عن الشعراء.. والوطن الحزين

بين الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب.. والشاعر الانكليزي الكبير سعدي يوسف


هل كان من قبيل المصادفة أن تأتي عودة شاعرنا الكبير مظفر النواب الى أرض وطنه (وما استقبل به من فرح غامر وحفاوة لا نظير لها من زملائه وأصدقائه وتلاميذه وقرائه).. أن تأتي بعد أيام قلائل من تصريحات (شاعرنا) الكبير الآخر سعدي يوسف التي يتغنى فيها بجواز سفره البريطاني ويتبرأ فيها من وطن سابق اسمه العراق؟

عذراً.. فأنا لا أحمل موقفا شخصيا مسبقا ضد الشاعر البريطاني الكبير، بل إنني لأزعم أن كلا الرجلين قد ساهما بدرجة متقاربة في تفتح وعيي وإحساسي بالشعر وجماله وقيمه الاخلاقية والانسانية منذ أكثر من أربعين عاماً كما حصل للكثيرين من أبناء جيلي، رغم أنني، وهذا ما لا أنكره، كنت أكثر تأثراً بسعدي وأجوائه الشعرية وأسلوبه الذي كنت أراه أقرب الى روح الشعر التي أفهمها من الأسلوب المباشر الذي كان يتحول أحياناً الى ضرب من الخطاب السياسي التعبوي الذي اقتنع به النواب واتخذه سبيلاًً.. خصوصاً مع تحوله الى الشعر الفصيح وتوظيفه في خدمة القضية الثورية.

لكن هذا التزامن/التباين في موقف الشاعرين لا بد أن يثير أكثر من سؤال حول مفاهيم من قبيل الوطن، الالتزام، الموقف الأخلاقي للفنان، وظيفة الفن، احترام الفنان لتاريخه وجمهوره.. الخ.

النواب اشتكى بالطبع من وطنه (ولا أعني هنا الكيان السياسي الدموي أو بقعة الأرض المجردة من أهلها/أهله) وبكى مما لاقى منه وفي سبيله، لكنه لم يتنكر له يوماً، رغم أنه تعرض الى مقدار من الأذى والانتهاك والسجن والتعذيب الروحي والجسدي على يد حكام هذا الوطن يفوق عمليا ما تعرض له سعدي بأضعاف مضاعفة. بل إن تجربة الغربة الطويلة المريرة عمقت وزادت من حكمته في التعامل مع محنة متشابكة معقدة ومتعددة الأبعاد مثل سقوط النظام الفاشي عن طريق تدخل عسكري أجنبي/احتلال خارجي.. احتلال كان سعدي، كما يعرف الجميع، من أول الداعين إليه والمنادين به في رسالته الشهيرة الى توني بلير التي اعتذرعنها لاحقاً عندما اكتشف فجأة حقيقة بسيطة مفادها أن بريطانيا قوة عظمى تبحث عن مصالحها، ليتحول الى أحد أنصار المقاومة (العزدورية) الشريفة (ولا أدري ماذا سيقول وقد بدأت تلك المقاومة بالتفاوض على القاء السلاح نظير الحصول على حصتها من الكعكة العراقية الشهية).. وأخيرا صار يأخذ على الوضع الراهن في العراق أنه خليط إسلامي-أمريكي يفتقر الى اللمسة البريطانية التي يحبها!!

هذا التخبط والتقلب والنزق الذي يصل (ويصعب عليَّ القول) حد التهريج.. أمرٌ مسيء لتاريخ هذا الشاعر (الكبير) ومنجزه الأدبي مثلما هو مؤلمٌ للقراء والمثقفين العراقيين الذين أحبوه وأحبوا شعره (هل يمكن مثلاً نسيان ديوانه الرائع تحت جدارية فائق حسن؟).. هؤلاء ذهبوا في تفسير مواقفه مذاهب شتى: فعزاها البعض الى الصعوبة الحقيقية في فهم وتحليل المشهد العراقي المعقد نفسه (الأمر الذي تاهت فيه الكثير من العقول) وأرجعها البعض الى جوانب في شخصية الشاعر وسلوكه اليومي (يدعي البعض من معارفه إنه يقول في نهاره ما لا يقول في ليله) أو الى نرجسية طاغية تجاوزت الحد المتعارف عليه من نرجسية الفنان، أو الى يقظة مفاجئة لمشاعر معينة مكبوتة، أو الى إحساسه بأن الوضع (الجديد) أو رفاقه (القدماء) قد غبنوه وغمطوه حقه المشروع في تصدر المشهد الثقافي داخل البلاد، وربما عزاها آخرون الى ضعفٍ وتهرب من المسؤولية يتهمونه بها في المواقف الصعبة أو الى إصابته بعدوى مرض اليسارية الطفولي المتوطن في أوربا الغربية، أو الى تعجله وتطرفه في تصريحاته بحق هذا أو ذاك مما يوقعه أحياناً في فخ الشتائم الشخصية المبتذلة..

لكنني أزعم أن السبب الأكثر قرباً الى الواقع هو أن هذا الرجل.. هذا الشاعر (الكبير) الذي يفتخر (ومعه الحق) بأنه انتج "ما لا يقل عن ثلاثة آلاف صفحة مطبوعة باعمال شعرية".. هذا (المبدع) الذي يرى أن الشاعر بمفهومه "هو الذي يضع الحرية والجمال وجعل الحياة أفضل أهدافا له" ويشدد على القول بأن "على الفنان الحقيقي الدفاع عن كل ما هو جميل في الحياة والطبيعة، وان يعلِّم الجمال..." هذا البحّار العجوز الذي دار على موانئ الأرض ومحيطاتها.. قد أضاع في خاتمة المطاف بوصلته.. وبدلاً من أن يرسي سفينته (كما فعل النواب) في مينائه الذي تعلم فيه أول الحروف والأغنيات والقبلات وفنون الإبحار، بدلاً من أن يعود مثل محاربٍ قديمٍ مجيد كلله الغار ليرتمي فوق ترابها أو في أحضان رفاقه وأصدقائه ومحبيه ويشاركهم حتى الرمق الأخير في معركتهم من أجل الحرية والجمال والحياة الأفضل.. بدلاً من هذا كله.. ارتمى في ميناءٍ غريبٍ يعج بالمدمنين واللصوص والقراصنة وبائعات الهوى العجائز المترهلات ليغني لهم أغنيات لا يفهمونها نظير الخبز والمأوى.. ويروح يرسل بين الفينة والأخرى شتائمه.. أشواقه.. نصائحه.. دموعه.. قبضاته المتوعدة.. الى وطنه البعيد الناكر للجميل!

كان على سعدي (بعد هذا العمر الطويل) أن يتعلم من مظفر القليل من تواضعه الجم وتأدبه الخاشع في حضرة شعبه.. كان عليه أن يعلم أن ما يصنع مجد الشاعر هو هذا الشعب الفقير المسحوق المكبل بالجوع والخوف والمفخخات وعربات الهامر والتجهيل المتعمد واللصوص/الساسة والساسة/اللصوص.. وأنه (أي هذا الشعب) يبني ما يمنحه من مجد وتقدير لا على المواصفات الفنية فحسب ولا على عدد الصفحات التي طبعها، ولا على الجوائز التي تمنحها له هذه الجهة أو تلك.. إنه يمنح الجائزة الكبرى لمن يشعر بأنه وهبه حياته وفنه وشبابه وبذر في أرضه بذور الحرية والخير والجمال.

حسناً.. ان سعدي ليعتقد بأن حكام بلاده جوق من العملاء.. وهو يجزم بأن بلاده التي لم يعرفها إلا (علمانية ليبرالية حرة مستقلة) على حد قوله، قد تحولت الى مستعمرة أمريكية يحكمها نظام إسلامي.. حسناً.. هذا من حقه، وقد يختلف معه البعض او يتفق... لكن مهلاً.. إن هذا (المناضل) الذي يحلو له أن يلقب نفسه بالشيوعي الأخير يعرض علينا حكمة في غاية الغرابة.. إنه يقول لنا:

عندما تتعرض بلادك للاحتلال أو القهر أو تقع في يد حكومةٍ فاسدة أو متخلفة فإن عليك أن تنفض يدك منها.. أن تغادرها على الفور.. الى أين.. الى البلد الذي احتل بلادك وحكّم الفاسدين المتخلفين في مصائرها!

إنه ليقلب المثل المعيب الذي يحكم سلوك متملقي السادة القدماء والجدد: اللي ياخذ أمي يصير عمي.. لكن ليقرأه بشكل مبتكر فريد: إذا اغتصب أحدهم أمي.. فسأبصق في.. وجهها.. وأركلها بين ثدييها.. وأذهب للعيش في كنف المغتصِب!

قبل ما يقارب المئتي عام كتب الفتى شللي هذه الأبيات وهو يندب سقوط مثله الأعلى بين شعراء عصره.. وردزورث الذي رمى ماضيه المجيد كشاعر ثوري يغني للحرية والنور وارتضى أن يكون شاعر البلاط المحافظ العجوز:

لي خسارة واحدةٌ ، تدركها أنت أيضاً

رغم أنني أحزن لها دونك.

قد كنتَ نجمةً وحيدةً يشرق ضياؤها

فوق مركبٍ متداع

غارقٍ في هدير ليل الشتاء

قد كنتَ ملاذاً من شامخات الصخور

فوق حشود متقاتلة عمياء

في فقره المجيد حاك صوتك

أغنيات كرَّستَها للحق والحرية ..

وإذ هجرتَ هذا كله .. فقد تركتني للأحزان

وإذ صرتَ هكذا .. فالأولى ألاّ تكون !

وفي الشتاء الحالك المخيف من عام 2007 كتبتُ في قصيدتي "آهٍ ما أبعد بغداد" :

سلاماً الى حماماتِ فائق حسن / لا تُخبروها أنَّ سعدي يوسف قد تنكَّرَ لها.

سلاماً الى الناحلين البردانين تحتها

الضاحكينَ رغمَ كل شيء

المتحلقين حول مواقد الصفيح والقمامة

بانتظارِ المقاولِ

أو المفخَّخّةِ التالية..

هل كانت تلك نبوءة مبكرة بما سيعلنه سعدي في براغ بعد أربعة أعوام وهو يحتضن جائزته الأخيرة: لم أعد أشعر أني عراقي بعد الآن.. إنني اعتز بالجنسية البريطانية التي أحملها.. لم يعد من شيء يربطني بالعراق فيما عدا ذكريات الطفولة.. لا أستطيع تخيل نفسي جزءا من هذا البلد بعد الآن.. لدي جواز سفر بريطاني الآن ولم اعد اشعر بأنني متعلق بالعراق...

إيهٍ يا أخوتي في بغداد.. عندما تمرون بساحة الطيران وتبصرون الجدارية القديمة التي لا تشيخ.. قفوا بضع ثوان واهمسوا لها.. لنسائها وعمالها وجنودها وفلاحيها وطلبتها.. للحمامات البيض التي ما زالت آثار الدهان الأسود من عهد 8 شباط ماثلة عليها.. ولعمال المساطر الفقراء الجالسين تحتها.. عذراً.. لقد تنكر سعدي يوسف لكم..

ولكن لا تهنوا ولا تحزنوا... لقد عاد مظفر النواب!

18-5-2011


بحث هذه المدونة الإلكترونية