آكلو اللوتس - تنيسون


 

آكلو اللوتس







ألفرد لورد تنيسون

Tennyson, Alfred, Lord (1809-1892) : واحد من أعظم الأدباء الإنكليز خلال العصر الفكتوري (1837-1901). أحاط في كتاباته بالعديد من الأساليب الفنية التي تضمنت عدداً من أفضل نماذج الشعر الرعوي في اللغة الإنكليزية. ولد في السادس من آب 1809 وتلقى القدر الأكبر من تعليمه المبكر على يد والده رجل الدين الدكتور جورج تنيسون، وأبدى منذ نعومة أظفاره قدراً كبيراً من الموهبة والولع بالتأليف الشعري ، فكتب أشعاراً تتميز بالأصالة والنبوغ متعقبا خطى شعراء مشهورين أمثال بايرون الذي كنّ له إعجاباً شديداً ، ومن اللافت للنظر أن هذا الشاعر العبقري أنجز العديد من الملاحم والمسرحيات الشعرية قبل أن يبلغ الخامسة عشرة من عمره !
دخل تنيسون جامعة كامبردج عام 1827 وبعد عامين نشر عمله الشعري الشهير تمباكتو (Timbuctoo) الذي نال عليه إحدى الجوائز الأدبية وفي العام التالي نشر أولى مجموعاته الشعرية (Poems, Chiefly Lyrical -1830) لكنه آثر في صيف العام نفسه الالتحاق بجيوش الثوار الأسبان بصحبه رفيقه الحميم آرثر هالام (Arthur Hallam) . في عام 1831 وعقب وفاة والده قرر ترك كامبردج نهائيا دون الحصول على شهادته الجامعية.وفي العام التالي أصدر مجموعته الثانية (Poems –1832) التي تضمنت قصيدته الذائعة الصيت "آكلو اللوتس" (The Lotos-Eaters) لكنها قوبلت في حينها بامتعاض النقاد. كانت نقطة التحول الحاسم في حياة تنيسون هي الوفاة المفاجئة لصديقه الحميم "هالام" عام 1833، فعانى الشاعر من اكتئاب روحي عميق وأقسم على ألا ينشر شيئاً مما يكتب لعشرة أعوام ! وكرس نفسه طيلة تلك السنوات للقراءة والتأمل رغم أنه كتب قصيدته المعروفة "الصوتان" (The Two Voices –1834) وهي قصيدة فلسفية تدور حول فكرة الموت والخلود. في عام 1842 ، وعقب انقضاء فترة الصمت الطوعي، حاز تنيسون على إطراءٍ واسع بعد نشره مجموعته "أشعار" (Poems) في جزأين وهي المجموعة التي رسخت أقدامه كأفضل شعراء عصره. وتحتوي المجموعة على قصيدته الرعوية  "موت آرثر"  (Morte d'Arthur) القائمة على أسطورة الملك آرثر، وقصيدته الشهيرة "يوليسيس" (Ulysses) ، إضافة الى قصيدته الغنائية الجياشة "تحطم .. تحطم .. تحطم" (Break, Break, Break) .
في عام 1847 نشر أولى مطولاته "الأميرة" (The Princess) وهي معالجة رومانسية في شعرٍ موزون غير مقفى لمسألة حرية المرأة ، وفي عام 1850 ظهرت واحدة من أعظم قصائده " الذكرى" (In Memoriam) في ذكرى صديقه "هالام" وهي القصيدة التي أحتلت منذ ذلك الوقت مكانها كواحدة من أفضل قصائد الرثاء في اللغة الإنكليزية. في عام 1850 تزوج حبيبته "إميلي سلوود" بعد انتظار دام سبعة عشر عاما، وفي العام نفسه عيّن شاعراً للبلاط (poet laureate of Britain) خلفاً لوليام وردزورث . في السنوات التالية عاد تنيسون الى موضوعة الأساطير الآرثرية وذلك في مجموعته "أناشيد الملك" (Idylls of the King) التي بدأ كتابتها عام 1859 ولم يفرغ منها إلا بعد ستة وعشرين عاماً ، واتسمت بالفخامة والجزالة والتصوير النابض بالحياة. من أعمال تنيسون الأخرى قصته "إينوك آردن" (Enoch Arden –1864) وعدد من المسرحيات التاريخية منها "الملكة ماري" (Queen Mary -1875) ، "هارولد" (Harold -1876) و "بيكيت" (Becket-1884) والعديد من المجموعات الشعرية الأخرى . نال تنيسون لقب بارون عام 1884 واختير عضواً في مجلس اللوردات . توفي في السادس من اكتوبر 1892. إن مكانة تنيسون في الأدب الإنكليزي ترجع الى نجاحه في كتابة الكثير من أمهات القصائد المتميزة بالأصالة والنبوغ والحرفية العالية التي كانت انعكاساً لميل الشعر الإنكليزي خلال العصر الفكتوري نحو الجزالة والنظام والموسيقى العالية ، وهو في قصيدتين مما نقدمه هنا للقارئ الكريم يوظف ملحمة الأوديسة الإغريقية الخالدة ليؤكد قيم الكفاح والعمل من أجل تحقيق الوجود الإنساني (متمثلاً بالبحر/ الحياة ومغامراته العظيمة) مندداً ، مثل زميله ماثيو آرنولد، بالقيم النفعية والفلسفة المادية الميكانيكية التي تبناها سادة ذلك العصر.


آكلو اللوتس
ألفرد لورد تنيسون

[1]
هنا لذيذُ الموسيقى التي تسّاقطُ في رقةٍ
مثلَ تويجاتِ وردٍ تنزلُ على العشبِ
أو قطيراتِ ندىً ليليةٍ فوقَ مياهٍ ساكنةٍ ،
في شِعابٍ تتلألأُ
بين جدرانٍ من صخورٍ ظليلةٍ.
موسيقى تفترشُ القلبَ
بِأَرقَّ مما تفعلُ الجفونُ الناعساتُ
فوق عيونٍ أثقلها الكرى.
موسيقى بها يتنزل لذيذُ الرقادِ
من سماواتِ النعيمِ.
هنا برَكٌ مِن طحالبَ .. باردةٍ عميقةٍ
يزحفُ من بينها اللبلابُ
وتذرُفُ مورقاتُ الأزاهيرِ
الندى في الجدولِ الرقراقِ
ويتمايلُ الخشخاشُ نعساناً
من أفاريزِ الصخورِ.
[2]
علامَ تنوءُ ظهورُنا بالأحمالِ
علامَ يسحقُنا الهَمُّ العميقُ
وكلُّ ما حولنا حرٌّ من الأعباء ؟
كلُّ شيءٍ يخلُدُ للدّعَةِ ، فعلامَ نكدحُ وحدَنا ؟
نكدحُ ونكدحُ أوّّلَ الآخرينَ
ونئنُّ للأبد …
يقذفُنا حُزنٌ لحزنٍ
فلا نطوي الجناحَ ، كي نكفَّ عن التَهيامِ .
ولا نغمسُ الجباهَ في بلسمِ النومِ الإلهيِّ
أو ننصتُ لأغنياتِ الروحِ والفؤادِ.
" لا بهجةَ إلا في السَكينةِ ! "
علامَ إذنْ نكدحُ ونكدحُ ونكدحُ
من الجذورِ حتى القِمم ؟
[3]
أنظرْ ! في أعماقِ الغابِ
تستدرِجُ الأنسامُ فوقَ الغصونِ
أوراقَ البراعمِ الغافياتِ … تغويها.
وهناكَ تتفتّحُ … وتخضَرُّ … ولا تُبالي :
تتشرَّبُ الشمسَ في الظهيرةِ …
وترضعُ ليلاً من ضياءِ القمرِ…
وتصفَرُّ ، تسقطُ ، تهبطُ عائمةً في الهواءِ.
أنظرْ ! تلك التفاحةُ الريّا
أشربَتْها شمسُ الصيفِ حلاوةً
فتكورتْ وأينعتْ
وهوتْ في ليلِ الخريفِ الساكنِ.
والأزاهيرُ التي تُمضي أيامَها التي قُدِّرت لها
تينَعُ وهي في محلِّها لا تريمُ
تينعُ وتخبو ، ثم تهوي دونَ عَناءٍ
وجذورُها راسخاتٌ .. عميقاً في الترابِ الخصيبِ.
[4]
مقيتةٌ تلكُمُ السماءُ الكالحةُ الزُرقَِةِ ،
معقودةً فوقَ ذاك البحرِ الكالحِ الأزرق.
الموتُ خاتمةُ كلِّ حياةٍ ..
آهٍ ، فعلامَ تكونُ الحياةُ كَدّاً ؟
ذَرونا لوحدِنا !
ذا الزمانُ يعدو كالمسعورِ
وسرعانَ ما تُطبِقُ مِنّا الشّفاهُ.
ذَرونا لوحدِنا !
ما الذي يدومُ ؟
كلُّ شيءٍ يُنتَزَع منا ويصيرُ ..
مضغةً من ماضٍ مَهولٍ.
ذرونا لوحدنا !
أيةُ متعةٍ نجتنيها من قِراعِ الشرورِ ؟
وهل تُرى من راحةٍ أو سلامٍ ..
في اعتلاءِ الأواذي يوماً بعدَ يوم ؟
كلُّ شيءٍ لا بدَّ أن يستريحَ
ويينَعَ .. يمضي الى لحدِهِ في سكونٍ.
يينعُ .. يهوي .. ثم يستكينُ.
أَعطِنا طولَ راحةٍ .. أو فاعطنا موتاً ..
موتاً خفياً مُظلِماً .. أو دَعَةً حالمةٍ.
[5]
كَم لذيذاً كانَ ذاكَ : سماعُ الجدولِ المنحدرِ
بعيونٍ نصفَ مطبِقةٍ ، تبدو كلَّ حين
غاطّةً في الكرى ، نصفَ حالمة !
أن نحلمَ .. ونحلمَ .. ونحلمَ
كذاك الضياءِ الكهرمانيِّ
الذي لا يبرحُ تلكمُ الشجيراتِ
هناكَ .. في الأعالي.
أن نسمعَ ما نثرثرُ به من همساتٍ
ونلتهمَ اللوتسَ يوماً بعدَ يومٍ.
أن نرقُبَ تقصّفَ الأمواجِ على الشطآنِ
والخطوطَ المتعرِّجَةَ الواهنةَ
من رذاذٍ مزبِدٍ.
أن نُعيرَ أرواحَنا والقلوبَ
لسطوةِ كآبةٍ رقيقةٍ.
أن نتأمّلَ ونُطيلَ التفكّرَ، ونعيشَ الذكرى من جديدٍ
في رِفقةِ الوجوهِ التي عرفناها في الصِغَرِ :
رابيةٌ من عُشبٍ فوقَها ..
وقبضتانِ من رمادٍ أبيضَ
في جَرَّةٍ مُحكَمَةٍ من نحاس !
[6]
عزيزةٌ ذكرياتٌ شَدّتنا الى نسائِنا
عزيزٌ عِناقُ أزواجِنا الأخيرُ
ودموعُهُنَّ السخيناتُ.
لكنّ يدَ النسيانِ طالتْ كلَّ شيءٍ
وهذي مواقدُنا لا بدَّ قد برُدَتْ
وأولادنا لا بدَّ قد ورثونا
ونظراتُنا لا بدَّ استحالتْ غريبةً منسية.
لو زُرناهمُ الساعةَ لكُنّا
مثلَ أشباحٍ تعكِّرُ صفوَ المسرّاتِ.
وأولئكَ أمراءُ الجزائرِ الباسلون
لربما يأكلونَ الآنَ خبزَنا
وأمامَهم يُنشِدُ المنشدونَ
عن حربِ طروادةَ ذاتِ السنين العشرِ
وعن عظيمِ فَعالنا ... كقصصٍ نصف منسيةٍ.
...
هل من ارتباكٍ في ذي الجزيرةِ الصغيرة ؟
دعْ ما تحطَّمَ على حالِهِ ؛
الآلهةُ صعبةُ الغفرانِ
وعسيرٌ أن يعودَ ما اختلَّ الى صفوِهِ
فوضىً هناكَ .. أشدُّ من الموتِ نفسِهِ ..
همومٌ فوقَ همومٍ .. وألمٌ فوقَ ألمٍ ..
كدحٌ طويلٌ حتى شيخوخةِ الأنفاسِ ..
وشقاءٌ موجِعٌ على قلوبٍ قرَّحتْها الحروبُ ..
وأعينٍ أعشاها طولُ التحديقِ
في نجومٍ هادياتٍ .
[7]
متكئينَ على أسرّةٍ من عشبٍ خالدٍ
لا يعرفُ الذبولَ
كم يحلو لنا
-إذ دافئاتُ الأنسامِ تُهدهِدُنا
تحتَ سماءٍ عميقةٍ قدسيةٍ -
أن نرقبَ بأعينٍ مرخَياتٍ
ذاك النهرَ الطويلَ الرَقراقَ
يسوقُ على مهلٍ
ماءَهُ من التلِّ الأرجوانيِّ.
أن نُصغي للأصداءِ النديّةِ
إذ تنادي من كهفٍ لكهفٍ
بين الكُرومِ المُلتفَّةِ المجدولةِ.
أن نرقبَ الماءَ الزمرّديَ
يهوي بين أكاليلَ مضفورةٍ
من أغصانٍ تخلُبُ الألبابَ.
أن نصغي ونرى فحسبُ
للبحرِ المتلألئِ البعيدِ.
حسبُنا أن نصغيَ ، مستلقينَ في ظِلالِ الصنوبرِ.
[8]
يتفتحُ اللوتسُ تحتَ القمةِ الجرداءَ.
يُزهِرُ اللوتسُ عندَ كلِّ جدولٍ يتلوّى.
وتظلُّ الأنسامُ النهارَ برمَّتِهِ
تتنفسُ في نغَمٍ رخيمٍ
خلالَ كلِّ كهفٍ عميقٍ وشِعبٍ متوحدٍ.
وحولَ التِلالِ اللاذعةِ ينثرُ اللوتسُ غبارَهُ الأصفرَ
**
كفانا ما لاقينا من قِراعٍ ومن حَراكٍ
ومن تقلُّبٍ للميامنِ ، من ترنّحٍ للمياسرِ
حينَ يغلي الموجُ ويُزبِدُ
حين يبصُقُ مِسخُ البحرِ المتخبِّطُ المَهولُ
نوافيرَ من زبَدٍ غاضِبٍ.
فلنُقسمِ الساعةَ ونحفظِ القسمَ بِرَصينِ العقولِ :
أن نحيا بأرضِ اللوتسِ الغائرةِ.
أن نضطجعَ متكئينَ على الكثبان.
سويةً كما يفعلُ الأربابُ التي لا تبالي بالبشرِ:
إنهم لَيستلقونَ وبينَ أيديهِم رحيقُ الخلودِ
بينما تهوي السهامُ الصواعقُ مِن تحتِهِم في الوديان
ويلتفُّ الغمامُ في رفقٍ
حول مساكنهِم الغارقةِ في الضياءِ.
إنهم لَيبتسمونَ في أعماقهم
وينظرونَ من عَلٍ الى الأصقاعِ الجرداءَ
والجوعِ ، والطاعونِ ، والآفات ،
والزلازل ، والحروب الطاحناتِ ، والمدائن المحترقاتِ ،
والسفائن الغارقاتِ ، والأيدي المبتهلاتِ ..
لكنهم يبسمونَ ..يطرَبونَ لنغمةٍ عذبةٍ
يَلقَونها في أغنيةٍ حزينةٍ تجيشُ وتعلو،
في عويلٍ ، وقصةٍ عن خطيئةٍ غارقةٍ في القِدمِ
كحكايةٍ خرقاءَ رغمَ جزالةِ الكلماتِ
تنشدُها سلالةٌ من بَشَرٍ مُذَلٍ مُهانٍ
يشقّونَ الأرضَ وينثرونَ البذورَ
ويحصدونَ الغلالَ في شقاءٍ راسخٍ مُدامٍ
ليخزنوا عاماً بعد عامٍ حصصاً تافهاتٍ
من قمحٍ وزيتٍ وخمرٍ
حتى يأزفَ الفناءُ ويقاسوا
-بعضُهم كما قيلَ-
هناكَ في قعرِ الجحيمِ عذاباً أبدياً
ويسكنَ غيرُهُم في وهادِ الفراديسِ
ويريحوا أطرافَهُم المُضناةَ
على أسِرَّةٍ من زَنبَقٍ ..
**
النومُ أحلى من الكدِّ والشقاءِ ،
ذاكَ أمرٌ مؤكَّدٌ مؤكَّد.
والساحلُ أحلى من كدحٍ بعرضِ البحرِ العميقِ ،
والموجِ والهديرِ ....
آهٍ فاسترحْ يا أخيَّ البَحّارُ
استرحْ .. فلن نهيمَ بعد اليوم.

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية