قصائد مختارة للشاعرة الروسية آنّا أخماتوفا
(1889-1966)
ترجمة وتقديم
ماجد الحيدر



آنا أخماتوفا (واسمها الحقيقي آنا أندرييفنا كورينكو) شاعرة روسية/سوفيتية تركت أثراً عميقاً على الشعر الروسي الحديث. تناولت في أعمالها (التي تراوحت بين المقطوعات القصيرة البسيطة الى المطولات المركّبة) عدداً متنوعا من المواضيع مثل الزمن ، الذكريات، الحب، الخيانة، مصير المرأة المبدعة، وصعوبات الكتابة والعيش في ظل الستالينية. ترجمت أعمالها الى العشرات من اللغات وعُدَّت واحدة من أشهر الشعراء الروس في القرن العشرين.
ولدت أخماتوفا في أوديسا-أوكرانيا وبدأت الكتابة في سن الحادية عشرة متأثرة بشعرائها المفضلين راسين وبوشكين وباراتينيسكي، وعندما رفض والدها رؤية اسمه "المحترم" على قصائدها المطبوعة اختارت تبني لقب جدتها التتارية إسماً فنّياً لها.
حظيت آنا بإعجاب وحب العديد من شعراء روسيا وتزوجت عام 1911 الشاعر "نيقولاي غومليوف" الذي سرعان ما تركها متوجها الى صيد الأسود في أفريقيا ثم الى سوح الحرب العالمية الأولى غير مدرك لأهمية شعرها حتى فاجأه الشاعر الشهير "الكسندر بلوك" بأنه يفضل شعرها على شعره!
نشرت مجموعتها الأولى "المساء" عام 1912 وحازت على الكثير من الإعجاب والثناء والشهرة حتى أن روسيا كانت بحلول عام 1914 –موعد صدور مجموعتها الثانية- تعج بالآلاف من الشاعرات اللاتي يكتبن الشعر على الطريقة "الأخماتوفية" مما دفعها الى التعليق قائلة : لقد علَّمتُ نساءنا كيف يتحدثن، لكنني لا أعرف كيف أسكتهن!
بعد انهيار زواجها ارتبطت أخماتافوفا خلال الحرب العالمية الأولى بالشاعر وفنان الموزائيك "بوريس أنريب" الذي كتبت عنه ما لا يقل عن 34 من قصائدها وقام بدوره بتجسيدها في العديد من لوحاته التي حفظ بعضها في عدد من المتاحف العالمية.
أعدم زوجها الأول عام 1921 لنشاطاته المعادية للثورة فتزوجت عالم الاشوريات البارز "فلاديمير شيليجكو" ثم الباحث الأدبي "نيقولاي بونين" الذي توفي في معسكرات الأشغال الشاقة. أدينت بعد عام 1922 لـ "ميولها البورجوازية" ولم تنشر بعدها إلا نادراً حتى الحرب العالمية الثانية وحصار لينينغراد الأسطوري فكتبت العديد من أشعار المقاومة البطولية التي وجدت طريقها الى جبهات القتال كما الى الصفحات الأولى من صحيفة "البرافدا". غير أن "أندريه جدانوف" المسؤول عن الثقافة في عهد ستالين وصمها عام 1945 بأنها "نصف مومس ونصف راهبة" ومنع قصائدها من النشر وسعى الى طردها من اتحاد الكتاب وسُجن ابنها في معسكرات العمل القسري حتى اضطرت الى كتابة بعض المدائح لستالين لتأمين إطلاق سراحه.
بعد وفاة ستالين أعيد اليها الاعتبار وصدرت طبعة خاضعة للرقابة من أعمالها وأصبح منزلها الريفي مزاراً للأدباء الروس (أمثال "جوزيف برودسكي" وزملائه الذين واصلوا تقاليد أخماتوفا ومدرسة "سان بطرسبرغ" حتى هذا القرن) والأجانب (أمثال شاعر أمريكا الكبير روبرت فروست). كما أقيمت لها احتفالات تكريمية بمناسبة بلوغها الخامسة والسبعين وصدرت طبعة خاصة من أعمالها. حظيت أخماتوفا بشهرة كبيرة في الغرب ونالت التكريم ونشرت أعمالها الشعرية والنثرية في كثير من بلدان العالم كما حصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة أوكسفورد. ولم تتوقف شهرتها بوفاتها ، وفي الذكرى المئوية لولادتها صدرت أخيراً مجموعتها "قداس لراحة الموتى" التي منعت من النشر خلال حياتها، وتحولت شقتها الى متحف يرتاده محبوها، وأقيم لها تمثال في سنت بطرسبرغ كما أطلق اسمها على أحد الكواكب الصغيرة التي اكتشفها اثنان من علماء الفلك السوفييت عام 1982.


* أنت يا من ولِدتَ ..

أنتَ ، يا مَن ولِدتَ لتخلقَ القصائد
لا تُعِد ما قالَ الأوّلون
رغم أن شعرنا نفسه
ربما لم يكن كله
غير اقتباسٍ واحدٍ جميل.

* ستعيشُ أنت ، أما أنا فلا..

ستعيشُ أنت ، أما أنا فلا، ربما
هكذا الانعطافَُ الأخير.
آهٍ بأيةٍ قسوةٍ تمسكُ بخناقنا
مكيدةُ القدر الغامضة!

تصيبنا كلاً بطريقته
كُلاّ بدوره
كلا بقسمته ..
وكل ذئبٍ .. لا بد أن يُصاب.

الذئاب تكبر حين تكون حرة
لكن أجالها قصيرة.
في الثلج ، في الجليد ، بين الحشائش ..
كلُّ ذئبٍ .. لا بد أن يصاب.

لا تبكِ يا صديقيَ العزيز
لو أنك ، في الحَرِّ أو في البرد
سمعتَ ندائيَ اليائس الحزين.
قادماً من دروب الذئاب.

* لِمَ هذا القرنُ أسوأُ ...

لِمَ هذا القرنُ أسوأُ من غيره ؟
ربما لأنه ، في هذا الحزن والخطر
لامَسَ .. لامسَ فحسب .. أكثرَ القروحِ سواداً
ولم يستطع .. في دورتهِ .. شفاءها

وأيضاً .. هناك في الغرب
تغمر الشمسِ الدنيويةِ
سقوف المدائن بنور الصباح
لكن البيضََ ، هنا ، يضعون العلامات على البيوت
ويستدعون الغربان فتطيرُ .. تطير

* امرأةٌ في ثياب الحِداد

الخريفُ الباكٍي يكسو القلوب
بغلالةٍ من غمامٍ كئيب.
والمرأةُ في ثيابِ الحِداد
لن تكفَّ عن ندبها العالي
ما دامت تتذكر بجلاء
كلماتِ الرجل الذي مضى.
هكذا ستظل .. حتى تمنح أنفاسُ الثلجِ
هذه المُتعَبةََ الهزيلة
بعضاً من الرحمة.
وما الذي قد نرجوه
غير سلوانِ الحبِّ والعذاب
رغم أن الحياة .. هي من يدفع الثمن ؟

* ترابنا الوطني

(ما من شعبٍ على الأرض
ساذجٌ ، متشامخٌ ، عصيّ الدمع .. مثلنا..
(1922))

لا نحملهُ في قلائد تتدلى على صدورنا
ولا نبكي عليه في القصائد.
لا يوقظنا من نومنا المرير
ولا يبدو لنا مثل عدن الموعودة.
في قلوبنا لا نحاول جعله
موضوعاً لشِجار الصفقات.
حين نمرضُ أو نحزنُ أو نسقط فوقه منهكين
نعجز حتى عن رؤيته أو معرفته.
نعم ، هذا الوحل على الأقدام يناسبنا تماماً.
نعم ، هذا الطحن على الأسنان يناسبنا حقاً.
نعم ، ندوسه ليلَ نهار ..
هذا الغبار الخالص الذي لا يصلح للبناء.
لكننا نرقد فيه ولا نصير إلاّه
ولهذا نسمي هذا التراب .. ترابنا !

* الموسيقى

ثمّةَ شيءٌ سماويٌّ يتَّقِدُ فيها.
كم أحبُّ أن أراقب
أسطح هذه الجوهرةِ العجيبة إذ تنمو.
إنها تتحدث معي في نوبات القَدَر الكثيرة
حين يخشى الآخرون الدنوَّ منها

وحين يلقي آخر الأصدقاء
عليَّ نظرة الوداع
سترقدُ الى جواري في سكون
وتغنيّ مثل عاصفةٍ رعدية في أيّار
كما لو أن كل الورود
شرعت في الحدائقِ بالحديث.

* قد ولدتُ في الوقت المناسب

أنا ، في الإجمال
ولدتُ في الوقت المناسب
في عصرٍ مباركٍ بين العصور.
غير أن الرب العظيم لم يدَع روحي
كي تعيش على هذه الأرض
دون خديعة.
ولهذا بيتي مظلم
ولهذا كل صِحابي
مثل طيورٍ حزينةٍ تنهضُ في المساء
وتغني للحب
للحب الذي لم ينزل على الأرض.

* قراءة هاملت
1
الأرضُ التي عند المقابر
كانت أرضاً متربةً .. ساخنة.
والنهر من ورائها .. باردٌ .. أزرق؟
أنت قلتَ لي " حسناً، اذهبي الى الدير
أو تزوجي أحمقاً ما .."
هكذا يتحدثُ الأمراءُ دوماً ، قاسينَ كانوا أو طيبين.
بيدَ إني أعِزُّ هذا الحديث .. الأخرق .. الوجيز ..
فليتدفق ويشرق عبر آلاف السنين
مثل معاطف فراء على الأكتاف !
2
وكما لو بالخطأ
قلت لك " أنتَ ..."
وأضاءت بسمةٌ رخيةٌ من سعادة
هذا الوجه العزيز.

من زلات لسانٍ كهذه
مسموعةً كانت أم في العقل
يتورد كلُّ خدّ.
أحبك كما لو أن أربعينَ أختاً
أحببنكَ وباركنك !

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية