تعليقا على الخواطر التونسية للفنان والناشط اليساري المصري خالد الصاوي

قبل أكثر من عام (أوائل عام 2011) كتب الفنان والناشط اليساري المصري مقالة مهمة ومعمقة عن الثورة التونسية فعلقت عليها بهذه المقالة المنشورة في الموقع نفسة॥ ترى كيف تقيمون الأحداث بعد عام على ماكتبناه:

الزميل العزيز الفنان والمثقف المبدع الملتزم خالد الصاوي

في خواطرك التونسية جمعت بشكل جميل ما بين بعض من ملامح سيرتك الذاتية وبين المحطات التي رأيتها أساسية في تاريخ الحركات "الثورية" والانقلابية في الوطن العربي وصولاً الى انتفاضة الشعب التونسي الصديق.

وقد دفعني الفضول الى قراءة بعض المعلومات عن حياتك فعرفت بأننا من جيل واحد تقريباً، ولهذا سأحاول أن أضيف على عجالة ملامح من الصورة العراقية لتاريخ الحركات الثورية والانقلابية عسى أن تكتمل الصورة ويسهل التنبؤ بما ستؤول اليه الأمور.
في شباط 1963 عندما ولدتَ أنت كنت أنا في الثالثة من عمري، كانت أصوات الرصاص في حينا الفقير قد خفت للتو بعد أيام مريرة من المقاومة البطولية المستميتة لبقية من الشيوعيين والأكراد بمواجهة انقلاب رجعي فاشستي دموي قاده حزب البعث وحلفاؤه ضد ثورة 14 تموز "الوطنية التقدمية" وقائدها "الزعيم الأوحد، الوطني، النزيه نظيف اليد، المتخبط، العسكري ذي الأصول الكادحة" الشهيد عبد الكريم قاسم، وقد حدث ذلك الانقلاب وما تبعه من مجازر وتصفيات يندى لها الجبين بمعونة كبيرة ومباشرة وعلنية من نظامٍ "وطني تقدمي" آخر يقوده قائد ثورة تموز أخرى "زعيم أوحد ، نزيه، نظيف يد، متخبط، عسكري، ذو أصول كادحة" هو جمال عبد الناصر.. فيا للمفارقة !!

بعد بضعة أشهر أخرى كان حليف عبد الناصر في الحكم الجديد "عبد السلام عارف" ينقلب على شركائه في الجريمة "البعثيين" ويخفف بعض الشيء من حمام الدم ويظهر في الإعلام على أنه المشير البطل القومي المنقذ.

بعد بضعة أعوام كانت الأمور تشير الى خلاف آخر بين الزعيمين وعلى إثره كان المشير يحترق في طائرته العسكرية!

في حزيران 1967 كنت أتابع من على الرصيف المظاهرات الحاشدة التي تنادي "أخذونا للجبهة نحارب" وأسمع إذاعة صوت العرب وهي تتحدث عن تدمير الجيش الإسرائيلي وإلقاء إسرائيل في البحر.. ثم .. سكوت.. وهزيمة .. ونكسة.. ومظاهرات أخرى.. وكل شيء من أجل المعركة!!

بعد عام فقط عاد البعثيون الى الحكم في خضم سلسلة من الانقلابات الثورية برعاية أمريكية شملت العديد من الدول العربية من المحيط الى الخليج!

بعد عشرة أعوام من انقلاب شباط الفاشي وقع الشيوعيون (الذين استعادوا قوتهم التاريخية مرة أخرى) في فخ محكم أعده صدام حسين فوقعوا اتفاق الجبهة الوطنية التي كشفت صفوفهم وحرمتهم من حليفهم الكردي وكانت فاتحة لمجزرة مرعبة شاملة بدأت بعد خمسة أعوام لا غير كنت خلالها ، شأن عشرات الألوف من جيلي، شديد التفاؤل، كثير الاستماع الى فكتور جارا والشيخ إمام!
وكان السادات قد بدأ الآن ، بعد حرب قصيرة هللنا لها، ببيع مصر في المزاد العلني وفتح الأبواب أمام الغزو الوهابي لأرض الكنانة.

بعد عشرة أعوام أخرى كان العراق منشغلاً في محرقة أخرى "حرب الأعوام الثمانية" .. وفي الداخل كان صدام قد حطم عملياً قواعد اليسار العراقي وبدأ بمجزرة جديدة ولكن هذه المرة ضد كل من الحركة التحررية الكردية (التي انضمت اليها بقية قواعد وقيادات الحركات والأحزاب التي نجت من التصفية) والتيار الأصولي الشيعي المدعوم من جارته اللدود وكانت كل الأنظمة العربية باستثناء سوريا وليبيا ، وأغلبية الشعوب العربية العاشقة للشعارات، تقف الى جانبه بالمال والرجال والدعاء والصلوات!

بعد عشرة أعوام أخرى كان الشعب العراقي يتلوى من الجوع والحصار وكان صدام حسين المهزوم في الكويت قد حول نفسه الى قائد الجمع المؤمن ونصير الإسلام وبطل أم المعارك! وكانت الشعوب العربية قد تحجبت عقلياً واستسلمت في غالبيتها لخطاب الإسلام السياسي المخطط له أمريكيا والممول خليجياً!

بعد عشرة أعوام أخرى هرب صدام أمام جيوش الغزو الأمريكي ليعثروا عليه بعد حين في حفرةٍ بائسة ويعدموه.. ثم .. شيئا فشيئا.. تبخرت آمال العراقيين (الذين ساهموا بقسط وافر من عملية إسقاط صدام عبر امتناعهم عن الدفاع عنه) في حياة حرة سعيدة وهم ينظرون الى الفوضى والفساد والعنف وتحكم الأحزاب الدينية والوصوليين والنفعيين وتجار الحروب وخفافيش القرون الوسطى بمصير بلادهم!

لا أدري لماذا وقع عدد من أبرز المحطات في تاريخ العراق الحديث في السنة الثالثة من كل عقد...هل هي محض مصادفة؟! ولكنني أعرف أن المرحوم أسامة أنور عكاشة، لو كان عراقيا، لاستفاد من هذه المحطات كخلفية لعمل درامي مطول من طراز ليالي الحلمية..

وهكذا إذن يا عزيزي، وبعد أكثر من خمسين عام من الثورات والانقلابات والانتفاضات والمغامرات التي دفعنا لها أنهارا من الدماء في بلدينا سأجرؤ على القول بأن كل تلك الحركات لم تبلغ مستوى الثورات لسبب واحد هو أنها لم تحطم المنظومة الفكرية والاجتماعية المتخلفة الموروثة من قرون، منظومة التحالف غير المقدس بين رجل الدين والطبقة الحاكمة التي تتغير رؤوسها فقط بين الفترة والأخرى ، منظومة الاستعباد الفكري والانغلاق الثقافي والكتب التي أكلها العث.. وحسبنا أن نقارن كل مغامراتنا وحركاتنا وثوراتنا بالثورة التموزية الفرنسية التي كانت علامة على انتصار النزعة العقلية وعلى التغير الطبقي والاجتماعي والفكري العميق التي استلمت فيه البورجوازية الناهضة مقاليد السلطة وألقت بالطبقة الأرستقراطية الى مزابل التاريخ ووضعت السلطة المطلقة الغاشمة لرجال الدين وكنيستهم العتيدة في المكان المناسب.. متحف التاريخ!

هذا، بصراحة، ما أخشاه على الثورة التونسية: أن تتحول الى خلطة أخرى على الطراز الإيراني تستبدل نظاماً بوليسياً علمانيا حداثوياً بنظام بوليسي ديني متخلف! بل إن هذا ما أخشاه على كل محاولة للتغيير الحقيقي العميق: استبدال سلطة بسلطة لا فكر بفكر، وشرطة بشرطة لا عقل بعقل!

لم أتحدث بالطبع عن الصراعات والمصالح الدولية ودورها في صنع تاريخنا فذلك شأن يطول في البكاء!


رابط مقالة الصاوي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية