قصائد مختارة للشاعرة الامريكية آن سكستون




Sexton, Anne
(1924-1974)

ولدت آن سكستون في نيوتن-ماساتشوستس عام 1928. أكملت دراستها الأولية والتحقت بالدراسة الجامعية لكنها تركتها بعد عام واحد لتتزوج وهي في التاسعة عشرة. بعد إنجابها طفلتها الأولى أصيبت عام 1954بمرض الكآبة ما بعد الولادية وانهارت صحتها العقلية مما استدعى إدخالها المستشفى ثم ازداد تفاقم المرض يعد ولادتها لابنتها الثانية عام 1955 فأدخلت المستشفى ثانية وفصلت عن طفلتيها اللتين أرسلتا لتعيشا مع والدي زوجها فأقدمت في عيد ميلادها في العام نفسه على أولى محاولات انتحارها. في عام 1957 انضمت –بتشجيع من طبيبها الذي نصحها بمعاودة اهتمامها السابق بالشعر- الى ورشة شعرية في مركز لتعليم الكبار في بوسطن وسرعان ما برزت موهبتها وسطع نجمها وظهرت قصائدها في كبريات الصحف الأمريكية. كانت كتابة الشعر –كما اعترفت لأصدقائها- طريقتها الوحيدة لتحمل الحياة وتأجيل موتها حتى عام 1974 حين خسرت المعركة ضد المرض العقلي ووضعت حداً لحياتها رغم ما حازته من شهرةٍ ونجاح وتكريم شمل عضويتها في الجمعية الأمريكية للفنون والآداب والجمعية الملكية للآداب وحصولها على جائزة "البولتزر" للكتاب. تعد سكستن واحدة من أبرز الشعراء الاعترافيين" "confessional poets جنباً الى جنب مع سلفيا بلاث وروبرت لويل الذين تميز شعرهم بالجرأة والصراحة الشديدة والتطرق الى مواضيع شديدة الخصوصية والحساسية الأمر الذي لقي ترحيبا وتقديرا من البعض واستهجاناً من البعض الآخر. أصدرت العديد من المجموعات الشعرية والنثرية وكتب الأطفال والألبومات الصوتية ونالت شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة تافت رغم أنها لم تكمل تعليمها الجامعي.


"1"
القُبلة

فمي يتورَّدُ .. مثلَ جرحٍ.
عامٌ من القهرِ تحمّلتُهُ،
من ليالٍ مضجراتٍ ليس فيها
غيرَ أذرعٍ تآكلَتْ مرافقُها
وعلبٍ ناعماتٍ
من مناديلَ تصيحُ بي :
أيّتُها البكّاءةُ ، أيتها البكّاءةُ الحمقاء!
**
بالأمسِ.. كانَ جسدي عقيماً
لكنه الساعةَ .. ينشقُّ عندَ زواياهِ القائماتِ
ويمزِّقُ رداءَ "مريمَ" البالي .. عقدةً بعد عقدة.
هاكَ فانظرْ : إنهُ مشحونٌ بالبُروق:
زِنككك! أزيزٌ ... ثم انبعاث !
**
ولقد كانَ زورقاً ، يابساً ، مهجوراً
لا ملحَ في قعرِهِ.
يحنُّ للطلاءِ.
لم يكنْ أكثرَ من كومةِ أخشابٍ.
لكنكَ أخرجتَهُ للماءِ ، ورفَعتَ أشرعتَهُ
لقد اصطفيتَهِ للبحرِ!
**
عروقي تتوهّجُ .. إنّي لأَسمعُها
كَجوقٍ من الآلاتِ.
وهنا .. حيثُ كانتِ الطبولُ خُرساً
تلعبُ الأوتارُ في جنونٍ.
أنتَ فعلتَ هذا.
أيها العبقريُّ في العملِ
أيها الحبيبُ ..
وارتمى المؤلِّفُ في الحريق!
___________

"2"
نصائح الى شخصٍ عزيز

احترس من السلطة
فقد تدفنك حياً.تحت انهياراتها الثلجية.
ثلج .. ثلج .. ثلج قد يخنق جبلك.
**
احترس من الضغينة
يمكنها أن تفتحُ أشداقها فتطرحُ نفسك
لتلتهمُ ساقك .. كمجذوم منبوذ !
**
احترس من الأصدقاء
لأنك حينَ تخونهم ، كما ستفعلُ
سيدفنون رؤوسهم في المراحيض
ويسحبون الشافطة ويغيبون.
**
احترس من الذكاء
لأنه يعرف كثيراً حتى لا يعود يعرف شيئاً
ويتركك معلقاً من رأسك
يتشدق بالمعرفة وقلبك يسقط من فمك.
**
احترس من الألعاب ، من دور الممثل ،
من الخُطَب المُعَدَّة ، المعلومة ، المُلقاة،
لأنها ستخذلك
وستقف كأنك طفلٍ عارٍ
تتبولُ في مهدك !
**
احترس من الحبِّ
(ما لم يكن حقيقيا .. وكل عضوٍ فيك، حتى أصابع القدمين
يهتفُ: نعم )
لسوف يلفُّكَ مثل مومياءٍ
ولن يُسمعَ صراخُك
لن تكف عن الجري.
**
الحبُّ ؟ إن كان رجلا ، إن كان امرأة
لا بد أن يكون موجةً تريد التزحلق عليها
وأن تُسلمها جسدك ، أن تسلمها ضحكتك
وإن تمنحَ ، ساعةَ يأخذك الرمل المفروش بالحصى ،
أن تمنح الأرض دموعكَ.
أن تحب غيرك شيء كالصلاة لا يمكن التخطيط له.
أنت تسقط فحسب .. تسقط في أحضانه
لأن إيمانك يُبطِلُ إنكارك.
**
أيها الشخص العزيز
لو كنتُ مكانك لما أعرتُ نصائحي اهتماماً.
ولمزجتُ في عملٍ مشترك
بعضاً من كلماتي وبعضاً من كلماتك.
أنا لا أؤمن بحرفٍ مما قلت
إلا بعضها .. إلا كوني أعُدُّكَ مثل شجرةٍ يافعة
بأغصان مُلصقَة
عالمةً أنك ستمد الجذور
وتطلعَ أوراقاً خضرا حقيقية.
**
أفسح الطريق أفسِح الطريق أيها الشخص العزيز.
كاتبةُ الطابعةِ هذه
تحبك وأنت في طريقك
الى تلك الأوراق المرتجاة
لكنها تريد أن تكسر كؤوس الكريستال
في الاحتفال من أجلك ،
حينَ ترمي القشرة المعتمة
وتحلق في الأرجاء
كبالونٍ يطيرُ دونَ هدي
_____

"3"
لعنة بوجهِ المراثي

لماذا ، يا حبيبي ، نكثرُ الجدال ؟
قد تعبك من حديثك الورِع.
كذاك تعبتُ .. من كلِّ الموتى.
إنهم يرفضون الإصغاء.
فاتركهم لوحدهم
واسحب قدميك من المقبرة
إنهم مشغولون بموتهم؟

كان الجميع منهمكين بإلقاء اللوم:
على الخمس الأخير من كأس الشراب
على الأظافر القذرة وريش الدجاج
اللاصق بطين سلالم الباب الخلفي
والديدان التي تعيش خلف آذان القطط
والواعظ النحيل الشفتين
الذي رفض الزيارة غير مرّةٍ واحدة
في يومٍ غشيتهُ البراغيث
حين جاء يجر قدميه خلال الفِناء
باحثاً عن كبشِ فداءٍ.
واختبأتُ في المطبخ تحت كيس السجادة.
**
أرفضُ أن أتذكرَ الموتى
والموتى أنفسهم ملّوا الأمر كله.
لكنك أنتَ .. أنت تمضي قُدما
تمضي راجعاً الى الأسفل
الى المقبرة
وترقد حيث تظن وجوهم
وتُكَلِّمُ أحلامك الرديئة القديمة.
_________

"4"
45 شارع الرحمة

في حلمي
حلمي الحقيقي الذي ينفذ الى النخاع
من كل عظامي
أسير جيئةً وذهاباً في "بيكون هِل"
باحثة عن لوحة شارعٍ
عن شارع الرحمة بالتحديد ..
لا .. ليسَ موجوداً.
**
أجرب "باك بَيْ"
لا يوجد
لا يوجد.
ورغم هذا فأنا أعرف الرقم:
45 شارع الرحمة.
أعرف النوافذ ذات الزجاج المصبوغ
في ردهة البيت
وطبقات سلالمه الثلاث
وأرضياته الخشبية الملونة.
أعرف الأثاث
والأمَّ .. والجدة .. وأمَّ الجدة .. والخدم.
أعرف خزانة الخزف الانكليزي
ووعاء الثلج الزورقي ، فضة خالصة
حيث يجلس الزبد في مربعات متقنة
مثل أسنان عملاق غريب
فوق منضدة الخشب الماغوني الأحمر.
أعرفه جيداً
غير موجود.
**
أين ذهبتَ
يا 54 شارع الرحمة ؟
بأمَّ الجدة التي تركع
في الخامسة صباحاً.
في مشد خصرها المصنوع من عظم الحوت
وتتضرع .. برقةٍ لكن في ضراوة
لحوض الغسيل.
وتغفو في الظهيرة
في كرسيها الهزاز
والجدُّ يقيلُ في حجرة المؤونة
والجدة تضغط الجرس لخادمة الطابق الاسفل
و "نانا" وهي تهز أمّي
وزهرة كبيرة تغطي
خصلة الشعر فوق الجبين
حين تكون سليمةً أو حينَ تكونُ ..
وحيث ولِدَت وحيث ولدتني
أُماً ثالثةً في تسلسل الأجيال.
ببذور الدخيل الغريب التي تنمو
لتصير وردةً اسمها البشاعة.
**
أتمشى في رداءٍ أصفر
ومحفظة جيب بيضاء محشوةٍ بالسجائر
وما يكفي من الحبوب ، ومحفظة نقودي ومفاتيحي
وأنا في الثامنة والعشرين
أم هي الخامسة والأربعين ؟
أسيرُ .. وأسير.
وأشعل أعواد الثقاب عند علامات الشوارع
فهي ظلماء
ظلماء كالموتى اليابسين كالجلد
وأنا قد أضعت "فوردي" الخضراء
وبيتي في الضواحي
وطفليَّ الصغيرين
المدللين كغبار طلعٍ في نحلةٍ بداخلي
وبزوجٍ مسح عينيه
كي لا يرى باطني خارجاً
وأنا أسيرُ وأنظر
وهذا ليس حلماً
إنها فقط حياتي الملوثة بالزيت
حيث الناس يتذرعون
بالغياب عن مسرح الجريمة
والشوارع لا يمكن العثور عليها
طوال العمر.
**
أنزِلِ الظلال
أنا لا أبالي !
سمّري الأبواب يا رحمة
امسحي الأرقام
مزقي علامات الشوارع
ما الذي سيهم هذا الشحيح الذي
يريد امتلاك الماضي
الذي خرج في سفينة ميتة
وتركني وليس معي .. غير الأوراق
**
لا يوجد.
**
أفتح محفظة جيبي
كما تفعل النساء
فتسبح الأسماك جيئة وذهاباً
بين الدولارات وأصابع الحمرة
فانتشلها واحدة واحدة
وأرميها عند علامات الشوارع
وأرمي محفظة جيبي في "نهر تشارلز".
وأعود لأنتزعَ حلمي
وأصفُقُ الجدار الاسمنتي
للتقويم الأخرق الذي أعيشُ فيه
بحياتي
ومفكراتي التي انتشلتها الحبال.
______

"5"
آنا التي كانت مجنونة

آنا .. التي كانت مجنونة
عندي سكّينٌ تحت ابطي.
حينَ اقف على روؤس أصابعي
أنقرُ البرقيات.
هل أنا مرضٌ معدٍ ؟
هل جعلتكِ تجنّين ؟
هل جعلتُ الأصوات بغيضة هكذا ؟
هل طلبتُ منك تسلّقَ النافذة ؟
سامحيني .. سامحيني.
لا تقولي إنني فعلتُ ذلك
لا تقولي أنني
لا تقولي
**
صبي كلماتٍ مريميةً في وسادتنا
خذيني طفلةً طويلة نحيلة
في الثانية عشرة من عمرها
في أحضانك الغائرة
اهمسي مثل أوراق عشب
كُليني .. ابتلعيني مثل حلوى الكريمة
أدخليني في فمكِ
أدخليني
أدخلي.
**
أعطيني تقريراً عن حالة روحي
أعطيني بياناً مفصلاً عن أفعالي
ناوليني زهرة برية ودعيني أنصت الى جوفها
ضعيني في الركاب ومرري فوجاً من السائحين
رقّمي خطايايَ في لائحة البقالة ودعيني أشتريها
هل جعلتكِ تجنّين ؟
هل رفعت سماعات أذنك
وأدخلت فيها صافرات إنذارٍ ؟
هل فتحتُ الباب لطبيب الأمراض العقلية ذي الشاربين
الذي جرك خارجاً مثل عربة يد محملة بالذهب؟
هل جعلتكِ تجنّين ؟
أكتبي لي من القبر يا آنّا !
لستِ سوى رمادٍ لكن رغم ذاك
ارفعي قلم "الباركر" الذي أعطيتك إياه
واكتبي لي
اكتبي...
_______

"6"
17 آب

"مناسب لزيارة المستشفيات وللأعمال الخيرية. خصِّصْ بعض الوقت للعناية بصحتك"

سأكون منزعجة بالتأكيد
من المستشفى : منطقةِ الأجسادِ تلكَ ،
حيث الأجسادُ الملفوفةُ بالأشرطة البلاستيكية
والأجسادُ الموضوعة في صناديق خشبية
أو المستخدمة مثل الهواتف
والأجساد المصلوبة في العكازات
والأجساد التي تلبس أكياس مطاطية بين أفخاذها
والأجساد التي تتقيأ عصاراتها مثل سوائل التنظيف.
هنا .. في هذا المنزل
ثمة أجسادٌ أخرى :
كلما رأيتُ طفلاً في السادسة
يسبح في حمام سباحتنا
صوتٌ في داخلي يقول ما لا يُقال:
هيه . يوماً ما ستصبح عجوزاً وذاوياً
وسيدخلون في أنفك الأنابيب لتشرب طعامك
يوماً ما ستعود القهقرى ، ستنغلق كعلبة أحذية
وستُلعَنُ وأنت تشق الطريق الى الموت وأقدامك أولاً.
**
هنا ، في هذا المستشفى أقولُ :
ذاك ليس جسدي .. ليسَ جسدي
لستُ هنا لأراجعَ الأطباء
ليقرأوني كوصفةِ طبيخ.
لا .. أنا فتاة زهرة الربيع
الطائرة في الريح كقطعةٍ من الشمس.
في الردهة رقم 7 ثمة زهرات ربيع
من زبدةٍ ولآلئ
لكنْ جوارَ رجلٍ أعمى لا يقدر إلا
على أكل التويجات والعدِّ الى العشرة
الممرضاتُ من حوله يلعبنَ نطَّ الحبال ، ويرتجفن
كلما ترجرجت عيناه كالزئبق
ثم يرقصن من مريض لمريض لمريض
وينثرن كؤوس دواءٍ ورقِيّة صغيرة
ويلعبن لعبة الرمي والإمساك
بزجاجات الحُقَن المخدِّرة
وهنَّ ينتظرن حادثة جديدة.
أجسادٌ مجبولة من مواد مصنَّعة
أجسادٌ مقمَّطةٌ كالدُمى
أزورها وأتملقها وكل ما تفعله هو الهمهمة
مثل الحاسبات التي تنجزُ ضرائبنا دولاراً بعد آخر.
كل جسدٍ في حاويته.
يضع الجرّاحُ صمغه . ويُحشر كلُّ جسدٍ
في علبةِ آيس كريمه
ويُخاطُ ثانيةً لأجل الرحلة الطويلة ..
الى الوراء.
قصائد مختارة للشاعرة التشيلية غابرِييِلاّ مِسترال



Gabriela Mistral
(1889-1957)
ولدت غابرييلا مسترال (واسمها الحقيقي لوسيلا ألغاياغا) في قرية صغيرة بجبال الإنديز وتلقت تعليمها الأولي في مدارسها الابتدائية وعلى يد شقيقتها معلمة المدرسة القروية. كان والدها (الذي هجر الأسرة ومات بعيداً عنها) يعمل هو الآخر معلماً ويهوى كتابة الشعر. عاشت غابرييلا طفولة فقيرة ولم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى انخرطت هي الأخرى في سلك التعليم. كانت قد بدأت أولى الخطوات في مسيرتها الشعرية عندما تعرضت عام 1909 الى صدمةٍ نفسية عظيمة حين أقدم حبيبها، عامل القطار "روميليو أوريتا" على الانتحار مما أثر عميقا في شعرها، ذلك التأثير الذي ظهر جلياً منذ مجموعتها البكر "قصائد حب الى الموتى-1914" التي أثارت اليها الانتباه في أرجاء أمريكا اللاتينية لمعالجاتها المميزة لموضوعة الموت والحياة. غير أن شهرتها الحقيقية لم تبدأ إلا عام 1922 عندما نشرت مجموعتها المهمة "اليأس" وتلتها مجموعتها "رِقّة" التي غلبت عليها موضوعة الطفولة: الموضوعة التي لعبت الى جانب موضوعات الأمومة وآلام الفقراء والطبيعة والسفر والحزن والشفاء منه والهوية الحضارية لأمريكا اللاتينية (كخليط من الحضارات الأوربية والمحلية) دورا بارزاً في جميع قصائدها اللاحقة.
في عام 1925 (وكانت قد أصبحت شاعرة معروفة على الصعيدين المحلي والقاري) دُعيت لتمثيل أمريكا اللاتينية في مؤسسة التعاون الفكري التي أنشأتها عصبة الأمم فنشطت كثيراً في مجال التطوير التربوي والدفاع عن حقوق المرأة والطفل، وأضحت منذ الحين تعيش عملياً حياة المنفى فقضت الفترة مابين 1926 و1932 في فرنسا وايطاليا وجابت في أرجاء أوربا والأمريكتين صحفية ومدرسة للأدب الإسباني في جامعاتها. واستمراراً للتقاليد الأمريكية اللاتينية عملت مسترال، شأنها شأن العديد من مثقفي وفناني القارة قنصلا لبلادها منذ عام 1932 وحتى وفاتها؛ فانتقلت بين نابولي ولشبونة ومدريد ولوس انجلس ونيويورك وغيرها من مدن العالم، والتقت مراراً في مدريد بالشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا (الذي كانت من أوائل الملتفتين الى أهمية أعماله منذ أن كان طالباً بمدينته "تيموكو" حيث كانت تعمل مديرة مدرسة) واشتركت معه في تأييد الجبهة الشعبية مما قاد الى فوز صديقها وراعيها الراديكالي بيدرو سيدرا بمنصب الرئاسة عام 1938.
في عام 1943 انتحر ابنها ذو السابعة عشرة فانعكس حزنها العميق على وفاته ، علاوة على مآسي الحرب العالمية الثانية ومخاوف الحرب الباردة التي أعقبتها، على أعمالها الأخيرة التي نشرت خلال حياتها. وفي نوفمبر 1945 أصبحت مسترال أول أمريكية لاتينية وخامس امرأة في العالم تنال جائزة نوبل للآداب.
قضت الشاعرة سنواتها الأخيرة ، وقد أنهكها المرض، في نيويورك حيث توفيت، ونقل جثمانها الى تشيلي فخرج في تشييعها مئات الآلاف من أبناء الشعب وأعلنت البلاد الحداد الرسمي عليها لثلاثة أيام.
كتبت مسترال المئات من المقالات التي نشرت في أرجاء البلدان الناطقة بالإسبانية ولعبت دوراً كبيراً في تطوير التربية والتعليم في بلدان قارتها وحصلت على العديد من الشهادات الفخرية من جامعات العالم وكانت في شعرها كما في كتاباتها الأخرى تحتفي بالعادات والتقاليد الحضارية لشعوب أمريكا اللاتينية وتمزج بشكل فريد بينها وبين حضارات وتقاليد أوربا والبحر المتوسط كما كانت على الدوام موفقة في تحويل مآسيها وآلامها الشخصية الى قصائد رائعة تحفل بالمحبة والعطف والاحتضان الشجاع للآخرين ممن يفتقرون الى الأمان والحماية من الفقر والاضطهاد.

(1)الأقدامُ الصغيرة
أقدامَ الطفل الصغيرة
الزرقاء ، الزرقاء من البرد
كيف يرونكِ .. ولا يُنجِدون ؟
كيفَ .. كيفَ يا إلهي !
...
أيتها الأقدامُ الجريحةُ الصغيرة
التي رضَّها الحصى
وظَلَمها الثلجُ والتراب.
...
لأن الناس عُميٌ لا يحفلون
بأنكَ أينما خطوتِ
تركتِ زهرةً .. من ضياء بهيج
وأنكِ أينما وضعتِ
أعقابكِ الصغيرة المدماة
تنهضُ نرجسةٌ .. تفوح بالأريج.
...
لكنكِ شجاعةٌ
لكنكِ دونَ خطيئةٍ
مادمتِ تمضين رغمَ ذاك ..
في الشوارع المستقيمة.
...
أقدامَ الطفلِ الصغيرة
يا جوهرتين .. صغيرتين .. معذَّبتين
كيف يمرُّ بكِ الناسُ ..
ولا يُبصِرون ؟!

(2) الأُمُّ الحزينة
نَم يا حبيبي ، نَم
دون خوفٍ ... دونما قلقٍ.
رغمَ أنَّ الروحَ مني لا تنام
رغمَ أنني .. لا أستريح.
...
نَم ، نَم ، وفي هذا الليلِ
لتكن همساتُكَ أنعمَ
من وريقةِ عشبٍ
أو جَزَّةِ حَمَلٍ كالحرير.
...
ليتَ جسدي يهجعُ فيكَ
وجزَعي .. وارتعاشي.
ليتَ عينيَّ تُغمضانِ بداخلك
ويرقَدُ فيكَ قلبي.

(3)الذين لا يرقصون
طِفلٌ مُقعَدٌ نادى :
"كيفَ لي أن أرقصَ ؟"
"دع قلبكَ يرقصْ "
هكذا أجبناه.
...
ثم سألَ مريضٌ عاجز:
"كيفَ لي أن أُغَنّي ؟"
"فليُغَنِّ قلبُك"
هكذا أجبناه.
...
وانبرت الشوكة الذابلةٌ المسكينةُ:
"ولكن ، كيفَ لي أن أرقص ؟"
"دعي قلبَكِ ليطيرَ مع الريح"
هكذا أجبناها.
...
وتكلَّمَ الربُّ من الأعالي:
"كيفَ لي أن أنزلَ من سمائي ؟"
"تعالَ ارقص معنا في الضياء"
هكذا أجبناه.
...
كلُّ الوادي يرقصُ
معاً تحتَ الشمس،
وقلبُ مَن لا يشاركنا
قد استحالَ غباراً ... غبار !

(4)الغريبة
تتحدثُ بطريقتها
طريقةِ بحارِها البدائية
الى طحالبَ سريّةٍ .. ورمالٍ مجهولة ؛
وتصلِّي لإلهٍ لا شكلَ لهُ ولا وزن ..
عجوزٍ كأنه يوشكُ على الاحتضار.
في حديقتنا التي أضحت شديدةََ الغرابةِ
زرعَت صَبّاراً .. وأعشاباً عجيبةً.
نسيمُ الصحراء يملأُ قلبها بأنفاسه
وهي تهوى
بعشقٍ عنيفٍ .. أبيضَ .. مكتومٍ
لو تحدَّثَتْ عنهُ لَبَدا
كوجوهِ نجومٍ مجهولةٍ.
قد تعيشُ بيننا ثمانينَ عاماً
لكنها ستبدو على الدوام
قادمةً جديدة تتحدثُ بلسانٍ دفينٍ
وتأوهاتٍ لا تفهمها غير كائناتٍ شديدةِ الضآلةِ.
وفي ليلةٍ من الألم العظيم
ستموتُ هنا بيننا
ولا وسادة تحت رأسها سوى المصير
والموت..
الموت الصامت الغريب.

(5) المَنِيَّة
يا مُسَجِلَةَ الإحصاءِ العجوز
أيتها المَنِيَّةُ المخادعة
حين تمضينَ في الدروب
لا .. لا تلتقي بصغيري !
...
تستشمّينَ روائحَ الرُضَّعِ
تشُمّينَ رائحةََ الحليب.
اعثري على الملح ، اعثري على الطَحين
ولا ... لا تعثري على حليبي !
...
أيتها الأمُّ المُضادّةُ العالمية
يا مَن تلقُطينَ الناس
على الشواطئِ .. والطرقاتِ الفرعية
لا تلتقي بذاك الصغير !
...
إنسَي اسمَ عِمادِهِ
والزهرة التي يكبرُ معها
لا تنسَي ما أقولُ
أضيعهما .. يا مَنِيَّة !
...
ليتَ الريحَ والملحَ والرمال
يُصِبنَكِ بالجنون .. يخلطنَ عليكِ الأمور
حتى لا تعودي تفَرِّقين
-مثلَ سمكةٍ في البحرِ-
شمالَكِ عن يمناك
أو أمٍّ عن طفلِها.
وفي اليومِ المعلوم
في الساعةِ المعلومةِ
لن تجدي غيري .. فتأخذيني !

(6) الوردة
الكنزُ الذي في قلبِ الوردة
هو كنزُ قلبكِ أنت.
أنثرهُ كما تفعلُ الوردة
وإلاّ أصابكَ الشقاءُ.
...
انثرهُ في أغنيةٍ
أو في رغبةٍ حبٍّ عظيمة.
لا تكبتِ الوردة
وإلا أكلَتكَ نارُها.

(7) لستُ وحيدة
هذا الليلُ مهجورٌ
من جباله الى ساحل البحر
لكنني .. أنا التي تؤرجِحُكَ
لستُ وحيدةً !
...
هي ذي السماءُ .. أنها مهجورةٌ
فقد هوى القمرُ في البحرِ
لكنني .. أنا التي أحملكَ
لستُ وحيدة !
...
ها هو العالمَُ .. إنه مهجورٌ
وكلًّ الكائناتِ .. حزينةٌ كما ترى
لكنني .. أنا التي أحضنكَ
لستُ .. لا .. لستُ وحيدة !

(8) غابةُ الصنوبر
لنذهبِ الآنَ الى الغابة.
ستَمُرُّ الأشجارُ أمام وجهك
وسأتوَقَّفُ وأعرِضكَ عليها
لكنها لن تستطيعَ الانحناء.
الليلُ يحرسُ مخلوقاتِهِ
خلا أشجارَ الصنوبرِ التي لا تريم :
العيونَ الهرمةَ الجريحة التي
يسيلُ منها اللّبانُ .. والظهيراتُ الأبديةُ.
لو استطاعتِ الأشجارُ لرَفَعَتْكَ
وحَمَلَتكَ من وادٍ لواد
ولاَنتَقلْتَ من ذراعٍ لذراعَ
كطفلٍ يجري
من أبٍ الى أب.

(9)احتفالٌ سنوي
ونمضي .. نمضي
لا نائمينَ ولا أيقاظ
نحو اللقاء
غافلين أننا .. بلغناه بالفعل ،
وأن هذا .. هو منتهى السكونُ ،
وأن الجسد قد اختفى.
وما زال النداءُ غيرَ مسموعٍ
وما زال المنادي .. لم يسفر عن وجهه.
...
ولكن ربما كانت هذه يا حبيبي
هي الجائزة
جائزة الوجه الأبدي الذي لا وجه له
والمملكة التي .. لا شكل لها !

(10) أن أراه من جديد
أَ الى الأبد ؟ الى الأبد ؟
لا في الليالي التي تعجُّ بالنجوم الراعشات
لا في ضياء الفجر البِكر
ولا في أماسي الأُضحِيات ؟
...
أو في أطرافِ الطريق الشاحب
الذي يحيطُ بالحقول
أو على أحجار نبعٍ مرتعشٍ
يضيئه البدرُ الخافق ؟
...
أو تحت ضفائر الغابةِ الأثيثة المحلولة
حيث كان الليلُ يدهَمُني
وأنا أنادي باسمِهِ ؟
ولا في الكهف الذي كان
يردد صدى ندائي ؟
...
آهٍ ..لا
لا أريد سوى أن أراهُ من جديد
لا يهمني أين : في مياه النعيم الراكدة
أو في الدوامة التي تغلي ،
تحت أقمارٍ رائقةٍ
أو رعبٍ يُنشِفُ العروق !
...
وأن أكون معه
في كلِّ ربيعٍ وشتاء
متحديَنِ في أنشوطةٍ موجِعةٍ واحدةٍ
حول عنقه الدامي !
نشيد الى اللاجدوى



سديمٌ من الحَيَوات
جيشٌ من الحثالةِ والأوغاد واللصوص والمكَدّينَ والبغايا والملوك
في أسمالٍ وفراءٍ وقمصانٍ رياضيةٍ
تروجُ به المدرجات
يتربصُ بي
ينظر لي شزراً
إذ أقوم وأقعد، إذ أمارس الحب أو أكدح أو أتثاءب
يهزأ بي .. ولربما يرثي لي
لا فرق
إنه يردد مأخوذاً بنشوةٍ ضارية
نشيداً يعلو ويخفت :
Useless……useless……useless…
......
يا أيتها اللاجدوى التي بين جلدي وقميصي
وفي الماء والملح والخبز والعسل
يا من أقلقتِ الأنبياء
وأخرجت لسانكِ لسارتر
وأوقعتِني في أحبولة التسوق اليومي
في كأسي أنتِ القرار
وفي سمائي النجمةُ السابعة
أنتِ قدري ولعنتي .. حيواني الوحشي وحمامتي الخرقاء
أنتِ التي مثل نسر القفقاس الأبدي
تلوكين كبدي وتبصقينه بوجه الشمس
إيه أيتها الخاتمة لكل مهزلةٍ ومأساة
أيتها الملقِّنة المراوغة والمسمار الصدئ
أضجُّ من هولِ قيدكِ .. أنظر ُ للسماء
فتجيئني مثل رعدٍ متمهلٍ
الأنشودةُ / العواء :
Useless….useless…useless ..
......
أيها الغَراء الذي يشدُّ أخشاب مراكبنا الغرقى
خيطُ عناكبٍ أنتِ أم سلاسل من حديد كواكبٍ مطفأة ؟
شلاّلٌ أنتِ أم قطرةُ لا تصل الأرض ؟
قفّازُ غانيةٍ ... أم سيف تكفير ؟
أم أنتِ .. أنتِ اللاشيء ؟
...
شقيقةَ الضجر .. ومُساحِِقةَ الفناء
الحكمةَ التي بين فروة رأسي وابيضاض اللمم
جزاءَ المرضعات .. وخيبةَ كل الرُقى
ويا إكليلَ شوكٍ يدمي جبهتي
إذ أجرجر صليب شقائي
بين موتي والميلاد
وحدكِ ستبقين .. هازئة بكل ما سواك
من سادةِ الأرضِ والسماء !
نشيد القاعدة الأممي

مع الترجمة الانكليزية

من "بالي" الى "تيزي أوزو"
من "قندهار" الى "نيويورك"
ومن "مدريد" الى "حي العامل"
يتصاعد النشيد
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
***
لا تأبه بالتفاصيل
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
ستزيدك الأيام
مهارة وخفة
***
بمنشار كبير
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
رأيتهم يذبحون
رضيعا حقيرا
من ملةٍ كافرة
فانتابني الحماس
وكبرت ثلاثا
* * *
أَمسكْ بالقدمين
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
وسأمسك اليدين
فلنؤرجه قليلا
من قبل أن نلقيه
من الشرفة الشاهقة
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
العجوز المأفون
ستأكل النمال
أسبوعا طويلا
من رأسه المنثور
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
* * *
لا ترتبك يا ولدي
الذبحُ ليس بالصعب
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
ستهدأ الأحلام
ويختفي الدوار
وستعتاد سريعاً
الحمرة الدافئة
والإيقاع الجميل:
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
"أقتل ..أقتل ..أقتل "
2001-2009

The Internationale of Al-Qa‘ida

From Bali to Tizi Ouzou
From Kandahar to New York
From Madrid to Hai-il amil
The anthem is blooming:
"kill, kill, kill
kill, kill, kill"
**
Take care of no details
"kill, kill, kill"
Time shall make you
More dexterous, more skilled
**
At your age I was
When I sow them
"kill, Kill, kill"
With a grand saw Beheading
A base infant
From a sect of unbelievers.
I got enthusiastic
And praised Allah three times!
**
Firmly hold the feet
"kill, kill, kill"
I shall hold the hands.
Let us sway him a little
Before we through him down
From the towering balcony
"kill, kill, kill"
For whole two weeks
Ants shall eat
From the scattered brain matter
Of the brainless old man!
**
Don t be confused my son;
Beheading is not so hard to learn
"kill, kill, kill"
Your dreams shall calm down
And soon you will get used
To the warm redness
And the lovely rhythm:
"kill, kill, kill"

Hai-il amil "The district of the worker", a large poor district in Baghdad bombed by several terrorist attacks.

حساءٌ ساخنٌ.... في العاصفة الثلجية

في الغيمةِ مطرٌ
ينزلُ... لا ينزلُ؟
أتمنى ، طبعاً، أن ينزلَ
لكنَّ الأمرْ..
ليسَ، كما تزعمُ نشراتُ الأنواءِ،
الى .....
......
في رأسي أغنيةٌ
تصدحُ ... لا تصدحُ ؟
ما من شيطانٍ يدري...
الأمرُ ..
كما قد يذهبُ ظني،
لخلايا لم تأمرني بعدُ ..
ولكنْ
ماذا عن خيلٍ بمكانٍ ما
خيلٍ لم تصهلْ بعدُ
وبرقٍ لم يلمعْ بعد
وجنونٍ لم .....
.....
قالت : هئتُ لك الساعةَ ... بل هذي اللحظةَ
لكن الرجلَ التوراتيَّ العَفَّ تمهلَ / فكَّرَ
فانطفأ الكانونُ ...
توقف عرضُ الفلمِ
تلعثم مطربنا البدويُّ...
.......
بردَ الشايُ
وأثلجتِ الدنيا.....
.....
الأمازيغي ، المتلفعُ برداءٍ
من وبرٍ بنّيٍّ فظٍّ
أدركَ سرَّ اللعبةِ
أفلتَ من وهمِ العقلِ
فأحرقَ كلَّ مراكبِهِ
قبلَ فواتِ الوقتِ..
...
تدلى الزيتونُ الأندلسيُّ
ومالَ العنبُ الأسودُ
بين يديهِ ...
....
أجّلْ ... أو عجِّل ....
بيديكَ الأمر !!



7-12-2009

سيدي أيها الشحاذ البوذي



سيدي أيها الشحاذ البوذي
يا سيدي..
امنحني .. إكراماً لجوتاما
كسرةً من خبز يقينك
ورشفةً
من نبيذ حكمتك
غطني بخرقة من عريكَ
علني أستر عورتي
وبرد عظامي
أنشِد لي
ترانيم الموت والميلاد
اكشف لي
أسرار القداسة البسيطة
علمني
وقد خطاي
وامسح بأنملاتكَ الصفراء
على أعيني
علني أغسلها بمائها
من كل هذا الخراب
علني أبصر من جديد
اخضرار الشبيبة
وبياض أيامها
وزرقة السماء التي
سافر إليها أحبتي

سيدي ..
يا سيدي الشحاذ

12-1-2010
عشر قصائد للشاعرة الأمريكية مايا أنجلو

مايا أنجلو
Maya Angelou
(1928- )

شاعرة وكاتبة وممثلة وراقصة ومخرجة ومغنية وناشطة سياسية أمريكية. ولدت مايا أنجلو (واسمها الحقيقي مارغريت آن جونسن) في الرابع من نيسان 1928 في ولاية ميزوري . ولم تكد تبلغ الثالثة حتى شب الخلاف بين والديها فأرسلت (مشحونةً بالقطار) مع أخيها الذي يكبرها بعام الى جدتها في ولاية اركنسس لتعود الى أمها بعد سنوات قليلة وتعاني تجربةً أثرت بعمق على حياتها حيث تعرضت وهي ابنة سبع سنوات الى اعتداء جنسي من قبل صديق أمها، وحين أخبرت أخاها بذلك انتشر الخبر وحوكم المعتدي وسجن لمدة عام واحد فقط ثم وجد مقتولاً بعد خروجه من السجن -على يد أقربائها كما يبدو- الأمر الذي صدم الصغيرة وأصابها بالبكم والانطواء طيلة خمس سنوات -نتيجة إحساسها بالذنب تجاه مقتله بسبب إفشائها السر كما اعتقدت- فأعيدت الى جدتها حيث استعادت صحتها بالتدريج وأظهرت تفوقاً دراسيا واضحا واهتماما مبكراً بالمسرح والأدب الشكسبيري بوجه خاص. عملت انجلو في مطلع شبابها في الكثير من المهن –بعضها في غاية الوضاعة- وانتقلت بين المدن لتقيم أودها وأود ولدها الوحيد الذي أنجبته بُعيد إكمالها الدراسة الثانوية (أصبح شاعراً فيما بعد) وتشق طريقها من خلال التجارب والأخطاء.
بدأت أنجلو مسيرتها الفنية في مطلع الخمسينات حيث درست الرقص في نيويورك وشاركت في الرقص والتمثيل والغناء في فرق استعراضية وجابت في أواسط الخمسينات في اثنين وعشرين بلداً لتقديم عروض الأوبرا وظهرت في العديد من البرامج التلفزيونية وشاركت في تأسيس فرقة راقصة أنتجت أعمالاً ريادية مازجت فيها بين الرقص الحديث والباليه والرقص القبَلي لغرب أفريقيا ، ثم انتقلت الى نيويورك لتنضم الى جماعة هارلم الأدبية وعملت في الصحافة السياسية والكتابة والتمثيل للمسرح وتعرفت على العديد من الأدباء والفنانين والناشطين السياسيين في حركة الحقوق المدنية أمثال مارتن لوثر كنج والمناضل الأفريقي "فوزومزي ماكي" الذي عاشت معه فترة وجيزة في جنوب أفريقيا ثم انتقلت وإياه الى القاهرة حيث عملت في صحيفة "الاوبزرفر العربي" الناطقة بالإنجليزية لتنتقل بعدها الى جامعة غانا حيث حاضرت في مدرسة الموسيقى والدراما هناك، وخلال رحلاتها تلك تعلمت خمس لغاتٍ أجنبية غير لغتها الانكليزية مثل الفرنسية والاسبانية والفانتية . في عام 1966 عادت الى لوس أنجلس لتحاضر في جامعة كاليفورنيا وتنضم الى "مالكوم إكس" في تأسيس حركة حقوق مدنية جديدة، غير أنه اغتيل بعد فترة وجيدة فعادت الى التعاون مع "كنج" الذي اغتيل هو الآخر عام 1968. كل هذه الأحداث دفعتها الى كتابة الجزء الأول من سيرتها الذاتية الشهيرة الذي ظهر عام 1969وكان بعنوان "أعرف لماذا يغني الطائر الحبيس" مما أكسبها اعترافاً وإطراءً عالمياً حفزاها على كتابة خمسة أجزاء أخرى لتصبح بهذا واحدة من أشهر وأفضل كتاب السيرة الذاتية في أمريكا والعالم، نظراً لصورها المبدعة الحافلة بالحياة وأسلوبها المجدد الصريح الذي مزجت فيه بين السيرة الذاتية والخيال والرواية والشعر مما وضع أعمالها تلك في خانة السيرة الذاتية الروائية.
وأنجلو شاعرة غزيرة الإنتاج؛ فقد رشحت مجموعتها الشعرية الأولى "أعطني كأس ماءٍ باردٍ فأنا أموت" والتي ظهرت عام 1971 لنيل جائزة البولتزر؛ ثم تلتها العديد من المجموعات منها "أرجوك، جناحاي سيلائماني-1975" و "وما زلتُ أعلو-1978" و "لن اتزحزح-1990" والكثير غيرها. كما اختارها بيل كلنتون لإلقاء قصيدتها الشهيرة "على نبض الصباح" في حفل تنصيبه عام 1993 لتكون ثاني شاعر يلقي قصيدة في حفل تنصيب رئاسي منذ ظهور الشاعر العظيم روبرت فروست في حفل تنصيب كندي عام 1961.
كتبت الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمئات من القصائد والمقالات والقصص القصيرة والأغاني وسيناريوهات الأفلام والمقطوعات الموسيقية وعملت أيضا مخرجة ومنتجة وكاتبة في السينما والإذاعة والتلفزيون، وترشحت لجائزة عن دورها في المسلسل الشهير "الجذور" كما ألقت المئات من المحاضرات والخطابات ذات الأسلوب الحر الساحر ونالت العشرات من الجوائز والألقاب والدرجات الجامعية الفخرية رغم أنها لم تكمل دراستها الجامعية قط.

(1) حينَ تأتي


حين تأتي إليَّ ، دون دعوةٍ
وتغويني
الى غرف غارقة في القِدَم
حيث ترقدُ الذكريات،
وتعرِضُ عليَّ ، كما على طفلةٍ،
حُجيرةً تحت سطح البيت ،
إضمامةٍ من أيامٍ نادرة ،
حلياً رخيصة من قبلات مسترقة ،
نمنماتٍ من علائقِ حبٍّ مستعارة ،
وصناديقَ من كلماتٍ سريةٍ
عندها... أجهش بالبكاء.


(2)وحيداً

ليلةَ البارحة
رقدتُ وفكّرت
كيف
أعثر لقلبي على بيتٍ
لا يعطشُ الماءُ فيهِ
ولا يستحيلُ الرغيفُ الى حجارة.
وقرَّ ذهني .. على رأيٍ وحيدٍ
لا أظنني فيه مخطئة:
أن لا أحد
نعم لا أحد
يمكنه ، وحيدا ،
أن يدبر أمره في هذه الحياة.

وحيداً.. وحيداً تماماً
لا أحد .. نعم لا أحد
يمكن أن يدبر أمره ... في هذه الحياة.

ثمةَ أصحابُ ملايينٍ
يملكون مالا
ولا يستطيعون إنفاقه
نساؤهم يطُفنَ هنا وهناك
كأشباحٍ تنذرُ بالموت
وأطفالهم يغنون
ألحاناً تطفح بالحزن.
يمكنهم أن يحصلوا على
أغلى الأطباء أجراً
ليداووا قلوبهم الحجرية
لكن لا أحد
نعم لا أحد
يمكنه ، وحيدا ،
أن يدبر أمره في هذه الحياة.

وحيداً.. وحيداً تماماً
لا أحد .. نعم لا أحد
يمكن أن يدبر أمره في هذه الحياة.

حسناً .. لو أصختَ لي السمع
سأخبرك بما أعرف :
غيوم الأعاصير تجتمع
والريح توشك أن تهب
جنس البشر يعاني
وها أنا أسمع أنينه
ذاكَ أن لا أحد
نعم ، لا أحد
يمكنه وحيدا
أن يدبر أمره في هذه الحياة.

وحيداً.. وحيداً تماماً
لا أحد .. نعم لا أحد
يمكن أن يدبر أمره في هذه الحياة.

(3) أعرفُ لماذا يغني الطيرُ الحبيس

الطيرُ الطليق يعتلي صهوةَ الريحِ
ويعومُ مع الموجةِ
حتى آخر التيار
غامساً جناحيهِ في خيوط الشمس البرتقالية
ويجرؤُ أن يدّعي .. أنه يملكَ السماء.

غيرَ أنَ الطير الذي .. يختالُ في قفصه الصغير
قليلاً ما يرى ما خلف قضبان غيضهِ
جناحاه مقصوصان .. قدماه موثقتان
فلا يملك إلا أن
يفتح حنجرته .. ويغنّي.

الطيرُ الحبيسُ يغنّي برعشةٍ خائفة
عن أشياء لا يعرفها ... لكنه يتوق إليها
وألحانه .. تُسمَعَ في الهِضاب القَصيّة
ذاك أنّ الطيرَ الحبيس
يغنّي عن الحريّة.

الطيرُ الطليقُ يغني عن نسائم أخرى
وعن رياحٍ تمضي برفقٍ .. بين أشجارٍ تتنهدُ
وعن ديدان سِمانٍ تنتظر
على العشب اللامع في ضياء الفجر
ويسمّي السماءَ ... سمائي !

غيرَ أن الطيرَ الحبيس
يقف على قبرِ أحلامٍ يصرخُ بها ظلِّهُ
على صرخةِ كابوسٍ
جناحاه مقصوصان .. قدماه موثقتان
فلا يملك إلا أن
يفتح حنجرته .. ويغنّي.

الطيرُ الحبيسُ يغنّي برعشةٍ خائفة
عن أشياء لا يعرفها ... لكنه يتوق إليها
وألحانه .. تُسمَعَ في الهِضاب القَصيّة
ذاك أنّ الطيرَ الحبيس
يغنّي عن الحريّة.

(4) الأسرة البشرية

قد خبرتُ الفروقَ الجَليّة
في الأسرةِ البشرية
بعضنا ينتعش بالكوميديا .. وبعضنا
يأخذ الأمور بجدِّية

بعضنا يعلنُ أنه
عاش حياته بعمق .. وبعضنا
يدعي أنه يعيش حقاً
الحقيقة الحقيقية.

تدرُّجُ ألوانِ جلودنا
قد يُربِكُ أو يُذهِلُ أو يُفرِح:
بُنّيٌ ، ورديٌّ ، حنطيٌّ ، أرجواني
أسمرٌ ، أزرقٌ أو أبيض

قد مخرتُ البحار السبع
ونزلتُ في كل أرض
قد رأيتُ عجائبَ الدنيا .. لكنني
لم أرَ إنساناً "عادياً"

قد عرفتَ عشرة آلافٍ من نساء
يدعَينَ جين أوماري جين
لكنني لم أرَ اثنتين
تماماً .. وحقاً .. متشابهتين

المرءُ وتوأمه في المرآة يختلفان
رغم اتفاق الملامح.
والعاشقان الراقدان على سريرٍ واحد
كلٌّ يفكِّرُ بطريقته.

نحبُّ ونُخفِقُ في الصين
ونبكي فوق السِباخ الانكليزية
نضحك وننوحُ في غينيا
ونُزهِرُ في السواحلِ الإسبانية.

نسعى للنجاح في فنلندا
نولدُ ونموت في مَين
في صغار الأمور نختلف
في كبارها نحنُ سواء

قد لاحظتُ الفروق الجَلِيَّة
بين الطبائع والأنواع
لكن ما بيننا من شَبهٍ يا أصدقاء
أكثر مما بيننا من خِلاف

ما بيننا من شَبهٍ يا أصدقاء
أكثر مما بيننا من خِلاف

ما بيننا من شَبهٍ يا أصدقاء
أكثر مما بيننا من خِلاف

(5)الدرس

وأواصلُ الاحتضارَ:
تنهار الأوردةُ ، تنفتح
كقبضةٍ رضيعٍ غافٍ.
ذكرياتُ الأضرحةِ القديمة
والديدانُ
وتآكُلُ اللحمِِ والعظام
لا تقنعني بهجرِ التحدي.
السنونُ .. والهزيمةُ الباردة
ترقدُ عميقا .. في أخاديد وجهي
غير أنني .. أواصلُ الاحتضار
لأنني..
أعشَقُ الحياة !

(6) الرجال

عندما كنتُ صبيّةً
كنتُ أراقبُ من وراء الستائرِ
الرجالَ الذين يذرعون الطريق:
رجالٌ ثملون ...رجالٌ طاعنون ..
ورجالٌ فتيّون.. لهم حِدَّةُ الخردَلِ.
أنظر لهم .. الرجالُ على الدوام
ذاهبون الى مكانٍ ما.
كانوا يعلمون أنني هناك :
في الخامسةَ عشرةَ ... جائعةً اليهم.
فيقفون تحت شباكي
وأكتافهم .. ناتئةٌ كنهود الصبايا،
وذيول معاطفهم تصفع تلك المؤخرات.
الرجال.
يوماً ما سيمسكونكِ في راحات أيديهم
في رقةٍ .. كما لو كنتِ
آخرَ بيضةٍ نيئةٍ في العالم.
ثم يشدون قليلاً:
العَصرةُ الأولى لطيفة
عناقٌ سريعٌ
يخرق في نعومةٍ
دفاعكِ الواهي.
قليلاً بعدُ .. ويبدأُ الألم
فتنتزعين ابتسامةٌ .. تسيلُ على حواشي الخوف.
وحين يختفي الهواء
يفرقعُ ذهنك ... ينفجر
بقوة .. لوهلةٍ وجيزة ..
كرأس عود ثقاب مطبخيٍّ
ثم يتبعثر ... إنهُ عصيرُكِ
الذي يسيلُ نازلاً سيقانهم
صابغاً أحذيتهم.
وحين تعتدلُ الأرضُ من جديد
ويحاول الذوق أن يعود الى لسانكِ
سيكون جسدك قد صُفِقَ .. أُغلِقَ للأبد.
وما من مفاتيح.
عندها تنغلق الشبابيكُ على عقلك
وهناك .. خلفَ تأرجح الستائر
سيسير الرجال وهم
يعرفونَ شيئاً ما
ذاهبون الى مكانٍ ما
غير أنني في هذه المرة
سأكتفي بالوقوف والفُرجة ..
ربما..

(7) المُؤَرَّقة

ثمةَ ليالٍ
يلعب معي النومُ
لعبةَ الحَياءِ .. والتحفُّظِ .. والازدراء.
وإذا بكل الخُدَعِ التي ألجأُ اليها
لأكسبه الى جانبي
بلا جدوى .. مثلَ كبرياءٍ جريحة
بل .. أكثرُ منها ألماً !

(8) أيها الواعظ ، لا ترسلني الى..

أيها الواعظ ، لا ترسلني حينَ أموتُ
الى إحدى الغيتوات الكبيرة
في ملكوت السماء
حيث الجرذانُ
تفترسُ قططاً من فصيلة النمور
ووجبات ظهيرة الآحاد
جَريشٌ ونخالة.

تلكم الجرذان أعرفها
قد رأيتها وهي تَقتُُلُ.
والجريش الذي أكلتُهُ
يصنعُ تَلاًّ أو ربما جبلاً.
لذا فما أحتاجهُ
منكَ في الآحاد
عقيدةٌ مختلفة.

أيها الواعظ
أرجوكَ ألاّ تعدني
بشوارع من ذهبٍ
ولبنٍ بالمجّان
فقد فُطِمتُ عن كل لبنٍ
حين بلغتُ الرابعة
والذهبُ لا أحتاجهُ
بعد أن أموت.

سأدعو المكان
جنةً خالصة
حيثُ الأهلُ أوفياء
والأصدقاء لطفاء
والجاز هي الموسيقى
والفصل هو الخريف ..
فعِدني بذلك
أو لا تعدني بشيء !

(9) على نبض الصباح

(ألقتها في حفل تنصيب بيل كلنتون عام 1993)

صخرةٌ ونهرٌ وشجرة
استضافوا في زمانٍ سحيق
أجناساً بادت ومضت
وأصغوا الى الماستادون والديناصورات
التي خلّفت ذكريات يابسة
عن مكوثها هنا
على أرضية كوكبنا هذا ،
وقد ضاع في عتمة الأحقاب والغبار
كل إنذارٍ صريحٍ ... عن هلاكها الوشيك.

لكن الصخرةً تنادينا اليوم
بقوةٍ .. بجلاء:
تعالوا .. لكم أن تقفوا فوق ظهري
وتجابهوا مصيركم البعيد.
لكن لا تبحثوا عن ملاذٍ في ظِلّي
فلن أمنحكم تحتي .. مكاناً للاختباء.

أنتم يا من خُلِقتُم دونَ الملائكة بقليل
أقعيتم طويلاً في الظلمة الجارحة
ورقدتم مديداً ووجوهكم
ممرغة في الجهالة
وأفواهكم تنثر كلماتٍ .. تسلحت للقتل.
الصخرة تصرخ بنا اليوم:
قفوا فوقي ولكن لا تخبئوا وجوهكم.

عبرَ سورِ العالم
ثمةَ نهرٌ ينشدُ أغنيةً جميلة :
تعالوا استريحوا الى جانبي.
كلٌّ منكم قُطرٌ ذو حدود
كلٌّ رقيقٌ وفخور على نحوٍ غريب
لكنه مُقحَمٌ أبداً تحت الحصار.
صراعكم المسلّحُ من أجل الربح
خلّف فوق ضفتَيَّ أطواقاً من النفايات
وأمواجاً من القمامة فوق صدري.
لكنني اليومَ أناديكم الى شاطئي
أن كففتم عن التفكير بالحرب
هلموا .. اكتسوا بالسلام كي أغنّي
الأغنيات التي أعطانيها الخالق
عندما كنتُ أنا والشجرة والصخرة .. شيئاً واحداً.
يومَ لم تكن السخرية قد أصبحت
ندباً دامياً على الجبين
يوم كنتَ .. ما زلتَ تعرفُ ..
أنك ما زلتَ .. لا تعرفُ شيئاً.
ويمضي النهر في الغناء.

"ثمةَ توقٌ صادقٌ للاستجابة
لغناء النهر والصخرة الحكيمة"
هكذا يقول الآسيويون ، والهسبانيون ، واليهود
والأفارقة ، والأمريكيون الأصليون ، وهنود داكوتا الحمر
والكاثوليك ، والمسلمون ، والفرنسيون ، والإغريق
والإيرلنديون ، والأحبار ، والقساوسة ، والشيوخ
والشاذون ، والمستقيمون ، والواعظون
وأصحاب الامتيازات ، والمشردون ، والمعلمون ..
كلهم يسمعون .. حديث الشجرة.
يسمعون أول الأشجار وآخر الأشجار
تتحدث اليومَ الى جنس البشر.
تعالوا عندي ، هنا بجوار النهر.
وازرعوا أنفسكم قربي ، هنا بجوارِ النهر.
كلُّ فردٍ منكم ، سليلُ مسافرٍ غابر
وقد تلقى أجره.
أنتم يا من منحتموني أول أسمائي
أنتم الباوني والأباتشي والسينيكا
أنتم يا شعبَ الجيروكي الذين مكثوا معي
ثم أُرغِموا على الرحيل عني بأقدامٍ مدماة
ليعملوا لدى باحثٍ يائسٍ عن الثراء
جائعٍٍ للذهب.
أنتم الترك والعرب والسويديون والألمان
والإسكيمو والاسكتلنديون.
أنتم الأشانتي واليوروبا والكرو
المُساقون ، المُباعون ، المسروقون
القادمون على ظهرِ الكوابيس
المُصَلّونَ من أجلِ حلم.
هلموا .. أنبتوا جذوركم قربي.
أنا ، الشجرة المزروعة جوار النهر
أنا التي لن يزحزحني أحد.
أنا الصخرة ، أنا النهر ، أنا الشجرة.
أنا ملك يمينكم
سفرتكم مدفوعةُ الأجر
فارفعوا وجوهكم .. إنكم في حاجةٍ مؤلمة
لهذا الصباح البهي الذي يشرق من أجلكم.
والتاريخ ، برغم آلامه القاسية،
لا يمكن ألاّ يُعاشَ ، ولكن
لو جوبه بالشجاعة
لن نُرغَمَ على عيشهِ من جديد.

ارفعوا أعينكم على هذا النهار
الذي ينشقُّ من أجلكم
لِدوا الحلمَ من جديد.
وخذوه ، أيها الرجال والنساء والصغار
خذوه في راحات أكفِّكم
شكِّلوه بأيديكم
على صورةِ أخصِّ حاجاتكم
انحتوه على شكل أكثر نفوسكم محبة
ارفعوا قلوبكم فكل ساعةٍ
تحمل فرصاً جديدةً لبداياتٍ جديدة
لا توثقوا أنفسكم الى خوفٍ دائمٍ
لا تشدوا أرواحك تحت نير الفظاظة.
الأفق ينحني للأمام ، يعرضُ عليكم
فسحةً لخطواتِ جديدة.
وهنا ، على نبضِ هذا النهار الرائق
قد تملكون الشجاعة
كي تلتفتوا إلي .. وتعتبروا بي .. وتبحثوا عنّي ..
أنا الصخرةُ والنهرُ والشجرةُ .. وبلادكم.
لا يقل في هذا .. متسولٌ عن ميداس
أو أنتَ .. عن ذلك الماستادون.

هنا ، على نبض هذا النهار الجديد
قد تملك نعمة أن تطلَّ على أختك
أن ترعاها .. أن تنظر في عيونها
وفي وجه أخيك .. في وجه بلادك
وتقول بأملٍ ... ببساطةٍ
بأشدِّ البساطة :
صباحُ الخير !

(10) من ابنٍ الى أمّه

أنا لا أشنُّ حروباً
لا أمطر سموماً على الكاتدرائيات
وأذيب نجمات داود
لأصنع منها حنفياتٍ ذهبية
تضيئها مصابيحٌ
تظللها جلودُ الآدميين.

أنا لا أقيمُ مخازنَ
في أراضٍ غريبةٍ
لا أرسل البعثات خارجَ حدودي
لأنهبَ الأسرار
وأقايض الأرواح.

هم
يقولون أنكِ سلبتِني رجولتي
يا أماه.
فتعالي الى أحضاني
وأخبريني بما تريدين أن أقول لهم
قبل أن أمحق جهالتهم.
عفوا يا حذائي القديم.. لقد آذيتك كثيراً!




-بابا .. توندرتك مشگوگه!
فاجأتني صغيرتي "گنّوشه" ذات السنوات الثلاث، ليلة أمس، فور عودتي إلى المنزل.
نظرت إلى الأسفل: نعم كان كعب الحذاء يوشك على الانفصال. لا بد أن ذلك حدث عندما عثرت بالسرير الحديدي الذي تركه حسين الحداد على الرصيف المحاذي لدكانه على أمل إكمال تصليحه صباح الغد، دون أن يحسب حساب رجلٍ ساهمٍ مثلي يعود إلى بيته في الليل (والكهرباء مقطوعة طبعاً)
الحق الحق أقول لكم: لم أنزعج كثيراً؛ اكتفيت بإطلاق شتيمة صغيرة على صاحبنا الحداد وقررت مع نفسي: باﭽر أطيّح حظه!
نعم، فالأمر لا يستدعي الغضب كما كان يحدث من قبل حين كانت حوادث مثل هذه تصيبني بغم وتوتر عصبي وصداع ناتج عن إعادة تنظيم ميزانية الأسرة الكريمة الذي كان يبلغ –بعد مكرمة القائد حفظه الله ورعاه- سبعتالاف وستمية وخمسين دينار: منها أربعتالاف واربعمية وخمسين دينار من راتبي الشهري باعتباري "بكلوريوس إدارة واقتصاد" وملاحظ فني محترم قضى عشرين عاماً في خدمة الدولة العراقية المحفوظة من مؤامرات الأعداء برعاية الباري وعزم القائد، والباقي من راتب زوجتي التي لم تحظ سوى بدبلوم معهد فني وأربعطعش سنة خدمة!
وربما كان هذا "الفارق الطبقي" الذي تضخم واتسعت هوته بعد أن صرنا نحن الموظفين "نحـﭽي بمئات الألوف" هو بالذات ما يثير غيرة زوجتي وحفيظتها ويدفعها إلى تقريعي في الصغيرة والكبيرة:
-كلها منك. أكو واحد يرجع للبيت بنصاص الليالي؟!
-عن أي نصاص ليالي تتكلمين يا حُبي (لاحظ التملق) الساعة لم تتجاوز الثامنة وأنتِ تعرفين بأنني مع أصدقائي في المقهى والموبايل في جيبي ويمكنك مكالمتي متى أردت (لاحظ أيضا طريقة نطقي لكلمة موبايل بالـP وليس بالـ B وذلك لأنه ما زال ضيفاً حديثاً أحب تدليله)
- ولو! ألا تعرف أن الدنيا "مو أمان"؟! تفجيرات وتفخيخات واختطاف وصخام!؟
-يا "معودة" العمر واحد والرب واحد. تتذكرين كيف كنت تحذريني من الجلوس في المقهى خوفا من فلتة لسان يستفيد منها أحد "الخوش ولِد" ليصبح بها "عضو فلكة" بعد أن يرسلني إلى حيث أجدادي المراحيم. وانظري الآن ماذا حدث: ها أنا الآن أمامك بطولي الحلو وقد ولى "الأشاوس" إلى مزبلة التاريخ. وسوف تولي كل هذه الأوضاع ويعود الأمان وأمسك بيدك ونروح "نفتر" بشارع النهر وأعشيك أطيب كباب بعرصات الهندية!
-هكذا أنت. لا آخذ منك غير الكلام المعسول. كيف ستذهب غداً الى دوامك؟ تلبس قبقاب؟
لكن ابنتي الحبيبة، بنت أبيها، أسرعت بحل المشكلة:
-بابا، بابا.. مو عندك توندَره تَديمه دوَّه التَريوله؟
(كان هذا نص حديث سيادتها باللغة الگنّوشية وترجمته: بابا، بابا، مو عندك قندره قديمة جوّه القَريولة).. فديتُها، هكذا هي، ذكية مثلي!
وانبطحتُ أرضاً لأسحب العلبة الكرتونية المغبرّة التي ترقد منذ أوائل أيام "التحريلال" تحت السرير الذي حولناه الى مخزن صغير. وأمسكت بالحذاء العتيق الذي حال لونه وتآكلت جوانبه، ونفختُ عليه ونظرت اليه بحنانٍ فخِلتُ –واللهِ- إنه يبادلني نظرة اشتياق وعتاب! فطبطبتُ عليه "مصالِحاً":
-لا تزعل يا حذائي الأثير. أنا لم أتركك بطراً أو جفوةً. أنا أدري أنك رافقتني في السراء والضراء طوال سنوات لا أستطيع عدها، وإنك تحملت نزواتي وتخبطي في المطر والطين ومشاويري الماراثونية في صبرٍ وجَلَدٍ وطول بال. هل تذكر مقدار اعتزازي بك وكيف نهرتُ أحد الزملاء حين أراد الإساءة اليك وتساءل وهو يرطنُ بانكليزيته الشوهاء "ماهذا الحذاء الـ historical؟ ألم تزهق منه؟ أتريد أن تحتفظ به for ever ؟"
لا تأخذ على خاطرك مني أرجوك. أنا لم أرمك في الشارع أو الحاوية مثل أي ناكر للجميل. لقد أحلتك فقط على التقاعد. ألا ترى كيف صبغتك قبل الوداع وحشوتك بأوراق الصحف ووضعتك في علبة حذاء مستورد أنيقة وأرقدتك الى جانب أشياء أخرى عزيزة أحيلت هي الأخرى الى التقاعد مع أول راتب يليق بالبشر نستلمه من محاسب الدائرة منذ ما لا أدري من الأعوام؟
وحملته تحت بقعة ضوء جيدة واقتعدت الأرض كي أعيد صبغه تمهيداً لإعادته الى العملية السياسية (أوهوووه ألعن أبو نشرات الأخبار! أقصد بالطبع إعادته للخدمة). أخرجت أوراق الجرائد المحشورة وشرعتُ بالعمل في "حماس" فأنا من الذين يستمتعون بصبغ أحذيتهم بأنفسهم، غير أن التفاتةً غير مقصودة (يعني.. مو كلش مقصودة) مني الى الأوراق المجعدة أغرتني –كعادتي- على أن أنشر واحدة منها لأنظر فيها فإذا بي –وياللهول- أقع عيناً بعين على المحيّا الجليل للقائد الرمز وهو يضحك ضحكته العريضة المفعمة بالحنان والبراءة فاقشعر بدني خوفاً وندمتُ (بأثرٍ رجعي) على ما بدر مني من طيش وقلةِ تدبير حين غامرتُ بحياتي وحياة أسرتي لمّا وضعت مثل هذه الصورة في مثل هذا المكان! ولكنني برأتُ شخصي المتواضع من هذه الاتهامات عندما أعدت تذكير نفسي بأنني لم أقدم على هذا الفعل الإجرامي الشنيع ولم أحشر تلك الصحف (القديمة حتى في وقتها) إلا بعد زوال زمن الخوف منه ومن أمثاله بغياب "العِلّة" المسببة كما يقول أهل المنطق!
وإذ اطمأن قلبي رحت أفتح الأوراق المكوّرة واحدةً بعد الأخرى: هنا برقية تأييد من المؤتمر القومي العالمي لتجار الواشرات المنعقد في بغداد النصر والسلام، وهنا برقية أخرى من فرع نقابة المحامين في مدينة "شكوماكو" في ولاية "خيال آباد"، وفي هذه الصفحة قصيدة من 77 بيتاً لشاعر أم المعارك بعنوان "أنت الذي مرمرَ العُذّال في القمرِ" وهناك دراسة للكاتب المعروف الدكتور " " بعنوان "الآفاق الحلزونية والأبعاد الإنبعاجية في وصايا القائد الضرورة" وثمة مقالات عن دروس أم المعارك واليوم الزحف العظيم ويوم القدس وفنون هز الشوارب وأخبار عن إزاحة الستار عن الجدارية الجديدة للقائد وافتتاح كراج القائد وغرفة الضماد الجديدة في مستشفى القائد وتجمّعٍ لرؤساء العشائر تلبية لنداء القائد ومهرجان أغنيات القائد الخ. لكن أطرف الصفحات كانت تلك المحتوية على عدد كبير من الإعلانات التجارية-الوطنية التي تضم صورة مكررة للقائد مع تهنئة بقرب ميلاد سيادته واسم صاحب المحل أو المشروع المعلن-المهنئ!
وما أطوّلها عليكم..
في اليوم التالي أبلى حذائي الأثير بلاءً حسناً، ولم أعد الى البيت بعد الظهر إلا وفي يدي زوج جديد من الأحذية، أعني أحذية هذه الأيام التي لا تدري متى تخذلك، ولهذا قررت أن أواصل الاحتفاظ بحذائي القديم احتراماً لمشاعره أوّلاً وتحسباً لكل طارئ ثانياً. ولأن من الطبيعي أن أحشوه من جديد بما يتيسر من الورق فقد سحبتُ من "فوﮒ الثلاجة" وهو مكاني المفضل لرمي الصحف وتكديسها بين كل حملة تطهيرية وأخرى تشنها أم البيت في محاولاتها الفاشلة لتعليمي النظام والترتيب. أقول إني قد سحبت واحدة من تلك الجرائد وبدأت بتكوير الصفحة الأولى فوقع ناظري على وجهٍ واسمٍ بدوا مألوفين لي.. مهلاً.. أليس هو نفسه الكاتب والمحلل الألمعي الذي رأيته أمس في الجريدة القديمة في مقالٍ مطوّل بعنوان "المنظور الستراتيجي في وصية القائد: لا تجعل عدوك يطمع في صفحك"؟ بَلا، إنه هو والله! ولكن ما هذا الذي يكتبه الآن؟ آها، والنعم والله. إنها مقالة بنفس الطول تقريباً عن المنظور الستراتيجي لعملية البناء الفوقي لمرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية!
-لِف عيني لف!
عندما هممت بـ" تعقيج" الصفحة الثانية وقع نظري مرة أخرى (لا أدري لماذا "يقع" نظري كثيراً؟!) على صورة صغيرة للفنان الكبير وتحتها خبر عن بطولته وإخراجه لمسرحية تتحدث عن حياة ونضال رجل الدين الشهيد " " الذي "أقدم نظام الطاغية المقبور على إعدامه"
يا إلهي! أليس هذا هو نفس الفنان العظيم الذي حول الرواية البائسة "زبيبة والملك" الى مسرحية-مسخرة قال عنها إنها ستكون من "أعظم العلامات الفارقة في تاريخ مسرحنا المعاصر لكونها تجسد عملاً ملحمياً يفوق في أهميته وعمقه ملحمة كلكامش؟" إي والله هوّ بعينه!
-لف عيني لف!
يا الله. الصفحة الثالثة! صورة وخبر عن استقبال معالي السيد " " وفداً من رؤساء العشائر الذين جددوا عهد الولاء، ورددوا بعض "الأهازيج الوطنية" ثم ضربوا اللحم والثريد واستلموا المعلوم! والمرء لا يحتاج بالطبع الى عدسة مكبرة للتأكد من الوجوه.. وما أحسنها من وجوه!
الصفحة الرابعة.. براءة! لا شيء غير بضع قصائد لن تستطيع (ولو أوتيتَ حكمة لقمان) أن تفكّ طلاسمها ومقالة نقدية كتبها أديب في مجاملة زميل له! أوكي، ما يخالف، مو مشكلة!
أوشكت الفردتان على الامتلاء.. نصف صفحة أخرى لكل منهما وتأخذان شكلهما الجميل.. لكن صوتاً غريباً اختلط مع صوت تمزيق الصفحة الأخيرة.. هل ستصدقون.. لقد كان حذائي يبكي! صدقوني رجاءً. لقد سمعته بأذني التي سيأكلها الدود!
انحنيت عليه مشفقاً.. ولن أقول لكم ماذا فعلت لكي أواسيه حتى لا تتهموني بالجنون!
شكراً يا أصدقاء.. لقد فهمتموها وهي طايرة.. شكراً جزيلاً!
وعفواً يا حذائي الأصيل.. قد آذيتك مرتين.. عفواً عنيفاً!
النهر الذي صار مستنقعاً
شعر: مؤيد طيب
ترجمة ماجد الحيدر



ساعةَ انبثقتَ
من قلبِ ذاك الجبل الأشم
الملتحف بالثلوج
كنتَ نبعاً صغيراً
ماؤك .. أصفى من خيوط القمر
وأنقى .. من بريق النجوم.
يومها كانت الحجول.. والحمائم.. والبلابل
تقصد بابك
وتنهل من زلالك
وحينَ انحدرت من هناك
وانطلقت بمائكَ الرائق الفضي
تزيح عن طريقك شيئاً فشيئاً
كل صخرةٍ وكثيب..
وصرتَ ساقيةً
واخضرَّت ضفتاك
بالعشب والورد..
وصرتَ ملجأً
للأسود والنمور
والهاربين من الأقطار الأربع
ومضيتَ في الطريق
سريعاً كعصف الريح
لم تغمض الليالي جفنيك
لم يوهن سعير الظهيرة دفقك
لم تُذهِبِ الشمسُ سحنتك
لم يكتم الثلجُ أنفاسك
وما بللتك زخات المطر والبَرَد
وما أحفت قدميك الهضاب والصخور
قد مضيت
سريعاً كعصف الرياح
من خوفك أحنت الصخور
والسفوح هاماتها
وتنحت عن طريقك كل التلال
من حبك
أشرعت كل الوديان والأغوار صدورها
ونادتك كل الشلالات
ومضيتَ تحفر دربك العميق
في كبد هذا التراب العطِشِ الجريح
وصرت نهراً دافقاً
نهراً قوياً.. شديد العزم
وأينعت على ضفتيك القرى
وفي كل قرية
ارتفعت الأشجار والآجام
والورود والأشواك
وعَلَت.. رفعت قاماتها.
وأقبل البعض على شاطئيك
توضأوا.. وصلّوا
وأقبل آخرون
ونجسوك.. أطفأوا فيك شهواتهم
وتعكر ماؤك
وارتخت أقدامك .. أضناها المسير
تصببَ منك العرق
تعبتَ
وصارت الأمواج تهجرك
ذات اليمين وذات الشمال
وغادرتكَ السواقي
وامتدت الأيدي القبيحة
الى جراحك
وتلونت بدم حشاك الجريح
وَهَنتَ.. عراكَ الشحوب
خسرتَ حولَكَ.. وشجيَّ ألحانك
وضاع منك الصوتُ والصدى
وما عادت الصخور والسفوح
تنحني لك
ولا الحجارة تخلي لك الطريق..
أما أنت
فما عاد في وسعك أن تستدير
لتُبلغَ استغاثاتك
لكثبان الثلج ورائقات الأمواج
فنسيتَ سريعاً
صدرَ البحر الدافئ الحجري
ووقفتَ عند أعتاب المدن
وأسلمتَ الزمام
لسواقي المدينة ومجاريها
وابتلعتك أفواه المستنقعات الآسنة
وركدتَ وفسدَ ماؤك
ومن شاطئيكَ فرَّت الحمائم
وارتحلت الورود
واصفرَّ العشب
وامسكت المدن أنوفها
من ريحك النتن
ومضى الناس عطشى
يصلّون للمطر
من يومها صرتَ مأوىً للذباب
وفاسد السمَك
**
ليتكَ ظللتَ ذاك الكثيب من الثلج
في عالي الجبال
ليتكَ ظللتَ ذاك الوابل الفتي
من مطر الربيع
ليتك ظللتَ ذاك النبع
وذاك الجدول من بارد الماء
ذاك الملجأ لوحوش البراري
أو ذاك النهر
نصف الزلال .. نصف العكر..
ليتك ظللتَ ذاك المسافر العنيد
الراحل نحو بحار الجنوب
لا هذه البركة ..
من آسن الماء !!

9-8-1994

يوليسيس - تنيسون


 

يوليسيس
شعر:ألفرد لورد تنيسون


أيُّ ربحٍ نَزيرٍ
أن أكونَ ملكاً عاطلاً
جوارَ هذا الموقدِ الخابي
بينَ هذي الصخورِ الجرداءَ
قرينَ زوجةٍ شمطاءَ
أتصدَّق وأمِنُّ بشرائعَ عوجاءَ
على سلالةٍ متوحشةٍ
تكنزُ وتنامُ وتأكلُ
وتجهلُ مَن أكونُ.
لا أريدُ استراحةً من سفرٍ
سأشربُ كأسَ الحياةِ حتى الثُفـالة
عظيمةً كانت مُتعتي كلَّ حينٍ
وعظيماُ كانَ شقائي
وحيداً ، أو في صحبةِ مَن أحبَّني
على هادئاتِ الشواطئِ
أو حين يُهيجُ النَوءُ الماطرُ معتماتِ البحارِ
وهو يسوقُ حُطامَ السـفائنِ.
قد ذاعَ صيتي لأنّي
أبداً أجوبُ الآفاقَ بفؤادٍ ظمِئ.
قد رأيتُ الكثيرَ ، قد عرفتُ الكثيرَ
مدناً من رجالٍ ، وطِباعٍ ، وأجواءَ ، ومجالسَ وحكوماتٍ
أما نفسي فلا
رغمَ أنّها بزَّتهُم جميعاً
قد عَبَبتُ كأسَ السرورِ من قِراعِ أندادي
بعيداً فوق السهولِ المدوّيةِ لطروادةَ ذاتِ الرياحِ.
قد صرتُ جزءاً من كلِّ ما لاقيتُ
على أن كلَّ خبرتي ما كانت غيرَ قنطرةٍ
يتلامعُ فيها
كلُّ ما لم أزرْ من عوالمَ
تخبو تخومُها وتخبو كلما تقدمتُ.
كم بليدٌ لو توقفتُ.
كم بليدٌ لو بلغتُ النهايةَ.
لو صدِئتُ وأغفلني الصَياقلُ.
لو لم أُبرِقْ من استعمال !
وكأنّـا خُـلـِقنا كي نتنفسَ !
حياةٌ تتبعُ حياةً .. وكلُّـها ضئيلٌ قصيرٌ.
أما التي قُسِمتْ لي
فلم يبقَ منها الكثيرُ.
غير أنَّ كلَّ ساعةٍ فيها قد نجَتْ
من ذاكَ الصمتِ الأبديِّ
بل وظلّـتْ تأتي بالجديدِ والجديد.
كم كَريهٌ أن أكنزَ نفسي وأُخبّأَها أعواماً ثلاثةً.
وهذه الروحُ يمضُّها الشوقُ الى
أن أتبعَ المعرفةَ مثل نجمٍ غائرٍ
وراءَ أبعدِ تخمٍ للفكرِ البشريِّ.
وهذا ولدي .. تِليماخوسُ ابني.
إليه سأتركُ جزيرتي وصولجاني
حبيبٌ الى قلبي ، بصيرٌ بإنجازِ هذا العملِ
وبأن يلطّفَ بالحكمةِ والتدبيرِ
هذا الشعبَ الجلفَ
وإن يُخضِعَهم في تدرّجٍ لطيفٍ
لفعلِ المفيدِ والخيِّرِ.
برئٌ هو وطاهرٌ.
قد وهبَ النفسَ لخدمةِ الناسِ.
يستحيي من الفشلِ
في مواطنِ الرِقّةِ والكرَمِ.
يقدِّمُ فروضَ التبجيلِ لآلهةِ منزلي بعد رحيلي.
لهُ عملُهُ ، ولي عملي.
ذاكَ هو الميناءُ .. هي ذي السفينةُ تنفخُ الشراعَ.
ذاك هو البحرُ القاتمُ المعتمُ الفسيحُ.
فيا بحّارتي – يا نفوساً كدَّتْ، وشَقَتْ، وفكّرَتْ معي
واستقبلتْ في مرحٍ كلَّ العواصفِ والنهاراتِ الوضيئةِ
وقاومَتْ .. بقلوبٍ حُرةٍ وجِباهٍ أبيـّةٍ –
شيوخٌ نحنُ طاعنونَ
غير أن للشيخِ مجدُهُ وكدحُهُ.
الموتُ يختمُ كلَّ شيءٍ
لكنّ شيئاً ما قبلَ النهايةِ ، عملاً ذا نغمةٍ نبيلةٍ
لا يزالُ في مقدورِنا فعلُهُ.
ليس الرجالُ الذين تعوزهم اللياقةُ
الذين يصارعونَ الآلهةَ.
هو ذا الضياءُ يتلألأُ على الصخورِ ،
يتآكلُ النهارُ الطويلُ ، يرتقي القمرُ متثاقلاً
وتئن الأعماقُ بأصواتٍ شتّى
فهلمّوا يا رفاقي.
لم يتأخرْ أوانُ البحثِ عن عالمٍ جديدٍ
ادفعوا .. واعتدلوا جالسينَ في انتظامٍ
واضربوا الأخاديدَ الرنّانةَ.
غايتي الإبحارُ خلفَ مغربِ الشمسِ
خلفَ المواضعِ التي تستحِـمُّ فيها
كلُّ نجمةٍ غربية .. حتى أموت.
ربما جـّرتـْنا الخلجانُ الى الأعماقِ.
ربما لامَسْـنا الجزرَ السعيدةَ
ورأينا "أخيلَ" العظيمَ الذي عرفناه.
حقاً ذهبَ الكثيرُ ، لكنّ الكثيرَ لمّـا يزلْ.
حقاً لم نعُد في القوّةِ التي في الأيامِ الخوالي
زحزحْنا بها الأرضَ والسماءَ.
لكننا نحنُ نحن :
مزاجٌ واحدٌ من قلوبٍ جريئةٍ
أوهَنَها الزمانُ والمصيرُ
غير أن عزماً متيناً يشدّنا
لنبحثَ ، نسعى ، نجهدَ …
ولا نستسلمُ أبداً ।






للمزيد من الشاعر



بحث هذه المدونة الإلكترونية