الرجل.. الذي.. عرف.. كيف.. يطير
للكاتب التشيكي: كارل تشابك
كان السيد "توماتشيك" يسير في طريقه الذي ينعطف حول مستشفى "فوينُهرادِ". لقد اعتاد على مثل هذه النزهة لكي يحافظ على لياقته وقوامه، فقد كانت صحته، والحق يقال، أعزعلى قلبه من كل شيء سواها، وهو، علاوة على ذلك، مشجع رياضي مخلص، ومشاهد متحمس لمباريات الدوري الوطني لكرة القدم.
كان، في تلك الساعة من الغسق الربيعي، يخطو بخفة ونشاط ويقع نظره بين الفينة والأخرى على زوج من العشاق أو على أحد القادمين من "ستراشنيدزه"
- "كان علي أن أشتري جهازاً لِعَدِّ الخطوات" هكذا قال في نفسه "لكي أعرف عدد الخطوات التي أقطعها كل يوم"
وتذكر فجأةً بأنها الليلة الثالثة على التوالي التي يرى فيها الحلم نفسه دون تغيير: إنه ليمشي على جادة الشارع، تعترض خط سيره امرأة تدفع عربة أطفال، فيقفز قفزة صغيرة دافعاً قدمه اليسرى، فإذا به يرتفع في التو الى علو عشرة أقدام! ثم يطير فوق المرأة وعربتها ويحط على الأرض بعد أن يحلِّقَ في خيلاء. لم يكن الأمر، كما بدا له، بحاجة الى تفسير.. وكان يغمره ببهجةٍ لا توصف، ورغم هذا فقد كان من السخف أن أحداً، قبله، لم يجرب القيام به؛ فما من شيء أسهل: يكفي أن يحرك قدميه قليلاً، كما لو كان يركب دراجة هوائية، كيما يرتفع من جديد، ليخترق الهواء على ارتفاع طابق واحد ثم يعود الى الأرض في دعةٍ واسترخاء. تكفيه قفزة خفيفة.. وهاهو.. محلقا دون عناء.. لم يكن في حاجة الى أن يلامس الأرض، كل ما يلزمه هو أن يحرك رجليه.. ليواصل الطيران. في هذا الحلم كان السيد توماتشيك يندفع ضاحكاً بصوت مرتفع من حقيقة ان أحداً غيره لم يكتتشف حتى الآن هذه الحيلة البسيطة. إنها، كما أدرك السيد توماتشيك في حلمه، لأسهل من المشي وأكثر منه قرباً الى الفطرة.
- "غداً، حين أقوم من نومي، علي أن أجرب القيام بالأمر مرة أخرى"
لثلاث ليال متعاقبات، كان يرى الحلم نفسه، وإنه لحلمٌ جميل حقاً؛ لقد كان ينتابه إحساس بأن جسده قد فقد وزنه تماماً..
كم كان رائعاً لو أمكن للمرء أن يطير دون عناء: بمجرد أن يقفز قفزة صغيرة. نظر السيد توماتشيك حواليه؛ لا يوجد من يسير خلفه. شرع بقليل من الهرولة، على سبيل المزاح لا غير، كما لو كان يروم القفز فوق بركة ماء صغيرة، فإذا به يرتفع من فوره الى علو عشرة أقدام ويحلق فوق الأرض في دورة لطيفة. لم يندهش قط؛ فقد بدا الأمر طبيعياً لا لبس فيه، لم يشعر إلا بإحساس من الإثارة اللذيذة تشبه ما يعتري من يركب دوامة في مدينة ألعاب، حتى أن السيد توماتشيك كاد يطلق صيحة ابتهاج طفولي، لكنه، وبعد مائة قدم، دنا مما تبين أنها أرض مليئة بالوحل، فحرك ساقية من جديد كما كان يفعل بالضبط في حلمه، فأقلع على الفور ثم عاد ليهبط ويحط على الأرض، في خفة ودون أدنى ارتعاشة، على بعد خمسين قدماً تقريباً.. خلف رجل كان يجرجر قدميه في وجوم صوب " ستراشنيدزه " حدق به الرجل مرتاباً؛ كان كما يبدو يكره أن يتبعه أحد دون أن يسمع وقع أقدامه. اجتازه السيد توماتشيك، باذلاً صارى جهده كي لا يثير مزيداً من الشك، حتى أنه خشي من المبالغة في الإسراع لئلا يضطر الى القفز فيطير من جديد.
علي أن أجرب هذا بطريقة صحيحة، قال السيد توماتشيك لنفسه، ثم انعطف ليتخذ الطريق المهجور ذاته رجوعا الى بيته، ولكن، كما لو كانت ثمة مؤامرة مقصودة ضده، ظل يلتقي كل هنيهة بأزواج من العشاق أو بعمال القطار الغادين والرائحين، فلم ير بداً من الانعطاف نحو طريق جانبي يقود الى بقعة مهجورة كانت تستخدم مكباً للنفايات. كان الظلام قد حل، لكن السيد توماتشيك، وقد خشي من أن ينسى مهاراته مع الغد، قفز هذه المرة بشيء من التردد؛ فارتفع ثلاثة أقدام ثم حط على الأرض بطريقة خرقاء بعض الشيء. ثم جرب الأمر ثانية مستخدماً كلتا يديه كما يفعل السابح، فطار هذه المرة مسافة مئتين وخًمسين قدما ودار نصف دورة ثم لامس الأرض برقة ولا رقة الفراشات! كان يريد أن يجرب للمرة الثالثة، ولكن، وفي تلك اللحظة بالذات غمره شعاع من الضياء القوي وصاح به صوت خشن:
- "ما الذي تفعله هنا؟"
كانت دورية الشرطة. فتمتم السيد توماتشيك في هلعٍ وقد صدمته المفاجأة:
- "أنا أمارس الرياضة"
- "حسناً إذن، كن عاقلاً وانقلع الى مكانٍ آخر تمارس فيه رياضتك" أجاب الشرطي محنقاً "ولكن ليس هنا.. مفهوم؟"
لم يفهم السيد توماتشيك تماماً لماذا يسمح له بالتمرن في كل مكان إلا هذا، لكنه، وهو المواطن المطيع للقانون، تمنى للضابط ليلة سعيدة وغادر مسرعاً وقد اعترته خشية من أن يحلق دون إرادة منه، الأمر الذي قد يثير شكوك ضابط الشرطة. لكنه لم يعمد الى القفز في الهواء من جديد إلا عندما وصل الى المعهد الصحي الوطني. ارتفع فوق الأسلاك الشائكة واستخدم يديه ليخترق حديقة المعهد من الطرف الى الطرف ثم يقطع شارع "التاج" برمته قبل أن يحط قريباً من خادمة صغيرة تحمل في يدها ابريقاً من الجعة فإذا بالفتاة تطلق صيحةَ خوف وتلوذ بالفرار.
قدّر السيد توماتشيك المسافة التي قطعها بستمئة قدم، وعدّها بداية حسنة. في الأيام التالية انغمس بجد واجتهاد في تمارينه على الطيران، في الليل فقط وفي أماكن مهجورة بالطبع، في رقعة مجاورة لمقبرة اليهود على وجه التحديد، غير بعيد عن "أولشاني". فجرب العديد من الطرق المختلفة: مثل الإقلاع بعد الجري السريع، أو الإقلاع العمودي من حيث يقف. فصار قادراً، دون أية صعوبة وبمجرد أن يرفس الأرض برجليه، على الصعود مسافة ثلاثمئة متر، لكنه لم يجد في نفسه الشجاعة على تخطي هذا الارتفاع. ثم جرب طرقاً مختلفة للهبوط، مثل الهبوط المتدرج اللطيف أو النزول الحاد البطيء، وكل ذلك بمساعدة يديه. وتعلم أيضاً كيف يتحكم بسرعته ويغير اتجاهه وهو يطير، وتعلم أيضاً أن يطير عكس الريح، أو وهو يحمل ثقلاً في يده، وأن يعلو وينخفض كلما عنَّ له ذلك.. الخ..
كل شيء كان أسهل ما يكون، وصار السيد توماتشيك يزداد حيرة لأن الناس لم يكتشفوا هذا حتى الآن؛ إذ لم يسبق لأحد، كما هو واضح، أن جرب القفز ثم الطيران. في إحدى المرات ظل في الهواء لسبع عشرة دقيقة برمَّتها قبل أن يعلق بخطوط الهاتف ويقرر النزول. وفي إحدى الليالي جرب أن يطير على طول شارع روسيا؛ فطار على ارتفاع اثني عشر قدماً، وعندما لاحظ خلفه رجلي شرطة أسرع بالانعطاف نحو حدائق أحد الأحياء الثرية، وسمع وهو يطير أصوات صافرات الشرطة الحادة وهي تخترق هدوء الليل، فعاد الى نفس المكان ولكن مشياً على الأقدام فرأى ستة من رجال الشرطة وهم يمشطون الحديقة مستعينين بالمصابيح اليدوية، وعرف منهم أنهم يتعقبون لصاً كان يتسلق السياج.
هنا فقط أدرك السيد توماتشيك المنافع الهائلة لقدرته على الطيران، رغم أن فكرة عملية بعينها لم تخطر بباله. وفي إحدى الليالي أغرته نافذة مفتوحة في الطابق الثالث من بناية في ساحة "ميلوفكوفتش" فبلغها بعد قفزة خفيفة، وجلس على حافة النافذة، ولم يعرف خطوته التالية. سمع صوت أحدهم، وكان واضحاً أنه يغط في نوم عميقٍ صاخب. تسلل الى الغرفة، لكنه، وقد خلا ذهنه من أية نية للسرقة، ظل واقفاً هناك، يملؤه شعور بالضيق والحرج مثل ذاك الذي يحسه من يجد نفسه في بيتٍ غريب. تنهد السيد توماتشيك وعاد الى النافذة، لكنه فكر بأن يترك وراءه علامةً تشهد بإنجازه الرياضي، فاستل ورقة من جيبه وكتب عليها بقلم الرصاص: لقد كنتُ هنا!!.. المنتقِم إكس!!
وضع الورقة على المنضدة الجانبية لسرير الرجل وقفز دون ضجيج من الطابق الثالث. ولم يدرك، إلا حين وصل البيت، بأن تلك الورقة لم تكن غير ظرف عليه عنوانه، لكنه لم يجد في نفسه الشجاعة على العودة لاستردادها. وظل لأيام عدة في حالة من القلق الفظيع خشية أن تتدخل الشرطة وتحقق بالأمر، لكن ما أثار دهشته أن شيئاً من هذا لم يحدث.
لكن إحساساً جديداً ما لبث أن انتاب السيد توماتشيك، إذ شعر بأنه لم يعد يستطيع الاستمرار في إطلاق العنان لهوايته السرية هذه في معزل عن مشاركة الآخرين، لكنه لم يكن يمتلك أدنى فكرة عن كيفية تقديم اكتشافه الى الجمهور العريض.. ما أسهل الأمر لو يعرفون!.. كل ما عليهم فعله هو أن يقفزوا ويحركوا أيديهم قليلاً كي يحلقوا مثل الطيور. ربما كان حقل رياضي جديد يوشك على الظهور، أو ربما سيكون ممكناً تسهيل حركة المرور في الشوارع لو أن الناس طاروا بدلاً من أن يسيروا على أقدامهم. ولن يكون تركيب المصاعد في البنايات العالية من الأمور الضرورية.. إنه، وباختصار، اكتشاف عظيم الأهمية والنفع. صحيح أن السيد توماتشيك لم يكن متأكداً تماماً من مسار الأمور، لكنه واثق بأنها ستأخذ في النهاية مسارها الصحيح، فكل اكتشاف عظيم لم يكن في البداية غير لعبة صغيرة.
في البناية التي يعيش فيها السيد توماتشيك يقطن جار شابٌ بدين يدعى "ويتا" يعمل في إحدى الصحف. نعم، كان محرراً لعمود رياضي أو شيء من هذا القبيل. قرر السيد توماتشيك أن يزور "الأستاذ ويتا"، وبعد قليل من اللف والدوران أوضح له أن هناك شيئاً مهما يود أن يريه إياه. لم يكن راغباً في إفشاء سره دون مقدمات، وكان السيد "ويتا" بدوره يظن بأنه يتعامل مع شخص غريب الأطوار. لكنه، وبعد كثير من التوسلات ومحاولات الإقناع تنازل ووافق على المضي معه الى مقبرة اليهود في تمام التاسعة مساءً.
- "حسناً.. راقبني أيها السيد المحرر"
قال السيد توماتشيك وقفز، وارتفع عن الأرض الى خمسة عشر قدماً تقريباً، حيث أدى بعض الحركات، ونزل الى الأرض ثانية ثم عاد وارتفع وهو يخفق ذراعية في نشاط حتى أنه لبث محوماً في مكانه قي الهواء لثماني ثوانٍ تماماً. اكتسى السيد ويتا ملامح الجد المفرط وشرع بمراقبة حركات السيد توماتشيك بكل واهتمام فشرح له الأخير كل شيء بصبر وأناة:
- "تكفيك قفزة صغيرة لتجد نفسك في الهواء، كلا، ليس في الأمر أي نوع من الروحانيات ولا حاجة به الى أية قوى خارقة. حتى قوة الإرادة أو القوة العضلية لا لزوم لهما هنا، ما عليك إلا أن تقفز وتطير، جرب بنفسك أيها السيد المحرر"
تضرع اليه. لكن السيد ويتا اكتفى بهز رأسه:
- "لا بد أن في الأمر خدعة ما" فكر بصوت عال، وأضاف بوضوح وتصميم "سأصل الى كنه الأمر" ثم طلب من السيد توماتشيك أن يبقى السر بينهما في هذه المرحلة.
في اليوم التالي أرغم السيد توماتشيك على الطيران بحضور السيد ويتا حاملاً في كل واحدة من يديه ثقلاً يزن عشرة أرطال. لم يكن الأداء حسناً هذه المرة، إذ لم يعلُ السيد توماتشيك بأكثر من عشرة أقدام، بيد أنه كان راضياً بذلك. بعد الطيران الثالث قال السيد ويتا:
- "حسناً، أصغِ إليّ يا سيد توماتشيك، أنا لا أريد إقلاقك، لكن هذا أمر على قدر كبير من الأهمية والجدية. إن الطيران البشري ذا الدفع الذاتي اكتشاف ذو فائدةٍ هائلة. في الدفاع عن أرض الوطن، على سبيل المثال، مفهوم؟ وعليه يجب التعامل مع هذه القضية بطريقة احترافية. أنت تعرف يا سيد توماتشيك.. أرى أن عليك أن توضح مقدرتك هذه أمام الخبراء المختصين. سأتولى أنا ترتيب الأمر"
وهكذا، كان السيد توماتشيك يقف بعد أيام، مرتدياً سراويله الرياضية القصار، قبالة لجنة من أربعة سادة محترمين. جرى الاجتماع في ساحة المعهد القومي للتربية الرياضية. وكان السيد توماتشيك يشعر بالخجل من عريه.. كان قلقاً ويرتجف من البرد، لكن السيد ويتا لم يلن أو يتنازل عن رأيه القاطع في أن يجرى التمرين بالسراويل القصار كي يرى الجميع كيف يؤديه. كان أحد السادة، وهو رجل أصلع مفتول العضلات،ً يترأس اللجنة على ما يبدو، وكان تعبير وجهه يوحي بأن الأمر برمته كان في رأيه عديم المعنى، حتى أن أنفه، هو الآخر، كان يشي بأنه يعد هذا التمرين، من الناحية العلمية، سخفاً مطبقاً.
ألقى نظرة خاطفة برمة على ساعته ثم نخر بصوت يشبه صوت الخنزير:
- "حسناً يا سيد توماتشيك.. أوضح لنا الأمر بقفزةٍ منك"
صار السيد ويتا في قمة الإثارة، أما السيد توماتشيك، وقد أجفله الصوت، فقد ركض خطوتين لكنه توقف حين صاح به الخبير:
- "لحظة واحدة.. قفزتك سيئة جداً.. عليك أن تنقل وزن جسمك الى قدمك اليسرى.. مفهوم؟ أعد المحاولة!"
جرّب السيد توماتشيك مرة ثانية، محاولاً أن ينقل وزنه الى القدم اليسرى، لكن الخبير تفضل عليه بمعلوماته القيمة:
- "ويداك يا سيدي.. ليست لديك أدنى فكرة عما تفعله بيديك. عليك أن تبقي ذراعيك في وضعٍ يتيح لك توسيع صدرك. وقبل هذا وذاك، لقد حبست أنفاسك خلال القفز، وهذا أمر لا يجوز لك فعله. عليك أن تتنفس بعمق. استرخِ.. أعد رجاءً!"
ارتبك السيد توماتشيك، إذ لم يعد قادراً على معرفة ما يفعل بذراعيه أو كيفية التنفس الصحيح. فتململ وأخذ يبحث عن مركز ثقل جسمه.
- "الآن!" صاح السيد ويتا.
تأرجح السيد توماتشيك مثل رقاص الساعة وانطلق راكضاً، لكن، وفي اللحظة التي أوشك فيها على الإقلاع، صاح الخبير من بين فكيه:
- "سيئ! توقف!"
حاول السيد توماتشيك أن يتوقف، لكن دون نجاح، فقفز قفزة ضعيفة وطار الى ارتفاع ثلاثة أقدام، لكنه، وقد أراد أن يطيع الأمر، ارتمى عائداً الى الأرض وظل واقفاً في مكانه.
- "سيئ جداً.. سيئ للغاية" صرخ الخبير "عليك أن تحني جسمك نحو وضعية الجثوم! ألقِ بثقلك على رؤوس أصابعك وتأرجح مثل النابض! ثم ادفع ذراعيك الى الأمام، مفهوم؟ يداك يا سيدي هما، في النهاية، من يحملان عزم القصور الذاتي.. تلك حركة فيزيائية طبيعية.. انتظر" قال الخبير "سأريك كيف تقفز.. راقبني جيداً" ونزع سترته ورماها وتقدم نحو خط البداية "انتبه رجاءٍ يا سيدي.. إن مركز الكتلة يقع على القدم اليسرى، أسحب رجلي فينحني الجسم الى الأمام، أما مرفقاي فأبقيهما الى الوراء.. كي أوسع قفصي الصدري.. الآن افعل كما فعلتُ أنا!"
قلد السيد توماتشيك حركاته بعينها.. لم يسبق له أبداً أن شعر بمثل هذا الصغار والضيق.
- "عليك أن تتدرب" قال الخبير "والآن أنظر! سأثب على قدمي اليسرى ثم أنطلق" وقفز الخبير وركض لستة خطوات محركاً يديه في دائرة جميلة ثم انحنى بأناقة الى وضع الجثوم، وقد مد ذراعيه الى الأمام "هذه هي الطريقة الصحيحة" واصل حديثه وسحب سرواله الى الأعلى ثم أضاف "افعل تماماً مثلما فعلتُ أنا!"
وألقى السيد توماتشيك نظرةً ملتاعةً بائسة على السيد ويتا ولسان حاله يقول "هل هذا ضروري حقاً"
- "مرة أخرى" قال السيد ويتا، فتلوى السيد توماتشيك لينفذ الأمر "الآن!" وتشابكت ساقاه وقفز على قدمه اليسرى "ربما يتغاضون عن هذا، شريطة أن أجثم وأمد ذراعيَّ" فكر وهو يركض. لقد أغفل الوثبة الأولية الصغيرة تقريباً وبدلاً من ذلك أسرع بالقفز "ما عليّ إلا أن أجثم بصورة صحيحة" ومضت الفكرة كالبرق في رأسه، وقفز هذه المرة الى ارتفاع قدمين فقط ثم سقط على الأرض على بعد خمسة أقدام. ثم أسرع بالتحول الى وضعية الجثوم ومد ذراعيه الى الأمام.
- "ولكن يا سيد توماتشيك" صاح السيد ويتا "أنت لم تطر قط! أرجوك.. أعد المحاولة!"
ووثب السيد توماتشيك من جديد. وقفز الى مسافة خمسة أقدام، لكنه نزل وقد اتخذ وضع الجثوم وتذكر أن يباعد ما بين ذراعيه! وغرق في عرق الخزي وكان قلبه يخفق بشدة وحدث نفسه في يأسٍ عظيم "يا إلهي، لمَ لا يتركوني وشأني كي أوليَّ من هذا المكان؟"
في ذلك اليوم قفز السيد توماتشيك مرتين أخريين، لكنه اضطر الى التوقف عن المحاولات التالية...
وهكذا.. ومنذ ذلك اليوم.. لم يعد السيد توماتشوك.. يعرف.. كيف.. يطير!
ولد الكاتب التشيكي كارل تشابك Karel Capek في عام 1890 في مقاطعة بوهيميا الخاضعة آنذاك للامبراطورية النمساوية-الهنغارية. درس الفلسفة في براغ وبرلين وباريس بين 1909-1915، وعمل بعد حصوله على الدكتوراه أمين مكتبة عامة ثم مدرساً خاصاً ثم صحفياً. كتب بأسلوبه الذكي الساخر في مختلف المواضيع وعرفت كتاباته (التي تعد من أفضل ما كُتب باللغة التشيكية) بوصفها الممتع والدقيق للواقع، لكنه نال شهرته الأكبر لكونه أحد الرواد الكبار المؤسسين لأدب الخيال العلمي وذلك قبل أن يتم الاعتراف به كجنس أدبي مستقل. غير أن كتاباته اتسمت بتركيزها لا على المغامرات وقصص الرحلات الفضائية الشائعة بل على الآفاق والبدائل المحتملة للتطور الاجتماعي والإنساني على الأرض، وهو بهذا يصنف مع جورج أورويل وألدوس هكسلي كأحد "الكتاب التأمليين". وتناقش أعماله الجوانب الأخلاقية والاجتماعية للمخترعات الثورية والتحولات العلمية التي ظهرت أو كانت متوقعة خلال النصف الأول من القرن العشرين ومنها الانتاج الآلي الواسع النطاق والأسلحة النووية والذكاء الاصطناعي (يعده المؤرخون أول من أوجد مصطلح الروبوت المشتق من اللغة التشيكية القديمة رغم أنه شخصيا عزا الفضل فيه الى أخيه الفنان والكاتب جوزيف تشابك الذي أعدم لاحقاً في معسكرات الموت النازية).
تتميز كتابات تشابك رغم بساطتها الظاهرية بكشفها المعمق لنفسية الانسان والمجتمع البشري بصورة عامة وخاصة في مواجهة التغيرات أو التجارب غير المألوفة (كما في قصتنا هذه) وهو يعبر في الكثير من أعماله عن خشيته من العنف والدكتاتورية والقوة المفرطة للحكومات الشمولية والشركات الكبرى وعلاقة كل ذلك بمصير الانسان العادي وأحلامه في الحرية والأمن والجمال. كتب تشابك في العديد من الحقول الأخرى مثل القصة البوليسية والرواية وقصص الأطفال الخيالية والمسرح والفلسفة وعلم المعرفة وحتى في فن البستنة! وخلال الثلاثينات ركز على التهديد الوحشي الذي مثلته النازية والفاشية واشتهر بعلاقته الشخصية الوثيقة بعالم الاجتماع والفيلسوف التشيكي توماس ماساريك الذي أسس وترأس الجمهورية التشيكوسلوفاكية الأولى (1918-1938)، مما جعل دوائر الجستابو تعده ثاني أخطر عدوٍ لها. لكن المرض سبقها الى قتله إذ توفي في الخامس والعشرين من ديسمبر 1938 بعد أيام قلائل من احتلال النازيين لبلاده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق