام 1907 وأكمل دراسته الجامعية في أكسفورد. تأثر في صباه بأشعار روبرت فروست وإميلي دكنسون وتوماس هاردي ووليم بليك. نشر أولى مجاميعه الشعرية عام 1928وسرعان ما أصبح بعد صدور مجموعته الثانية عام 1930 أبرز الأصوات الشعرية الشابة في إنكلترا. تميز بعبقريته في تناول مختلف جوانب الحياة العقلية والاجتماعية وهضمه العديد من الثقافات القديمة والمعاصرة والنظريات السياسية والفنية وقدرته العظيمة على الكتابة في جميع الأشكال الشعرية المعروفة. زار ألمانيا وأيسلندا والصين وتطوع في الحرب الأهلية الأسبانية ثم انتقل عام 1939 الى الولايات المتحدة الأمريكية واكتسب جنسيتها وحاز فيها على جائزة البولتزر في الشعر عام 1948. تميز بغزارة إنتاجه الذي شمل الى جانب الشعر كلا من الكتابة المسرحية والأوبرالية والصحفية. قضى النصف الثاني من حياته متنقلاً بين أمريكا والنمسا وتوفي عام 1973. اختير منذ عام 1954 مستشارا للأكاديمية الأمريكية للشعراء. يعده النقاد أعظم الشعراء الإنكليز في القرن العشرين. توفي في فينا عام 1973.

القانونُ .. مثلُ الحبِّ
و. هـ. أودن

"القانونُ" .. يقولُ البستانيونَ "هو الشمسُ ..
القانونُ هو ما يطيعهُ كلُّ بستانيٍّ
اليومَ ، وفي الغدِ ، والأمسِ"
**
"القانونُ هوُ حكمةُ الشيوخِ"
يقولُ الأجدادُ العاجزون إذ يوبِّخونَ في وهنٍ
أحفادَهُم الذينَ يُخرِجونَ
ألسنةً ساخرةً ... ويجيبونَ:
"بل القانونُ .. هو أحاسيسُ الشبابِ"
**
"القانونُ" .. يقولُ الكاهنُ ، إذ يُلقي نظرتَهُ الكهنوتيةَ
وهو يفسِّر للحشدِ اللاكهنوتيّ
"القانونُ هو الكلماتُ المسطورةُ في أسفاري الكهنوتيةِ
والقانونُ هو المِنبرُ والبرجُ وجلجلةُ الأجراسِ"
**
"القانونُ" ... يقولُ القاضي، وهو يسدّدُ نظرتَه الشامخةَ
ويجزمُ في كلِّ وضوحٍ وبرودٍ:
"القانونُ .. كما أفترضُ أنكم تعلمونَ..
القانونُ - دعوني أشرحُ ثانيةً ما أعني -
القانونُ كما أخبرتكمُ من قبلُ .. هوَ القانون"
**
لكنَّ الفقهاءَ الأتقياءَ يكتبونَ:
"ليس في القانونِ .. خطاٌ أو صوابٌ..
ليس القانونُ سوى ذنوبٍ
تتبعُها عقوباتٌ ... زمانيةٌ ... أو مكانية.
القانونُ هو الثيابُ التي يرتديها البشر
في كل وقتٍ... وفي كلّ موضعٍ.
القانون هو صباح الخير ومساء الخير"
**
"القانونُ قدَرُنا" .. يقولُ آخرونَ.
"القانونُ دولتنا" .. يقولُ آخرون.
ويقولُ آخرون ... يقولُ آخرون…
"لم يعُد للقانونِ من وجودٍ
قد مضى القانونُ ... مضى دونَ رجعة"
**
والحشودُ الغاضبةُ الصارخةُ
أبداً تزعقُ في غضبٍ صاخبٍ :
"القانونُ .. هو نحنُ"
والأبلهُ الناعمُ ، أبداً في رفقٍ وبلاهة : "أنا"
**
لو أننا ، أيها الحبيبُ ، لا نعرفُ عن القانون
أكثرَ ممّا يعرفونَ.
لو كنتُ لا أعرفُ أكثرَ منكَ
ما علينا أنْ نفعلَ ... أو ألاّ نفعلَ
غيرَ ما يتّفقُ الجميعُ عليهِ
راضينَ أو مُكرَهينَ
بأنَّ القانونَ هو ........ كما يعرفُ الجميع ،
فإنني - مؤمناً أنّ من السخفِ
أن نعرّف القانونَ بكلماتٍ أخرى -
سأخالفُ الآخرينَ
ولا أقولُ من جديد "القانونَ هو ......."
**
مثلهم نحنُ ، لا نقدرُ أن نكبحَ
الرغبةَ الشاملةَ في التخمينِ،
أو نتملصَ من مواضعنا
نحو اللامبالاة.
رغم أنني أقدرُ في الأقلِّ
أن أحصرَ غروري وغرورَكِ
كي أوردَ في جُبنٍ
تشبيهاً جباناً
نتبجحَ به على كلِّ حال :
"هو مثلُ الحبِّ"
**
مثلُ الحبِّ .. لا نعرفُ من أين ولماذا.
مثلُ الحبِّ...لا نقدر أن نفرضَهُ أو نتملصَّ منه.
مثلُ الحبِّ..كثيراً ما نبكيه.
مثلُ الحبَّ.. قليلاً ما نحفظه.



فرانسيس هاربر

Harper, Frances Ellen Watkins (1825-1911) : شاعرة وقاصة وسياسية وناشطة نسوية أمريكية سوداء. كرست حياتها وأدبها لقضايا تحرير العبيد والدفاع عن حقوق المرأة والمساواة الاجتماعية ومحاربة الإدمان والتطرف. تلقت تعليماً راقياً وألمّت بالعديد من اللغات الأمر الذي لم تحصل عليه أية امرأة أمريكية في عصرها. نشرت مجموعتها الشعرية الأولى (أوراق الغابة) قبل أن تبلغ العشرين. أثارت دهشة معاصريها بثقافتها العالية وقدراتها الأدبية وخطبها النارية حتى ادعى البعض أنها رجل يمثل دور امرأة أو امرأة بيضاء تتنكر ببشرة سوداء. نشرت عام 1859 قصتها (الإقتراحان) فدخلت التاريخ لكونها أول قصة تنشرها امرأة سوداء. شاركت في الكثير من المؤتمرات النسوية العالمية وحازت على تكريم وشهرة واسعة في حياتها. أصدرت عام 1892 روايتها الشهيرة (أيولا لِيرُويْ أو الظلال الصاعدة) وهي تتحدث عن حياة وكفاح امرأة ذات أصول عرقية مختلطة. ظلت مواظبة على نشاطها السياسي والاجتماعي والأدبي حتى وفاتها عن 86 عاماً.

الأم المستعبّدة
فرانسيس هاربر
هل سمعتَ الصرخات؟
تلك التي تعلو .. وتشقُّ الهواءَ
مثلَ قلبٍ أثقلتهُ الهمومُ
حتى تحطّمَ من يأسٍ
**
أرأيتَ تلكُم اليدينِ.. تتشابكانِ في قُنوطٍ ،
والرأسَ الواهنَ الذليل
ونظرةَ الخوفِ والأسى
وارتعاش الجسدِ القصيم ؟
**
أرأيتَ العينينِ الضارعتين
تقطُران بالأنينِ
كأن عصفاً من كروبٍ
يكتسحُ العقلَ الحزين ؟
**
هيَ أمٌّ .. شلّها الخوفُ ، وعراها الشحوبُ
وصغيرُها الراجفُ
عبثاً يخبّئُ الجسدَ النحيل
في طيّات ثوبها المهلهل
**
لم يعُد ملكَها ..
قد حملته تسعاً .. وتلَوَّت في المخاض
وسرى في عروقه دمُها
لكنه .. ليسَ ابنها!
**
لم يعد ملكها..
فالأيادي الضاريات .. ستمزِّقُ عمّا قريب
آخرَ إكليلٍ من الحبّ
يشدُّ قلبها الهشيم.
**
حبُّهُ كان ضوءً من حُبور
يضحكُ في دربها
ونبعاً طريّاً دافقاً
في فيافي عمرِها الشقيّ
**
أصغرُ كلماتِه .. نغماتٌ عِذابٌ
من لحنٍ يلفُّ قلبَها.
حياتهما نهرانِ ممتزجان.
آهٍ أيها الربّ !.. ألِزامٌ أن يفترقا ؟
**
ها هم ينزعونَهُ .. من ذراعيها المطوِّقين
وعناقِها المغرَمِ الأخير.
آهٍ ! عيناها لن يحدّقا بعدُ
في وجههِ الواجمِ الحزين.
**
لا تعجب إذن .. من هذه الصرخات المريرة
إذ تقلقُ الهواءَ الذي يصغي.
هي أمٌّ .. وقلبُها
يتحطَّمُ من يأس !


ألفرد لورد تنيسون

Tennyson, Alfred, Lord (1809-1892) : واحد من أعظم الأدباء الإنكليز خلال العصر الفكتوري (1837-1901). أحاط في كتاباته بالعديد من الأساليب الفنية التي تضمنت عدداً من أفضل نماذج الشعر الرعوي في اللغة الإنكليزية. ولد في السادس من آب 1809 وتلقى القدر الأكبر من تعليمه المبكر على يد والده رجل الدين الدكتور جورج تنيسون، وأبدى منذ نعومة أظفاره قدراً كبيراً من الموهبة والولع بالتأليف الشعري ، فكتب أشعاراً تتميز بالأصالة والنبوغ متعقبا خطى شعراء مشهورين أمثال بايرون الذي كنّ له إعجاباً شديداً ، ومن اللافت للنظر أن هذا الشاعر العبقري أنجز العديد من الملاحم والمسرحيات الشعرية قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره !
دخل تنيسون جامعة كامبردج عام 1827 وبعد عامين نشر عمله الشعري الشهير تمباكتو (Timbuctoo) الذي نال عليه إحدى الجوائز الأدبية وفي العام التالي نشر أولى مجموعاته الشعرية (Poems, Chiefly Lyrical -1830) لكنه آثر في صيف العام نفسه الالتحاق بجيوش الثوار الأسبان بصحبه رفيقه الحميم آرثر هالام (Arthur Hallam) . في عام 1831 وعقب وفاة والده قرر ترك كامبردج نهائيا دون الحصول على شهادته الجامعية.وفي العام التالي أصدر مجموعته الثانية (Poems –1832) التي تضمنت قصيدته الذائعة الصيت "آكلو اللوتس" (The Lotos-Eaters) لكنها قوبلت في حينها بامتعاض النقاد. كانت نقطة التحول الحاسم في حياة تنيسون هي الوفاة المفاجئة لصديقه الحميم "هالام" عام 1833، فعانى الشاعر من اكتئاب روحي عميق وأقسم على ألا ينشر شيئاً مما يكتب لعشرة أعوام ! وكرس نفسه طيلة تلك السنوات للقراءة والتأمل رغم أنه كتب قصيدته المعروفة "الصوتان" (The Two Voices –1834) وهي قصيدة فلسفية تدور حول فكرة الموت والخلود. في عام 1842 ، وعقب انقضاء فترة الصمت الطوعي، حاز تنيسون على إطراءٍ واسع بعد نشره مجموعته "أشعار" (Poems) في جزأين وهي المجموعة التي رسخت أقدامه كأفضل شعراء عصره. وتحتوي المجموعة على قصيدته الرعوية "موت آرثر" (Morte d'Arthur) القائمة على أسطورة الملك آرثر، وقصيدته الشهيرة "يوليسيس" (Ulysses) ، إضافة الى قصيدته الغنائية الجياشة "تحطم .. تحطم .. تحطم" (Break, Break, Break) .
في عام 1847 نشر أولى مطولاته "الأميرة" (The Princess) وهي معالجة رومانسية في شعرٍ موزون غير مقفى لمسألة حرية المرأة ، وفي عام 1850 ظهرت واحدة من أعظم قصائده " الذكرى" (In Memoriam) في ذكرى صديقه "هالام" وهي القصيدة التي أحتلت منذ ذلك الوقت مكانها كواحدة من أفضل قصائد الرثاء في اللغة الإنكليزية. في عام 1850 تزوج حبيبته "إميلي سلوود" بعد انتظار دام سبعة عشر عاما، وفي العام نفسه عيّن شاعراً للبلاط (poet laureate of Britain) خلفاً لوليام وردزورث . في السنوات التالية عاد تنيسون الى موضوعة الأساطير الآرثرية وذلك في مجموعته "أناشيد الملك" (Idylls of the King) التي بدأ كتابتها عام 1859 ولم يفرغ منها إلا بعد ستة وعشرين عاماً ، واتسمت بالفخامة والجزالة والتصوير النابض بالحياة. من أعمال تنيسون الأخرى قصته "إينوك آردن" (Enoch Arden –1864) وعدد من المسرحيات التاريخية منها "الملكة ماري" (Queen Mary -1875) ، "هارولد" (Harold -1876) و "بيكيت" (Becket-1884) والعديد من المجموعات الشعرية الأخرى . نال تنيسون لقب بارون عام 1884 واختير عضواً في مجلس اللوردات . توفي في السادس من اكتوبر 1892. إن مكانة تنيسون في الأدب الإنكليزي ترجع الى نجاحه في كتابة الكثير من أمهات القصائد المتميزة بالأصالة والنبوغ والحرفية العالية التي كانت انعكاساً لميل الشعر الإنكليزي خلال العصر الفكتوري نحو الجزالة والنظام والموسيقى العالية ، وهو في قصيدتين مما نقدمه هنا للقارئ الكريم يوظف ملحمة الأوديسة الإغريقية الخالدة ليؤكد قيم الكفاح والعمل من أجل تحقيق الوجود الإنساني (متمثلاً بالبحر/ الحياة ومغامراته العظيمة) مندداً ، مثل زميله ماثيو آرنولد، بالقيم النفعية والفلسفة المادية الميكانيكية التي تبناها سادة ذلك العصر.

آكلو اللوتس
ألفرد لورد تنيسون
[1]
هنا لذيذُ الموسيقى التي تسّاقطُ في رقةٍ
مثلَ تويجاتِ وردٍ تنزلُ على العشبِ
أو قطيراتِ ندىً ليليةٍ فوقَ مياهٍ ساكنةٍ ،
في شِعابٍ تتلألأُ
بين جدرانٍ من صخورٍ ظليلةٍ.
موسيقى تفترشُ القلبَ
بِأَرقَّ مما تفعلُ الجفونُ الناعساتُ
فوق عيونٍ أثقلها الكرى.
موسيقى بها يتنزل لذيذُ الرقادِ
من سماواتِ النعيمِ.
هنا برَكٌ مِن طحالبَ .. باردةٍ عميقةٍ
يزحفُ من بينها اللبلابُ
وتذرُفُ مورقاتُ الأزاهيرِ
الندى في الجدولِ الرقراقِ
ويتمايلُ الخشخاشُ نعساناً
من أفاريزِ الصخورِ.
[2]
علامَ تنوءُ ظهورُنا بالأحمالِ
علامَ يسحقُنا الهَمُّ العميقُ
وكلُّ ما حولنا حرٌّ من الأعباء ؟
كلُّ شيءٍ يخلُدُ للدّعَةِ ، فعلامَ نكدحُ وحدَنا ؟
نكدحُ ونكدحُ أوّّلَ الآخرينَ
ونئنُّ للأبد …
يقذفُنا حُزنٌ لحزنٍ
فلا نطوي الجناحَ ، كي نكفَّ عن التَهيامِ .
ولا نغمسُ الجباهَ في بلسمِ النومِ الإلهيِّ
أو ننصتُ لأغنياتِ الروحِ والفؤادِ.
" لا بهجةَ إلا في السَكينةِ ! "
علامَ إذنْ نكدحُ ونكدحُ ونكدحُ
من الجذورِ حتى القِمم ؟
[3]
أنظرْ ! في أعماقِ الغابِ
تستدرِجُ الأنسامُ فوقَ الغصونِ
أوراقَ البراعمِ الغافياتِ … تغويها.
وهناكَ تتفتّحُ … وتخضَرُّ … ولا تُبالي :
تتشرَّبُ الشمسَ في الظهيرةِ …
وترضعُ ليلاً من ضياءِ القمرِ…
وتصفَرُّ ، تسقطُ ، تهبطُ عائمةً في الهواءِ.
أنظرْ ! تلك التفاحةُ الريّا
أشربَتْها شمسُ الصيفِ حلاوةً
فتكورتْ وأينعتْ
وهوتْ في ليلِ الخريفِ الساكنِ.
والأزاهيرُ التي تُمضي أيامَها التي قُدِّرت لها
تينَعُ وهي في محلِّها لا تريمُ
تينعُ وتخبو ، ثم تهوي دونَ عَناءٍ
وجذورُها راسخاتٌ .. عميقاً في الترابِ الخصيبِ.
[4]
مقيتةٌ تلكُمُ السماءُ الكالحةُ الزُرقَِةِ ،
معقودةً فوقَ ذاك البحرِ الكالحِ الأزرق.
الموتُ خاتمةُ كلِّ حياةٍ ..
آهٍ ، فعلامَ تكونُ الحياةُ كَدّاً ؟
ذَرونا لوحدِنا !
ذا الزمانُ يعدو كالمسعورِ
وسرعانَ ما تُطبِقُ مِنّا الشّفاهُ.
ذَرونا لوحدِنا !
ما الذي يدومُ ؟
كلُّ شيءٍ يُنتَزَع منا ويصيرُ ..
مضغةً من ماضٍ مَهولٍ.
ذرونا لوحدنا !
أيةُ متعةٍ نجتنيها من قِراعِ الشرورِ ؟
وهل تُرى من راحةٍ أو سلامٍ ..
في اعتلاءِ الأواذي يوماً بعدَ يوم ؟
كلُّ شيءٍ لا بدَّ أن يستريحَ
ويينَعَ .. يمضي الى لحدِهِ في سكونٍ.
يينعُ .. يهوي .. ثم يستكينُ.
أَعطِنا طولَ راحةٍ .. أو فاعطنا موتاً ..
موتاً خفياً مُظلِماً .. أو دَعَةً حالمةٍ.
[5]
كَم لذيذاً كانَ ذاكَ : سماعُ الجدولِ المنحدرِ
بعيونٍ نصفَ مطبِقةٍ ، تبدو كلَّ حين
غاطّةً في الكرى ، نصفَ حالمة !
أن نحلمَ .. ونحلمَ .. ونحلمَ
كذاك الضياءِ الكهرمانيِّ
الذي لا يبرحُ تلكمُ الشجيراتِ
هناكَ .. في الأعالي.
أن نسمعَ ما نثرثرُ به من همساتٍ
ونلتهمَ اللوتسَ يوماً بعدَ يومٍ.
أن نرقُبَ تقصّفَ الأمواجِ على الشطآنِ
والخطوطَ المتعرِّجَةَ الواهنةَ
من رذاذٍ مزبِدٍ.
أن نُعيرَ أرواحَنا والقلوبَ
لسطوةِ كآبةٍ رقيقةٍ.
أن نتأمّلَ ونُطيلَ التفكّرَ، ونعيشَ الذكرى من جديدٍ
في رِفقةِ الوجوهِ التي عرفناها في الصِغَرِ :
رابيةٌ من عُشبٍ فوقَها ..
وقبضتانِ من رمادٍ أبيضَ
في جَرَّةٍ مُحكَمَةٍ من نحاس !
[6]
عزيزةٌ ذكرياتٌ شَدّتنا الى نسائِنا
عزيزٌ عِناقُ أزواجِنا الأخيرُ
ودموعُهُنَّ السخيناتُ.
لكنّ يدَ النسيانِ طالتْ كلَّ شيءٍ
وهذي مواقدُنا لا بدَّ قد برُدَتْ
وأولادنا لا بدَّ قد ورثونا
ونظراتُنا لا بدَّ استحالتْ غريبةً منسية.
لو زُرناهمُ الساعةَ لكُنّا
مثلَ أشباحٍ تعكِّرُ صفوَ المسرّاتِ.
وأولئكَ أمراءُ الجزائرِ الباسلون
لربما يأكلونَ الآنَ خبزَنا
وأمامَهم يُنشِدُ المنشدونَ
عن حربِ طروادةَ ذاتِ السنين العشرِ
وعن عظيمِ فَعالنا ... كقصصٍ نصف منسيةٍ.
...
هل من ارتباكٍ في ذي الجزيرةِ الصغيرة ؟
دعْ ما تحطَّمَ على حالِهِ ؛
الآلهةُ صعبةُ الغفرانِ
وعسيرٌ أن يعودَ ما اختلَّ الى صفوِهِ
فوضىً هناكَ .. أشدُّ من الموتِ نفسِهِ ..
همومٌ فوقَ همومٍ .. وألمٌ فوقَ ألمٍ ..
كدحٌ طويلٌ حتى شيخوخةِ الأنفاسِ ..
وشقاءٌ موجِعٌ على قلوبٍ قرَّحتْها الحروبُ ..
وأعينٍ أعشاها طولُ التحديقِ
في نجومٍ هادياتٍ .
[7]
متكئينَ على أسرّةٍ من عشبٍ خالدٍ
لا يعرفُ الذبولَ
كم يحلو لنا
-إذ دافئاتُ الأنسامِ تُهدهِدُنا
تحتَ سماءٍ عميقةٍ قدسيةٍ -
أن نرقبَ بأعينٍ مرخَياتٍ
ذاك النهرَ الطويلَ الرَقراقَ
يسوقُ على مهلٍ
ماءَهُ من التلِّ الأرجوانيِّ.
أن نُصغي للأصداءِ النديّةِ
إذ تنادي من كهفٍ لكهفٍ
بين الكُرومِ المُلتفَّةِ المجدولةِ.
أن نرقبَ الماءَ الزمرّديَ
يهوي بين أكاليلَ مضفورةٍ
من أغصانٍ تخلُبُ الألبابَ.
أن نصغي ونرى فحسبُ
للبحرِ المتلألئِ البعيدِ.
حسبُنا أن نصغيَ ، مستلقينَ في ظِلالِ الصنوبرِ.
[8]
يتفتحُ اللوتسُ تحتَ القمةِ الجرداءَ.
يُزهِرُ اللوتسُ عندَ كلِّ جدولٍ يتلوّى.
وتظلُّ الأنسامُ النهارَ برمَّتِهِ
تتنفسُ في نغَمٍ رخيمٍ
خلالَ كلِّ كهفٍ عميقٍ وشِعبٍ متوحدٍ.
وحولَ التِلالِ اللاذعةِ ينثرُ اللوتسُ غبارَهُ الأصفرَ
**
كفانا ما لاقينا من قِراعٍ ومن حَراكٍ
ومن تقلُّبٍ للميامنِ ، من ترنّحٍ للمياسرِ
حينَ يغلي الموجُ ويُزبِدُ
حين يبصُقُ مِسخُ البحرِ المتخبِّطُ المَهولُ
نوافيرَ من زبَدٍ غاضِبٍ.
فلنُقسمِ الساعةَ ونحفظِ القسمَ بِرَصينِ العقولِ :
أن نحيا بأرضِ اللوتسِ الغائرةِ.
أن نضطجعَ متكئينَ على الكثبان.
سويةً كما يفعلُ الأربابُ التي لا تبالي بالبشرِ:
إنهم لَيستلقونَ وبينَ أيديهِم رحيقُ الخلودِ
بينما تهوي السهامُ الصواعقُ مِن تحتِهِم في الوديان
ويلتفُّ الغمامُ في رفقٍ
حول مساكنهِم الغارقةِ في الضياءِ.
إنهم لَيبتسمونَ في أعماقهم
وينظرونَ من عَلٍ الى الأصقاعِ الجرداءَ
والجوعِ ، والطاعونِ ، والآفات ،
والزلازل ، والحروب الطاحناتِ ، والمدائن المحترقاتِ ،
والسفائن الغارقاتِ ، والأيدي المبتهلاتِ ..
لكنهم يبسمونَ ..يطرَبونَ لنغمةٍ عذبةٍ
يَلقَونها في أغنيةٍ حزينةٍ تجيشُ وتعلو،
في عويلٍ ، وقصةٍ عن خطيئةٍ غارقةٍ في القِدمِ
كحكايةٍ خرقاءَ رغمَ جزالةِ الكلماتِ
تنشدُها سلالةٌ من بَشَرٍ مُذَلٍ مُهانٍ
يشقّونَ الأرضَ وينثرونَ البذورَ
ويحصدونَ الغلالَ في شقاءٍ راسخٍ مُدامٍ
ليخزنوا عاماً بعد عامٍ حصصاً تافهاتٍ
من قمحٍ وزيتٍ وخمرٍ
حتى يأزفَ الفناءُ ويقاسوا
-بعضُهم كما قيلَ-
هناكَ في قعرِ الجحيمِ عذاباً أبدياً
ويسكنَ غيرُهُم في وهادِ الفراديسِ
ويريحوا أطرافَهُم المُضناةَ
على أسِرَّةٍ من زَنبَقٍ ..
**
النومُ أحلى من الكدِّ والشقاءِ ،
ذاكَ أمرٌ مؤكَّدٌ مؤكَّد.
والساحلُ أحلى من كدحٍ بعرضِ البحرِ العميقِ ،
والموجِ والهديرِ ....
آهٍ فاسترحْ يا أخيَّ البَحّارُ
استرحْ .. فلن نهيمَ بعد اليوم.


تحطَّمْ .. تحطَّمْ
ألفرد لورد تنيسون
تحطَّمْ .. تحطّمْ .. تحطّمْ
آهِ يا بحرُ .. على صخورك الرمادية الباردة.
أما أنا فليتَ لساني ينفثُ
ما يَصّاعدُ في روحي .. من خواطرِ الفِكَر
**
آهٍ .. كم جميلٌ لصبيِّ الصيادِ
أن يصيحَ مُلاعِباً أختَهُ !
آهٍ .. كم جميلٌ لغلامِ البحّارِ
أن يغنّيَ في قاربِهِ .. على الخليج !
**
وتمضي السفائنُ المهيباتُ
لمرافئها تحتَ أعطافِ التلالِ.
لكنْ .. آهٍ لِلَمسةِ يدٍ تتلاشى
وصدى صوتٍ قد سكن !
**
تحطَّمْ .. تحطّمْ .. تحطّمْ
آهِ يا بحرُ .. على أقدامِ صخوركَ
بيدَ أنّ النعمةَ الرقيقةَ ليومٍ قد احتضرَ ...
أبداً .. أبداً لن ترجعَ لي !


يوليسيس
ألفرد لورد تنيسون
أيُّ ربحٍ نَزيرٍ
أن أكونَ ملكاً عاطلاً
جوارَ هذا الموقدِ الخابي
بينَ هذي الصخورِ الجرداءَ
قرينَ زوجةٍ شمطاءَ
أتصدَّق وأمِنُّ بشرائعَ عوجاءَ
على سلالةٍ متوحشةٍ
تكنزُ وتنامُ وتأكلُ
وتجهلُ مَن أكونُ.
لا أريدُ استراحةً من سفرٍ
سأشربُ كأسَ الحياةِ حتى الثُفـالة
عظيمةً كانت مُتعتي كلَّ حينٍ
وعظيماُ كانَ شقائي
وحيداً ، أو في صحبةِ مَن أحبَّني
على هادئاتِ الشواطئِ
أو حين يُهيجُ النَوءُ الماطرُ معتماتِ البحارِ
وهو يسوقُ حُطامَ السـفائنِ.
قد ذاعَ صيتي لأنّي
أبداً أجوبُ الآفاقَ بفؤادٍ ظمِئ.
قد رأيتُ الكثيرَ ، قد عرفتُ الكثيرَ
مدناً من رجالٍ ، وطِباعٍ ، وأجواءَ ، ومجالسَ وحكوماتٍ
أما نفسي فلا
رغمَ أنّها بزَّتهُم جميعاً
قد عَبَبتُ كأسَ السرورِ من قِراعِ أندادي
بعيداً فوق السهولِ المدوّيةِ لطروادةَ ذاتِ الرياحِ.
قد صرتُ جزءاً من كلِّ ما لاقيتُ
على أن كلَّ خبرتي ما كانت غيرَ قنطرةٍ
يتلامعُ فيها
كلُّ ما لم أزرْ من عوالمَ
تخبو تخومُها وتخبو كلما تقدمتُ.
كم بليدٌ لو توقفتُ.
كم بليدٌ لو بلغتُ النهايةَ.
لو صدِئتُ وأغفلني الصَياقلُ.
لو لم أُبرِقْ من استعمال !
وكأنّـا خُـلـِقنا كي نتنفسَ !
حياةٌ تتبعُ حياةً .. وكلُّـها ضئيلٌ قصيرٌ.
أما التي قُسِمتْ لي
فلم يبقَ منها الكثيرُ.
غير أنَّ كلَّ ساعةٍ فيها قد نجَتْ
من ذاكَ الصمتِ الأبديِّ
بل وظلّـتْ تأتي بالجديدِ والجديد.
كم كَريهٌ أن أكنزَ نفسي وأُخبّأَها أعواماً ثلاثةً.
وهذه الروحُ يمضُّها الشوقُ الى
أن أتبعَ المعرفةَ مثل نجمٍ غائرٍ
وراءَ أبعدِ تخمٍ للفكرِ البشريِّ.
وهذا ولدي .. تِليماخوسُ ابني.
إليه سأتركُ جزيرتي وصولجاني
حبيبٌ الى قلبي ، بصيرٌ بإنجازِ هذا العملِ
وبأن يلطّفَ بالحكمةِ والتدبيرِ
هذا الشعبَ الجلفَ
وإن يُخضِعَهم في تدرّجٍ لطيفٍ
لفعلِ المفيدِ والخيِّرِ.
برئٌ هو وطاهرٌ.
قد وهبَ النفسَ لخدمةِ الناسِ.
يستحيي من الفشلِ
في مواطنِ الرِقّةِ والكرَمِ.
يقدِّمُ فروضَ التبجيلِ لآلهةِ منزلي بعد رحيلي.
لهُ عملُهُ ، ولي عملي.
ذاكَ هو الميناءُ .. هي ذي السفينةُ تنفخُ الشراعَ.
ذاك هو البحرُ القاتمُ المعتمُ الفسيحُ.
فيا بحّارتي – يا نفوساً كدَّتْ، وشَقَتْ، وفكّرَتْ معي
واستقبلتْ في مرحٍ كلَّ العواصفِ والنهاراتِ الوضيئةِ
وقاومَتْ .. بقلوبٍ حُرةٍ وجِباهٍ أبيـّةٍ –
شيوخٌ نحنُ طاعنونَ
غير أن للشيخِ مجدُهُ وكدحُهُ.
الموتُ يختمُ كلَّ شيءٍ
لكنّ شيئاً ما قبلَ النهايةِ ، عملاً ذا نغمةٍ نبيلةٍ
لا يزالُ في مقدورِنا فعلُهُ.
ليس الرجالُ الذين تعوزهم اللياقةُ
الذين يصارعونَ الآلهةَ.
هو ذا الضياءُ يتلألأُ على الصخورِ ،
يتآكلُ النهارُ الطويلُ ، يرتقي القمرُ متثاقلاً
وتئن الأعماقُ بأصواتٍ شتّى
فهلمّوا يا رفاقي.
لم يتأخرْ أوانُ البحثِ عن عالمٍ جديدٍ
ادفعوا .. واعتدلوا جالسينَ في انتظامٍ
واضربوا الأخاديدَ الرنّانةَ.
غايتي الإبحارُ خلفَ مغربِ الشمسِ
خلفَ المواضعِ التي تستحِـمُّ فيها
كلُّ نجمةٍ غربية .. حتى أموت.
ربما جـّرتـْنا الخلجانُ الى الأعماقِ.
ربما لامَسْـنا الجزرَ السعيدةَ
ورأينا "أخيلَ" العظيمَ الذي عرفناه.
حقاً ذهبَ الكثيرُ ، لكنّ الكثيرَ لمّـا يزلْ.
حقاً لم نعُد في القوّةِ التي في الأيامِ الخوالي
زحزحْنا بها الأرضَ والسماءَ.
لكننا نحنُ نحن :
مزاجٌ واحدٌ من قلوبٍ جريئةٍ
أوهَنَها الزمانُ والمصيرُ
غير أن عزماً متيناً يشدّنا
لنبحثَ ، نسعى ، نجهدَ …
ولا نستسلمُ أبداً .


كُـفَّ عن سؤالي
ألفرد لورد تنيسون

كُفَّ عن سؤالي...
قد يجرجرُ البدرُ صفحةَ اليَمِّ
أو يهوي الغمامُ من سماواتِهِ
ويرتدي- طَيّةً بِطَيّةٍ - صورةَ ذروةٍ أو جبلٍ.
ولكن، أيها الحبيب، قل لي متى أجَبتـُكَ؟
كُفَّ عن سؤالي
**
كُفَّ عن سؤالي
وبماذا سأجيبُ ؟
لا أُحبُّ الأَعيُنَ المُطفَآتِ ، ولا غائراتِ الخدودِ
ولكنْ يا صديقُ ، هيهاتَ أن أحتملَ موتَكَ.
كُفَّ عن سؤالي، مخافةَ أَن أسألَكَ الحياةَ
كُفَّ عن سؤالي
**
كُفَّ عن سؤالي
قد خَتمَ القضاءُ على مصيرَينا
عبثاً صارعتُ الموجَ
فدعِ النهرَ العظيمَ يسُـقْني الى اليَمِّ
كفَّ يا حبيبُ
لسوفَ أُذعِنُ مِن لمسةٍ واحدةٍ
كُفَّ عن سؤالي


عبورُ الحاجزِ
ألفرد لورد تنيسون

غروبٌ .. ونجمة ُ مساءٍ ..
ونداءٌ وحيدٌ جَلِيٌّ من أجْلي !
فليغِبْ كلُّ أنينٍ لحاجزِ المرفأِ
ساعةَ أمضي الى البحرِ
وليكن مدٌّ .. تخالُهُ ساكناً وهو في حراكٍ ،
متخمٌ فلا يرغبُ في زَبَدٍ أو هديرٍ
ساعةَ يعودُ القَهقرى الى بيتهِ
مدٌّ غيرُهُ .. خارجٌ من أعماقٍ لا تُحَدُّ.
**
غسقٌ .... وأجراسُ مساءٍ ..
ومِن بعدِها العُتمةُ !
وليغِبْ كلُّ حزنٍ للرحيلِ
ساعةَ أصعدُ السفينةَ .
ورغمَ أنَّ الموجَ قد يُقصيني
بعيداً عن تخومِ زمانِنا والمكانِ ،
فإنّي لأَرجو أن ألاقيَ دليلي
وجهاً لوجهٍ
ساعةَ أكونُ ... قد عبرتُ الحاجزَ .



إميلي ديكنسون

Dickinson, Emily Elizabeth (1830-1886) : واحدة من أشهر الشاعرات في تاريخ الأدب الأمريكي برمته. إن قصائدها البسيطة في بنائها، الحادة الذكاء في أفكارها، الشديدة العمق في أحاسيسها تستمد مادتها وصورها من قضايا الإنسان الأساسية: من آلام الحب وأفراحه، من طبيعة الموت التي لا يسبر غورها، الجنس، ويلات الحروب، الدين، الدعوة الى المرح، التأمل في أهمية الموسيقى والأدب والفن.
كانت ديكنسون شديدة التعلق ببلدتها التي نشأت ودرست فيها ولم تغادرها إلا بضع مرات لضرورات قاهرة، بل أنها ظلت تعيش في نفس المنزل طيلة السنوات الثلاثين الأخيرة من حياتها. لم تنشر ديكنسون خلال حياتها سوى عشر من قصائدها التي ناهزت الألفي قصيدة ولم يظهر المجلد الأول من "قصائد لإميلي ديكنسون" إلا عام 1890، أي بعد رحيلها بأربعة أعوام. ولعل هذه التفاصيل كانت إحدى الأسباب وراء الانطباع السائد عنها بأنها كانت امرأة انطوائية قليلة الاختلاط.حتى أن البعض أطلق عليها لقب "صوفية نيو إنجلاند" كانت ديكنسون شديدة الإعجاب بترجمة الملك جيمز للإنجيل وبشعراء وكتاب أمثال وليم شكسبير وجون ملتون وجارلز ديكنز وإليزابيث براوننغ ويظهر أسلوبها الشعري تأثرا واضحا بكل من إليزابيث براوننغ وزوجها روبرت براوننغ والشاعرين الإنجليزيين جون كيتس وجورج هربرت.
وكانت لديكنسون طريقة مدهشة في استخدام اللغة اليومية العادية وهي طريقة من شأنها حسب قولها أن "تستخلص إحساسا عجيبا من معانٍ عادية". إن أبياتها الشعرية القصيرة التي تتكثف باستخدام الكنايات القوية والاستخدام الواسع لما يعرف بالحذف (ellipsis) أي حذف الكلمات التي يمكن أن يفهم القارئ وجودها في أمكنة معينة تناقض بشدة أسلوب الشاعر الأمريكي العظيم والت ويتمان الذي كان معاصرا لها وهو الأسلوب القائم على الجمل الشعرية الطويلة وإغفال القافية والابتعاد عن الأوزان المنتظمة.
رغم أن إميلي ديكنسون نشرت النزر اليسير من قصائدها خلال حياتها فإنها "نشرت" بنفسها ما يناهز ثلث أشعارها بواسطة رسائلها التي جاوزت الألف التي كتبتها الى أكثر من مائة مراسل بينهم العديد من الشعراء والأدباء والنقاد. إن طريقتها في جمع حوالي الثماني مائة من قصائدها في عشرين دفترا وتوزيع عدة مئات منها بين طيات رسائلها صار يعرف على نطاق واسع بطريقة إميلي ديكنسون في النشر الشخصي، أضف لذلك أنها كانت طوال ثلاثة عقود تتلو الكثير من قصائدها على ضيوفها وأصدقائها.
تشمل أعمالها المنشورة : "أشعار إميلي ديكنسون (في ثلاثة مجلدات عام 1955) و"رسائل إميلي ديكنسون(في ثلاثة مجلدات عام 1958) و"مخطوطات إميلي ديكنسون (في مجلدين 1981).

سماعُ طيرٍ يغنّي
إميلي ديكنسون
سماعُ طيرٍ يغنّي
ربما أمرٌ مألوفٌ
وربما إلهيٌّ في جمالِهِ

وليسَ سواءً
غناءُ الطيرِ وحيداً
وغناؤُهُ على حشدٍ من السامعينَ

طِرازُ الأذنِ
يكسو الذي تسمعُهُ
بالقتامةِِ أو بالحُسنِ

وكونُهُ ساحراً
أو كونُهُ عقيماً
شيءٌ تقررّهُ الدواخلُ

"اللحنُ في الشجرةِ"
هكذا يقولُ المتشكّكُ فأُجيبُ :
"لا يا سيدي ، إنهُ بداخلكَ" !


في غفلةٍ تنمو الجبالُ
إميلي ديكنسون
في غفلةٍ تنمو الجبالُ
وتَنهضُ أجرامُها الأرجوانيةُ
دونَ جهدٍ أو عناءٍ
دونَ عونٍ أو ثناءٍ

وفي ابتسامةِ الفرحِ العريضةِ
تطيلُ الشمسُ النظرَ في وجوهِها الأزليةِ.
وترمقُها للمرّةِ الأخيرةِ
وقد اصطبغتْ بالضياءِ الذهبيِّ
تائقةً الى صحبةِ الليلِ


العَرَبة
إميلي ديكنسون
لأنني لم أستطعْ أن أتوقفَ من أجلِهِ
تعطَّفَ الموتُ … وتوقَّفَ من أجلي.
لم يكُنْ في العربةِ غيرنا :
أنا والموتُ والخلود

وانطلقنا على مهلٍ
دونما عجالةٍ
ورميتُ بعيداً
بكلِّ كدّي وعنائي
وبكلِّ راحتي
نظيرَ لطفِهِ ودماثتِهِ

لَم أرَ السِباخَ الموحِلاتِ
إميلي ديكنسون
لم أرَ السِباخَ الموحِلاتِ
لم أرَ البحرَ يوماً
بَيدَ أنّي أعرفُ شجيراتِ الخَلَنْجِ
وشكلَ الأمواجِ
**
لم أتحدَّثْ الى الرَبِّ
لم أزُرِ الفردَوسَ
لكنني أعرفُ المكانَ يقيناً
وكأنَّ صحيفتي أضحَتْ في يميني

وضعتُ قوّتي في يدي
إميلي ديكنسون
وضعتُ قوّتي في يدي
ومضيتُ أتحدّى العالمََ
لم أكن بقوّةِ "داودَ"
لكنني كنتُ أشجعَ مرَّتينِ

وصوَّبتُ حجارتي
لكنَّ الوحيدَ الذي هوى كانَ : أنا
هل كانَ "جالوتُ" مفرِطَ الكِبَرِ
أم أنني كنتُ مفرطةً في الصِغَرِ ؟


صموئيل تيلَر كولَرِج

Coleridge, Samuel Taylor (1772-1834). شاعر وناقد وفيلسوف إنكليزي. يعد أحد رائدين للحركة الرومانسية وأعظم النقاد والفلاسفة الإنكليز في القرن التاسع عشر. في عام 1798 أصدر مع صديق عمره وردزورث العمل الشعري المشترك Lyrical Ballads الذي ضم مجموعة من أولى القصائد الخالدة للمدرسة الرومانسية في الشعر. سافر الى ألمانيا ومكث فيها بضعة أعوام ودرس لغتها وتأثر بفلاسفتها ونقادها وترجم عدداً من أعمالهم الى الإنكليزية. عاد الى إنكلترا وتقلد عددا من المناصب وكتب العديد من الكتب والدراسات الفلسفية والنقدية والجمالية وألقى سلسلة من المحاضرات الشهيرة في النقد والسياسة والدين وساهم جزئيا في إعادة اهتمام معاصريه بوليم شكسبير. أصيب بالروماتزم وأدمن على تعاطي الأفيون الذي كان يستعمل آنذاك لتسكين آلامه المبرحة وعانى في سنيه الأخيرة من الكآبة والعوز والعزلة وحل ضيفا دائما على أحد معجبيه وتفرغ للكتابة حتى وفاته في لندن عام 1834. إن المدرسة الرومانسية في الشعر الانكليزي لا تذكر إلا ويذكر معها وردزورث وكوليرج وساوذي باعتبارهم الآباء المؤسسين لها.
تعد هذه القصيدة الرمزية التي كتبها عام 1816 واحدة من أشهر قصائده رغم أنه لم يكملها قط.

قوبلاي خان
صموئيل تيلَر كولَرِج

في "زانادو" شادَ "قوبلاي خان"
قبةً عظيمةً للملذّاتِ
هناك حيث يجري نهرُ "ألف" المقدَّسُ
عبرَ كهوفٍ لا يحيطُ بها إنسانٌ
نحوَ بحرٍ لا يَرى عينَ الشمسِ.
خمسةُ أميال ثم خمسةُ أميالٍ من خصيبِ الترابِ
حيطَتْ بالبروجِ والأسوارِ
وهنا حيث الرياضُ .. تزهو بغدرانٍ تتلوّى
أينعت أشجارٌ .. تفوحُ بالعبيرِ
وهنا حيثُ الغاباتُ العتيقةُ كالتلالِ
تطوي فُسحاً .. من خضرةٍ مشمسةٍ.
لكن ..آهٍ !.. أيّةُ هُوَّةٍ شاهقةٍ تُلهِبُ الخيالَ
ينشقُّ عنها التلُّ الأخضرُ ، تحتَ غطاءٍ من الأَرزِ!
يا للموضعِ الوحشيِّ! الرهيبِ .. المسحورِ
كغابةٍ مسكونةٍ .. بشبحِ امرأةٍ
تبكي عشيقاً من الجِنِّ ... تحتَ القمرِ الذابلِ!
**
من هنا .. من هذه الهُوّةِ .. في هَياجٍ عنيفٍ
كانت الأرضُ تلهثُ .. وتتقطَّعُ منها الأنفاسُ
وتنشقُّ عن نبعٍ عظيم.
وتثورُ الشظايا العظامُ .. كقُبَّةٍ من بَرَدٍ مرتَدٍّ
أو هشيمٍ يذروهُ الدارِسونَ.
من هنا .. بين صخورٍ راقصاتٍ
يتفجرُ بُغتةً .. بغتةً والى الأبدِ
ذاك النهرُ المقدَّسُ
ويمضي .. يتلوّى ميلاً بعد ميلٍ
في الغابِ والوادي
ليصيرَ الى الكهوفِ التي .. لا يحيطُها إنسانٌ
ويغطسَ في اضطرابٍ .. في بحرٍ ما بِهِ حياةٌ...
من هذه الفورةِ .. هذا الهياجِ
كان قوبلاي .. يسمعُ من بعيدٍ
لغطَ الأجدادِ .. يبشّرونَ بالحروبِ!
**
ظلالُ قبّةِ الملذّاتِ
تطوفُ على صفحةِ الموجِ.
وخليطٌ من الألحانِ .. يُسمَعُ قادماً
من الكهفِ والنبعِ.
معجزةً كانت .. للصنعةِ الفريدةِ:
قبّةٌ للملّذات .. مشمسةٌ .. بكهوفٍ من الثلج!
**
مرةٌ في الرؤى .. أبصرتُ جاريةً .. كاعباً حبشيةً
تداعبُ الأوتار .. وتغنّي .. لجبلٍ اسمه "أبورا".
آهٍ لو انّي أحييتُ في أعماقي
غناءَها .. وشجيَّ ألحاِنها
إذن لأخذَتْني .. الى نشوةٍ ضاريةٍ
حتى ابتنيتُ بالنغمِ المُجَلجِل المديدِ
تلك القُبّةَ المُشمِسةَ! وتلكمِ الكهوفَ المُثلِجةَ!
ليُبصِرَها كلُّ من أصغى
ويصيحَ عالياً : حذارِ حذار
من عينِهِ البارقةِ .. وشعرِهِ السابحِ في الهواء!
أغمضْ عينيكَ .. وانسجْ حولَهُ .. هالاتٍ ثلاثاً
فلقد غذاهُ ندى الشهدِ
وعبَّ من حليبِ الجِنان !



إليزابيث باريت براوننغ

Browning, Elizabeth Barrett (1806-1861) : شاعرة إنكليزية، ومفكرة سياسية، وناشطة نسوية. ولدت براوننغ في "دورهام" شمالي شرقي إنكلترا وتلقت تعليما خاصا. في عام 1826 نشرت "مقال عن العقل وقصائد أخرى" غفلا من التوقيع. وظهرت عام 1833 ترجمتها لمسرحية "بروميثيوس مقيدا" للكاتب الإغريقي "آيسخولوس" فلاقت استحسانا كبيرا. وبعد خمسة أعوام عبرت في مؤلفها "الملاك الأعظم وقصائد أخرى" عن آرائها المسيحية في قالب من الميثولوجيا الإغريقية. عانت الشاعرة من عجز جسماني طيلة عقد كامل بعد عام 1838 بسبب اعتلال رئوي وضرر في الحبل الشوكي أصابها في طفولتها، لكنها واظبت على الكتابة ونشرت عام 1844 مجموعة شعرية ضمت "صرخة الأطفال" و"غزل الليدي جيرالدين" مع طبعة أمريكية قدم لها "إدغار ألن بو". لاقت هذه الأشعار من الترحيب والاستحسان ما دفع البعض الى ترشيحها شاعرة للبلاط “poet laureate” خلفا لوليام وردزورث عند وفاته سنة 1850.
كان عام 1845 نقطة تحول حاسم في حياتها حين بدأ الشاعر روبرت براوننغ (الذي يصغرها بستة أعوام) يكتب إليها ممتدحا شعرها. وسرعان ما تحول الأمر الى علاقة حب عميق قوبلت برفض شديد من والدها، فأضطر العاشقان الى الهرب الى إيطاليا والاستقرار في فلورنسا حيث استعادت إليزابيث صحتها وأنجبت ابنا وهي في الثالثة والأربعين.
في عام 1850 نشرت مجموعتها "سونيتات برتغالية" وهي قصائد حب أهدتها الى زوجها وكانت قد كتبتها في السر قبل زواجها. يعد النقاد هذه السونيتات ( وهي من أكثر قصائد الحب اشتهارا في الأدب الإنكليزي) أفضل ما كتبت هذه الشاعرة.
عبرت براوننغ في العديد من قصائدها عن تعاطفها مع طموح الإيطاليين الى الوحدة، كما خصصت أطول أعمالها وأكثرها طموحا وهي Aurora Leigh (1856) للدفاع عن حق المرأة في الحرية الفكرية والتعبير عن هموم المرأة الأديبة والفنانة ، وقد تعرض النقاد حديثا الى هذا العمل وأعيد تقييمه وحظي بتقدير متجدد.


طُرُقُ الحُبِّ
إليزابيث باريت براوننغ
كيفَ أحبُّكَ ؟
دعني أعُدَّ الطُرقَ :
أحبّكَ لآخرِ ما تبلغُ روحي
من عمقٍ واتساعٍ وارتفاع
حين أشعرُ أني في منأىً عن الأنظارِ
حتى نهاياتِ الوجودِ وتمامِ النعيمِ.
أحبُّكَ حتى منزلةِ الحاجةِ اليوميةِ الهادئةِ
في الشمسِ أو في ضياءِ الشموعِ.
أحبّكَ بحُرِّيةٍ
كما ينشُدُ الناسُ العدلَ
وأحبُّكَ بنقاءٍ كما يرتبكونَ من الإطراءِ
**
أحبّكَ بما جاشَ بي من هوىً
في أحزاني القديمة.
أحبكَ بأيمانِ صِبايَ
وبحُبٍّ تراءى أني خسرتُهُ
في إثر من خسرتُ من قدّيسينَ.
أحبُّكَ بكلِّ ما في حياتي
من أنفاسٍ وابتساماتٍ ودموعٍ!
ولو قيَّظَ اللهُ لي
سأحبّكُ في موتي بأحسنَ مما فعلتُ !


إن كانَ لِزاماً أن تعشقَني
إليزابيث باريت براوننغ
إن كانَ لِزاماً أن تعشقَني
ليكن ذلك لغيرِ شيءٍ
إلا لأجلِ الحبِّ وحدِه
لا تقل "أحبُّها ، أحبُّ ابتساماتِها
نظراتِها ، حديثَها الرقيقَ
أو سِمَةً في فكرِها
لاقَت هوىً بعقلي
وأدخَلَتْ على أيامي
حِسّاً أكيداً من راحةٍ عذبةٍ".
أشياءُ كهذهِ يا حبيبي
قد تتغيرُ هيَ ذاتُها
أو تتغيرُ في ناظريكَ
فيفقدُ الحُبُّ الذي تجمَّلَ بها جمالَه.
ولا تعشَقْني لأنّكَ تمسحُ دموعي بعطفكَ الحبيبِ
فمخلوقٌ تقلَّبَ في نُعماكَ طويلا
قد ينسى البكاءَ فيخسرُ حبَّكَ !
لكنْ اعشقني لأجلِ العشقِ
كي يدومَ حبُّكَ لي .. الى الأبد !



أوزوالد م. متشالي

Mtshali, Oswald Mbuyiseni (1940- ) : شاعر من جنوب أفريقيا يكتب بالإنجليزية وبلغة الزولو وتعتمد أشعارة بشكل عميق على تجربته الحياتية المباشرة في ضاحية "سويتو" قرب "جوهانسبرغ". أصدر عام (1971) مجموعته الشعرية الأولى "أصوات طبول من جلد البقر" التي أكسبته الشهرة وفازت بإحدى الجوائز الأدبية المرموقة. بعد عودته من الدراسة في جامعتي "أيوا" و"كاليفورنيا" عمل مدرسا في عدد من المدارس الخاصة في "سويتو". وحين أصدر مجموعته الثانية "ألسنة النار" عام 1980 منعت على الفور لأنها كانت مهداة الى "تلاميذ المدارس في سويتو" في إشارة واضحة الى الانتفاضة البطولية التي تفجرت في تلك البلدة عام 1976 وقمعتها حكومة التمييز العنصري بوحشية. يعكس شعر متشالي تجربته القاسية في ظل نظام التمييز العنصري. إنه يستعرض بعينه الساخرة الحانات الكئيبة والقطارات المزدحمة وأحياء الفقراء البائسة وظروف العمل الفظيعة ويصوغ ببراعة وذكاء صورا فنية غاية في البراعة والإيحاء ممتزجة بسخرية لاذعة مريرة.

رجالٌ في الأصفاد
أوزوالد م. متشالي
وتوقَّفَ القطارُ
في المحطةِ الريفيةِ.
ومن النافذةِ التي غطّاها الثلجُ
حدَّقتُ بعيونٍ أثقلَها الكرى
ورأيتُ رجالاً سِتّةً.
رجالاً جُرِدوا
من كلِّ كرامةٍ للبشرِ
كشياهٍ مجزوزةٍ تثغو
بوجهِ الريحِ الضاربةِ بسِياطها :
إبتعدي ! إبتعدي ! إبتعدي !
ألا تُبصرينَ عُريَنا ؟
**
حُفاةً
متعثرينَ دخلوا القطارَ.
المعاصمُ في الأغلالِ
الأعقابُ مصفَّدةٌ
بأطواقٍ من حديدٍ
كماشيةٍ تنفرُ من بيبانِ المسالخِ
**
ثمةُ رجلٌ برأسٍ حليقٍ
كحبَّةِ بطاطا
همَسَ للشمسِ التي تعلو
كعينٍ حمراءَ
يمسحها منديلٌ ممزَّقٌ
صنَعَتهُ الغيومُ
" آهِ يا شمسَنا الحبيبةَ
هَلاّ دفَّأتِ قلبي بالأمل ! "
**
ومضى القطارُ
في طريقِهِ الى اللا مكان.



سلفيا بلاث

Plath, Sylvia (1932-1963) : شاعرة وقاصة أمريكية، عرفت أعمالها بخيالاتها الوحشية وانهماكها في مواضيع الموت والاغتراب وتدمير الإنسان لذاته. لم تحز شهرتها إلا بعد انتحارها حيث تنامت شعبيتها ومكانتها حتى عدت مع حلول السبعينات من القرن الماضي واحدة من أعظم الشعراء المعاصرين.
في مقتبل عمرها هيمنت عليها رغبة شديدة في كتابة أشياء متميزة تفوق بها أقرانها فكان أن نشرت أول قصائدها ولما تزل في الثامنة من عمرها. دخلت العديد من المسابقات الأدبية وفازت فيها وحصلت عام 1955 على منحة دراسية في كلية "سمِث" ثم غادرت الى جامعة كامبرج في بريطانيا في منحة مماثلة حيث التقت بالشاعر الإنكليزي الشهير "تيد هيوز" (1930-1998) وتزوجت منه عام 1956. أصدرت عام 1960 أول أعمالها المهمة "الصرح العظيم" وهو مجموعة من الأشعار كتبت بين عامي 1956 و 1960 كشفت عن أسلوبها البارع الدقيق الشديد الخصوصية، أردفتها عام 1963 بروايتها الوحيدة "ضجيج النواقيس" التي تصف فيها الانهيار العقلي لفتاة جامعية تتعرض لضغوط الحياة في الولايات المتحدة مما يدفعها الى محاولة الانتحار. أما الأعمال التي نشرت بعد وفاتها فتشمل "أريال" 1965، "عبور الماء" 1971 وهما مجموعتان شعريتان عكست الأولى (التي عدها النقاد أفضل أعمالها) هواجس الموت واستغراقها المتزايد في الذات ، "رعب جون وإنجيل الأحلام" 1977 وهي مجموعة من القصص القصيرة والقطع النثرية، إضافة الى عدد من كتب الأطفال والمراسلات كما فازت "الأعمال الشعرية الكاملة لسلفيا بلاث" بجائزة "بولتزر" لعام 1982، وهو الكتاب الذي أعده زوجها "تيد هيوز" الذي تحمل طيلة حياته اللوم والنقد من أنصار ومعجبي سلفيا بلاث الذين حملوه مسؤولية موتها خصوصا أنه كان يرفض الحديث عنها حتى عام وفاته حين أصدر كتابه "رسائل عيد الميلاد" الذي ضم 88 قصيدة كلها تقريبا موجهة الى بلاث وتتميز بصراحتها وإخلاصها الشديد .

آخر الكلمات
سلفيا بلاث
لا أريدُ صُندوقاً عاديّاً.
أريدُ تابوتاً من حَجَرٍ
بخطوطٍ كجلدِ النمورِ
ووجهٍ مستديرٍ كالقمرِ
لأحدِّقَ فيهِ.
أريدُ أن أراهُم حينَ يجيئونَ
ينَقِّبونَ عن الجذورِ
بين المعادنِ البكماءَ.
بل أكادُ الساعةَ أراهم :
بوجوهِهِم الشاحبةِ البعيدةِ كالنجوم.
هم الآنَ لا شيءَ ، ولا حتى أطفال.
أخالُهُم دونَ آباءٍ أو أمهاتٍ
مثل الآلهةِ الأولى.
سيتساءلونَ عن أهمّيتي.
علَيَّ أن أحلِّيَ أيّامي وأحفظَها كالفاكهةِ !
مرآتي تغيبُ في الضبابِ..
بضعةُ أنفاسٍ وتنطفي تماماً.
الزهورُ والوجوهُ تستحيلُ ملاءةً بيضاءَ.
أنا لا أثقُ بالروحِ ،
إنها تفرُّ كالبخارِ في الأحلامِ
من ثقبٍ في الفمِ أو ثقوبِ العيونِ.
ليسَ في وسعي إيقافَها
ويوما ما لن تعودَ.
لكنَّ الأشياءَ ليست هكذا ؛
إنها تبقى ببريقِها الخصوصيِّ الصغيرِ
الذي يُلهِبُهُ كُثرُ الاستعمالِ
وتكادُ تُخَرخِرُ كالقِططِ.
وحين تبردُ أخامِصي
ستمدُّني أعينُ فيروزاتي بالعزاء.
دعوني أستصحبُ أواني مطبخي النحاسيةَ ،
لسوفَ تُزهِرُ قدوري الحمراءُ كأزهارٍ ليليةٍ عبقةٍ ،
ستلفُّني بضماداتٍ ، ستحفَظُ قلبي
في رُزمةٍ أنيقةٍ تحتَ أقدامي.
سيصعبُ عليَّ أن أعرفَ نفسي
في الظلامِ الدامسِ ،
وبريقُ هذه الأشياءِ الصغيرةِ
أحلى مِن مُحَيّا "عشتارَ"


أغنيةُ حُبِّ الصَبِيَّةِ المجنونةِ
سلفيا بلاث
أُغمضُ عيني فَيَخُرُّ الكونُ ميتاً
أفتحُ أجفاني فتولدُ الأشياءُ من جديد.
(أظنُّ أَني صنعتُكَ في رأسي)

تَخرجُ النجومُ لترقصَ "الفالتزَ"
بثيابٍ حُمرٍ وزُرقٍ ،
ويعدو الظلامُ مقتحِماً كيفما شاءَ.
أغمضُ عيني فيخرُّ الكونُ ميتاً.

حلمتُ بأنَّكَ أغويتَني للسريرِ
وغنَّيتَ لي ذاهِلاً ...
قبَّلْتَني في جنونٍ
(أظنُّ أني صنعتكَ في رأسي)

تهوي الآلهةُ من السماءِ
تنطفي نيرانُ الجحيمِ
وتخرجُ الملائكةُ وحاشيةُ الشيطانِ.
أُغمِضُ عيني فيخرُّ الكونُ ميتا

خِلتُ أنّكَ عُدتَّ كما وعدتَّ
لكنني شُختُ ونسيتُ اسمكَ.
(أظنُّ أني صنعتكَ في رأسي)

كان الأجدرُ بي
أن أعشقَ طائرَ الرعودِ
فهو في الأقلِّ
يهدُرُ عائداً في الربيعِ.
أغمضُ عيني فيخرُّ الكونُ ميتا.ً
(أظنُّ أنّي صنعتكَ في رأسي)



لويس ماكنيس

MacNeice, Louis(1907-1963) : شاعر وكاتب مسرحي بريطاني ولد في بلفاست بايرلندا الشمالية. كان عضوا في حلقة الشعراء البريطانيين "الجدد" في الثلاثينات من القرن العشرين، وهي الحلقة التي ضمت عددا من الشعراء الذين عرفوا بالتزامهم الاجتماعي وخروجهم على الأساليب "الرسمية" في الشعر الإنكليزي من أمثال و. هـ. أودن وستيفن سبيندر. من أعماله الشعرية (ألعاب نارية عمياء) 1929 و(مجلة الخريف) 1939 و(العش المحرق) 1963، كما كتب بالاشتراك مع اودن العمل النثري (رسائل من أيسلندا) 1937. ألف العديد من المسرحيات الشعرية وأشهرها (البرج المظلم) 1947.

الحقائق
لويس ماك نيس
سلَّمَهُ أبوهُ صندوقاً من الحقائقِ
-كان يشبهُ التابوتَ-
ثم ماتَ
وظلَّتِ الحقائقُ فوقَ رفِّ الموقِدِ
خشبيةً كصندوقِ الدُّمى الذي حُشِرَتْ فيه
أو كذاكَ الصندوقِ الذي توارى الأبُ فيهِ
**
وغادَرَ البيتَ
تاركاً الحقائقَ وراءَ ظهرِهِ
ملقاةً على رفِّ الموقِدِ.
والتقى بالحبِّ..
التقى الحربَ،
الخساسةَ ، الخيبةَ ، الهزيمةَ ، الخيانةَ
حتى وصلَ وقد لفَّهُ الشَكُّ
الى منزلٍ لا يذكرُ أنّهُ رآهُ قبلا.
ودلفَ مِن فورِهِ ..
كان ذاكَ المكانَ الذي منه خَرَج.
شيءٌ ما دَلَّهُ على ما يفعلُ
فرفعَ يدَهُ ، وبارَكَ بيتَهُ
فحَلَّقَتِ الحقائقُ
وحَطَّت على كتفيهِ ..
وانتصبَتْ من قبرِ أبيهِ
شجرةٌ سامقة.


إميلي (جين) برونتي

Brontë, Emily (Jane) (1818-1848) : شاعرة وروائية إنكليزية. ربما كانت إميلي أعظم الأخوات برونتي الثلاث (شارلوت وجين وآن) لكننا لا نعرف عن حياتها إلا النزر اليسير، إذ كانت في الغالب متحفظة كتوم ولم تترك مراسلات ذات أهمية، كما أن روايتها الوحيدة "مرتفعات وذرنغ" لا تلقي إلا مزيدا من الغموض على حياتها الروحية.
تلقت إميلي – كشأن شقيقاتها- تعليما مدرسيا تخللته دراسة خارجية غير منتظمة . في عام 1845 نشرت الشقيقات مجموعة شعرية مشتركة بأسماء مستعارة ولم يبع منها سوى نسختان. غير أنهن فاجأن الأوساط الأدبية بنشرهن ثلاث روايات عام 1847: "جين آير" لشارلوت، "مرتفعات وذرنغ" لإميلي، و"أغنز غراي" لآن. ورغم أن رواية شارلوت لاقت نجاحا فوريا هائلا فإن النقاد لم يستقبلوا رواية إميلي استقبالا حسنا فهاجموها باعتبارها شديدة الوحشية والبهيمية وخرقاء في بنائها. غير أن الآراء اللاحقة عدتها واحدة من أعظم الروايات في تاريخ الأدب الإنكليزي وتختلف إميلي عن شقيقتيها بعدم الاستفادة من تفاصيل حياتها الخاصة أو المصادفات المبالغ فيها وكون مشاهد الأحداث محدودة وقلة عدد الشخصيات التي تتحرك بدوافع عميقة وبدائية من الحب والكراهية حتى تصل الى نهاياتها المنطقية. وأميلي برونتي تميل في شعرها الى الغموض والصوفية والتساؤلات العميقة عن طبيعة الحياة ومغزاها.عانت إميلي بعيد نشر روايتها تدهورا سريعا في صحتها وأصبحت تقاسي آلاما شديدة وصعوبة في التنفس وما لبثت أن فارقت الحياة بمرض السل أواخر عام 1848.


أواجَهُ بالتعنيفِ
إميلي (جين) برونتي
أواجَهُ بالتعنيفِ كثيراً
لكنني أعودُ دوماً
الى تلكَ المشاعرِ الأولى التي وُلِدَتْ معي
وأهجرُ السعيَ المحمومَ للثروةِ والمعرفةِ
نحوَ أحلامٍ عقيمةٍ بأشياءَ لا يُمكنُ تحقيقُها.

اليومَ لن أقصدَ الأقاليمَ الظليلةَ
فاتّساعُها الموهِنُ يفاقِمٌ الحزنَ
والرؤى التي تنهضُ جحفلاً بعد جحفلٍ
تُدني الى حدٍّ عجيبٍ
هذا العالمَ الموهومَ

سأمشي ولكنْ ليسَ فوقَ آثارِ الخُطى البطوليّةِ
ولا مسالكِ الخلقِ النبيلِ
ولا بينَ الأوجهِ النصفِ الواضحةِ..
تلكَ الأشكالَ الغائمةَ لتاريخٍ غابرٍ قديم

سأمشي الى حيثُ تقودني طبيعتي أنا
وإنّها لتدفعُني لاختيارِ دليلٍ آخرَ
الى حيثُ ترتَعُ القطعانُ الرماديةُ
في الوديانِ الصغيرةِ التي يغمرها السَّرخَسُ .
الى حيثُ تنفخُ الريحُ الجَموحُ بوجهِ الجبلِ

هذه الجبالُ الوحيدةُ
ماذا بوسعها أن تكشفَ ؟
مجداً أعظمَ وحزناً أشدَّ مما في وسعي إحصاؤُهُ .
والأرضُ التي توقِظُ الإحساسَ بقلبِ إنسانٍ واحدٍ
قادرةٌ أن تكونَ مرتكَزاً
بين عالمَينِ ... من جَنةٍ ونار

الرواقيُّ القديمُ
إميلي (جين) برونتي
الثروةُ مزدَراةٌ بعيني
والحبُّ أراهُ بعينِ الاستخفافِ
وما شهوةُ المجدِ غيرَ أضغاثِ أحلامٍ
زالتْ مع الصباحِ.
وإذا صَلَّيتُ فما من دعاءٍ على شفاهي إلا :
"ذَرِ القلبَ الذي أحملُ بينَ الضلوعِ
وامنحني الحريةَ"
نعم ، وإذ تدنو أيامي المسرِعاتُ لغايتِها
فهذا كلُّ ما أرجو :
روحاً طليقاً في الموتِ والحياةِ
وشجاعةً على الاحتمال.



د. م. دولبن

Digby Mackworth Dolben شاعر إنكليزي. ولد عام 1848 وتوفي غرقا عام 1867 وهو طالب لم يبلغ العشرين . اتسم في شعره بالتمرد الشديد على التقاليد الدينية البروتستانتية التي نشأ عليها. احتفظ له ديوان الشعر الإنكليزي بعدد من قصائد الغزل الرقيقة.

المزار المقدس
د. م. دولبن

مزارٌ عظيمٌ ببوّاباتٍ من الذهب
أشرَعَتْها يدُ الربِّ
ينتصبُ في جلالٍ وطهر.
قد وطأ الملايينُ أرضَهُ المرصوفةَ
لكنه ناضرٌ وبهيٌّ . مثلما كانَ
حين أيقظتْ أولُ إشراقةٍ للشمسِ ... قُبَّّرةَ الفردوسِ!
**
مطوَّقٌ بالغبارِ .. وكدِّ الأيّامِ
لكن الملائكةَ الرقيقاتِ
تغسلهُ بالدمعِ الغزيرِ
لو لامستْ ذرةٌ من ترابٍ
بياضَ جدرانِهِ!
**
لولاهُ لكانَ عالمُنا .. شائخاً متعَباً
لكنَّ غشاواتِ الزمانِ ترتدُّ على الأعقابِ
حين تعبرُ البوّابةَ المسحورةَ
وتختفي العصورُ والأزمانُ والمِللُ
وتذوبُ كلُّ القلوبِ الطاهرةِ
في قُدّاسٍ هائلٍ لذيذ !
**
ها أنا أدخلُ :
كلُّ شيءٍ جميلٌ .. كلُّ شيءٍ بسيطٌ
لا غيومٌ من المسكِ .. لا عرشٌ منحوتٌ
لا شيءَ ... غيرَ سيّدةٍ رقيقةٍ
تجلسُ وحدَها .. في نسيمِ الصباحِ العَبِقِ.
إنها أمّي !
آهٍ ... ومَن تُراني سأَلقى
غيرَكِ أنتِ .. أنتِ وحدكِ !




أندرو مارفِل

Marvell, Andrew (1621-1678) : شاعر إنكليزي. يعد واحدا من الشعراء الميتافيزيقيين (وهم مجموعة من الشعراء ظهروا في أوائل القرن السابع عشر يتسم شعرهم بالتعقيد والحس الدرامي واستخدام الصور والتراكيب اللغوية الغريبة). تخرج من جامعة كامبرج وعمل مساعداً للشاعر الشهير جون ملتن (صاحب الفردوس المفقود). كان عضوا في البرلمان بين عامي 1659- 1678. اشتهر في حياته بأشعاره السياسية وكتيباته ومقالاته النارية الساخرة المعادية للملك جارلز الثاني ووزرائه ومفاسد عصره وكان مدافعاً قوياً عن الثورة ضد الملكية التي قادها اوليفر كرومويل حتى غلبت شهرته كسياسي وكاتب ساخر على أشعاره الغنائية والعاطفية التي نشرت بعد وفاته ولم تكتسب الشهرة إلا في أوائل القرن العشرين ومن بينها هذه القصيدة (To His Coy Mistress) التي تعد من عيون أشعاره.

الى سيّدتِهِ الحَيِيَّة

لو كُنّا نملكُ ما يكفي .. من عوالمَ وأزمانٍ
ما كانَ حياؤُكِ ، سيّدتي ، جُرما.
ولَكُنّا جلَسْنا ، وفكّرنا : في أيِّ طريقٍ نمضي
وكيفَ نقضي نهارَ حبِّنا الطويلَ
إذ أنتِ على شاطئِ "الكانجيز"
في الهندِ تكتشفينَ الياقوتَ
وأنا عندَ أمواجِ "الهامبر" .. أجلسُ وأشكو الهوى.
كنتُ سأعشقكِ .. عشرةَ أعوامٍ قُبيلَ الطوفانِ.
ولَكُنتِِ تمنّعْتِ –لو شئتِ- حتى ظهورِ موسى...
لكنتُ تركتُ ثمارَ حبّيَ الكسلى
كي تفوقَ الممالكَ العظيمةَ
في اتساعِها وبُطئِها...
مائةٌ من الأعوامِ كنتُ سأنفِقُها
في إطراءِ عينيكِ .. والتحديقِ بجبينكِ الوضيئِ
مائتينِ لكلٍّ من نهديكِ
وثلاثونَ ألفاً لما تبقّى،
عمراً -في الأقلِّ- لكلِّ عضوٍ فيكِ
وعمراً أخيراً لاكتشافِ قلبكِ.
فأنتِ يا سيّدتي تستحقينَ هذه المنزلةَ
وأنا لستُ خاملاً بين العاشقين.
**
لكنَّ عرباتِ الزمانِ المُجَنّحاتِ
لم تزلْ تصكُّ أسماعي
وهي تدنو من خلفِ ظهري
وهناكَ أمامَ ناظرَينا
تمتدُّ فيافي الأبديةِ الشاسعاتُ.
جمالُكِ ليسَ خالداً
ولن يرددَّ القبوُ المرمريُّ
صدى أغنياتي.
ستأكلُ الديدانُ من صحنِ بُكورتِكِِ المُدامِ
وعفافُكِ التليدُ سيستحيلُ تراباً
وتَحَرُّقي يصيرُ رمادا.
القبرُ موضعٌ منعزلٌ رقيقٌ
لكنه لا يصلحُ للعناقِ
**
دعينا إذن
ما دامَ ماءُ الشبابِ
يترقرقُ فوق أديمِكِ مثلَ ندى الصباحِ
وما دامت روحُكِ اللَهفى
تنضَحُ مِن كلِّ مسامِها
نيرانَ رغبةٍ عاجلةٍ،
دعينا نعُبُّ كأسَ اللَهْوِ
ما دامتْ في يدَينا.
دعينا الآنَ .. نفترسُ الوقتَ افتراسا
مثلَ طيورٍ جارحةٍ عاشقةٍ
بدلاً من أنْ نستكينَ
ونَضنى تحتَ سلطانِهِ البليدِ.
وتعالَي نكوِّرُ قوّتَنا .. وكلَّ ما نملكُ من جَمالٍ
وننتزعُ المسَرّاتِ .. في اندفاعةٍ عاصفةٍ
عبرَ أبوابِ الحياةِ الحديديةِ.
هكذا إذن : لن نقدرَ أن نوقفَ شمسَنا
لكنَّ في يدِنا : أن نجعلَها تجري.



روبرت فروست

Frost, Robert (1875-1963) : يعد النقاد روبرت فروست واحدا من أعظم شعراء أمريكا في القرن العشرين. فهو في شعره الرقيق السهل الممتنع يستلهم الأجواء الريفية والحياة اليومية واللغة البسيطة للرجل العادي في مقاطعة نيو انجلند (التي انتقل إليها من سان فرانسسكو بعد وفاة والده وهو في سن الحادية عشرة) غير أن القراءة المتأنية لشعره تكشف عن نظرة فلسفية عميقة للحياة. والقصيدة عنده "تبدأ بالبهجة وتنتهي بالحكمة" كما وصفها بنفسه. بعد أن جرب حظه في الكثير من الأعمال البسيطة الشاقة انتقل فروست للعمل في إنكلترا وهناك كرس موهبته الشعرية ونشر ديوان شعره الأول "وصية صبي" عام 1913 وقد ناهز على الأربعين وديوانه الثاني "شمالي بوسطن" عام 1914 وحظي برعاية الشاعر الشهير "عزرا باوند" المقيم في انجلترا. وعندما رجع الى الولايات المتحدة اكتشف أن شهرته كشاعر قد سبقته الى هناك غير أنه آثر الرجوع الى الريف حيث أمتلك مزرعة صغيرة كانت تسد بالكاد نفقات عائلته الكبيرة فيضطر أحيانا الى التدريس وإلقاء المحاضرات في عدد من الجامعات الأمريكية التي احتفت به ومنحته الكثير من الدرجات التقديرية. واصل فروست كتابة الشعر حتى آخر أيام عمره وأصدر آخر مجموعاته الشعرية عام 1962 وحاز على جائزة "البوليتزر" أربع مرات عرف عن فروست رفضه لكتابة قصيدة النثر وتفضيله لنمط من الشعر الحر الموزون غير المقفى الذي تتداخل فيه الأبيات لتشكل جملا مسترسلة تحتفظ بإيقاعها الموسيقي العذب. يقول فروست إن الشعر "يجعلك تتذكر الأشياء التي لم تكن تعرف أنك تعرفها" ومن آرائه الطريفة رفضه لترجمة الشعر وتعريفه الشعر بأنه "هو الشيء الذي يضيع بالترجمة!" ورغم ذلك فقد ترجمت أشعاره الى الكثير من لغات العالم ومنها العربية ونذكر منها ترجمة يوسف الخال لمجموعة مختارة من قصائده صدرت في بيروت عام 1962.

الطريق الذي لم أسلك
روبرت فروست
طريقانِ شخَصا أمامَ ناظِري
في غابةٍ مصفَرَّةٍ
فوقفتُ طويلاً
آسفاً لأنني لستُ غيرَ مسافرٍ واحدٍ
وليسَ لي أنْ أسلكَهما معاً.
وسَرَّحتُ ناظري في الأولِ
حتى استدارَ بين الآجامِ
لكنني سلكتُ الآخرَ الجميلَ كصاحِبِهِ ،
ولَرُبَّما كانَ الأجملَ – بعشبِهِ الطريِّ الذي لم تُذبِلهُ الأَقدامُ
رغمَ أنهما ديسا بنفسِ المقدارِ.
وهناكَ في الصباحِ امتدَّ كلاهُما
بأوراقِ عُشبٍ لم يُحِلها الوطءُ الى سوادٍ.
آهٍ ، لقد أجَّلتُ الأولَ الى يومٍ ثانٍ
رغم علمي أن الطُرقاتِ تقودُ الى طُرقاتٍ ،
وبأنني قد لا أعودُ من حيثُ أتيتُ.
وبعدَ دهورٍ ودهورٍ
سأروي هذا وحسرةٌ في قلبي :
طريقينِ كانا في غابةٍ
ولقد اخترتُ الأقلَّ سلوكا
وفي ذلكَ كانَ كلُّ الفرقِ !

الثلجُ والنارُ
روبرت فروست
يقولُ بعضُهم:
ستنتهي الأرضُ بالنارِ
وبعضهم يقولُ: بل بالثلجِ.
مِن كلِّ ما خبرتُ عن الأمنياتِ
أراني معَ مَن يحبِّذُ النارَ
**
لكنْ لو كانَ علَيَّ
أن أفنى مرتينِ
أظنُّ أنّي أعرفُ عن الحقدِ
ما يكفي كي أقولَ:
أن الثلجَ ليسَ قاصراً
وهو في الدمارِ ... رائعٌ وعظيم!

المرعى
روبرت فروست
أنا ذاهبٌ لأنظفَّ غديرَ المرعى.
سألبثُ ريثما أزيلُ عنه الغصونَ
وأنتظرُ الماءَ كي يَصفى.
لن أتأخرَ كثيراً
فتعالَ ... تعالَ معي
**
أنا ذاهبٌ لأُرجعَ العجلَ الصغيرَ
ذاكَ الواقفَ لِصقَ أُمِّهِ
صغيرٌ هو حتى أنهُ
يترنَّحُ حينَ تلعقُهُ بلِسانها.
لن أتأخرَ كثيراً
فتعالَ ... تعالَ معي.


كريستينا جورجينا روزيتي

Rossetti, Christina Georgina (1830-1894) : شاعرة غنائية إنكليزية، ولدت وعاشت في لندن واحتلت موقعا بارزا في سجل الشعر الإنكليزي لقصائدها الرقيقة ذات النزعة الصوفية وقصائدها المحببة للأطفال.
في عام 1847 نشر لها جدها في مطبعته الخاصة أول مجلد من أعماله "أشعار" مما بشر بنبوغها المبكر وفي عام 1850نشرت سبعا من بواكير أشعارها تحت اسم مستعار في مجلة "الأصل" التي أصدرتها جماعة "ما قبل الرافائيلية" وتطوعت لتكون "موديلا" لعدد من رسوم أخيها "غابرييل" وغيره من الرسامين الـ "ما قبل الرافائيلين" رغم أنها لم تكن عضوا في الجماعة.
اتّسمَ الكثير من أعمال الشاعرة بالطبيعة الدينية ومواضيع الزهد في الحب الدنيوي والاهتمام بالموت كما يظهر في قصيدتها "صعود التل"، لكن قصائد أخرى مثل "عيد الميلاد" كانت تحفل بالرومانسية والحسية.
اشتملت أعمالها على العديد من الأساليب والأشكال وكانت سونيتاتها وقصائدها الغنائية والعاطفية وأراجيزها الفكاهية وقصائدها الموجهة للأطفال تدل جميعا على عقل خصب وشاعرية عالية. قضت الشاعرة السنوات الخمس عشرة الأخيرة من حياتها في شبه عزلة انصرفت فيها الى تأملاتها الدينية لكنها كتبت خلالها بعضا من قصائد الأطفال الرائعة جمعت في كتاب صدر عام 1872.

صعودُ التلِّ
كريستينا جورجينا روزيتي
-هل يتلوى الدربُ صُعدا طوالَ الطريقِ؟
-نعم وحتى آخرِ المطافِ.
-وهل ينقضي النهارُ كلُّهُ في السفرِ؟
-مِن أولِّ الصباحِ حتى الليلِ يا صديقُ.
-وهل هناكَ مكانٌ للراحةِ في الليلِ؟
-ثمةَ سقفٌ للساعاتِ الطوالِ المُظلِمةِ.
-ألن يخفيهِ عنّيَ الظلامُ؟
-لا لن تخطئَ ذلكَ النُزلِ.
-وهل أرى غيري من عابري السبيلِ؟
-أولئكَ الذين مضوا قبلَكَ.
-وهل أدقُّ البابَ أم أنادي حينَ أكونُ على مرمى البصرِ؟
-لن يتركوكَ تنتظرُ عند البابِ.
-وهل سأجِدُ الراحةَ من ضعفي وضنايَ مِن السَفَرِ؟
-نعم ، لِكَدحِكَ ستلاقي الجزاءَ.
-وهل هناكَ أسِرَّةٌ تكفيني وكلَّ السائلين؟
-نعم نعم أسِرَّةٌ لكلِّ مَن يجيء.

عيدُ ميلاد
كريستينا جورجينا روزيتي
قلبي كطيرٍ يغنّي ،
عشُّهُ في أُملودٍ طرِيّ.
قلبي كشجيرةِ تفاحٍ
أغصانُها مثقَلاتٍ بالثمَرِ.
قلبي كمحارةٍ مِن قوسِ قزحٍ
تخوضُ في البحرِ الساجي.
وقلبي أسعدُ منهم جميعاً
فقد جاءني حبيبي.

أَقِمْ لي منبراً مِن زَغَبٍ وحريرٍ.
زيِّنْهُ لي بالفراءِ والأُرجوانِ.
زخرِفْهُ بتصاويرِ الحمائمِ وأغصانِ الرمّانِ
وطواويسَ بمائةِ عينٍ.
جَمَّلْهُ بالتِبرِ وعناقيدِ العسجَدِ
وبالأغصانِ وزنابقِ الفضةِ
فها قد جاءَ مولدُ حياتي ،
ها قد جاءني حبيبي.


جون ميسفيلد

Masefield, John (1878-1967) : شاعر إنكليزي. عرف بمجموعته (أغنيات الماء المالح) التي تتخذ البحر موضوعا أساسيا ومنها (حمى البحر) و (الأحمال). كذلك عرف بأشعاره القصصية مثل (الرحمة الأبدية) التي هزت الأوساط الأدبية التقليدية بعباراتها العامية الخشنة التي لم يكن الشعر الإنكليزي في القرن العشرين قد عرفها بعد. عمل ميسفيلد بعد أن أنهى دراسته بحارا متدربا على متن سفينة أبحرت حول "رأس هورن" في أقصى جنوبي القارة الأمريكية الجنوبية ثم هجر البحر بعد تلك الرحلة وقضى عدة سنوات قلقة في الولايات المتحدة وقدم وصفا لعمله هناك في إحدى معامل السجاد في مذكراته الشخصية التي أسماها (في المصنع ، 1941). إشتغل بعد عودته الى إنكلترا محررا في إحدى الصحف وفي عام 1930 منح لقب شاعر البلاط (poet laureate) خلفا لـ "روبرت برِج" ليتسم شعره بعد ذلك بمسحة أكثر تجهما. تتضمن أعمال "ميسفيلد" الأخرى عددا من الأشعار القصصية المطولة مثل (دوبر 1913) التي تتناول الصراع الأبدي بين المثالية والخيال وبين الجهل والعالم المادي، و(الثعلب رينارد 1919) التي تتناول جوانب عديدة من الحياة الريفية في إنكلترا. كما كتب عددا من قصص المغامرات وكتب الأطفال والمسرحيات الشعرية مثل (مأساة نان 1909) و(مأساة بومبي العظيم 1910) ومجلدا ثانيا من السيرة الذاتية أسماه (وقت طويل للتعلم 1952).

تكريس
جون ميسفيلد
ليسَ من أجلِ الأمراءِ، والأساقفةِ
ذوي العرباتِ التي يقودها
سُوّاقٌ في لممٍ مستعارةٍ ،
أولئكَ المكللينَ بالغارِ
المسرِعينَ لِلَعْقِ زُبْدِ الأيامِ ،
بل من أجلِ المنبوذينَ المحتَقَرينَ.
لأجلِ الذين تطوِّقُهم الأَسِنَّةُ :
رجالِ الكتائبِ الممزَّقةِ التي تقاتلُ حتى الفناءِ ،
أولئكَ الذاهلينَ في النقعِ ، في الصراخِ ، في الضجيجِ ،
الرجالِ ذوي الرؤوسِ المهشَّمَةِ التي
يسيلُ منها الدمُ في العيون.
**
لا ليسَ من أجلِ أميرِ الحربِ ،
صفيِّ العرشِ المُثقَلِ بالنياشينِ
الذي يخطرُ في الاستعراضِ
على جوادٍ كمثلِ الديكِ
والأبواقُ تنفخُ مِن حولِهِ
بل للغلمانِ الذينَ لا يعرفُهُم أحدٌ
**
ليسَ الحاكمُ مَن يعنيني
بل الجنديُّ الصغيرُ
الذي يجوبُ الطرقاتِ على قدميهِ ،
العبدُ الذي تنخسُهُ المهاميزُ وكيسُهُ فوقَ كتفيهِ ،
الفتى ذو الحملِ الثقيلِ والعبءِ المُضني ،
البَحّارُ، وقّادُ الباخرةِ ، الرجلُ ذو الأسمالِ
الذي يحيلُ الصراخَ أناشيدَ بحرٍ يُطلِقُها
منحنياً فوقَ حبالِ الأشرعةِ ،
الحَرَسِيُّ المُتعَبِ، ومديرُ الدفَّةِ الذي أثقلَ النعاسُ جفنيهِ
**
دعْ غيري يغنّي للكأسِ ، للمالِ ، للسرورِ ،
للحضورِ الجليلِ للعاهلِ المنتفخِ البطنِ.
أما أنا فسأغنّي للأقذاءِ ، للزَبَدِ ، للغُبارِ ، لحُثالةِ الأرضِ.
لتكنِ الموسيقى من نصيبهم، والأضواءُ والمجدُ والذهبُ.
ولتكن لي حفنةٌ من رمادٍ، وقبضةٌ مِن تراب.
**
عن الأعرجِ والأبترِ والأعمى ،
عمَّن ينامُ في البردِ والمطرِ ،
عنهم سأصوغ أغنياتي
وعنهم سأروي حكاياتي
آمين.


ولتر دولامير

de la Mare, Walter (John) (1873-1956) : شاعر وروائي إنكليزي. حقق أول نجاح له في مجموعته الشعرية (المستمعون) 1912. عرف بقدرته الفذة على استحضار وتوظيف الصور واللحظات الشبحية العابرة في الحياة، درس في مدرسة سنت بول بلندن ثم عمل في مكاتب إحدى الشركات النفطية لكنه تفرغ لكتابة الشعر والرواية. رغم أنه عرف بشعره الغنائي فقد كتب الكثير من كتب الشعر المخصصة للأطفال منها (فطيرة الديك الرومي) 1914 و(أرض توم تدلر) 1932.

إنه الماضي
ولتر ديلا مير
قديمةٌ هي الغاباتُ
والبراعمُ التي تشقُّ أغصانَ الورودِ
حين تصحو نسائمُ الربيعِ.
وقديمٌ جمالُها.
-آهٍ ، ما من بشرٍ يدري
في أيّةِ قرونٍ جامحاتٍ
تطوفُ الورودُ راجعاتٍ
**
قديمةٌ هي الغدرانُ
والجداولُ القائماتُ
مِن مخادعِ الثلجِ الباردِ
تحتَ السماءِ اللازورديّةِ
لِيُرَتِّلنَ تاريخاً
للمجيءِ والغياب.
وكلُّ قطرةٍ في مائِهِنَّ
حكيمةٌ مثل سليمانَ
**
قُدامى نحنُ معشرَ البشرِ
أحلامُنا حكاياتٌ
قصَّتْها في "عدنَ" الظليلةِ
بلابلُ "حواء" الأولى
**
نصحو ونهمسُ بُرهةً
ثم يمضي النهارُ
ويرقدُ الصمتُ والنومُ
كحقولٍ ممتدةٍ
من أعشابٍ سحريةٍ لا تذبلُ



كيم أدونيزيو

Kim Addonizio : شاعرة أمريكية معاصرة. ولدت في واشنطن عام 1954 ونالت شهادة الماجستير في الآداب من جامعة سان فرانسيسكو. من مؤلفاتها الشعرية: ثلاث نساء من الساحل الشرقي (بالاشتراك) 1987، نادي الفيلسوف 1994، جيمي وريتا 1997، قل لي 2000(وهو العمل الذي تنافست فيه على الجائزة الوطنية للكتاب وترجمنا منه هذه القصيدة). أما مؤلفاتها الأخرى فتشمل: في صندوق يدعى اللذة (مجموعة قصصية) 1999، رفيق الشاعر: دليل الى متعة كتابة الشعر 1997. حصلت على العديد من الأوسمة والألقاب الفخرية. تعمل حاليا في التدريس الجامعي بولاية سان فرانسيسكو.

ما الذي تريدُهُ النساءُ
كيم أدونيزيو

أريدُ ثوباً قرمزياً
أريدُهُ رقيقاً ورخيصاً
أريدُهُ ضيِّقاً جداً
أريدُ أن أرتديهِ
حتى يمزِّقَهُ أحدُهُم عنّي.
أريدُهُ عاريَ الظهرِ، دونَ أكمامٍ
حتى لا يحتاجَ أحدٌ الى تخمينِ ما تحتهِ.
أريدُ أن أقطعَ به الشارعَ
قبالةَ متجرِ "ثرفتي" ومخزنِ العُددِ المعدنيةِ
بكلِّ تلك المفاتيحِ التي
تلمعُ في نافذتهِ.
قبالةَ مقهى السيد "ونغ" وزوجتِهِ
حيث يبيعانِ الكعكَ المصنوعَ بالأمسِ.
قبالةَ الأخوينِ "غيرا"
وهم يُنزِلونَ الخنازيرَ من الشاحنةِ
ويحمِّلونها في العربةِ الصغيرةِ
رافعينَ أخطامَها اللامعةَ فوقَ أكتافهم.
أريدُ أن أسيرَ كما لو كنتُ
المرأةَ الوحيدةَ في هذا العالمِ ،
وكما لو أن بِيَدي أن أختارَ.
أريدُ ذاكَ الرداءَ الأحمرَ بشدَّةٍ .
أريدُهُ لأؤكِّدَ أسوأَ مخاوفِكَ عنّي.
أريدُهُ لأُريكَ أنّي لا آبَهُ بكَ أو بأيِّ شيءٍ
سوى ما أريدُ.
وحين أعثرُ عليهِ ، على الثوبِ ذاكَ ،
سأنتزعُهُ مِن حَمّالَتِهِ
كما لو كنتُ أختارُ جسداً
ليحملَني في هذا العالمِ
عبرَ صرخاتِ الميلادِ وكذلكَ صرخاتِ الحبِّ.
سأرتديهِ كالعظامِ ، كالجِلدِ.
وسيكونُ هوَ لا غيرُ...
الثوبَ اللعينَ الذي أُدفَنُ فيه


جون درايدن

Dryden, John (1631-1700) : شاعر وناقد وكاتب مسرحي إنكليزي، يعد أهم شخصية أدبية في عصر استعادة الملكية (وهي الفترة التي أعقبت الثورة الإنكليزية بقيادة لورد كرومويل بين عامي 1640و 1660).
عمل بعد تخرجه من جامعة كامبرج موظفاً في حكومة اللورد أوليفر كرومويل قائد الثورة الإنكليزية التي أطاحت بالملكية، وكانت أول أعماله المهمة في رثاء الأخير عام 1659. لكن درايدن سرعان ما تحول الى نصير للملكية بعد انهيار الثورة وعودة الملك تشارلز الثاني. بدأ درايدن كتابة الأعمال المسرحية في عام 1662 لتكون مصدرا لعيشه. ورغم أن محاولته الأولى وكانت كوميديا بعنوان (زير النساء الجامح) لم تلاق النجاح فقد تحول خلال السنوات العشرين التي تلت الى أبرز كاتب مسرحي في إنكلترا بفضل العديد من المسرحيات الكوميدية والتراجيدية والأعمال الأوبرالية مثل (السيدات المتنافسات1664)، (الملكة الهندية 1664)، (الإمبراطورة الهندية 1665)، (حبٌ في المساء 1668)، (سيدات على الموضة 1668)، (الزواج على الموضة 1672)، (احتلال غرناطة 1670)، (المدبر الرحيم 1678، وقد منعت بدعوى الفحش والبذاءة رغم أن العصر كان يتسم بالانفتاح والتساهل في هذه الأمور)، (في سبيل الحب 1678 وهي نسخة من حكاية أنطوني وكليوباترا وتعد أعظم مسرحياته ) وغيرها. أما في الشعر فقد كتب قصيدته الشهيرة (السنة العجيبة 1667) وهي تستلهم أحداث العام 1666 ومنها انتصار الأسطول البريطاني على منافسه الهولندي وحريق لندن العظيم.
أما أهم أعماله النثرية (مقالة في الشعر الدرامي 1668) فقد كانت الأساس لشهرته كأبٍ للنقد الأدبي الإنكليزي. عين في العام نفسه شاعراً للبلاط (poet laureate) ، ثم عين مؤرخاً رسميا للبلاط عام 1670. في عام 1681 كتب أول وأفضل أعماله السياسية الساخرة (أبشالوم) وهي قطعة رمزية بارعة وظف فيها شخصيات وأحداث من الكتاب المقدس للسخرية من خصومه السياسيين، ثم أردفها بجزء ثان أسماه (الوسام 1682).
شهد عام 1685 تبدلاً آخر في معتقداته إذ تحول في أعماله من نصير متحمس للبروتستانتية الى مشايع للكاثوليكية ويقال أن السبب يعود الى اعتلاء جيمس الثاني (وهو الكاثوليكي المتزمت) عرش إنكلترا في ذلك العام، لكن اندلاع ما يسمى بالثورة المجيدة (The Glorious Revolution ) عام 1688 وما تبعها من اعتلاء الملك البروتستانتي وليم الثالث لم يغير من معتقدات درايدن الدينية، رغم أنه خسر ألقابه وراتبه التقاعدي، فعاد الى الكتابة للمسرح لكنه لم يلق نجاحا كبيراً، وعندها تكشفت موهبته العظيمة الأخرى وهي الترجمة الأدبية والشعرية على وجه الخصوص، فترجم أعمال الشاعر اللاتيني فرجيل (1697) لكنه رجع وكتب واحدة من أعظم قصائده الغنائية (وليمة الأسكندر 1697) التي كتبها مثل سابقتها (أغنية لعيد القديسة سيسيليا 1687) خصيصا لفرقة لندن الموسيقية. وأخيرا، وفي عام 1699 كتب آخر أعماله المنشورة (خرافات قديمة وحديثة) ترجم فيه أو أعاد صياغة أعمال أوفيد وهوميروس وبوكاشيو وجوسر في قالبٍ شعري وكتب له مقدمة مسهبة تعد من أهم مقالاته الأدبية.


أغنية لعيد القديسة سيسيليا
جون درايدن
من انسجامِ الأنغامِ ، من الانسجامِ السماويِّ
هذا الهيكلُ الكونيُّ قامَ.
ساعةَ كانتِ الطبيعةُ تنوءُ تحتَ ركامٍ
من ذراتٍ متنافراتٍ
فلا تستطيعُ لرأسِها رفعاً.
من بعيدٍ بعيد .. جاءَ الصوتُ الرخيمُ:
"انهضْ أيها الميتُ.. أيها الأكثرُ مِن ميتٍ"
فإذا بالحَرِّ والبردِ ، والنداوةِ والجفافِ
تطيعُ سلطانَ الموسيقى
وتثبُ في انتظامٍ .. كلٌّ لِموضِعِهِ.

من الانسجامِ .. من الانسجامِ السماويِّ
هذا الهيكلُ الكونيُّ قامَ.
وطافَ النغمُ اللذيذُ
من انسجامٍ لانسجامٍ
عابراً كلَّ نطاقِ الألحانِ
لينتهي في الإنسان.
**
أيةُ عاطفةٍ لا تقدرُ الموسيقى
على إعلائِها .. أو على قمعِها!
حين ضربَ جوبالُ على آلتهِ
وخرَّ الإخوةُ المنصتونَ .. القائمونَ من حولِهِ
على وجوههم ساجدينَ
للصوتِ المقدَّسِ العجيبِ:
"إن إلهاً في الأقلِّ
لا بدَّ ساكنٌ فيها
وإلا فمَن ذا الذي ينطقُ مِن جوفِها
بكلِّ هذا الحسنِ والعذوبةِ؟"
أيةُ عاطفةٍ لا تقدرُ الموسيقى .. على إعلائها .. أو على قمعها!
**
نفيرُ البوقِ الزاعقِ
نسمعُهُ .. فنهبُّ للقتالِ
مطلقينَ نُذُرَ الموتِ
وأنغامَ الغضبِ الصاخباتِ.
وقرعُ الطبولِ المدوّي
-ضربتينِ ضربتينِ ضربتين-
يصيحُ بنا : أن اسمعوا .. قد دَنا الأعداءُ
فهاجِموا .. هاجِموا.. هاجِموا
قد فاتَ أوانُ الارتدادِ
**
والنايُ العليلُ الحزينُ
يعرّي آلامَ العُشّاقِ اليائسين
بنغماتٍ تخبو وتموتُ..
ويهمسُ العودُ المغردُ .. بشجيِّ ألحانِهِ.
**
بصوتِها الثاقبِ تعلنُ الكمَنجاتُ
يأسَها ، غضبَها ، وخزاتِ غيرتِها ، وسخطَها المستعرِ ،
أعماقَ آلامها وذُرى عشقِها
للحسناءِ المتكبرةِ المزدريةِ
**
لكنْ آهٍ ! أيُّ فنٍّ يقدرُ أن يُعَلِّمَ
وأيُّ صوتٍ يقدرُ أن يضاهيَ
مدائحَ الأرغنِ الإلهيةَ؟
إنها لَنَغماتٌ تُلهِمُ الحُبَّ المقدَّسَ.
نغماتٌ تشقُّ بأجنحتها دروبَ السماءِ
لتُصلِحَ تلك الأجواقَ التي تنشدُ في الأعالي.
**
قد يقودُ أورفيوسُ السلالةَ المتوحشةَ
فتغادرُ الأشجارُ جذورَها وتسيرُ معهُ
وتتبعُ طائعةً رَنّاتِ القيثارِ ،
لكن "سيسيليا" البهيَّةَ عَلَتْ عليهِ في المعجزاتِ
حين كسا الربُّ أرغُنَها بأنفاسِ الأغنياتِ
وتناهى الصوتُ الى ملاكٍ
فبرزَ مِن فَورِهِ
متوهِّماً ... أنَّ الأرضَ هي السماء!



إدغار لي ماسترز

Masters, Edgar Lee (1869-1950) شاعر أمريكي، عُرِف بقصائده عن الحياة في الغرب الأوسط الأمريكي. ولد في "كنساس" والتحق بجامعة نوكس ليتركها بعد عام واحد ليكمل دراسته الخارجية للقانون. كتب أولى مجاميعه الشعرية عام 1898 وأردفها بالعديد من المسرحيات قبل أن تذيع شهرته عندما نشر عام 1915 عمله المهم "أنطولوجيا سبون رفر" (Spoon River Anthology) وهو مجموعة من القصائد النثرية (تبلغ العشرات) تحكي أسرار حياة لقاطني "سبون رفر" وهي مدينة خيالية رسمها الشاعر على طراز مدينتي لويس تاون وبطرسبرغ في ولاية "ألينويز" حيث قضى فيهما الشطر الأكبر من طفولته.
في هذا العمل يقدم ماسترز كل قصيدة على لسان واحد من أبناء البلدة المدفونين في مقبرتها الواقعة على سفح إحدى التلال حيث يتحدث الموتى في كلمات نقشت على شواهد قبورهم بكل صراحة وصدق عن الأسرار التي اكتنفت حياتهم ووجهة نظرتهم إزاء الحياة التي خلفوها وراءهم. كان هذا العمل بأسلوبه الساخر المرير وتصويره الواقعي لخشونة الحياة وفظاظتها ثورة على المعايير الاجتماعية التقليدية وعلى الأسلوب الرومانسي والعاطفي الذي كان سائداً في الأدب الأمريكي في بداية القرن العشرين. تشمل أعمال ماسترز الأخرى "أغنياتٌ وأهاجٍ 1916" ، "سبون رفر الجديدة 1924"، "قصائد الشعب 1936"، "العالم الجديد 1937" وعدد من المسرحيات وكتب السيرة.

أنطولوجيا نهرِ سبون (مختارات)
إدغار لي ماسترز
التل
أين إلمر، وهرمان، وبيرت، وتوم، وشارلي
ضعيفُ الإرادةِ، وقويُّ الذراعينِ، والمهرّجُ، والسكّيرُ، وكثيرُ العراكِ؟
كلُّهم، كلُّهم يرقدونَ على التلّ.
**
واحدٌ قضى بالحُمّى
واحدٌ احترقَ في منجمٍ
واحدٌ قُتِلَ في شجارٍ
واحدٌ ماتَ في السجنِ
واحدٌ هوى من جسرٍ وهو يكدحُ من أجلِ الزوجةِ والصغار.
كلُّهم، كلُّهم يرقدونَ، يرقدونَ على التلّ.
**
إينَ إيلاّ، وكيت، وماغ، وليزي، وإيديث
رقيقةُ القلبِ، وساذجةُ الروحِ، والصاخبةُ، والمغرورةُ، والسعيدة؟
كلُّهنَّ، كلّهنَّ، يرقدنَ على التلّ.
**
واحدةٌ ماتت في ولادةٍ مُخزيةٍ
واحدةٌ من حبٍّ ممنوعٍ
واحدةٌ على يدِ وغدٍ في مبغى
واحدةٌ من كبرياءٍ محطَّمٍ وهي تبحثُ عن مُنيةِ القلبِ
واحدةٌ بعد دخلَتْ حياةُ باريسَ ولندنَ البعيدتينِ
الى عالَمِها الصغيرِ
على يدِ إيلا وكيت وماغ
كلّهنَّ، كلّهنَّ، راقداتٌ، راقداتٌ، راقداتٌ على التلّ.
**
إينَ العمُّ إسحق، والعمّة إيميلي
وتوني لنكيد العجوزُ، وسيفني هوتون
والميجر ووكر الذي كلَّمَ رجالَ الثورةِ الموقَّرينَ ؟
كلهم ، كلهم ، يرقدون على التلِّ
**
قد جلبوا لهم من الحربِ أبناءً صرعى
قد جلبوا لهم بناتٍ تحطّمَت حياتُهُنَّ
وصغاراً ، أيتاماً مُعوِلينَ
كلّهُم، كلهم يرقدونَ، يرقدونَ، يرقدون على التلّ
**
أين جون العابثُ العجوزُ
الذي عاش تسعينَ حَولا من حياةٍ لاهيةٍ
الذي تحدى المطرَ والبرَدَ بصدرِهِ العاري
وشربَ، وشاغبَ، ولم يعبأ بزوجةٍ أو قريبٍ
ولا بالذهبِ ، أو بالحبِّ ، أو بالسماءِ.
أنصِتْ : إنه يهذي عن ولائمَ من سمكٍ مقليٍّ
في زمانٍ بعيدٍ بعيد
وسباقات خيلٍ غابرةٍ في "كلاري غروف"
وما قاله "آب لنكولن"
مرةً في "سبرنغ فيلد"

نولت هوهايمر
في معركةِ "جسر ميشنري"
كنتُ أنا أولَ الثمارِ المقطوفةِ.
وحين أحسستُ الرصاصةَ تلِجُ قلبي
تمنيتُ لو أنّي بقيتُ في بلدتي ودخلتُ السجنَ
لأني سرقتُ خنانيصَ جاري
بدلاً من الهروبِ ، واللحاقِ بالجيش.
سجنُ البلدةِ أفضلُ ألفَ مرّةٍ
من الرقودِ تحتَ هذا الرسمِ ذي الجناحينِ
وهذي القاعدةِ الحجريةِ التي
تحملُ هذهِ الكلماتِ : “Pro Patria.”
ما معناها... على أيةِ حال ؟!

وليم وأميلي
هناكَ شيءٌ في الموتِ
يشبه الحبَّ نفسه!
لو أنكَ بعدَ سنينٍ من العيشِ
معَ مَن عرفتَ في رفقتِهِ الهوى ..
وتوهُّجَ العشقِ في الصِبا
أحسستَ معهُ بانطفاءِ النارِ
ثم خبوتما معا
في بطءٍ ويسرٍ ونعومةٍ
كما لو كنتما متعانقَينِ
تجتازانِ حجرةً مألوفةً...
تلك هي .. قوةُ اتحادِ الأرواحِ..
مثلَ الحبِّ... مثل الحبِّ نفسه!

القاضي الجوال
إنتبه –أيها المسافرُ- الى الثلومِ القاسيةِ
التي حفرَتْها الريحُ والأمطارُ
في شاهدِ قبري.
كأنَّ مقتاً شديداً ، أو آلهةَ انتقامٍ خفيةً
تسجِّلُ ضديّ النقطةَ تلوَ النقطةِ
لتمحقَ ذكرايَ .. لا لِتحفَظَها.
كنتُ في حياتي قاضياَ جوّالاً؛ أسجِّلُ العلاماتِ
لا أستندُ في الأحكامِ
على صوابٍ أو عدلٍ ،
بل على ما يحرزُ المحامونَ مِن نقاطٍ!
آهٍ أيتها الريحُ والأمطارُ!
أغربي عن شاهِدِ قبري.
فلا غضَبُ المظلومينَ
ولا لعناتُ المساكينِ
بِأسوأَ مِن رقادي صامتاً
مبصِراً –رغم ذاك- في رؤيةٍ جليّةٍ
أنّ "هود بات" – حتى "هود بات"
القاتلَ الذي أمرتُ بشنقهِ
أكثرُ منّي .. براءةً في الروح!

توماس رودس
حسناً، أيّها الليبراليونَ
والملاّحونَ في ممالكِ الفكرِ.
أيها المبحرونَ فوقَ ذُرى الخيالِ،
تتقاذفكُم أمواجُ الشذوذِ
وتتخبطونَ في شِراكِ الريحِ.
أنظروا كيفَ أدركتُم بحِكمتِكُم المغرورةِ
كم يصعبُ في الختامِ
أن تمنعوا الروحَ مِن أن تتشظى
الى ذرّاتٍ تتناهى في الصغرِ.
بينما نحنُ ، الباحثونَ عن ثرواتِ الأرضِ،
الجامعونَ الكانزونَ للذهبِ
قنوعونَ ، راضونَ ، متماسكونَ ، منسجمون ..
حتى آخرِ الشوط!

يوجين كارما
عبدٌ لرودس!
أبيعُ الأحذيةَ والقماشَ
والدقيقَ واللحمَ ، وثيابَ العملِ ، والأغطيةَ
النهارَ بطولِهِ .. أربعَ عشرةَ ساعةً في اليومِ ،
ثلاثمائةٍ وثلاثةَ عشرَ يوماً .. في أكثرَ من عشرينَ عاما
أرددُ وأرددُ ألفَ مرةٍ في اليومِ:
"نعم يا سيدتي".. "شكرا" .. "نعم يا سيدي" ....
من أجلِ خمسينَ دولارٍ في الشهرِ.
أعيشُ في هذه الغرفةِ النتنةِ، في مصيدةِ اللغوِ والضجيجِ
التي يدعونها "الحيَّ التجاريَّ"
مُرغَما على الذهابِ الى مدرسةِ الأحدِ
والاستماعِ الى القسِّ المبجَّلِ مائةً وأربعَ مراتٍ في العامِ
ساعةً أو أكثرَ في كلِّ مرةٍ
لأن "توماس رودس" يديرُ الكنيسةَ
كما يديرُ المصرفَ والمخزنَ.
هكذا ، ذاتَ صباحٍ.. حينَ كنتُ أشدُّ ربطةَ عنقي
أبصرتُ نفسي في المرآةِ
بشعري المشتعلِ بالشيبِ، ووجهي الشبيهِ بفطيرةٍ لم تستوِ
فلعنتُ ولعنتُ : أيها الشيءُ التافهُ العجوزُ!
أيها الكلبُ الجبانُ! أيها المفلسُ الحقيرُ!
يا عبدَ رودس!
حتى ظنَّ زميلي أنني مشتبكٌ في عراكٍ
وأطلَّ من فتحةٍ فوقَ البابِ
ورآني، تماماً في اللحظةِ التي كنتُ فيها
أتكوَّمُ على الأرضِ
ميتاً ... من وريدٍ تفجَّرَ في رأسي.


وليم بليك

Blake, William (1757-1827) : شاعر وفنان تشكيلي، ابتكر طريقته الخاصة في كتابة الشعر مرفقاً باللوحة التشكيلية، يعد شعره –الحافل بالرؤى الباطنية- من أفضل ما كتب باللغة الإنكليزية لما فيه من أصالة وجمال وحكمة. ولد في لندن لأبٍ كادحٍ يعمل في الحياكة، وأرسل في صغره الى مدرسةٍ للرسم ثم تدرب طوال سبعة أعوام على فن الكرافيك لكنه استمر –معتمداً على نفسه- في تحصيل ثقافة أدبية وفنية عالية المستوى فدرس الفن والأدب وأكبَّ على الفلسفة (الألمانية بشكل خاص) ثم التحق لفترة وجيزة بالأكاديمية الملكية للفنون غير أنه سرعان ما تركها ثائراً على المبادئ الجمالية لرئيسها.
بدأ كتابة الشعر في عمر الثانية عشرة وأصدر مجموعته الشعرية الأولى "تخطيطات شعرية" (Poetical Sketches ) عام 1783 لكنها لم تلق نجاحا كبيراً رغم احتوائها على العديد من دلائل النبوغ والتجديد ، الأمر الذي تأكد بقوة في مجموعته اللاحقة "أغنيات البراءة" (Songs of Innocence ) التي صدرت عام 1789 لتبقى منذ ذلك الوقت واحدة من أجمل وأشهر الأعمال الشعرية في تاريخ الأدب الإنكليزي. لكن بليك –وقد خابت آماله في الكمال الإنساني- يعود ليصدر بعد خمسة أعوام عمله العظيم الآخر :أغنيات الخبرة" (Songs of Experience) مستخدماً نفس الأسلوب الغنائي والكثير من المواضيع التي عالجها في "أغنيات البراءة". إن هاتين المجموعتين تحدثان عند قراءتهما سويةً أثراً عميقاً وخصوصاً حين تتم مقابلة البراءة والخبرة –الحالتين المتناقضتين للنفس البشرية- في قصائد مثل "الحَمَل" و"النمر". على أن بليك طوّر وتبنّى –في قصائده اللاحقة- الفكرة القائلة بأن البراءة الحقيقية مستحيلة بغير الخبرة المعززة بالقدرات الخلاقة للخيال الإنساني.
ابتداء من عام 1789 شرع بليك بتأليف ما سمّاه "كتب التنبؤات" ، وهي سلسلة من الأشعار الطويلة حاول من خلالها أن يؤسس منظومة ميثولوجية خاصة به فاخترع شخصيات رمزية ليعكس من خلالها أفكاره الاجتماعية، وأعلن في إحدى هذه القصائد "يجب أن أخلق منظومةً أو أكون عبداً لواحدة من منظومات الآخرين".
يصنف أدب بليك وفنه ضمن المدرسة الـ "ما قبل الرومانسية" وذلك لرفضه الأساليب الأدبية والفنية وطرائق التفكير النيو كلاسيكية التي سادت في القرن السابع عشر. أما في أفكاره فقد كان راديكالياً مستقلاً يقف بين رجال الفكر المتنورين المعدودين في عصره. ولقد ظهرت توجهاته الفكرية والاجتماعية والسياسية وإدانته الشديدة للاستغلال والطغيان السياسي والاجتماعي والديني واضحةً في قصائد مثل "الثورة الفرنسية-1791" و"أمريكا، نبوءة- 1793" و"رؤى لِبَنات ألبيون(إنكلترا)-1793.
أما في مجال الفن التشكيلي فأن مساهمة بليك تحتاج الى تفصيل ليس هذا مجاله لكننا نكتفي منه بالإشارة الى أنه كان فناناً مجددا تحدى تقاليد القرن الثامن عشر حتى لتحس عند مشاهدة الكثير من لوحاته بأنك إزاء فنان من القرن العشرين، كما أن طريقته في تصوير الكتب وبخاصة "أغنياته" تحفز على إعمال القارئ خياله عند قراءته لتلكم الحوارات العميقة بين كلمات العمل الأدبي والرسوم التي تصاحبه. عاش هذا الشاعر الكبير سنوات عمره الأخيرة في فقر مدقع لم يخفف من وطأته غير تحلق العديد من الفنانين الشباب حوله حتى رحيله في لندن عام 1827 تاركاً سلسلة غير مكتملة من اللوحات التي كان يعكف على إنجازها مستلهما "الكوميديا الإلهية" لدانتي.

مقدمةُ أغنياتِ البراءةِ والتجربة
وليم بليك

وأنا أنزلُ في وديانٍ موحشةٍ
كنتُ أنفخُ في مزماري
بأغنياتٍ مِن مرَحٍ رقيقٍ
حين أبصرتُ صبياً فوقَ غيمةٍ
قالَ لي ضاحكاً:
**
"زمَِّر بأغنيةٍ عن حَمَلٍ صغير"
فزمّرتُ في مرَحٍ طَروبٍ.
"أيها الزمّارُ .. أيها الزمّارُ.. أَعِدْ تلكُمِ الأغنيةَ"
فزمّرتُ ... وبكى حين أنصتَ لي.
**

"ارمِ مزمارَكَ .. ارمِ مزماركَ البهيجَ،
غنِّ لي أغنياتِكَ .. أغنياتِ السعادةِ الطَروبَ".
فغنّيتُ مِن جديدٍ
وبكى من فرحٍ وهو ينصتُ
**
أيها الزمّارُ.. اجلسْ ودَوِّنْ في كتابٍ
عسى أن يقرأهُ الجميعُ ..."
واختفى مِن ناظريّ
فاقتلعتُ سويقاً من قصبٍ أجوفَ
**
وصنعتُ قلماً ريفيا
وصبغتُ الماءَ الشفيفَ
وسطّرتُ أغنياتي السعيدةَ
عسى أن يطربَ لسماعِها .. كلُّ طفلٍ صغير.


شجرةُ السُمِّ
وليم بليك
غضبتُ على صاحبي
وأفضيتُ بغضبي
فإذا به يزولُ.
وغضبتُ على عدوي
وكتمتُ في قلبي
فإذا بغضبي يزدادُ ويعظُمُ
**
وأسقَيتُهُ خائفا
دموعَ عيني
في الغداةِ والعَشيّ
وشمَّستُهُ بالابتساماتِ
ومعسولِ الخُدَعِ الماكراتِ
**
ونَمَتْ شجرتي في الليلِ والنهارِ
حتى أثمرَتْ تفاحةً رائعةَ البهاءِ
وأبصَرَها عدوّي وهي تتألقُ
وأدركَ أنها لي
**
وحينَ أرخى الظلامُ سُدولَهُ
تسلّلَ الى حديقتي.
وسُرِرتُ في الصباحِ
إذ رأيتُ عدوي
صريعاً تحتَ الشجرة !


منظفُ المداخنِ
وليم بليك
صغيراً كنتُ حينَ ماتت أمي .. صغيراً كنتُ.
وباعَني أبي
حين كانَ لساني
لا يكادُ يقدرُ أن يصرخَ .. وينوحَ ينوحَ ينوح
ولذا .. ها أنذا أكنسُ مداخنكُم .. وأنامُ في السُخامِ.


توماس بيدوز

Beddoes, Thomas Lovell (1803-1849) : طبيب ، وعالم فسيولوجي ، وشاعر ، وكاتب مسرحي. اشتهر بعمله المسرحي "كتاب نكات الموت" (Death’s Jest-Book) وفيه محاكاة للأسلوب التراجيدي لعصر الملكة إليزابيث . ولد في إنكلترا لأبٍ كان من أعلام الطب في عصره. درس الطب والفسيولوجي والتشريح في جامعة أكسفورد وحاز على شهادة الدكتوراه فيها ثم تابع دراساته في ألمانيا وسويسرا وقد ترك عمله في الطب والتشريح بصمات واضحة على أسلوبه ومعالجاته الشعرية. لم ينشر في حياته غير كتابين: "المرتجِل" (The Improvisator (1821) وقد ندم على نشره وحاول استرجاعه وإتلافه ، ثم مسرحيته "مأساة العروس" (The Bride's Tragedy (1822) التي كتبها مستندا الى جريمة قتل حقيقية ارتكبها احد طلاب جامعة أكسفورد. لينكب بعدها على "كتاب نكات الموت" منذ 1825 وحتى وفاته تاركا ثلاث نسخ معدلة منه جمعت بعد وفاته في نص واحد نشر عام 1850. وقد أظهر هذا العمل تأثره بإطلاعه الواسع على الأعمال الدرامية -الحافلة بمشاهد الدم والانتقام- لعصر الملكة إليزابيث -عصر كرستوفر مارلو وإدموند سبنسر ووليم شكسبير- إضافة الى تأثره وإعجابه الشديدين بالشاعر العظيم شللي. كان بيدوس صديقا حميماً للشاعرين كوليرج وساوثي وكان يمد لهما يد العون في مرضيهما لكنه أصيب بدوره بمرض خطير نتيجة عدوى انتقلت اليه من إحدى الجثث فضاقت به الدنيا وحاول، في عام 1848، أن ينتحر بقطع شرايين ساقه لكنه فشل في ذلك وأصيب بالغنغرين مما اضطر الأطباء الى بتر ساقه وظل على قيد الحياة حتى العام الذي تلاه حين أعاد المحاولة وأنهى حياته بيده.

بائعُ الأحلامِ المتجولُ
توماس بيدوس
لو كانَ للأحلامِ أن تُباعَ
ما الذي سأشتري؟
البعضُ لا يكلِّفُ غيرَ جرسٍ عابرٍ
والبعضُ حسرةً خفيفةً
لا تهزُّ وتُسقِطُ من تاجِ الحياةِ الطريِّ
غيرَ تويجةِ وردٍ وحيدةٍ.
لو كان للأحلامِ أن تُباعَ
حزينةً كانت أو سعيدةً
وطرقَ البائعُ بابَكَ،
ما الذي ستشتري؟
**
كوخاً منعزلاً ساكناً
بعرازيلَ دانيةٍ
ظليلاً، كي يحفظَ آلامي
حتى أموتَ.
لؤلؤةٌ كهذي ، من تاجِ الحياةِ الطريّ
سأُسعَدُ لو هززتُها وجنيتُها.
لو كانتِ الأحلامُ طوعَ اليدينِ
هذا ما سيُشفي أسقامي
هذا ما سوفَ أشتريه.



بايرون

Byron, George Gordon Noel, 6th Baron Byron (1788-1824).
إذا كان وردزورث وكوليرج وساوذي هم أضلاع المثلث الذهبي للشعر الرومانسي ومن أسس له ووطد أركانه، فإن ثلاثة من الفتية الذين ولدوا في الربع الأخير من القرن الثامن عشر كانوا بحق الحاملين الأمناء لراية تلك المدرسة الجديدة. لقد كانوا مسكونين بالشعر الى حد الجنون، فشردهم الشعر وشغلوا به الدنيا وشغل أيامهم ولياليهم حتى ماتوا جميعا في سن مبكرة جعلت منهم بحق شهداء الشعر الرومانسي... بايرون ... كيتس ... شللي!
ولد بايرون في لندن من أم اسكتلندية وأب مبذر وسيمٍ خليع هو الكابتن جون المشهور بـ"جاك المجنون" الذي توفي قي فرنسا والفتى لم يكد يبلغ الثالثة من عمره. وكانت أمه قد انتقلت به قبل ذلك الى اسكتلندا ليعيشا في حالةٍ من الكفاف قبل أن تهبط عليهما الثروة ولقب النبالة فجأة عندما توفي عم أبيه البارون بايرون الخامس ليعود الفتى الى لندن ملقبا بالبارون بايرون السادس! هناك دخل أرقى مدارسها وجامعاتها وعاش حياة طبقتها العليا وتمرد عليها وبذر وسافر وعشق المرة بعد المرة رغم أنه ظل على الدوام يشعر بوطأة القدم الشوهاء التي ولدت معه وسببت له بعض العرج.
ظهر أول مجلد من أشعاره عام 1807 وكان بعنوان "ساعات الكسل" (Hours of Idleness) فتناولته إحدى المجلات الاسكتلندية بالنقد اللاذع فما كان منه إلا أن رد بقصيدته "شعراء إنكليز ونقاد اسكتلنديون" فأثارت إليه الانتباه.
في عام 1809 بلغ السن القانونية التي تؤهله لشغل مقعده قي مجلس اللوردات، وفي السنة نفسها بدأ رحلةً طويلةً جاب خلالها أرجاء البرتغال وأسبانيا ومالطة وألبانيا واسطنبول وخرائب طروادة واليونان التي أحبها منذ ذلك الوقت وعشق شعبها المتفتح المتحرر المحب للحياة وبدأ فيها بكتابة الأجزاء الأولى من عمله الشهير "رحلة الغلام هارولد" -الذي نشره عام 1812 وذلك بعد عودته للوطن: حيث ألقى أول خطابٍ في المجلس، وكان دفاعاً إنسانيا عن عمال النسيج المحتجين على سوء أحوالهم. في هذا العمل، الذي أنزل عليه الشهرة المفاجئة، يتعقب الشاعر رحلات وانطباعات شابٍ يشعر –مثل بايرون- بخيبة الأمل من حياة اللهو والعربدة فيبحث عن السلوى في بلادٍ غريبة، وهو، في هذا العمل السيرذاتي، يعبر عن الكآبة والإحباط الذي أحس به جيلٌ أتعبته الحروب النابليونية فاكتشف بطلان مطامحه والطبيعة الزائلة للسعادة وعبث البحث عن الكمال. وفي هذا العمل تظهر أيضاً للمرة الأولى ملامح ما صار يعرف لاحقاً بــ "البطل البايروني" .. الشاب الذي تقوده عواطفه الجامحة نحو اجتناب البشر فيهيم شاعراً بوطأةِ إحساس بالذنب من خطايا غامضةٍ ترجع الى ماضيه.
بعد الشهرة العظيمة التي حازها أصبح هذا الشاب الوسيم نجم المجتمع الإنكليزي فأوغل في تحدي تقاليد مجتمعه ولاحقته الفضائح والمشاكل العاطفية التي لم تنته بزواجه القصير الأمد في عام 1815 الذي أثمر عن ابنته الشرعية الوحيدة "أوغستا". وخلال تلك الفترة نشر العديد من الحكايات الشعرية المستلهمة من الشرق منها "الكافر" (Giaour) و "عروس أبيدوس" (The Bride of Abidos) و "القرصان" (The Corsair) التي بيع منها عشرة آلاف نسخة في يوم صدورها وكان ذلك حدثاً استثنائيا بمقاييس ذلك العصر.
في عام 1816 غادر وطنه، بعد أن لاحقته المشاكل والفضائح والمصاعب المالية، ولم يعد إليه أبداً. توجه في البدء الى سويسرا حيث كتب الجزء الثالث من "رحلة الغلام هارولد" وفيه يتابع رحلة بطله –الكاتب- من بلجيكا الى سويسرا عبر نهر الراين ويستحضر –في أبيات تتسم بالكآبة والتحدي معاً- ذكرياته، وما تثيره المواضع التي زارها مثل موقع معركة "واترلو" الشهيرة، وصور نابليون وجان جاك روسو، وجبال سويسرا وبحيراتها. وهناك في جنيف التحق به صديقه شللي وحبيبته التي صارت زوجته فيما بعد وأختها كلير التي عشقها بايرون وأنجبت له ابنته "أليغرا". ثم استقر في ايطاليا حيث كتب العديد من القصائد والأعمال المسرحيات الشعرية من بينها "مانفريد" (Manfred) وعمله الأكثر شهرة "دون جوان" (Don Juan) الذي أتمه عام 1823 و"قابيل" (Cain) وغيرها الكثير.
في "دون جوان" وهي ملحمة ساخرة رائعة يقلب الشاعر الشخصية الخرافية الفاسقة دون جوان الى شابٍ وسيمٍ بريء النوايا يظل، رغم استسلامه لملاحقات الحسان، النموذج العقلاني الذي ينعكس قبالته غباء العالم وسخفه. إن تفاصيل مغامرات البطل، من غرق سفينته واستعباده في تركيا وهربه الى روسيا وشجاعته في صفوف جيشها وإرساله الى إنكلترا في مهمة دبلوماسية، تظل الشماعة التي يعلق عليها بايرون ملاحظاته الساخرة الذكية عن المجتمع ونفاقه وعن تفاهة مطامع وادعاءات الشعراء والعشاق والجنرالات والحكام... والبشر عموماً. وفي هذه المسرحية استطاع بايرون أيضاً أن يتحرر من الكآبة المفرطة التي هيمنت على "رحلة الغلام هارولد" ليكشف وجهاً آخر من شخصيته –وموهبته- ألا وهي قدرته الفائقة على رؤية الجانب الهزلي ، لا المأساوي، من التناقض القائم بين الحقيقة وما يبدو للعيان.
بعد عام 1818 بدأت صحته بالتدهور نتيجة حياته العاصفة المغامرة وتقلبه في أحضان النساء، لكنه واظب على الكتابة، وعلى الاهتمام بقضايا عصره فتعاون مع "شللي" و "لي هونت" في إصدار مجلة "الأحرار" التي لم يصدر منها غير ثلاثة أعداد بعد وفاة "شللي" واختلافه مع "هونت"، وتقرب كذلك من الجمعيات الثورية الإيطالية، وأصبح ممثلاً للجنة لندن التي تأسست لنصرة الشعب اليوناني في ثورته ضد الاحتلال العثماني. وتبرع لتلك الثورة بالشطر الأكبر من الثروة التي نالها من بيع عقاراته في إنكلترا ثم سافر الى اليونان وشارك ببسالةٍ في حرب التحرير حتى وصل الى رتبة القائد العام لقواتها. لكنه سقط فريسة المرض والحمى حتى رحل عن العالم في العاشر من نيسان عام 1824. فرثاه الشعب اليوناني برمته وعده بطلاً قوميا، حتى إنك ما تزال تسمع في أرجاء قرى اليونان وجبالها أسماءَ الصغار الذين سماهم أهلوهم باسم "فيرون" وهو اللفظ اليوناني لاسمه!
كان بايرون، بالإضافة الى موهبته الشعرية، كاتب رسائل من الطراز الأول، الأمر الذي أعاد تأكيدَه نشرُ بعض من رسائله المجهولة بعد أكثر من قرن على رحيله وزاد من شهرته وإعجاب القراء والمؤلفين والنقاد به حتى يومنا هذا. لقد كان هذا الشاعر الفذ شخصيةً يصعب الإلمام بكل جوانبها؛ فهو في نظر أصدقائه الرفيق المرح الساخر الواقعي، وهو قي نظر نسائه ذلك الرجل الرقيق الحزين المثالي أو "المجنون، الرديء، الخطيرة معرفته" . لقد كانت قوته هي ضعفه؛ وكان في تقلب مزاجه وتعدد جوانب شخصيته ما مكنه من تسجيل كل تقلبات وتناقضات وأحاسيس النفس البشرية، الأمر الذي تعذر على الكثير من الشعراء والمبدعين.



سونيتة الى "جيلون"
بايرون
أيتها الروحُ الخالدةُ للعقلِ الذي لا تمسكُهُ أصفادٌ!
أيتها الحريةُ، إنكِ في السجنِ لأكثرُ إشراقاً !
فأنتِ هناك ... تقيمينَ في القلب ،
القلب الذي لا يقيِِّدهُ سواكِ.
وحينَ يرسفُ بنوكِ في الأغلالِ
والغياهبِ التي لا تَرى النورَ
فإن أوطانهم –بشهادتهم- تنالُ الظفرَ
ويبسطُ اسمُ الحريةِ جناحيهِ .. فوقَ كلِّ ريح.
إيهٍ يا "جيلون" ! سجنُكِ مقامٌ مقدَّسٌ ،
وأرضكِ الحزينةُ ... مذبحٌ طَهور ،
لأن خطى "بونيفار"
تركَتْ آثارَها ... فوقَ بلاطِهِ الباردِ ،
كما تفعلُ الأَقدامُ ... بالثَرى المُعشِبِ.
ألا فلتَبْقَ آثارُهُ
ولا يُقدِم امرؤٌ على طمسها.
فهي باللهِ تستغيثُ ... من سلطانِ الطغاة!


سنكفُّ عن التجوال
بايرون
هكذا إذن :
سنَكُفُّ عن التجوال حتى آخرِ الليلِ
رغمَ أنَّ القلبَ .. ما كفَّ عن عشقهِ القديم.
رغم أن البدرَ ... لَمّا يزَلْ في بَهاه
**
السيف يُبلي غمدَه
والروح تُبلي صدرها
والقلبُ لا بدَّ أن يتوقفَ
كي يستردَ أنفاسه
والحبُ نفسهُ قد يخلدُ للراحةِ
**
رغم أن الليلَ مخلوقٌ للحبِّ
رغم أن النهارَ يوشكُ أن يعودَ
سنكفُّ عن التجوالِ
تحتَ ضوءِ القمر

مرثية
بايرون
آهٍ يا مَن عُنوةً قُطِفتِ ، وأنتِ في ريعانِ الجَمالِ
حرامٌ أن يضمّكِ ضريحٌ بليدٌ ثقيل.
ولكنْ على ترابكِ الرَخصِ
فلتمدَّ الورودُ أوراقَها ... أوراقها الباكرات
وتهزَّ أشجارُ سروٍ برّيةٌ
أغصانَها ... في أسىً حَنونٍ
**
وهناك ، عندَ الجدول الأزرقِ الدَفّاقِ
لتُطِلْ ربّةُ الأحزانِ مكثَها
حانيةً رأسَها الحزين
وتمدَّ عميقَ الأفكارِ .. بالأحلامِ تلوَ الأحلام.
فلتقفْ حائرةً متلكئةً
ولتطأ الثرى باحتراسٍ
وكأنها ، يا للعاشقةِ المسكينة ،
تخشى أن تُقلِقَ الميّتين!
**
بُعداً بُعداً !
نعلمُ أنَّ الدموعَ عبثٌ
وأنَّ الموتَ لا يصغي أو يعبأُ بالآلامِ.
فهل يصرفُنا هذا عن الشكوى
أو يكفكفُ دمعَ باكٍ وحيد؟
وأنتَ ، يا من تنصحُني بالنسيانِ.
تلك نظراتُكَ شاحبةٌ ..
وتلك عيناك ... غارقتانِ بالنَدى !







وردزورث

Wordsworth, William (1770-1850) : شاعرٌ ومنظِّر إنكليزي عظيم. أوجد بأسلوبه ونظرياته الشعرية مدرسةً جديدة في الشعر العالمي.
ولد في منطقة البحيرات شمالي إنكلترا وفقد والدته وهو في السابعة ليلحق بها والده وهو في الثالثة عشرة تاركا خمسة أيتام تعهدهم أحد أعمامهم بالرعاية وأدخلهم الى مدرسة متوسطة ريفية في قلب تلك المنطقة. هناك تلقى وردزورث تعليما ممتازاً في اللغات الكلاسيكية والآداب والرياضيات، لكن أعظم فائدة جناها هي انغماره في مسرّات الصِبا في العيش واللعب في ذلك الريف المفتوح فتشرب حبّاً عجيباً للطبيعة ومناظرها الخلابة مما ظهر جليا في شعره وفي الفلسفة التي آمن بها لاحقاً.
التحق بجامعة كامبرج وقبل أن ينهي دراسته فيها قام في صيف 1790برحلةٍ شهيرةٍ مشياً على الأقدام جاب خلالها أرجاء فرنسا وسويسرا. ثم عاد الى فرنسا بعد تخرجه في العام التالي حيث صار نصيراً متحمساً للثورة الفرنسية ومبادئها وظل متعاطفا معها رغم خيبة أمله من جراء تصاعد موجة الإرهاب التي أعقبتها. وهناك عشق فتاةً فرنسيةً وأنجب منها ابنته "كارولين" قبيل عودته الى إنكلترا عام 1793بسبب تصاعد العداء بين البلدين، ثم لم يحظَ بلقائها إلا بعد أن بلغت التاسعة.
كانت السنوات الثلاث أو الأربع التي أعقبت عودته الى إنكلترا أكثر السنوات قسوةً في حياته؛ كان عاطلاً، مفلساً، منقطعاً، مغيظا من موقف بلاده المعادي لفرنسا وثورتها الفتية، فأخذ يخبط خبط عشواء في أزقة لندن الفقيرة المحرومة، برفقة حفنةٍ من الفلاسفة والثائرين مثل وليم غودوين ، وتعلم مشاعر التعاطف العميق مع المتسولين والمشردين والأطفال والنساء المهجورات وضحايا حروب إنكلترا، وتسلل كل ذلك الى القصائد الحزينة التي شرع بكتابتها آنذاك. التقى وردزورث بالشاعر صموئيل تيلر كولردج الذي كان من المعجبين بقصائده المبكرة ثم انتقل الإثنان – برفقة دوروثي ، أخت وليم الأثيرة وراعيته المخلصة- الى "سمرسيت" قريباً من مسكن كوليردح (انضم اليهما لاحقا الشاعر ساوذي ليشكلوا ما عُرف بشعراء البحيرة). وكانت النتيجة الأولى لهذا الانتقال صدور العمل الشعري المشترك بين وردزورث وكوليردج "بالادات غنائية" (Lyrical Ballads) الذي صدرت طبعته الأولى عام 1798لتعد العلامة التاريخية الفارقة التي أذنت بظهور الشعر الرومانسي.
دفاعاً عن نظريته في الشعر التي عدت خروجاً صارخاً على تقاليد ذلك الزمان كتب وردزورث في مقدمة الطبعة الثانية من الكتاب (عام 1800) مؤكداً أن مصدر الحقيقة الشعرية ينبع من " الإحساس الذي يعاد تمثله –استذكاره- في حالٍ من الهدوء" رافضاً تأكيد معاصريه على الشكل والمعالجة العقلية الذين يستقيان الكتابة الشعرية من حالات الاحتدام العاطفي والمشاعر "القوية". وأصر على أن المشاهد والأحداث اليومية وأحاديث الناس العاديين هي المادة الأولية التي يستطاع –وينبغي- أن يصنع منها الشعر. ورغم أن تلك المقدمة زادت من عداء النقاد المعاصرين له فإن وردزورث لم ينخذل أو يتراجع أمام هجماتهم واستمر في كتابة القصائد التي تجسد بأمانة تلك المبادئ التي دعا اليها.
إن ما يلاحظه القارئ لشعره المرسل من تدفق وسلاسة ولغة حوارية وسردية لا يتعارض مع ما تتمتع به قصائده من قوةٍ غنائية ولحنية تتميز بالجمال والرشاقة، ناهيك عن أن أغلب قصائده الجيدة يتخللها إحساس بوشيجة إنسانية عميقة مع الطبيعة الخارجية تصل أحيانا الى درجة التعبد حيث يتحد الجميع : الخالق والإنسان والطبيعة في إيقاع منسجمٍ متناغم. لقد كان يشعر بصلةِ رحمٍ لا انفكاك لها بين الطبيعة والروح البشرية.. ها هي مشاهد منطقة البحيرة التي خلبت لبه في صباه تحيطه بالحب والرعب في آنٍ واحد كما تشهد أحد أبياته المتأخرة "الخوف والجمال أرضعاني معا". بيد أن الجانب الغالب الرقيق كان له أن يهب الصبي ثقته العظيمة بالطبيعة التي ظهرت في إحدى قصائده المبكرة حين أعلن في انتشاء أن "الطبيعة لم تخن يوماً القلب الذي عشقها".
بحلول عام 1810 كان وردزورث قد كتب أجمل أعماله وأعظمها. ولم يقف الأمر عند هذا ، بل أن وجهات نظره السياسية والاجتماعية شهدت تحولاً نحو "اليمين" بتأثير من تسلسل الإحداث في فرنسا التي أدت الى صعود نجم نابليون وحروبه الدموية ونتيجة أيضا لتأثير عدد من أصدقائه المحافظين ومنهم الكاتب الاسكتلندي السير ولتر سكوت. لقد تبلدت رؤاه وبدأت منابع إلهامه بالجفاف فأضحت قصائده اللاحقة تعج بالتكلف البلاغي والميول الوعظية رغم عدداً منها لم يزل يشع ببريق العظمة القديمة. لكن رياح النقاد صارت تجري بما تشتهيه سفائنه، فعاش حتى رأى بأم عينيه احتفاء الأمة وقرائها به، فمنح راتباً تقاعدياً عام 1842 وسمّي في العام التالي شاعراً للبلاط خلفاً لصديقه ساوذي.
لقد كان وردزورث الشخصية المركزية في ثورة الشعر الرومانسي الإنكليزي. ومساهمته في تلك الثورة ذات أبعادٍ ثلاث؛ فلقد بلور في شعره ومقالاته موقفاً جديداً إزاء الطبيعة لم يقتصر على إدخال صور شعرية مستوحاة من الطبيعة، بل سما نحو نظرةٍ جديدةٍ للعلاقة العضوية بين الإنسان وعالمه. وهو، من ناحية ثانية، سعى الى الغوص عميقاً في عالم أحاسيسه وتجاربه الذاتية في قصائد تواكب التطور الروحي والعقلي للشاعر في خطوةٍ مبكرة نحو الفهم السايكولوجي الحديث لطبيعة الشعر والإبداع بل وطبيعة الإنسان نفسه. وهو، من ناحية ثالثة، قد وضع الشعر في مركز التجربة الإنسانية مؤكداً ،بحسب كلماته، على أن الشعر ليس إلا "البداية والنهاية لكل معرفة- إنه خالدٌ خلودَ قلب الإنسان".
لقد كتب وردزورث –فوق هذا وذاك- عددا من أعظم القصائد في تاريخ الشعر الإنكليزي، وقد يكون مناسباً القول بأنه يقف في الميزان النقدي وبعد كل هذه الأعوام في المكان الذي وضعه فيه كوليرج وأرنولد من قبل : أعني بعد جون ملتون ، الذي يقف بدوره بعد وليم شكسبير!

رقدةٌ أطبقَتْ على الروح
وردزورث
رقدةٌ أطبقتْ على الروح
فاختفى منها كلُّ خوفٍ آدَمي
وبدَت مثلَ من لا يحِسُّ
لمساتِ السنينِ الدنيوية
**
قد خلَتِ الآن
من كلِّ حولٍ أو حراكٍ.
هي لا تُصغي ، لا تَرى..
قد لفَّها تقلّبُ الأرضِ في كلِّ يوم
مع الصخورِ والأحجارِ والأشجار..

أبيات كُتِبت في أوّل الربيع
وردزورث

سمعتُ ألفاً من متمازجِ الأنغام
وأنا متكئٌ في غيضةٍ غنّاءَ
في ذلك المزاجِ اللذيذِ
حين تجلب الأفكارُ اللطيفةُ
أفكاراً حزينةً على البال
**
ببديعِ ما صنَعَتْ
قد شدَّتِ الطبيعةُ اليها
الروحَ الإنسانيةَ التي تجري بداخلي
فأحزنَ قلبيَ التفكّرُ
بما صنعَ الإنسانُ بالإنسانِ
**
في تلكم الخضرةِ
بين خصلٍ من أزاهير الربيعِ
نشرتِ الزهورُ الزرقُ أكاليلَها.
ويقيني أنَّ كلاً منها
ينعمُ بما يتنسَّمُ من هواء.
**
الطيورُ من حوليَ تتقافزُ وتلهو
قد لا أحيطُ بأفكارِها
لكن أدنى حراكٍ منها
يبدو كرعشةٍ مِن جذَلٍ
**
الأماليدُ الفتِيّاتُ ينشُرنَ مراوحَهُنَّ
لِيُمسِكنَ بالنسيمِ المرِح.
عليَّ أنا أن أؤمنَ، بكلِّ ما أستطيعُ ،
بأن السعادةَ حقاً ها هنا.
**
لو كان هذا الإيمانُ مرسَلاٌ من السماءِ.
لو كان هذا تدبيرَ الطبيعةِ المقدَّسة ،
ألستُ محقِّاً حينَ أرثي
لما صنع الإنسانُ بالإنسان ؟


يثِبُ القلبُ منّي
وردزورث
يثبُ القلبُ مني
حينَ أبصِرُ في السماء
قوسَ قزحٍ يتثنّى.
هكذا كنتُ في صِباي
هكذا أنا وقد بلغتُ أشدّي
وهكذا أريدُ أن أكون .. في آخرِ أيامي
وإلا فلأمُتِ الساعةَ !
**
ولأن الرجالَ ليسوا إلا خلفاءَ للأطفالِ
مُنيَتي أن تكونَ أيّامي
مشدودةً بعضُها لبعض
برباطٍ من تقوى الطبيعة.



كيتس
John Keats (1795-1821) شاعر إنكليزي عظيم. يعد واحدا من أهم شعراء الجيل الثاني من الرومانسيين الإنكليز.
ولد في لندن عام 1795. قُتل أبوه الذي كان يعمل في تأجير الخيل والعناية بها في حادثة ركوب عام 1804 فتزوجت أمه بعد أسابيع من موظف مصرفي سرعان ما فرت منه واختفت تاركةً أطفالها الأربعة تحت رحمة القدر، لولا عناية جدتهم والأقرباء المحسنين، لتظهر بعد خمسة أعوام محطمةً جائعة ينهشها مرض السل الذي أنزل لعنته على الأسرة ليقتل الأم وأخاها ثم أبناءها الواحد بعد الآخر. ترك الدراسة وهو في السادسة عشرة من عمره مقررا الالتحاق كصبي عند أحد الأطباء المحليين فأظهر نجاحا لا بأس به واجتاز امتحان الطب والصيدلة عام 1816. لكنه سرعان ما هجر الطب وقرر أن يهب حياته للشعر وحده. في تلك السنة نشر أول قصيدة له وهي سونيتة "آهٍ أيتها العزلة" التي حاكى فيها أسلوب الشعراء الكلاسيكيين العظام في الوزن والقافية، متغنيا بعشقه الصوفي للطبيعة ومؤكدا أن "أعظم النِعَم" هي أن تكتب الشعر لا مراقبا خارجيا للوجود بل منغمساً في أعماق الوجود والطبيعة. وفي سونيتة أخرى نشرها في العام نفسه إثر قراءته لترجمةٍ لأعمال هوميروس يقارن كيتس بين قراءة الترجمات الشعرية والتجارب المليئة بالرهبة والخشوع من أمثال تلك التي يتعرض لها علماء الفلك حين يكتشفون كوكباً جديداً أو البحارة المغامرين حين يلاقون المحيط الشاسع الغامض. ولم تكد تلك السنة الحافلة تنتهي حتى التقى بالشاعر العظيم شللي وصديقه الشاعر والصحفي لي هونت الذي نشر قصائده وشمله برعايته. نشر في عام 1818 عمله "إندِميون" الذي يقع في أربعة آلاف بيت وفيه يستلهم الأسطورة الإغريقية ليرمز- من خلال بحث البطل الفاني "إندِميون" عن ربّة القمر "سنثيا"- الى توق الخيال، خيال الشاعر، الى ربات الشعر أو الإلهام الإلهي. بعد نشره لهذا العمل شعر كيتس أن عليه أن يمتحن افتراضاته السابقة عن قدرة الشعر والفلسفة على التأثير في ما يقاسيه المرء في حياته، فانطلق في رحلة راجلة مجهدة خلال شمالي إنكلترا واسكتلندا بحثاً عن الإلهام والحافز الشعري. لكنه سرعان ما قطع رحلته بعد وقوع أخيه الصغير فريسة للمرض الرهيب فعاد ليشرف على تطبيبه في أيامه الأخيرة ولينغمر في كتابة ملحمة "هايبريون" ليخفف عن قلبه –كما كتب لأحد أصدقائه- آلام مراقبة أخيه المحتضر. يتلخص موضوع هذه الملحمة في سقوط الرعيل الأول من الآلهة الإغريقية (التيتان) على يد الجيل اللاحق منها (الأولمبيين) بزعامة "أبولو". وقد أستخدم كيس هذه الموضوعة ليقول أن التاريخ هو قصة تحكي كيف أن الحزن والشقاء يعلمان الإنسانية الرحمة والتعاطف، وتنتهي القصيدة بتحول "أبولو" الى ربٍّ للشعر. لكن كيتس لم يكمل القصيدة: ربما لحاجته للعودة الى مواضيع أكثر ذاتية أو ربما لأن وفاة أخيه حررته من الحاجة الى إكمالها، وربما لأنه بدأ في أواخر ذلك العام قصة حبه الكبير لـ "فاني براون" وكانت فتاةً جميلة مرحة في الثامنة عشرة من عمرها ألهمته عدداً من أجمل قصائده وبادلته الحب حتى أخر اللحظات.
بيد أن فوره إبداعه الشعري جاءت في عام 1819 عندما كتب عددا من القصائد والأناشيد (odes) التي عدها النقاد من بين أفضل القصائد القصار في تاريخ الأدب الإنكليزي ومنها "لاميا" و"عشية عيد القديسة أغنز" و"نشيد الى الكآبة" و "نشيد الى عندليب" و "نشيد للخريف". ليستسلم بعدها الى السل الذي كان قد تسلل الى جسده الواهن وأرغمه على الرحيل الى إيطاليا حيث أغمض عينيه الى الأبد موصيا أحد خلصائه أن ينقش على قبره : ها هنا يرقد إنسانٌ كُتِبَ اسمه على صفحة الماء !


لماذا ضحكتُ الليلةَ ؟
جون كيتس
لماذا ضحكتُ الليلةَ ؟ ما من صوتٍ يجيبُ.
ما مِن إلهٍ ، أو شيطانٍ فظٍّ في الجوابِ
يتكلفُ عناءَ ردّي
من محلِّه في النعيمِ ، أو في الجحيم.
لذا سأستديرُ من فوري ، نحو قلبي الآدمي:
يا قلبُ يا قلب ، أنا وأنتَ ها هنا ، وحيدَينِ حزينَين،
قل لي ، لماذا ضحكتُ ؟
آهٍ أيها الألمُ المميتُ! آهٍ يا ظلامُ يا ظلام!
ألِزامٌ عليَّ أن أئنَّ للأبد ، لأعيدَ دون جدوى
سؤالَ السماءِ والجحيمِ والقلب ؟
لماذا ضحكتُ ؟
أعرفُ أنَّ عَقدَ هذا الوجود
يباركُ أوهامي ويُرخي لها ما تشاءُ.
لكن ليتني -في ظلمة ذي الليلةِ لا غيرها-
أقطعُ ذلك العقدَ ، وأرى راياتِ الحياةِ المبَهرَجةَ
وهي تغدو مِزقاً.
الشعرُ والمجدُ والجمالُ لها بأسُها دونَ ريب
بيد أن الموتَ أقوى ..
الموتُ أرفعُ جائزةٍ للحياة !


نشيد للشعراء
جون كيتس
شعراءَ الهوى والحُبور
قد نسيتم أرواحَكم على الأرض !
فهل عندكم –في السماوات- أرواحاً أخريات
يُبعَثْنَ للحياة .. في أقاليمَ جديدة ؟
**
نعم ، وتلك اللواتي في السماء
يحّدِّثنَ الشموسَ والأقمارَ
وضجيجَ الينابيعِ العجيبةِ
وثرثراتِ الرعود
وهمسَ أشجارِ الجِنان
وهمسَ إحداهنّ للأخرى
إذ يفترِشنَ –في رقةٍ.. وخلوِّ بال-
عشبَ الفراديسِ الذي
لا يرعاهُ إلا خُشوفُ دايانا ،
تحتَ خيامٍ من زُرقِ الزهورِ
وحيث الورودُ أعارت شذاها
لأزاهير الربيعِ الصغيرات
واتّخذت عطراً لها .. ما له في الأرضِ من شبيه.
وحيث العنادلُ لا تنشد أوهامَ الذاهلين ،
بل حقائقَ قدسيةً شجيّة
وألحاناً عذبةً حكيمةً
لحكاياتٍ وتواريخَ ذهبيةٍ
عن السماءِ وأسرارِها
**
هكذا تعيشونَ في العُلا
وترجعونَ للأرضِ من جديد.
والأرواحُ التي تركتموها خلفكم
تعلِّمُنا ها هنا كيفَ نبحثُ عنكم
هناك حيث تمرحُ أرواحُكم الأخريات
ولا تهجعُ أو تشبع.
وهنا تديمُ أرواحُكم الأرضيّةُ
حديثَها الى الفانينَ : عن أيامِهم القصيرةِ
عن بلاياهم وأفراحِهم
عن هواهُم وأحقادِهِم
عن مجدِهم ومخازيهم
عما يُعليهُم .. أو يَجدعُ منهم الأنوفَ.
هكذا تهَبوننا الحكمةَ في كلِّ يومٍ
رغم أنكم .. فررتُم بعيداً.. بعيدا
**
شعراءَ الهوى والحُبور
قد تركتُم أرواحَكم على الأرضِِِِِِِِِِِِِ !
فعندكم –في السماوات- أرواحٌ أخريات
يُبعَثْنَ للحياةِ .. في أقاليمَ جديدة !





شللي

Percy Bysshe Shelley (1792-1822) يعد بيرسي بيش شللي في نظر الكثير من دارسي الشعر الإنكليزي ونقاده واحدا من أكثر شعراء الحركة الرومانسية تأثيرا.ويذهب البعض الى عدّه ثالث أعظم شاعر في التاريخ الإنكليزي برمته. وتكمن عظمته بشكل خاص في قدرته العفوية الفذة على الجمع بين الرومانسية والنزعة العقلانية في قصائد ومسرحيات شعرية تفيض بالعذوبة والجمال وعمق الأفكار ونبل الغايات
ولد في عائلة ميسورة الحال . وكان جده رجلا متسلطا قوي الشكيمة أما والده فكان شخصا تقليديا ضعيف الشخصية .
تأثر في أول شبابه بأحد أول أشكال الرومانسية وأكثرها فجاجة ألا وهو قصص الرعب التي كانت تلقى رواجا كبيرا في ذلك العصر، وجرب حظه في هذا المجال فكتب ونشر بين عامي1810 و 1811اثنتين من روايات الرعب على الطراز القوطي ومجموعتين من قصائد الصبا. التحق عام 1810 بجامعة أكسفورد لكنه ما لبث أن طرد منها في آذار من السنة التالية لرفضه الاعتراف بمسؤولية عن كتابة وتوزيع أحد الكتيبات التي عدت تمردا فظيعا على التقاليد والأعراف الدينية آنذاك، ليفر بعدها مع هارييت ويستبروك ابنة صاحب مقهى لندني ويتزوجها محطما كل خطط الهيمنة والتجويع التي رسمها جده وأبوه. ثم سافر الى ايرلندا ، وكتب هناك ووزع المنشورات المناصرة للحقوق السياسية للكاثوليك الايرلنديين والمنادية بالحكم الذاتي ومُثُل الفكر الحر.
تعرف بعد عودته الى لندن على الفيلسوف البريطاني "وليم غودوين" وجمعته به صداقة عميقة تأثر من خلالها شللي بالفكر الإشتراكي المتحرر للفيلسوف. وكان لهذه الصداقة الحميمة أن تؤتي ثمارها فكان من نتاجها "مليكة الجن" “Queen Mab” (1813) وهو أول الأعمال الشعرية الهامة لشللي. غير أن الأمر لم يتوقف عند هذا فقد ارتبط الشاعر بعلاقة حب عنيف متهور مع "ماري" أبنة غودوين، رغم استنكار الجميع. وفر الحبيبان في تموز 1814الى فرنسا.
ثم حطا الرحال 1816 في سويسرا حيث صديقه بايرون وهناك كتب شللي عددا من أشهر قصائده : " تسبيحة للجمال العقلي" “Hymn to Intellectual Beauty” و"الجبل الأبيض"“Mont Blanc” وشرعت ماري (التي تزوجها بعد وفاة زوجته الأولى) في كتابة روايتها الشهيرة "فرانكشتاين.
في عام 1817 كتب شللي ملحمته الرومانسية "لون وسثنا" “Laon and Cythna” أو ثورة المدينة الذهبية لكن الناشر منع توزيعها خشية أن تكون القصة المثالية (التي تتحدث عن ثورة سلمية تقمعها بوحشية عصبة تتكون من الملك وكهنته) انتهاكا للقوانين الصارمة ضد التجديف . لكنها نشرت في العام التالي ، بعد عدد من التعديلات ، تحت عنوان جديد هو "ثورة الإسلام" “The Revolt of Islam”.
في عام 1818 ترجم كتاب أفلاطون "المأدبة" “Symposium” وكتب مقالته الشهيرة "عن الحب" “On Love”
في عام 1819 حط الرحال في روما حيث شرع في كتابة إثنتين من أشهر مسرحياته الشعرية " آل سينسي" “The Cenci” و "برومثيوس طليقا" “Prometheus Unbound”. وتعد أولاهما واحدة من أروع إنجازات شللي الشعرية. وفيها يقوم بقلب حبكة المسرحية المفقودة الشهيرة لأسخيلوس “Aeschylus”:
في عام 1819كتب قصيدته الهجائية المريرة "قناع الفوضى"”The Mask of Anarchy” تأثراً منه بأحداث مذبحة "بيترلو" التي راح ضحيتها العديد من العمال الإنكليز المحتجين على قسوة ظروفهم لكنها لم تنشر حتى عام 1832، ثم أكمل مسودة كتابه "نظرة فلسفية الى الإصلاح" وهو أطول أعماله النثرية (رغم أنه لم يكتمل قط ولم ينشر حتى عام 1920) وفيه يدعو الى الإصلاح التدريجي (على الطريقة البريطانية) بغية تجنب ثورة دموية قد تؤدي الى طغيان جديد.
أما في مقالته "دفاع عن الشعر" “A defense of Poetry” فقد أصر على إن الشاعر هو الذي يخلق القيم الإنسانية ويتخيل الأوضاع التي تشكل النظام الاجتماعي ، وأن "الشعراء هم المشرعون غير المعلنون لهذا العالم". وفي مرثيته التي أسماها "أدونيس" “Adonais” التي كتبها في رثاء الشاعر "جون كيتس" “John Keats” أعلن أنه بينما نحن "نتفسخ .. مثل جثث في القبور " فإن الروح الخلاقة لأدونيس ، برغم موته الجسدي "تحلق متعالية على ظلال ليلنا".ثم كتب شللي مسرحيته الشعرية "هيلاس" “Hellas” التي يحتفل فيها بثورة اليونان ضد الحكم التركي.
في تموز 1822 أبحر الى "ليغ هورن" لاستقبال صديقه "لي هونت" “Leigh Hunt” الذي قدم لإعداد مجلة دورية تدعى "الأحرار" “The Liberal”. لكن، وخلال رحلة الإياب، واجهته وأحد رفاقه عاصفة هوجاء من تلكم التي وصفها في العديد من قصائده ليغرق في لجة ذلك الخليج المجنون بطريقة تنبأ بها في إحدى قصائده ليرحل الى الأبد ويكون الشهيد الثاني في ذلك المثلث الذهبي للشعر الرومانسي الإنكليزي.


سونيتة : إنكلترا 1819
شللي

ملكٌ عجوز ، مخبولٌ ، أعمى ، محتقَرٌ محتضَر.
أمراءٌ - حثالاتُ سلالةٍ بليدةٍ
يمضون عبرَ ازدراءِ الرعيَّةِ
كَوحولٍ تتدفقُ من نبعٍ آسن.
ولاةٌ لا يبصرون ، لا يشعرون ، لا يجيدون إلا التصاقا كالعَلَقِ
الى جسدِ الوطنِ الشاحبِ العليل.
فيترنحونَ ، يسقطون دونما ضربةٍ
وقد أعماهم النجيعُ.
شعبٌ يتضوّرُ ، محتَجَزٌ في حقولٍ ما حُرِثتْ.
جيشٌ للقمعِ والدمارِ
كَسَيفٍ ذي شفرتينِ ، في يدِ السائسين.
شرائعٌ من ذهبٍ ودمٍ ، للغوايةِ ، للذبحِ.
دينٌ بلا مسيح ، بلا إله ، كتابُ مختوم.
مجلسٌ للشيوخ – أسوأ شرائع الأزمان
أنها – كلها – لَقبورٌ
علَّ منها يتفجرُ شبحٌ ماجدٌ
يضيءُ نهارنا العاصفَ المكفَهِر.

الى وردزورث
شللي
يا شاعرَ الطبيعةِ
قد ذرفتَ الدموعَ حتى عرفتَ
إن الذي يرحلُ لا يعودُ :
الطفولةُ والصِبا ، الصداقةُ وتوهّجُ الحبِّ الأولِ
كلُّها طارت كأحلامٍ حلوةٍ .. وتركَتْكَ للأسى.
هذه الأحزانُ العاديةُ أعرفُها
لكن لي خسارةٌ واحدةٌ ، تدركها أنت أيضاً ،
رغم أني أحزنُ لها دونَك.
قد كنتَ نجمةً وحيدةً يشرقُ ضياؤُها
فوقَ مركبٍ متداعٍ
غارقٍ في هديرِ ليلِ الشتاءِ.
قد كنتَ ملاذاً من شامخاتِ الصخورِ
فوق حشودٍ متقاتلةٍ عمياءَ.
في فقرِهِ المجيدِ حاكَ صوتُكَ
أغنياتٍ كرَّسْتَها للحقِّ والحريةِ..
وإذ هجرتَ هذا كله .. فقد تركتَني للأحزان.
وإذ صرتَ هكذا .. فالأَولى ألاّ تَكون !

أوزيماندياس المصري
شللي
مسافرٌ من بلادٍ عتيقة
قصَّ لي يوم التقيتُهُ :
في القفرِ الممتدِ انتصبَتْ
ساقانِ من حجرٍ لا جِذعَ يعلوهما ،
وعلى الأرضِ ارتمى ، منغرساً في الرمالِ ،
وجهٌ متصدِّعٌ
كانت التقطيبةُ التكسوهُ
والشفاهُ المتغضناتُ
ومسحةُ السخريةِ الأَمّارةِ الباردة
تخبِرُ جميعاً أنَّ نحّاتَهُ أجادَ قراءةَ تلكم العواطفَ
التي للآن تُحيي فوقَ الحجرِ الجامدِ
اليدَ التي سخرَتْ منها
والقلبَ الذي غذاها.
وعلى القاعدة نُقِشتْ هذه الكلماتُ :
" إسمي أوزيماندياسُ ، ملكُ الملوكِ
يا أيها العظيمُ
انظر الى ما صنعتُ ، وليصُبكَ اليأسُ !"
….
لا شيءَ في الجوارِ.
وحولَ الأطلالِ
ثمةَ رمالٌ مستويةٌ ، عزلاءَ جرداء
تمتدُّ وتمتد في المدى البعيد .



ماثيو أرنولد

Arnold, Matthew (1822-1888): شاعر وناقد إنكليزي، واحد من أكثر الشعراء والمربين تأثيراً في العصر الفكتوري، ويشكل مع تنيسون وسوينبرن الثلاثي الذهبي للشعر الإنكليزي في العصر الفكتوري (1837-1901). كان والده توماس آرنولد رئيسا لمدرسة "ركبي" العريقة التي درس فيها ماثيو قبل أن ينتقل الى جامعة أكسفورد حيث اشتهر وهو طالب فيها ونال إحدى جوائزها الشعرية. اشتغل بعد تخرجه بتدريس الآداب الكلاسيكية في مدرسة ركبي ثم عمل لأكثر من ثلاثة عقود مشرفاً تربوياً وأستاذا للشعر في أكسفورد وقام أثناء ذلك بجولات علمية وتدريسية في أمريكا وأوروبا.
كان آرنولد يؤمن بحاجة إنكلترا الى المزيد من الانفتاح على الثقافة والأدب ، وهي الفكرة التي آمن بضرورتها إزاء انتشار القيم المادية الميكانيكية وطمس الحاجات الروحية في عصر الانتشار الكولونيالي الذي اتسم في رأيه بإفراطه في المحافظة والنفعية والغرور.
إن قصائده (ومنها هاتان القصيدتان) تتسم بالطابع الفلسفي والتأمل العميق الحزين في جوهر الوجود الإنساني. وهذا اليأس الفلسفي والإحساس بالعزلة يجدان أفضل تعبير لهما في هذه الأبيات المنتقاة من إحدى قصائده:
تائها بين عالمين
واحدٌ ميتٌ ، وآخر لا يقدر على الميلاد
ليس لي من مكانٍ أريح فيه رأسي
أنتظرُ على الأرض
بائسا ... مثل الآخرين
ورغم عمق شكوكه الدينية، كتب آرنولد العديد من القصائد التي حاول فيها ترسيخ الحقائق الأساسية لمعتقداته المسيحية بإزاء المبادئ الدوغمائية التقليدية لعصره. ودافع كذلك في مجموعة من مقالاته نشرها بعنوان الثقافة والفوضوية (Culture and Anarchy ,1867-1868) عن أهمية الثقافة في مواجهة المادية العلمية، كما حاول (من خلال إيمانه بأن الأدب يمكن أن يوجه الثقافة ويعيد تشكيلها) أن يجعل إنكلترا أكثر تحسسا وتقبلاً للقيم الراقية في الفن والأدب. ترك آرنولد -بالإضافة الى مجموعاته الشعرية- العديد من الدراسات الأدبية والنقدية ومنها "دراسة في الشعر-1880" و "وظيفة النقد في العصر الراهن-1865".

شكسبير
ماثيو آرنولد

أسئلتُنا تقيـِّدُ الآخرينَ .. لكنكَ حرٌّ.
نحنُ نسألُ ، ونسألُ .. لكنك تبتسمُ
وتظلُ ساكناً .. متسيِّداً ذُرى العلمِ بالأشياء
لأن أسمقَ الجبالِ ،
ذاكَ الذي يخلعُ تاجَ جَلالِهِ للنجوم ،
مُنبِتاً في البحرِ أقدامَهُ الراسخات ،
مقيماً في سماءِ النعيم ،
لا يُسخِّرُ غيرَ بعضاً من سفوحِهِ الغائمات
في البحث عن خلودٍ لا يُنال.
**
لكنّكَ ، يا مَن أدركتَ خُيوطَ الشمسِ ، وعرفتَ النجومَ
وعلّمتَ نفسَكَ ، تأمَّلتَ نفسكَ ، أكرمتَ نفسك،
وصِرتَ مِن نفسِكَ في حِرزٍ أمين ،
مشيتَ على الأرض ولم يحزرْكَ أحد ... وذاك أجدى وأفضلُ !
**
كلُّ ما على النفوسِ الفانيةِ أن تقاسيه
كلُّ ضعفٍ يُتلِفها ، كلُّ حزنٍ يحني ظهورَها
في جبينِكَ الظافرِ ... تَلقى خطابَها الوحيد !

ساحلُ دوفر
ماثيو آرنولد

البحرُ ساجٍ هذه الليلةَ.
المدُّ في أقصاهُ ... والقمرُ يرقدُ في جمالٍ
على صفحةِ المضيق.
هناك ، في الساحلِ الفرنسي
تترقرقُ الأضواءُ ، ثم تخبو
وهنا تنتصبُ شواطئُ إنكلترا الصخريةُ
جليلةً .. وامضةً.. ناتئةً في الخليجِ الرائقِ.
تعالَي الى الشُبّاكِ يا حبيبتي ، عليلٌ نسيمُ الليلِ!
أنصتي! لا شيءَ سوى صلصلةِ الحصى
مِن هناكَ .. مِن خيطِ الرذاذِ الطويلِ
حيث يلتقي البحرُ بالأرضِ التي أنارَها القمرُ،
إذ يُجرجِرُهُ الموجُ ، ثم ينثرُهُ حين يعودُ
فوقَ الشاطئِ المُتعال ،
زاحفاً ، ساكناً ، زاحفاً من جديدٍ
في وقعٍ راجفٍ رتيبٍ
يسوقُ للقلبِ .. هذا اللحنَ السرمديَّ الحزين.
**
في زمانٍ سحيقٍ
أنصَتَ "سوفكليسُ" إليه
عندَ الشواطئِ الإيجيّة
وذَكَّرَتْهُ شقاءَ البشرِ ، في اضطرابِ مدِّهِ وفي الجَزْرِ.
مثلُهُ نحنُ نكتشفُ في ذا الصوتِ
فكرةً ... نسمعُها عند ذا البحرِ الشماليِّ البعيدِ
**
بحرُ الإيمانِ كان أيضاً
طافحاً ذاتَ يومٍ ، يلفُّ شاطئَ الأرضِ
كَطَيّاتِ زنّارٍ وضّاء.
لكنني لا أسمعُ الآنَ
غيرَ هديرِهِ المتراجعِ ، الكئيبِ ، الطويل
تجرجرُهُ أنفاسُ العواصفِ الليليةِ
لترميهِ ، هناكَ عند التخومِ الفسيحةِ القَصيَّةِ
وحصباءِ الأرضِ العارية
**
آهٍ حبيبتي ، لِنَصْدُقِ القولَ بيننا!
فالعالَمُ الذي ينبسطُ أمامنا
مثلَ أرضٍ للأحلامِ : جديداً ، جميلاً ، متلونا
لا يملكُ في الحقِّ : لا الحُبَّ ، لا الفرحةَ ، لا الضياءَ
لا اليقينَ ، لا السلامَ ، لا شفاءً من الآلامِ.
وها نحنُ هنا، كأننا فوقَ سهلٍ يغرقُ في الظلامِ
تجرُفُهُ صرخاتُ ذعرٍ حائرةٌ
من كَرٍّ وفَرٍّ
إذ تلتحمُ في دجى الليل ... جيوشٌ من الجاهلين !



سوِنبيرن

Swinburne, Algernon Charles (1837-1909) شاعر وناقد إنكليزي ، اشتهر بأفكاره التحررية وبراعته الأسلوبية الفائقة. ولد في لندن ودرس في جامعة أكسفورد وتركها قبل إكمال دراسته. نشر في عام 1860 مسرحيتيه الشعريتين "الملكة الأم" (The Queen Mother) و "روزاموند " (Rosamond). ليرتبط بعدها بصداقة حميمة طويلة مع الشاعر والرسام الانكليزي المعروف دانتي روزيتي وجماعة ماقبل الروفائيليين . في عام 1865 انضم الى مشاهير الأدب الإنكليزي حين نشر مسرحيته الشعرية "أتالانتا في كلايدون " (Atalanta in Calydon) التي عدت محاولةً جريئة لمحاكاة روح وأسلوب التراجيديا الإغريقية أظهر فيها الشاعر موهبته الفذة في التحكم بموسيقى القصيدة وأجواءها اللحنية والتصويرية.
أما مجموعته الشعرية "قصائد وبالادات" (Poems and Ballads-1866) فقد تسببت في إحدى أشهر الفضائح الأدبية في العصر الفكتوري، إذ حاول سوِنبيرن فيها أن يحتفي بالحب الجسدي واللذة الحسية مجاريا في ذلك ما دأب عليه أسلافه الشعراء الإغريق وبعض معاصريه من الشعراء الفرنسيين، كما أظهرت بعض قصائد المجموعة في جلاء نزوع الشاعر الى خلق جو من الصدمة التي تصيب القارئ.
أما القصائد السياسية التي ضمتها مجموعته "أغنياتٌ قبل الشروق" (Songs before Sunrise-1871) فقد كتبها بوحيٍ من إعجابه الشديد بالثائر الوطني الإيطالي مازيني ،وهي تتراوح بين الإجلال الحماسي الرفيع للديمفراطية والاستحسان العاطفي الغامض للثورة. وتضم إحدى أعماله الكبرى الأخيرة، التي سماها أيضا "قصائد وبالادات-1878" قصيدة الرائعة "سلاماً ووداعا" (Ave Atque Vale) التي كتبها في رثاء الشاعر الفرنسي شارل بودلير. كما كتب سونبيرن العديد من المراثي المستحسنة ومنها مرثيته في الشاعر الإنكليزي روبرت براوننغ.
تدهورت صحة الشاعر بحلول عام 1879 نتيحة حياته اللاهية الباحثة عن الملذات وما عاناه من انحرافٍ نفسي وميل الى المازوشية فكان أن وجد الرعاية والمأوى في بيت صديقه الشاعر والناقد ولتر دانتون (Watts-Dunton) حيث استرد عافيته وعاش بقيه حياته في رعاية الأخير، فكتب الكثير من الأعمال الشعرية جنباً الى جنب مع اهتمامه المتزايد بالنقد الأدبي، إذ أنجز العديد من الدراسات البارعة عن المسرح الإليزابيثي في كتابيه "دراسة شكسبير" (Study of Shakespeare-1880) و "عصر شكسبير" (The Age of Shakespeare-1909) أما أعماله المميزة الأخرى فتتضمن سلسلة من المسرحيات التراجيدية منها ثلاثيته عن حياة ملكة اسكتلندا ماري ستيورات وتشمل "شاستلار" (Chastelard-1865)و"بوثويل" (Bothwell-1874) و "ماري ستيورات" (Mary Stuart-1881) ناهيك عن العديد من الدراسات المهمة عن وليم بليك والأخوات برونتي.
إن شهرة سونبيرن كشاعرٍ عظيم تعتمد على عدد من مطولاته الشهيرة وفصائده الغنائية العذبة –التي كتب معظمها في النصف الأول من حياته التي أظهر فيها خياله الواسع وقابلياته الفنية المثيرة للإعجاب وقدرته الفائقة على التحكم والتجديد والتجريب في استدعاء الصور الشعرية الغريبة واستخدام التقنيات الفنية من وزن وقافية وتقطيع بغية أحداث الأثر الشعري المطلوب في نفس القارئ.

حديقةُ بروسرباين
سوِنبيرن
هنا في عالمِ السكونِ.
هنا حيثُ تبدو كلُّ الرزايا
كثورةِ ريحٍ منسيَّةٍ أو موجٍ مُضنىً
في رؤى أحلامٍ مُريبةٍ ،
أراقبُ الحقلَ الأخضرَ، وهو يعلو للباذرينَ والزارعينَ
ومواسمَ الحصادِ والغلالِ ،
كعالمٍ بليدٍ من الأنهارِ.
**
قد تعِبتُ من الدموعِ والقهقهات ،
من رجالٍ يبكونَ ويضحكونَ.
قد تعبتُ مما سيأتي في الغدِ ،
من رجالٍ يزرعونَ ويحصدون.
قد تعبتُ من الأيّامِ والساعاتِ ، وبراعمِ الزهورِ العقيمةِ اللاهثات،
من الرغباتِ والأحلامِ والسلطاتِ ،
وكلِّ شيءٍ خَلا النوم.
**
هنا الموتُ جارُ الحياةِ.
وبعيداً عن الأعينِ والآذانِ
تكدحُ الأمواجُ السقيمةُ والرياحُ المخمورةُ
وتنقادُ السفائنُ الضعيفةُ والأرواحُ دونَ هُدى
ولا تحفلُ بمن يمضي معها .. الى حيثُ تُلقي مراسيها.
لكن ريحاً كهذهِ لا تهبُّ هنا
وزروعاً كهذه لا تعيشُ هنا.
**
لا سِباخٌ معشِباتٌ ، لا غياض
لا زهورٌ للخَلَنج ، لا دوالٍ للكروم،
لا شيءَ غير براعمِ الخشخاش الذاويات
وعناقيد من حصرمِ "بروسرباين"
ومغارسُ من أسلاتٍ شاحبات،
لا ... ولا وريقةٌ مزهرةٌ أو نديّة
غيرَ تلك التي تعصرُ منها
خمراً مُهلكةً ... تصبُّها للهالكين.
**
شاحبينَ ، دون أسماءٍ أو أعداد ،
يتكوَّرونَ وينامونَ الليالي .. في حقولِ القمحِ العقيمةِ
حتى يولدَ الضياءُ.
وكمثلِ أرواحٍ تلكأَتْ في النعيمِ أو في الجحيمِ
عاجزةٍ عن وجدانِ أزواجِها
يخرجُ الصبحُ من الظلامِ
كابياً من وطأةِ الغيمِ والضباب.
**
حتى الذي في قوّةِ سبعةٍ من الرجالِ
سينزلُ أيضاً بدارِ الميتينَ
ولا يهبُّ في الجنانِ بجناحينِ
أو يعوِلُ في الجحيمِ لأجلِ أوجاعِهِ.
وحتى الذي في جمالِ الورودِ
سيَغيمُ جمالُهُ ثم يحتجِبُ.
ومهما أراحَ الحُبُّ أو استراحَ
فإن نهايتَه لا تسرُّ.
**
شاحبةً ، دونَها الأروقةُ والأبوابُ ،
مكللةً بتاجٍ من وريقاتِ السكونِ ،
تنتصبُ الأنثى التي تجمعُ كلَّ ما يموتُ
بيدٍ ثلجيةٍ لا تموتُ.
شفاهُها الفاتراتُ ، عندَ من يلقاها من الرجالِ
الآتينَ من كلِّ أرضٍ وزمانٍ ،
أعذبُ من شِفاهِ الحُبِّ الذي
يخافُ أن يبدأَها السلامَ.
**
تنتظرُ هذا ... وتنتظرُ ذاك
تنتظرُ كلَّ مَن يولَدُ.
هي تنسى أمَّها الأرضَ ،
وحياةَ القمحِ والثمارِ.
فيتبعُها الربيعُ .. والبذورُ و طيورُ "السنونو"
الى حيث تُزدرى الزهورُ
ويرتِّلُ الصيفُ أغنياتِهِ.. مكتومةً جوفاءَ.
**
هناكَ تمضي قصصُ العشقِ الذاويات ،
وعلائقُ الحبِّ الشائخاتُ بأجنحتِها المتعَبةِ ،
وكلُّ نكبةٍ وشؤمٍ:
الأحلامُ الهالكةُ للأيّامِ المنسيَّةِ
البراعمُ العمياءُ التي ضربَتها الثلوجُ
أوراقُ البراري التي ساقتها الرياحُ
والنُثارُ القرمزيُّ للينابيعِ الخرِبةِ.
**
لسنا واثقينَ مِن الأسى
والفرحُ لم يكن يوماً بالأكيد.
يومُنا هذا سيموتُ غداً ،
وشِراكُ الإنسانِ لا تخدعُ الزمانَ .
والحبُّ ، إذ يضعفُ ويضطربُ،
يتحسَّرُ بشفاهٍ نصفِ نادماتٍ
ويبكي بأعينٍ كثيرةِ النسيانِ
خيبةَ كلِّ حبٍّ في الثبات.
**
قد بَرِئنا مِن الحزنِ والأملِ
ومن فرطِ افتتانٍ بالحياة .
فحَمَدنا بآياتِ شكرٍ موجَزاتٍ
أيَّتَما آلهةٍ كانت :
لأنَّ كلَّ حياةٍ الى فناء ،
لأنَّ الموتى لا يقومونَ ،
لأنَّ كلَّ نهرٍ مُتعَبٍ سَئِمٍ
لا بُدَّ أن يرتمي… آمِنا في البحرِ.
**
ولن توقِظَنا الشمسُ ولا النجومُ
ولا تحوّلُ الضياءِ.
لن يهزُّنا هديرُ الموجِ ،
ولا مشهدٌ أو صوتٌ.
لا أوراقُ ربيعٍ أو شتاءٍ
ولا النهارُ أو تقلّبُ الأيامِ.
لا شيءَ غيرَ نومٍ أبديٍّ
في ليلٍ خالدٍ سرمدي.

أغنيةُ الصغيرِ
سوِنبيرن
ما قيمةُ الذهبِ ؟ أَلا فلتقلْ لي.
أفي جَنيِهِ أم دفعِهِ ؟
أفي صياغتِهِ أم اللهوِ به ؟
أفي اكتنازِهِ أم نثرهِ هباءً ؟
أفي رجائِهِ أم في خشيتهِ ؟
وما قيمةُ الحبِّ ، بِرَبِّكَ قل لي ؟
أيساوي قطرةً مِن دموع ؟
**
بِلَونِها الذهبيِّ تَرقدُ على الثرى
الأوراقُ الميّتةُ الملتفّةُ
للغاباتِ القديمةِ الرطبةِ
الباردةِ المصفرّةِ الأوراقِ.
الغاباتِ التي خَلَتْ من الحمائمِ.
الذهبُ لا يساوي غيرَ الذهبِ،
والحبُّ يساوي الحبَّ !

القربان
سونبيرن
لا تسأليني المزيدَ، يا حلوتي، لا تسأليني المزيد.
قد منحتكِ كلَّ ما أستطيع.
لو كان عندي المزيدُ
لبسطتُّهُ ، يا حَبَّةَ القلبِ ، تحتَ قدميكِ:
حُبّاً يعينُكِ في الحياةِ ،
وغناءً يسمو بكِ في الأجواء.
**
يهونُ عندي أنْ أهَبَكِ كلَّ شيءٍ
لو مرّةً أحسستُ بكِ من جديد ،
لو تلمستُكِ أو تذوَّقتُكِ ، أيتها الحلوة ،
لو تأملتُكِ أو تنفستُكِ وعِشتُ
مكتسَحاً بأجنحتكِ المحلِّقاتِ
متنعماً بفرصةِ أن تدوسَني قدماكِ
**
مَن يملكُ المزيدَ ، فَليُعطِهِ
أما أنا الذي أملكُ الحبَّ ... ولا مزيد
فلا أعطيكِ سوى عشقك يا حلوتي.
من يملك جناحين ، فليحلِّق بهما
أما أنا فلي قلبي الذي تحت قدميكِ
قلبي الذي يحبّك ليحيا !


روبرت ساوذي
Southey, Robert (1774-1843): شاعر إنكليزي، يعد واحداً من أبرز الشعراء الرومانسيين وعضوا في حلقة "شعراء البحيرة" وهم كل من وردزورث وكولَرِج وساوذي الذين أطلق عليهم النقاد المعادون هذا الاسم لأنهم اختاروا ،في أوائل القرن التاسع عشر، العيش في منطقة البحيرات الجبلية شمالي إنكلترا حيث اعتزلوا وكتبوا أشعارهم الرومانسية.
ولد في بريستول وتخرج من جامعة أكسفورد. كان صديقاً حميماً لكولَرِج حيث اشتركا في رسم خطط -لم تتحقق أبداً- لبناء مجتمع يوتيبي في إحدى المناطق الريفية في الولايات المتحدة. غير أن هذا الشاعر الرومانسي انتهى به المطاف الى الانضمام لحزب المحافظين وكتابة الكثير من الأعمال الأدبية دفاعا عن الطبقة الحاكمة ومنها قصيدته السردية الطويلة "رؤيا يوم الحساب" التي كتبها على شرف الملك "جورج الثالث" (1738-1820) ونشرها عام 1821 مصدِّرا إياها بمقدمة هاجم فيها بشدة أعمال اللورد بايرون الذي رد في العام التالي بمحاكاة ساخرة لرؤيا يوم الحساب. عُين شاعراً للبلاط عام 1813 وكتب العديد من الكتب في التاريخ والأدب والأخلاق إضافةً الى الكثير من الأعمال الشعرية من أشهرها هذه القصيدة -المعادية للنزعة العسكرية- التي كتبها عام 1798.
في أثر بلنهايم
روبرت ساوذي
"كاسبر" العجوز فرغَ من عمله.
وجلسَ في الشمسِ ، قُدّامَ بابِ الكوخ
في ذلك العصرِ الصيفي.
وأمامه، على العشب، كانت "ولهلماين"،
حفيدتُه الصغيرةُ .. تلعبُ على العشب
**
رأتْ أخاها "بيتركِن"
يدحرجُ شيئاً ... كبيراً، مستديراً
جاءَ به من عندَ الغدير
-حيثُ كان يلعب-
جاءَ ليسألَ عمّا وجد ،
عن هذا الشيءِ الكبير ، المستدير ، الأملس.
**
كاسبر العجوزُ تناوله من الصبي
الواقفِ منتظراً للجواب.
وهزَّ العجوزُ رأسَه ، ندّت عنه حسرةٌ ، ثم قال:
"هي جمجمةُ تعيسٌ ما..
ماتَ في المعركةِ العظيمةِ الظافرة"
**
"يحدث أن أعثر على أشباهها في الحقل
حيث يوجدُ منها الكثير،
يحدث كثيراً أن محراثي
يقلبها ، ويُظهِرُها للعيان.
آلافٌ من الرجال... " قالَ الجدُّ العجوز
"آلافٌ ذُبِحوا .. في ذلك النصرِ العظيم"
**
"أخبِرْنا الآن عن سببِ ذاك"
صاحَ بيتركن الصغير،
وتطلعتْ الصغيرة
بعيونٍ تنتظرُ الأعاجيب
"أخبرِنا الآنَ عن سببِ الحرب ،
عمّا تقاتلوا من أجله "
**
"إنهم الإنكليز" صاح كاسبر العجوز
"هم هَزموا الفرنسيين.
أما علامَ تعاركوا
فلا أعرف الجواب.
لكنهم ، كلهم ، يقولون :
قد كان نصراً مشهوداً "
**
"كان أبي يومها
يعيشُ في "بلنهايم"
هناكَ ، عند الجدول الصغير.
بالنار سووا بيتَه بالأرضِ
فاضطرَ للفرارِ .. مع الزوجة والصغارِ
جاهلاً أين يمضي ، وأين يلقى الأمانَ"
**
"بالسيفِ والنارِ ... في ريفِنا والجِوارِ
طولاً وعرضاً... حلَّ الخرابُ
ومات يومَها
كثرٌ من صغارٍ ، ونساءٍ حبلياتٍ.
لكن كما تعلمانِ : أمورٌ مثلُ هذي
لا بدَّ واقعاتٌ ... في كلِّ نصرٍ مشهود"
**
" بشعاً كان المنظرُ –هكذا يقال-
بعد أن فاز قومُنا في النزال :
آلافٌ من الجثث
تُرِكت ها هنا .. كي تفسدَ تحت الشمس.
لكن كما تعلمان : أمورٌ مثل هذي
لا بدَّ واقعات ... بعد كلِّ نصرٍ مشهود"
**
"المجدُ والثناءُ لِدوقِنا الظافرِ "مارلبورو"
وأميرِنا الطيّبِ "يوجين! "
"وكيف هذا ؟ إنه لأمرٌ شنيعٌ كريه !"
قالت ولهلماين الصغيرةُ.
"كلا ، كلا يا صغيرتي"
أجاب العجوزُ
"قد كان نصراً مشهوداً"
**
"كلهم أثنوا على الدوقِ
الذي كسبَ الواقعةَ العظيمة"
"وأيُّ خيرٍ جاءَ منها؟ "
سأل بيتركن الصغير.
" أوه ، أنا لا أعرف الجوابَ
لكنه ... كان نصراً مشهوداً "



إدوَرد فِتزجِرالد

FitzGerald, Edward (1809-1883) شاعر ومترجم إنكليزي، أكتسب مكانةً مرموقة في تاريخ الأدب الإنكليزي حين قدم رباعيات الشاعر الفارسي عمر الخيام في ترجمةٍ حرّةٍ رائعةٍ عدها بعض النقاد أفضل من القصائد الأصلية.
لم تحظ الطبعة الأولى (1859) من تلك الترجمة، الموزونة المقفاة، الخالية من اسم المترجم، بنجاحٍ يذكر. لكن الشاعر دانتي روزيتي اكتشف أهميتها وتحمس لها وتبعه في ذلك سوِنبيرن وتنيسون فكان أن صدرت طبعتها الثانية عام 1868 فحققت نجاحاً قلما لاقته ترجمة شعرية في التاريخ، حتى تركت آثارها على مجمل الثقافة الإنكليزية وعدَّت من كلاسيكيات الشعر الإنكليزي.
درس في جامعة كامبرج لكنه اعتزل في الريف بعد تخرجه منها وآثر أن يعيش بعيداً عن الأضواء طوال حياته، رغم أنه عقد صداقة حميمة مع الكثير من نوابغ عصره مثل تنيسون والأديب والمؤرخ الشهير توماس كارليل.
كان فتزجرالد كاتباً متأنيا خجولاً ، محباً للانعزال، عاشقاً للورود والموسيقى والبحر والأدب، نشر العديد من أعماله النثرية خالية من اسم المؤلف، كما ترجم ونشر العديد من الإعمال الأدبية عن اللغات الأسبانية والإغريقية والفارسية.
تتميز أشعاره بصفائها وأناقة ألفاظها وعمق أفكارها، كما أن مراسلاته مع أصدقائه وأدباء عصره جعلته من الإعلام المرموقين في هذا الجنس الأدبي.

مروجُ الربيع
إدورَد فِتزجِرالد

أيَّ منظرٍ بليدٍ !
أنْ تُبصرَ العامَ إذْ يموتُ ،
حينَ تطلقُ ريحُ الشتاءِ
حسراتِ الغابةِ الصفراء..
حسراتٌ، آهٍ حسرات !
**
أعتزلُ عندها
في غرفةٍ قديمةٍ
جوارَ نارٍ ساطعةٍ:
آهٍ ، زِدْ في سطوعِ النار !
**
هناك أجلسُ
أقرأ أشياءَ قديمةً
عن فرسانٍ طيبينَ.. وحِسانٍ وحيداتٍ.
والريحُ تغني
آهٍ ، بحزنٍ تغنّي !
**
لا أنظرُ للخارجِ
لا أبالي بنفخِ الأعاصيرِ
فكل ما قد أراهُ
أوراقٌ تهوي في ثباتٍ
تهوي ، وتهوي !
**
لكنني عند المُصطَلى
أجلسُ مثل صرصارٍ.
أقرأُ عن الصيفِ ، وعن فرسانِ الحكاياتِ.
فرسانٌ غرانيق
بشهامةٍ وإباء !
**
أو أحدِّثُ صديقاً قديماً
نثرثرُ عن صِبانا
وكيفَ كان هنيّاً
طائشاً دون ريب
ولكن هنيّاً ، هنيّاً !
**
أو ننشد المرح
فنغني لحناً قديماً
أيقظَ الغاباتِ بالرنين
في زمانِ الصيف
زمان الصيف اللذيذ !
**
ثم نشرع بالتدخين
أليفينِ صامتين
لا شيء يمرّ بيننا
خلا الإبريق البنّي
بين حينٍ وحين !
**
وبين حينٍ وحين
تغرورقُ العيون
إذ تبصر الخِلَّين
هكذا مرِحَينْ
هكذا مرِحَين !
**
وقبل أن ننام
نركعُ معاً
وركبتانا في الرماد
ونصلّي معاً!
**
هكذا تمضي حياتي
حتى ... وفي غمرة العُبوس:
رباه !
إنها الشمسُ الجريئة
معي في حجرتي
تشرقُ ... آهٍ تشرقُ من جديد !
**
أقفزُ كالمجنون
أحطِمُ الغليونَ القديم
وأفرُّ صوبَ المروج
صوبَ المروجِ من جديد !



المترجم في سطور
الدكتور ماجد الحيدر

قاص وشاعر ومترجم
ولد عام 1960 – بغداد
خريج كلية طب الأسنان/ بغداد 1984
عضو الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق
سكرتير منتدى شهربان الثقافي

من أعماله المنشورة :
النهار الأخير ( شعر ) – بغداد 2000
في ظل ليمونة (مجموعة قصصية مشتركة) - بغداد 2001
ماذا يأكل الأغنياء – قصص – بغداد 2002
مزامير راكوم الدهماء وقصائد أخرى (شعر) – بغداد 2002
نشيد الحرية وقصائد أخرى لشللي-دار الشؤون الثقافية-بغداد2004
الإيدز بين المناعة والفيروس(الموسوعة الثقافية-العدد 8)/دار الشؤون الثقافية/بغداد 2004
نشر العشرات من القصص القصيرة والقصائد والترجمات والمقالات في الصحف والمجلات والمواقع العراقية والعربية.

في انتظار الطبع
بين الأدب القصصي الشعبي وأدب الأطفال ( دراســة )
سانت مور وقصص أخرى من د.هـ لورنس (ترجمة)
ناجون بالمصادفة (مجموعة شعرية)
قصص مختارة من عيون الأدب العالمي (ترجمة)

عنوان البريد الالكتروني majidalhydar@yahoo.com
majidalhydar@hotmail.com















رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد
512 لسنة 2007







طبع في مطابع دار الشؤون الثقافية العامة 2008

بحث هذه المدونة الإلكترونية