عفوا يا حذائي القديم.. لقد آذيتك كثيراً!
-بابا .. توندرتك مشگوگه!
فاجأتني صغيرتي "گنّوشه" ذات السنوات الثلاث، ليلة أمس، فور عودتي إلى المنزل.
نظرت إلى الأسفل: نعم كان كعب الحذاء يوشك على الانفصال. لا بد أن ذلك حدث عندما عثرت بالسرير الحديدي الذي تركه حسين الحداد على الرصيف المحاذي لدكانه على أمل إكمال تصليحه صباح الغد، دون أن يحسب حساب رجلٍ ساهمٍ مثلي يعود إلى بيته في الليل (والكهرباء مقطوعة طبعاً)
الحق الحق أقول لكم: لم أنزعج كثيراً؛ اكتفيت بإطلاق شتيمة صغيرة على صاحبنا الحداد وقررت مع نفسي: باﭽر أطيّح حظه!
نعم، فالأمر لا يستدعي الغضب كما كان يحدث من قبل حين كانت حوادث مثل هذه تصيبني بغم وتوتر عصبي وصداع ناتج عن إعادة تنظيم ميزانية الأسرة الكريمة الذي كان يبلغ –بعد مكرمة القائد حفظه الله ورعاه- سبعتالاف وستمية وخمسين دينار: منها أربعتالاف واربعمية وخمسين دينار من راتبي الشهري باعتباري "بكلوريوس إدارة واقتصاد" وملاحظ فني محترم قضى عشرين عاماً في خدمة الدولة العراقية المحفوظة من مؤامرات الأعداء برعاية الباري وعزم القائد، والباقي من راتب زوجتي التي لم تحظ سوى بدبلوم معهد فني وأربعطعش سنة خدمة!
وربما كان هذا "الفارق الطبقي" الذي تضخم واتسعت هوته بعد أن صرنا نحن الموظفين "نحـﭽي بمئات الألوف" هو بالذات ما يثير غيرة زوجتي وحفيظتها ويدفعها إلى تقريعي في الصغيرة والكبيرة:
-كلها منك. أكو واحد يرجع للبيت بنصاص الليالي؟!
-عن أي نصاص ليالي تتكلمين يا حُبي (لاحظ التملق) الساعة لم تتجاوز الثامنة وأنتِ تعرفين بأنني مع أصدقائي في المقهى والموبايل في جيبي ويمكنك مكالمتي متى أردت (لاحظ أيضا طريقة نطقي لكلمة موبايل بالـP وليس بالـ B وذلك لأنه ما زال ضيفاً حديثاً أحب تدليله)
- ولو! ألا تعرف أن الدنيا "مو أمان"؟! تفجيرات وتفخيخات واختطاف وصخام!؟
-يا "معودة" العمر واحد والرب واحد. تتذكرين كيف كنت تحذريني من الجلوس في المقهى خوفا من فلتة لسان يستفيد منها أحد "الخوش ولِد" ليصبح بها "عضو فلكة" بعد أن يرسلني إلى حيث أجدادي المراحيم. وانظري الآن ماذا حدث: ها أنا الآن أمامك بطولي الحلو وقد ولى "الأشاوس" إلى مزبلة التاريخ. وسوف تولي كل هذه الأوضاع ويعود الأمان وأمسك بيدك ونروح "نفتر" بشارع النهر وأعشيك أطيب كباب بعرصات الهندية!
-هكذا أنت. لا آخذ منك غير الكلام المعسول. كيف ستذهب غداً الى دوامك؟ تلبس قبقاب؟
لكن ابنتي الحبيبة، بنت أبيها، أسرعت بحل المشكلة:
-بابا، بابا.. مو عندك توندَره تَديمه دوَّه التَريوله؟
(كان هذا نص حديث سيادتها باللغة الگنّوشية وترجمته: بابا، بابا، مو عندك قندره قديمة جوّه القَريولة).. فديتُها، هكذا هي، ذكية مثلي!
وانبطحتُ أرضاً لأسحب العلبة الكرتونية المغبرّة التي ترقد منذ أوائل أيام "التحريلال" تحت السرير الذي حولناه الى مخزن صغير. وأمسكت بالحذاء العتيق الذي حال لونه وتآكلت جوانبه، ونفختُ عليه ونظرت اليه بحنانٍ فخِلتُ –واللهِ- إنه يبادلني نظرة اشتياق وعتاب! فطبطبتُ عليه "مصالِحاً":
-لا تزعل يا حذائي الأثير. أنا لم أتركك بطراً أو جفوةً. أنا أدري أنك رافقتني في السراء والضراء طوال سنوات لا أستطيع عدها، وإنك تحملت نزواتي وتخبطي في المطر والطين ومشاويري الماراثونية في صبرٍ وجَلَدٍ وطول بال. هل تذكر مقدار اعتزازي بك وكيف نهرتُ أحد الزملاء حين أراد الإساءة اليك وتساءل وهو يرطنُ بانكليزيته الشوهاء "ماهذا الحذاء الـ historical؟ ألم تزهق منه؟ أتريد أن تحتفظ به for ever ؟"
لا تأخذ على خاطرك مني أرجوك. أنا لم أرمك في الشارع أو الحاوية مثل أي ناكر للجميل. لقد أحلتك فقط على التقاعد. ألا ترى كيف صبغتك قبل الوداع وحشوتك بأوراق الصحف ووضعتك في علبة حذاء مستورد أنيقة وأرقدتك الى جانب أشياء أخرى عزيزة أحيلت هي الأخرى الى التقاعد مع أول راتب يليق بالبشر نستلمه من محاسب الدائرة منذ ما لا أدري من الأعوام؟
وحملته تحت بقعة ضوء جيدة واقتعدت الأرض كي أعيد صبغه تمهيداً لإعادته الى العملية السياسية (أوهوووه ألعن أبو نشرات الأخبار! أقصد بالطبع إعادته للخدمة). أخرجت أوراق الجرائد المحشورة وشرعتُ بالعمل في "حماس" فأنا من الذين يستمتعون بصبغ أحذيتهم بأنفسهم، غير أن التفاتةً غير مقصودة (يعني.. مو كلش مقصودة) مني الى الأوراق المجعدة أغرتني –كعادتي- على أن أنشر واحدة منها لأنظر فيها فإذا بي –وياللهول- أقع عيناً بعين على المحيّا الجليل للقائد الرمز وهو يضحك ضحكته العريضة المفعمة بالحنان والبراءة فاقشعر بدني خوفاً وندمتُ (بأثرٍ رجعي) على ما بدر مني من طيش وقلةِ تدبير حين غامرتُ بحياتي وحياة أسرتي لمّا وضعت مثل هذه الصورة في مثل هذا المكان! ولكنني برأتُ شخصي المتواضع من هذه الاتهامات عندما أعدت تذكير نفسي بأنني لم أقدم على هذا الفعل الإجرامي الشنيع ولم أحشر تلك الصحف (القديمة حتى في وقتها) إلا بعد زوال زمن الخوف منه ومن أمثاله بغياب "العِلّة" المسببة كما يقول أهل المنطق!
وإذ اطمأن قلبي رحت أفتح الأوراق المكوّرة واحدةً بعد الأخرى: هنا برقية تأييد من المؤتمر القومي العالمي لتجار الواشرات المنعقد في بغداد النصر والسلام، وهنا برقية أخرى من فرع نقابة المحامين في مدينة "شكوماكو" في ولاية "خيال آباد"، وفي هذه الصفحة قصيدة من 77 بيتاً لشاعر أم المعارك بعنوان "أنت الذي مرمرَ العُذّال في القمرِ" وهناك دراسة للكاتب المعروف الدكتور " " بعنوان "الآفاق الحلزونية والأبعاد الإنبعاجية في وصايا القائد الضرورة" وثمة مقالات عن دروس أم المعارك واليوم الزحف العظيم ويوم القدس وفنون هز الشوارب وأخبار عن إزاحة الستار عن الجدارية الجديدة للقائد وافتتاح كراج القائد وغرفة الضماد الجديدة في مستشفى القائد وتجمّعٍ لرؤساء العشائر تلبية لنداء القائد ومهرجان أغنيات القائد الخ. لكن أطرف الصفحات كانت تلك المحتوية على عدد كبير من الإعلانات التجارية-الوطنية التي تضم صورة مكررة للقائد مع تهنئة بقرب ميلاد سيادته واسم صاحب المحل أو المشروع المعلن-المهنئ!
وما أطوّلها عليكم..
في اليوم التالي أبلى حذائي الأثير بلاءً حسناً، ولم أعد الى البيت بعد الظهر إلا وفي يدي زوج جديد من الأحذية، أعني أحذية هذه الأيام التي لا تدري متى تخذلك، ولهذا قررت أن أواصل الاحتفاظ بحذائي القديم احتراماً لمشاعره أوّلاً وتحسباً لكل طارئ ثانياً. ولأن من الطبيعي أن أحشوه من جديد بما يتيسر من الورق فقد سحبتُ من "فوﮒ الثلاجة" وهو مكاني المفضل لرمي الصحف وتكديسها بين كل حملة تطهيرية وأخرى تشنها أم البيت في محاولاتها الفاشلة لتعليمي النظام والترتيب. أقول إني قد سحبت واحدة من تلك الجرائد وبدأت بتكوير الصفحة الأولى فوقع ناظري على وجهٍ واسمٍ بدوا مألوفين لي.. مهلاً.. أليس هو نفسه الكاتب والمحلل الألمعي الذي رأيته أمس في الجريدة القديمة في مقالٍ مطوّل بعنوان "المنظور الستراتيجي في وصية القائد: لا تجعل عدوك يطمع في صفحك"؟ بَلا، إنه هو والله! ولكن ما هذا الذي يكتبه الآن؟ آها، والنعم والله. إنها مقالة بنفس الطول تقريباً عن المنظور الستراتيجي لعملية البناء الفوقي لمرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية!
-لِف عيني لف!
عندما هممت بـ" تعقيج" الصفحة الثانية وقع نظري مرة أخرى (لا أدري لماذا "يقع" نظري كثيراً؟!) على صورة صغيرة للفنان الكبير وتحتها خبر عن بطولته وإخراجه لمسرحية تتحدث عن حياة ونضال رجل الدين الشهيد " " الذي "أقدم نظام الطاغية المقبور على إعدامه"
يا إلهي! أليس هذا هو نفس الفنان العظيم الذي حول الرواية البائسة "زبيبة والملك" الى مسرحية-مسخرة قال عنها إنها ستكون من "أعظم العلامات الفارقة في تاريخ مسرحنا المعاصر لكونها تجسد عملاً ملحمياً يفوق في أهميته وعمقه ملحمة كلكامش؟" إي والله هوّ بعينه!
-لف عيني لف!
يا الله. الصفحة الثالثة! صورة وخبر عن استقبال معالي السيد " " وفداً من رؤساء العشائر الذين جددوا عهد الولاء، ورددوا بعض "الأهازيج الوطنية" ثم ضربوا اللحم والثريد واستلموا المعلوم! والمرء لا يحتاج بالطبع الى عدسة مكبرة للتأكد من الوجوه.. وما أحسنها من وجوه!
الصفحة الرابعة.. براءة! لا شيء غير بضع قصائد لن تستطيع (ولو أوتيتَ حكمة لقمان) أن تفكّ طلاسمها ومقالة نقدية كتبها أديب في مجاملة زميل له! أوكي، ما يخالف، مو مشكلة!
أوشكت الفردتان على الامتلاء.. نصف صفحة أخرى لكل منهما وتأخذان شكلهما الجميل.. لكن صوتاً غريباً اختلط مع صوت تمزيق الصفحة الأخيرة.. هل ستصدقون.. لقد كان حذائي يبكي! صدقوني رجاءً. لقد سمعته بأذني التي سيأكلها الدود!
انحنيت عليه مشفقاً.. ولن أقول لكم ماذا فعلت لكي أواسيه حتى لا تتهموني بالجنون!
شكراً يا أصدقاء.. لقد فهمتموها وهي طايرة.. شكراً جزيلاً!
وعفواً يا حذائي الأصيل.. قد آذيتك مرتين.. عفواً عنيفاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق