قصائد مختارة للشاعرة التشيلية غابرِييِلاّ مِسترال
Gabriela Mistral
(1889-1957)
ولدت غابرييلا مسترال (واسمها الحقيقي لوسيلا ألغاياغا) في قرية صغيرة بجبال الإنديز وتلقت تعليمها الأولي في مدارسها الابتدائية وعلى يد شقيقتها معلمة المدرسة القروية. كان والدها (الذي هجر الأسرة ومات بعيداً عنها) يعمل هو الآخر معلماً ويهوى كتابة الشعر. عاشت غابرييلا طفولة فقيرة ولم تكد تبلغ الخامسة عشرة حتى انخرطت هي الأخرى في سلك التعليم. كانت قد بدأت أولى الخطوات في مسيرتها الشعرية عندما تعرضت عام 1909 الى صدمةٍ نفسية عظيمة حين أقدم حبيبها، عامل القطار "روميليو أوريتا" على الانتحار مما أثر عميقا في شعرها، ذلك التأثير الذي ظهر جلياً منذ مجموعتها البكر "قصائد حب الى الموتى-1914" التي أثارت اليها الانتباه في أرجاء أمريكا اللاتينية لمعالجاتها المميزة لموضوعة الموت والحياة. غير أن شهرتها الحقيقية لم تبدأ إلا عام 1922 عندما نشرت مجموعتها المهمة "اليأس" وتلتها مجموعتها "رِقّة" التي غلبت عليها موضوعة الطفولة: الموضوعة التي لعبت الى جانب موضوعات الأمومة وآلام الفقراء والطبيعة والسفر والحزن والشفاء منه والهوية الحضارية لأمريكا اللاتينية (كخليط من الحضارات الأوربية والمحلية) دورا بارزاً في جميع قصائدها اللاحقة.
في عام 1925 (وكانت قد أصبحت شاعرة معروفة على الصعيدين المحلي والقاري) دُعيت لتمثيل أمريكا اللاتينية في مؤسسة التعاون الفكري التي أنشأتها عصبة الأمم فنشطت كثيراً في مجال التطوير التربوي والدفاع عن حقوق المرأة والطفل، وأضحت منذ الحين تعيش عملياً حياة المنفى فقضت الفترة مابين 1926 و1932 في فرنسا وايطاليا وجابت في أرجاء أوربا والأمريكتين صحفية ومدرسة للأدب الإسباني في جامعاتها. واستمراراً للتقاليد الأمريكية اللاتينية عملت مسترال، شأنها شأن العديد من مثقفي وفناني القارة قنصلا لبلادها منذ عام 1932 وحتى وفاتها؛ فانتقلت بين نابولي ولشبونة ومدريد ولوس انجلس ونيويورك وغيرها من مدن العالم، والتقت مراراً في مدريد بالشاعر التشيلي العظيم بابلو نيرودا (الذي كانت من أوائل الملتفتين الى أهمية أعماله منذ أن كان طالباً بمدينته "تيموكو" حيث كانت تعمل مديرة مدرسة) واشتركت معه في تأييد الجبهة الشعبية مما قاد الى فوز صديقها وراعيها الراديكالي بيدرو سيدرا بمنصب الرئاسة عام 1938.
في عام 1943 انتحر ابنها ذو السابعة عشرة فانعكس حزنها العميق على وفاته ، علاوة على مآسي الحرب العالمية الثانية ومخاوف الحرب الباردة التي أعقبتها، على أعمالها الأخيرة التي نشرت خلال حياتها. وفي نوفمبر 1945 أصبحت مسترال أول أمريكية لاتينية وخامس امرأة في العالم تنال جائزة نوبل للآداب.
قضت الشاعرة سنواتها الأخيرة ، وقد أنهكها المرض، في نيويورك حيث توفيت، ونقل جثمانها الى تشيلي فخرج في تشييعها مئات الآلاف من أبناء الشعب وأعلنت البلاد الحداد الرسمي عليها لثلاثة أيام.
كتبت مسترال المئات من المقالات التي نشرت في أرجاء البلدان الناطقة بالإسبانية ولعبت دوراً كبيراً في تطوير التربية والتعليم في بلدان قارتها وحصلت على العديد من الشهادات الفخرية من جامعات العالم وكانت في شعرها كما في كتاباتها الأخرى تحتفي بالعادات والتقاليد الحضارية لشعوب أمريكا اللاتينية وتمزج بشكل فريد بينها وبين حضارات وتقاليد أوربا والبحر المتوسط كما كانت على الدوام موفقة في تحويل مآسيها وآلامها الشخصية الى قصائد رائعة تحفل بالمحبة والعطف والاحتضان الشجاع للآخرين ممن يفتقرون الى الأمان والحماية من الفقر والاضطهاد.
(1)الأقدامُ الصغيرة
أقدامَ الطفل الصغيرة
الزرقاء ، الزرقاء من البرد
كيف يرونكِ .. ولا يُنجِدون ؟
كيفَ .. كيفَ يا إلهي !
...
أيتها الأقدامُ الجريحةُ الصغيرة
التي رضَّها الحصى
وظَلَمها الثلجُ والتراب.
...
لأن الناس عُميٌ لا يحفلون
بأنكَ أينما خطوتِ
تركتِ زهرةً .. من ضياء بهيج
وأنكِ أينما وضعتِ
أعقابكِ الصغيرة المدماة
تنهضُ نرجسةٌ .. تفوح بالأريج.
...
لكنكِ شجاعةٌ
لكنكِ دونَ خطيئةٍ
مادمتِ تمضين رغمَ ذاك ..
في الشوارع المستقيمة.
...
أقدامَ الطفلِ الصغيرة
يا جوهرتين .. صغيرتين .. معذَّبتين
كيف يمرُّ بكِ الناسُ ..
ولا يُبصِرون ؟!
(2) الأُمُّ الحزينة
نَم يا حبيبي ، نَم
دون خوفٍ ... دونما قلقٍ.
رغمَ أنَّ الروحَ مني لا تنام
رغمَ أنني .. لا أستريح.
...
نَم ، نَم ، وفي هذا الليلِ
لتكن همساتُكَ أنعمَ
من وريقةِ عشبٍ
أو جَزَّةِ حَمَلٍ كالحرير.
...
ليتَ جسدي يهجعُ فيكَ
وجزَعي .. وارتعاشي.
ليتَ عينيَّ تُغمضانِ بداخلك
ويرقَدُ فيكَ قلبي.
(3)الذين لا يرقصون
طِفلٌ مُقعَدٌ نادى :
"كيفَ لي أن أرقصَ ؟"
"دع قلبكَ يرقصْ "
هكذا أجبناه.
...
ثم سألَ مريضٌ عاجز:
"كيفَ لي أن أُغَنّي ؟"
"فليُغَنِّ قلبُك"
هكذا أجبناه.
...
وانبرت الشوكة الذابلةٌ المسكينةُ:
"ولكن ، كيفَ لي أن أرقص ؟"
"دعي قلبَكِ ليطيرَ مع الريح"
هكذا أجبناها.
...
وتكلَّمَ الربُّ من الأعالي:
"كيفَ لي أن أنزلَ من سمائي ؟"
"تعالَ ارقص معنا في الضياء"
هكذا أجبناه.
...
كلُّ الوادي يرقصُ
معاً تحتَ الشمس،
وقلبُ مَن لا يشاركنا
قد استحالَ غباراً ... غبار !
(4)الغريبة
تتحدثُ بطريقتها
طريقةِ بحارِها البدائية
الى طحالبَ سريّةٍ .. ورمالٍ مجهولة ؛
وتصلِّي لإلهٍ لا شكلَ لهُ ولا وزن ..
عجوزٍ كأنه يوشكُ على الاحتضار.
في حديقتنا التي أضحت شديدةََ الغرابةِ
زرعَت صَبّاراً .. وأعشاباً عجيبةً.
نسيمُ الصحراء يملأُ قلبها بأنفاسه
وهي تهوى
بعشقٍ عنيفٍ .. أبيضَ .. مكتومٍ
لو تحدَّثَتْ عنهُ لَبَدا
كوجوهِ نجومٍ مجهولةٍ.
قد تعيشُ بيننا ثمانينَ عاماً
لكنها ستبدو على الدوام
قادمةً جديدة تتحدثُ بلسانٍ دفينٍ
وتأوهاتٍ لا تفهمها غير كائناتٍ شديدةِ الضآلةِ.
وفي ليلةٍ من الألم العظيم
ستموتُ هنا بيننا
ولا وسادة تحت رأسها سوى المصير
والموت..
الموت الصامت الغريب.
(5) المَنِيَّة
يا مُسَجِلَةَ الإحصاءِ العجوز
أيتها المَنِيَّةُ المخادعة
حين تمضينَ في الدروب
لا .. لا تلتقي بصغيري !
...
تستشمّينَ روائحَ الرُضَّعِ
تشُمّينَ رائحةََ الحليب.
اعثري على الملح ، اعثري على الطَحين
ولا ... لا تعثري على حليبي !
...
أيتها الأمُّ المُضادّةُ العالمية
يا مَن تلقُطينَ الناس
على الشواطئِ .. والطرقاتِ الفرعية
لا تلتقي بذاك الصغير !
...
إنسَي اسمَ عِمادِهِ
والزهرة التي يكبرُ معها
لا تنسَي ما أقولُ
أضيعهما .. يا مَنِيَّة !
...
ليتَ الريحَ والملحَ والرمال
يُصِبنَكِ بالجنون .. يخلطنَ عليكِ الأمور
حتى لا تعودي تفَرِّقين
-مثلَ سمكةٍ في البحرِ-
شمالَكِ عن يمناك
أو أمٍّ عن طفلِها.
وفي اليومِ المعلوم
في الساعةِ المعلومةِ
لن تجدي غيري .. فتأخذيني !
(6) الوردة
الكنزُ الذي في قلبِ الوردة
هو كنزُ قلبكِ أنت.
أنثرهُ كما تفعلُ الوردة
وإلاّ أصابكَ الشقاءُ.
...
انثرهُ في أغنيةٍ
أو في رغبةٍ حبٍّ عظيمة.
لا تكبتِ الوردة
وإلا أكلَتكَ نارُها.
(7) لستُ وحيدة
هذا الليلُ مهجورٌ
من جباله الى ساحل البحر
لكنني .. أنا التي تؤرجِحُكَ
لستُ وحيدةً !
...
هي ذي السماءُ .. أنها مهجورةٌ
فقد هوى القمرُ في البحرِ
لكنني .. أنا التي أحملكَ
لستُ وحيدة !
...
ها هو العالمَُ .. إنه مهجورٌ
وكلًّ الكائناتِ .. حزينةٌ كما ترى
لكنني .. أنا التي أحضنكَ
لستُ .. لا .. لستُ وحيدة !
(8) غابةُ الصنوبر
لنذهبِ الآنَ الى الغابة.
ستَمُرُّ الأشجارُ أمام وجهك
وسأتوَقَّفُ وأعرِضكَ عليها
لكنها لن تستطيعَ الانحناء.
الليلُ يحرسُ مخلوقاتِهِ
خلا أشجارَ الصنوبرِ التي لا تريم :
العيونَ الهرمةَ الجريحة التي
يسيلُ منها اللّبانُ .. والظهيراتُ الأبديةُ.
لو استطاعتِ الأشجارُ لرَفَعَتْكَ
وحَمَلَتكَ من وادٍ لواد
ولاَنتَقلْتَ من ذراعٍ لذراعَ
كطفلٍ يجري
من أبٍ الى أب.
(9)احتفالٌ سنوي
ونمضي .. نمضي
لا نائمينَ ولا أيقاظ
نحو اللقاء
غافلين أننا .. بلغناه بالفعل ،
وأن هذا .. هو منتهى السكونُ ،
وأن الجسد قد اختفى.
وما زال النداءُ غيرَ مسموعٍ
وما زال المنادي .. لم يسفر عن وجهه.
...
ولكن ربما كانت هذه يا حبيبي
هي الجائزة
جائزة الوجه الأبدي الذي لا وجه له
والمملكة التي .. لا شكل لها !
(10) أن أراه من جديد
أَ الى الأبد ؟ الى الأبد ؟
لا في الليالي التي تعجُّ بالنجوم الراعشات
لا في ضياء الفجر البِكر
ولا في أماسي الأُضحِيات ؟
...
أو في أطرافِ الطريق الشاحب
الذي يحيطُ بالحقول
أو على أحجار نبعٍ مرتعشٍ
يضيئه البدرُ الخافق ؟
...
أو تحت ضفائر الغابةِ الأثيثة المحلولة
حيث كان الليلُ يدهَمُني
وأنا أنادي باسمِهِ ؟
ولا في الكهف الذي كان
يردد صدى ندائي ؟
...
آهٍ ..لا
لا أريد سوى أن أراهُ من جديد
لا يهمني أين : في مياه النعيم الراكدة
أو في الدوامة التي تغلي ،
تحت أقمارٍ رائقةٍ
أو رعبٍ يُنشِفُ العروق !
...
وأن أكون معه
في كلِّ ربيعٍ وشتاء
متحديَنِ في أنشوطةٍ موجِعةٍ واحدةٍ
حول عنقه الدامي !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق