الفارس العجوز وحصانه الصامت النبيل
كان التمثال يعود الى الحياة بين فترة وأخرى.. هكذا.. في معجزة عادية..
يفتح عينيه ويصيخ السمع ويستنشق الهواء فيشعر أن رئتيه البرونزيتين تتمددان بمشقة وتصدران صريراً خافتاً.
أول ما يفعله في كل مرة هو الاطمئنان على حصانه النبيل.. يسحب الرسن الجاسئ بحركة لا تكاد ترى فيجيبه الحصان بهمهمة خفية تعيد الدفء الى القلب المعدني.
ثم يجيل النظر في المشهد الذي يمتد أمامه ويحاول اكتشاف ما طرأ عليه من تغيير: العربات، البنايات، ثياب الناس، ولغتهم.. ويروح يلعب مع نفسه لعبة اكتشاف الزمن الذي هو فيه.. فيفشل أحياناً قليلة وينجح في أغلب الأحيان.
كانت المشكلة التي واجهته في أول مرة يعود فيها الى الحياة هي التكيّف مع حقيقتين صادمتين: الأولى أنه ميت.. ميتٌ حقيقة لا مجازاً.. ولديه مثل أغلب الموتى من رتبته السامية قبر أنيق بلوح رخامي نفيس في مقبرةٍ تظللها الأشجار..
والثانية أنه تمثال.. مجرد تمثال برونزي من الحجم الطبيعي منتصب فوق حصان معدني جميل.. ميت هو الآخر.. وهذا يعني ضمناً أن عودته (عودتهما) الى الحياة ليست كاملة تماماً؛ فلم يكن بالطبع قادراً على الترجل أو تحريك شيء من أعضائه أو الحديث بصوت عال أو التواصل مع الآخرين، باستثناء حصانه كما قد يتوقع المرء.. وبقدرٍ محدود.. محدودٍ لكنه كافٍ.
مثل هذه الأمور، مثل هذه المشاعر والتجارب الحسية الخارقة لا يمكن إيفاؤها الوصفَ، ربما نجح كتاب آخرون في فعل ذلك بأفضل مما أستطيعه أنا. أما أنت أيها القارئ فربما تدنو من ذلك الى حدٍ ما، غير أنك (ومهما بلغت من خيال وذكاء) ستعجز (مثلي) بالتأكيد عن الإحساس الكامل بها..
لكنه (هو) شيء آخر.. إنه من طينةٍ أخرى، أو فلأقل من معدن آخر..
كان ملكاً سابقاً عركته الحياة والتجاريب.. سمّه حكيماً إن شئتَ، وداهيةً إن أحببتَ، وذكياً إن رغبتَ.. ولهذا استوعب الأمر بشكل سريع.. بهدوءٍ.. ورباطة جأش.
لم تكن الأوقات التي يعود فيها الى الحياة لتتبع نمطاً محدداً أو جدولاً منتظماً.. يحدث الأمر هكذا.. دون مقدمات.. وينتهي فجأةً.. دون سابق إنذار.
بعد أن تجاوز صدمته الأولى، وقبل أن يتطلع الى المشهد، عرف على الفور أنه في مكان قريب من النهر، فقد ملأت صدره رائحة الماء والطين والسمك والطحالب. كان جسر جديد يشرف على الانتهاء، وعلى الضفتين كانت بنايات قديمة أثيرة يعرفها جيداً قد أزيلت من الوجود لتشكل مقترباته، فشعر بخليط من الأسف والسرور. كان يحب هذا النهر حباً جماً، وكثيراً ما قضى على ضفافه ساعات السمر الطوال وسرح بخياله في من سبقه من ملوك وأقوام وحضارات ومنّى النفس بأن يفعل شيئاً يجعل هذه الأمة المتقلبة المجادلة الصعبة المراس تذكره بخير بعد أن يضمه ترابها.. لكنه لم يكن متأكداً من نجاحه في مسعاه.. فقد اختلف الناس في شأنه كما يفعلون دائماً فأحبه البعض وشتمه البعض شتماً مقذعاً أصابه في كرامته.. لكنه لم يفلت زمام نفسه.. كان يتوقع هذا.. قرأه في كتب التاريخ التي يعشقها.. وحذّره منه أبوه قبل أن يعتلي عرشه الخشبي البسيط.. وحين يعاتبه البعض على فرط تساهله كان يبتسم ابتسامة من ينوء بحملٍ ثقيل لكنه محبب ثم يجيب:
- إننا نؤسس أمّةً.. أليسَ كذلك؟
ثم يردف ذلك بحكمة قديمة أو بيت مناسب من الشعر.. وكان بالطبع يحفظ الكثير من كليهما..
كان يفتح عينيه على مشاهد غريبة، عجيبة، متناقضة، تثير الحزن أحياناً والفرح أحياناً والغضب أحيانا والفخر أحياناً والأمل أو اليأس أحياناً.. وخليطاً مبهما من كل ذاك في أغلب الأحيان:
رأى حشوداً صامتة تتبع جنازة ملكية عرف أنها لابنه.. إبنه الوحيد.. رأى حروبا وطائرات تلقي قنابلها فتنثر شظاياها وتهز الأرض من تحت قدميه (ألم أخبركم أن إحدى أذني حصانه العزيز صلمت في واحدة من تلك الغارات).. رأى حشوداً ترقص وتغني وتهتف وترفع أعلاماً ملونة وأخرى تعلق رجالاً مرعوبين في مشانق أعدت على عجل.. رأى رجالاً غاضبين يسحلون جثثاً وفتيةً يرشون الماء على بعضهم البعض في فرح مجنون.. رأى جنوداً يقتلون جنوداً بأسلحة سريعة لم يرها في الحروب التي خاضها في شبابه.. رأى مواكب أعراسٍ صاخبة ومواكب موت جماعية.. رأى عمالاً يكنسون أو يصبغون الرصيف وآخرين يمتطون وحوشاً صفراء تعبّد الشوارع أو تخربها.. رأى سائقي أجرةٍ يشتمون وشرطةً تتبدل أزياؤهم كل مرة.. رأى شعراء سكارى يتطوحون في آخر الليل عائدين الى بيوتهم وعتالين يجرجرون عربات تكدست فوقها مكعبات وصناديق لم يستطع معرفة طبيعتها.. رأى رجالاً يعلقون مصابيح ملونة وصور جنرالات باسمين تنوء أكتافهم وصدورهم بالنجوم والنياشين ورجالاً ينزلونها أو يحرقونها أو يدوسونها بالأقدام أو يبدلونها بصور لجنرالات غيرهم أو لرجالٍ معممين أو حاسرين أو ملتحين أو حليقين.. بعضهم غاضبٌ متوعدٌ لسبب ما وبعضهم مسترخٍ ضاحك كأنه سمع للتو نكتةً جديدة..
لكنه، حتى ذاك اليوم المشؤوم، لم يشعر أبداً بمثل هذا اليأس المطبق والرغبةٍ الخانقةٍ في العويل .. كان مشهداً لم يستطع قلبه المعدني احتمال رؤياه: كانت جثث محروقة أو مقطوعة الرؤوس والأطراف ملقاة على قارعة الطريق، وكانت ريح كريهة تضرب المكان ودخان ودوي يتصاعد من هنا وهناك. وبين الفينة والفينة يمر كهول أو نساءٌ يلفهن السواد فيلقون نظرات عجلى ثم يمضون في طريقهم غير مبالين، أو يحدث أن يتوقف شيخ أو إمرأة على إحداها ويهشّ الكلاب والذباب عنها ليتفحص الثياب ويحاول التعرف على صاحبها ثم يهز رأسه في أسف أو يلطم على صدره وهامته ويشرع في نشيجٍ خائفٍ مكتوم..
لم يستطع أن يفهم شيئاً.. وأحس بالدوار، فهمس بصوتٍ مرتعش كسير:
- ما الذي يجري يا حصاني النبيل؟ أعرف أين نحن.. ولكن متى نحن؟
ولم يجب الحصان سوى بهمهمته المعتادة.. لكن قطرتين من الماء الساخن نزلتا من مقتليه الكبيرتين..
وشعر بأن ظهره ينحني من الشيخوخة وتمتم مذهولاً:
- ليتهم أبقونا في المتحف الرطب الصغير.. هناك.. في الضفة المقابلة.. هل تتذكره يا صديقي.. بل ليتني تهشمت كسراً كسراً أو ذبتُ في أتونٍ مستعر..
وأحس أن جسده أخذ يتصدع بالفعل وأغمض عينيه واستعد لتوديع حصانه، لكن يداً رحيمة أسدلت الستار على المشهد فعاد الى رقدته الأولى..
ولأن الأمر، كما تعلمون، ليس بيديه، فقد فتح عينيه رغم ذلك.. نعم فتحها مرة أخرى بعد فترة لا أعرفها بالضبط.
لم يكن متعجلاً بل ولا راغباً في ذلك. كان وجلاً، حزيناً، مرتاباً مما رأى في المرة الأخيرة فآثر أن يسمع ويشم ما يدور أولاً..
كانت رائحة النهر العتيق تتصاعد من جديد، وملأت أبواق السيارات وشتائم السائقين وضجيج الباعة ومسجلات الصوت أسماعه فأحس بالطمأنينة.. وشيئاً فشيئاً فتح عينيه فأعشاهما ضوء النهار الباهر، وتطلع أمامه: كان ثمة عمال يكنسون أو يصبغون الرصيف وآخرون يمتطون وحوشاً صفراء تعبّد الشوارع أو تخربها وسائقو أجرةٍ يشتمون وشرطياً غمره العرق يحاول جاهداً أن يرتب تلك الفوضى وعتالون يجرجرون عربات تكدست فوقها مكعبات وصناديق..
ومن بعيد كانت طفلتان مثل قطعتي حلوى تتمايلان تحت ثقل حقيبتهما المدرسيتين. وحين دنتا من التمثال توقفتا قليلاً وأشارتا اليه وصاحت احداهما:
- شوفي.. هذا يشبه جدو!
فأجابت الأخرى مستنكرة:
- لا.. جدو أحلى!
وفتحت كيساً ملوناً صغيراً أخرجت منه قطعتين من رقائق صفراء لم يرها التمثال من قبل، أعطت واحدة لرفيقتها ووضعت الثانية في فمها وراحت تقرمشها بتلذذ تحت أسنانها الصغيرة.. فأحس بأن لعابه يسيل للمرة الأولى منذ دهور.. وسمع قرقرة تتصاعد من معدته البرونزية فضحك مدارياً حرجه وهمس لحصانه:
- هل سمعتَ شيئاً؟
فأجابه الحصان بهمهمةٍ جذلى.. فضحك الملك العجوز من جديد وقال:
- ولو.. فليسمع الجميع!
وملأ صدره بالهواء.. وسحب الرسن الجاسئ خشية أن يقفز الحصان من مكانه ليرقص.. يرقصا فوق العشب المغسول!
بحث هذه المدونة الإلكترونية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق