مع ماجد الحيدر

حوار أجراه : مهند الشهرباني

ماجد الحيدر..كائن ليس من هذا الزمان ..انه يعيش بيننا ويتنفس مثلنا ولكنه حتما ليس من طينتنا والا فما السر في انه يجد وقتا لا نجده ؟؟ وكيف يمكنه أن يكتب بمثل هذه السهولة المحببة ؟؟ وكيف يجتاحه الشعر في كل حالاته ؟ وللذين لا يعرفوه ولم يقرؤوه أقول انه بكل بساطه جميل وهذا حكم غالبية معارفه وهو فوق هذا يمتلك كل مقومات الأديب فهو شاعر ومترجم وقاص وباحث وسكرتير منتدى شهربان الثقافي. أصدر دواوين (النهار الأخير) (مزامير راكوم الدهماء) ومجاميع قصصية (ماذا يأكل الأغنياء) و(في ظل ليمونه) إضافة الى (نشيد الحرية وقصائد أخرى) وهو مجموعة مترجمة من شعر شيللي، وفي الكتابة العلمية له كتاب عن مرض الإيدز. نشر في الصحف والمجلات والموقع الالكترونية الكثير من التراجم والقصص والقصائد وفي جعبته الشيء الكثير مما يستحق النشر والقراءة، وها أنا ذا أمتع نفسي قبل غيري بلقاء حمل بين طياته استكشافا لهذا الإنسان الذي عايشته زمنا وما أزال ولا يمكن أن يكون إلا أحلى أزماني، وقد كنت أريد لهذا اللقاء أن يكون ردا على الحيدر نفسه وهو يتعلل بضعف ذاكرته التي أراها خزينا لتاريخ جيل بدأ التنفس في ستينات القرن الماضي وهي الفترة التي اجتاح فيها العراق فيض من الثقافات بلورت ماضي الأمة وحاضرها وسيكون المستقبل لرموزها البيضاء التي يفتخر الحيدر انه واحد منها.

س/ما الذي يمكن أن يكون حجر الأساس لتوجهاتك ؟ وما هي البيئة التي حركت جمرة الأدب الخبيثة فأحرقت الأحلام وأنضجتها ؟

عندما فتحت عيني على الدنيا: أعني في اليوم الكبيس من شباط 1960 كان العراق منشغلا -وظل حتى أوائل الثمانينات من القرن الماضي- في بوتقة ثقافية هائلة. كانت الثقافة تأكل وتشرب معنا. وكان المثقف رغم حراجة وخطورة موقفه من السلطات المتعاقبة إنسانا محترما ومهابا في مجتمعه. كانت القراءة في بيئتي شيئا ضروريا لا يستغنى عنه. أخي الكبير عبد العزيز بلغ من ولعه بالكتب أن استأجر دكانا صغيرا لبيع الكتب والصمون! نعم فلقد اتفق مع أحد معارفه على استئجار محل صغير في زاوية أحد شوارع مدينة الحرية –حيث سكنّا لبعض الوقت- يستغله صاحبة منذ ساعات الفجر حتى الضحى في بيع صمون الإعاشة الذي كان مرغوبا لجودته ورخص ثمنه وحين كان الصندوق الخشبي الطويل الشبيه بالتابوت يفرغ من وجبة الصمون الساخن الشهي كان الرجل يغادر المحل ليبدأ أخي بإخراج كتبه ومجلاته ومنحوتاته الطينية والجبسية الملونة ليعرضها أمام المارة بينما يتشاغل هو عنهم بالتهام ما في بطون تلك الكتب والمجلات. حين انتقلنا-ويا لكثرة انتقال الفقراء- من مدينة الحرية الى "بغداد" -هكذا كنا نسمي الرصافة القديمة وأحياءها- اكتشفتُ فجأة عالما ساحراً وجميلاً اسمه المركز الثقافي السوفيتي في شارع أبي نواس قرب فندق بغداد الحالي. كان هذا المكان أشبه بمعبد جبلي يطل على بحيرة توجع القلب من فرط جمالها. هنا كان التحضر والرقي الذي لم أر له نظيرا بعد كل هذه السنوات، هنا كانت السدرة الهائلة وتحتها منضدة كرة الطاولة ثم الحديقة الجميلة ثم صالة المسرح الصغيرة وقبلها جميعا المكتبة ذات الأرضية الصقيلة والهدوء الكنائسي وجدارية لينين الرخامية وهنا قرأت أول ما هزني من شعر حر على صفحات مجلة سوفييتية تصدر بالعربية ولا أذكر اسمها: كانت قصيدة لسعدي يوسف بمناسبة الذكرى الخمسين لثورة أكتوبر:

خمسون إطلاقة كاتيوشا لسبارتكوس المنتصر

خمسون وردة لفتيات الكومسمول وفتيات الحرس الأحمر

خمسون.. خمسون.. خمسون..

في صالة المسرح الصغيرة كانت فرقة عراقية اسمها فرقة مسرح الصداقة تقدم عروضها الجميلة : كان فيها المخرج أديب القليه جي وزوجته وداد سالم، وكان فيها صلاح القصب ونور الدين فارس وابن خالتي جبار النزاري وآخرون لا تسعفني الذاكرة لاستدعاء أسمائهم لكن صورهم الجميلة العامرة بالمحبة والتعب والحماس ما بارحت يوما مخيلتي. وهنا أيضا سمعت لأول مرة بأسماء بريخت وغوركي ويوسف العاني وأدمون صبري وكلمات مثل الماكيير ومدير المسرح والإضاءة والحوار والمؤثرات الصوتية..الخ.

وفي بيت"نا" الصغير في "عقد القشل" كانت تدور المحاورات الفكرية الطويلة التي كنت أرغم إخوتي وأصدقائهم على حضورها والاستماع إليها بل ولفتِ نظرهم أحيانا الى وجودي عن طريق إحداث ضجة ما أو إطفاء وإشعال المصباح الكهربائي لأقول لهم أنا هنا!

وسرعان ما شرعنا أنا وثلة من أصدقائي وأقربائي وإخوتي الصغار بتأسيس فرقتنا المسرحية الخاصة وسرقة ستائر القماش الأسمر الخام التي تعزل بها أمهاتنا محلات النوم في سطوحنا المتقاربة لنعمل منها ستائر للمسرح! ثم أقمنا معرضا أو معرضين للرسم في "أكبر" غرف البيت! ودورة أسميناها "أولمبية" للألعاب المنزلية: شطرنج، طاولة، صكلة، دعابل ولعبة ابتكرناها وأسميناها كرة الإصبع! وكانت الخطوة الأكبر إصدارنا لمجلتنا اليدوية العتيدة: مجلة الطفل! العدد الأول العدد الثاني العدد الثالث.. الخ، نكتب قصصها ونبتكر شخصياتها "منها شخصية القزم المشاغب شبرونص"! ونرسم سيناريوهاتها الملونة ونصمم أغلفتها وكلماتها المتقاطعة وألغازها. ثم أوصلتنا الأحلام الى أن ندور بها في المطابع الواقعة في منطقة العمّار وخلف المدرسة الجعفرية مرورا الى عقد النصارى لنسأل العاملين فيها بين خجلنا واندفاعنا ودهشتهم أو سخريتهم أن يطبعوا لنا عشرين أو ثلاثين نسخة منها مقابل الفليسات القليلة التي جمعناها! وكانت الطامة الكبرى انهيار "المجلة" بسبب "خلاف فكري"!! فلقد أصر شريكي في "رئاسة التحرير" على إقحام مغامرات سوبرمان في المجلة، ولأني كنت "سمعت" أو "قرأت" أن سوبرمان شخصية تمجد البطل الأمريكي الخارق الذي يقهر الشعوب..الخ فلقد رفضت بشدة مستخدما أقسى ما في قاموسي السياسي الصغير من كلمات كبيرة! وكانت النتيجة أن انشطرت المجلة الى مجلتين ثم توقف كلاهما عن "الصدور"!!

لكن ذلك لم يكن يعني شيئاً بالنسبة إلينا.. نحن الأطفال المسكونين بالأحلام الشاسعة؛ كانت المدرسة متنفسا وبوتقة عظيمة أخرى. هنا في مدرسة صلاح الدين الابتدائية كان مرسم المدرسة والمشاركات في معرض شانكر الدولي وهنا كان أستاذ الفنية العظيم "عبد الرزاق؟" الذي بلغ من إخلاصه لمهنته أن يعقد اتفاق جنتلمان مع صانعي البستوكات والتنانير الطينية في محلة الصدرية على أن يبيعوا لنا ما نحتاجه من طين حري نقي بأسعار رمزية لنصنع منه تماثيلنا ومزهرياتنا ، وهنا كان أستاذ التربية الرياضية "داود؟" الذي يبذل المستحيل كي تجيء ملابس الكشافة الزرقاء على قياسنا ويكاد يبكي حين لا نحصل على المركز الأول في المخيم الكشفي في القناة قرب ما صار يسمى أسواق 14 تموز، وكانت بالنسبة الى خيالنا الشارد تقع قريبا من آخرة الدنيا! وهنا كان أيضا معلم الإنكليزية المخيف الأستاذ "عباس" الذي يتحول عندما يدخل علينا في درس النشيد والموسيقى الذي أضيف الى اختصاصه الى كائن لا يَمل من إضحاكنا وتدليلنا. ولأني كنت الأول في صفي ومدرستي صار من الطبيعي أن أكون فتى المدرسة الأول في كل شيء، ولقد نجحت في ذلك مرات عديدة: رئيس فريق الكشافة، رئيس الفرقة المسرحية، رافع العلم وقارئ قصيدة تحية العلم .. عش هكذا في علوٍ أيها العلم ... حتى اكتشفت بعد سنوات طويلة أن حسد بعض التلاميذ الآخرين دفعهم الى يطلقوا عليّ فيما بينهم لقب "أبو عش هكذا!".

لكنني أخفقت أحيانا كثيرة بالطبع، وكانت من أكثر "شدات الأذن" إيلاما والتي ما زلت أذكرها وأضحك منها ما حصل حين اصطحبنا معلم النشيد الى قاعة النشاط المدرسي في الوزيرية لنجد هناك مشرف الموسيقى آنذاك "فاروق هلال" وحشد كبير من التلاميذ المختارين من مدارس بغداد لتدريبنا على نشيد جديد من تلحينه عن الوحدة والحرية والرسالة الخالدة "ربما كانت هذه من بواكير إنجازاته العظيمة فيما بعد!". كان فاروق هلال يستعيد أحد المقاطع المرة تلو المرة وهو منزعج من طفل يخرج كل مرة على اللحن ويفسد النشيد بصوته الزاعق وأخيراً صاح بعصبية: على التلميذ الذي يتخيل بأنه عبد الحليم حافظ أن يسكت أو يخفض صوته ولا يزعجني وإلا!! وفهمت طبعا إنني عبد الحليم المقصود فبلعت لساني وحرمتهم من موهبتي الفذة! مرة أخرى وفي امتحان البكالوريا للدراسة الابتدائية طلبوا منا أن نكتب بضعة أبيات مما نحفظ من شعر، وبدلاً من أن أسطِّر ودون أي عناء بعضا مما أحفظ في كتب القراءة حاولت أن "أتفيّك" كما يقولون فكتبت أبياتا من رائعة الجواهري "يا دجلة الخير" وكنت أحفظ أبياتا منها، لكني كنت أشعر بأني أرتكب حماقة لا أعرف ماهي فأمسح ما كتبت ثم أعيد كتابته الى أن اكتشفت والامتحان يوشك على نهايته أنني كنت أشطر البيت الواحد الى بيتين هكذا:

حييت سفحك عن بعد فحييني

يا دجلة الخير يا أم البساتين!

وحين حاولت استدراك الأمر اتسخ دفتري وزادت خيبتي وارتباكي وكانت النتيجة أن خسرت عددا من الدرجات من المائة التي كنت واثقا منها قبل دخولي الامتحان وإضاعتي لقلم الحبر الثمين الذي أعارني إياه أخي لأكتب به اسمي على غلاف الدفتر حسب التعليمات!

العجيب إني مع خجلي الشديد وانطوائي الذي كنت أعاني منه الأمرين كنت جريئا لدرجة الخراقة في مواضع كثيرة أخرى، فهل كانت البيئة ومحاولة محاكاة الآخرين أم إنها السذاجة أم الثقة المفرطة بنوايا الآخرين أم أشياء أخرى؟ وإلا فما تفسير قيامي في أحد أيام الخميس بقراءة قصيدة للشاعر بحر العلوم كنت حفظتها من دفتر كبير يلصق فيه أخي الكبير حيدر مختارات ما يروق له من صفحات الجرائد: قصيدة بعنوان الردة والوعي الثوري، قصيدة كلها شتم واضح صريح للبعث وانقلاب شباط الأسود وأنا أرى المدير والمعاون والمعلمين يشيرون إليَّ كي أسكت فأسترسلُ وأسترسلُ ولا أجد سببا يدعوني للتوقف عن قراءة قصيدة ثورية جميلة ذات إيقاع سهل راقص:

يا ردةً تحملِ لؤمَ المعتدي جئتِ وتمضين بوجهٍ أسودِ

ما بالهم؟ أليسوا يكرهون الردة؟ أليسوا وطنيين؟ أليسوا... ولكن مهلاً، لقد كانوا ينظرون بوجوهٍ شاحبة الى الأستاذ أحمد ، "أحمد البعثي" كما كان المعلمون والطلبة يسمونه تحسباً وتمييزا له عن معلم طيب ثان اسمه أحمد. نعم لقد كانوا خائفين من الأستاذ أحمد البعثي، الحارس القومي السابق، والبعثي الوحيد في مدرسة صلاح الدين الابتدائية للبنين عام 1969!!

هذا الوضع استمر في سني الدراسة المتوسطة والإعدادية، كانت صحافة اليسار السرية قد صدرت الى العلن وجمعت خيرة مثقفي العراق وأصبحت زادنا اليومي، كانت المطابع العراقية تلقي الى المكتبات والأرصفة في كل يوم بعشرات الكتب والمجلات وكتب الأطفال والصحف تضاف الى المئات مما يأتي إلينا من الخارج بجميع اللغات ويباع بأسعار زهيدة. وكانت معارض الفن التشكيلي في قاعة "كولبنكيان" قرب ساحة الطيران لا تتوقف عن إغرائنا بالتسلل من بوابة إعدادية النضال القريبة، كانت مهرجانات المسرح والسينما والشعر لا تمنحنا الفرصة لالتقاط أنفاسنا، صارت الثقافة أو حتى التظاهر بها وحمل الكتب في المقاهي والبارات موضة تلكم السنوات، كان اليسار العراقي منتعشا ومعه _مثل ما يحدث دائما في العراق- تنتعش الثقافة والفن ويزدهران. ومثل الكثير من أبناء جيلي استهوتني السياسة ورسمتُ صورة لجيفارا علقتها في غرفة الاستقبال الصغيرة.. وامتلأت بالأحلام الجميلة ورؤى الغد المشرق الجميل. ولكن مهلاً.. كان الجراد يتجمع من جديد في سمائنا الصافية.. كانت الفاشية قادمة..كانت الحروب تدق أبوابنا.. وامتلأت حقولنا بالمشانق.. غاب كل شيء فجأة وهربت طيور العراق الى المنافي وكان حظ الألوف -وأنا منهم- الهزيمة أو الصمت أو الانكفاء أو لعق الجراح .. لكن آخرين.. فتيةً عنيدين، ملفوفينَ بالحياءِ .. والصِبا .. والأحلام اختاروا أن يمضوا بالشوط الى منتهاه ، وما المنتهى في بلادي غير غرفة التعذيب، ثم حبل المشنقة المدمى، ثم حفرة صغيرة في مقبرة جماعية لن يكشف عنها النقاب إلا بعد ربع قرن!؟.. وكان أخي الصغير واحدا من أولئك الفتية الأسطوريين .. وكان رحيله الذي لا يصدَّق الحدثَ المزلزل في حياتي... ونقطة التحول الحاسمة في تشكل وعيي واللحظة الأكثر إيلاما.. اللحظة التي أحرقت كثيرا من الأحلام وأنضجتها حتى التفحم!

س/ الشعر ، القصة، الترجمة ، الدراسات، المقالات، أيها أرخت لدخول ماجد الحيدر من بوابة الأدب وأيها كان له نصيب الأسد ؟

ج: الشعر هو البوابة الأولى، وهو بالتأكيد أول ما يحاوله أي صبي عراقي يصاب بجمرة الأدب التي أسميتها الخبيثة. لا أدري إن كانت هذه ظاهرة عالمية لكن يبدو أن كل أديب في العراق قديما وحديثا قد جرب في الغالب كتابة الشعر في مرحلة مبكرة من حياته ثم اكتشف بعد زمن قد يطول أو يقصر أنه لا يصلح لكتابة الشعر أو أن الشعر لا يصلح له أو أن الحياة لا تصلح للشعر أو العكس!. وهكذا كان أول ما خطته أناملي بعض المحاولات الشعرية_أو هكذا ظننتها_ ورأيُتني وأنا في سن الدراسة الابتدائية أرسل الى مجلة المزمار (وكانت في سنتها الأولى جريدة تصدر بلونين) مقطوعةً طفوليةً شبه عمودية عن الفدائي الذي يفتدي وطنه ويحمي بلاده .. الخ من شعارات تلك الفترة. وكانت فرحتي الكبيرة بنشرها لا توازيها سوى خيبتي الكبيرة من أنها نشرت بطريقة مضحكة حين وضعت صدور الأبيات واحدة قبالة الأخرى لتتبعها الأعجاز بنفس الطريقة. ولا أدري على وجه اليقين إن كانت هذه التجربة/الخطأ المطبعي من الأسباب الكامنة في عقلي الباطن التي دفعتني الى التأخر عن نشر أية قصيدة أخرى حتى تجاوزت الثلاثين من عمري. وما يزال الشعر صاحب نصيب الأسد في أعمالي رغم انشغالي بالترجمة والقصة القصيرة.

س/الجمع يقود الى القمع كما يقول الجاحظ فما هو اللون الأدبي المقموع بين اهتمامات ماجد الحيدر؟

ربما يكون هذا اللون هو الرواية فهي تحتاج الى صبر ومطاولة وتنظيم لا أملك منها جميعا غير النزر اليسير. أخبرني أحد الأصدقاء أن والده تاجر المفرد كان يوصيه قائلاً: من أجل أن تكون صاحب دكان ناجح تحتاج الى "مقعد " جيد لأنك قد تضطر الى الجلوس ساعات وساعات كي تجمع الفلس بعد الفلس. وأنا ولدت واقفا وظللت واقفا زمنا طويلا حتى وهنت ركبتاي وصرت لا أجيد غير الوقوف أو الاستلقاء! فكيف لي أن أكتب روايتي التي تعيش في عقلي منذ سنوات طويلة؟

س/ هل من الممكن التجسير بين اهتمامات ماجد الحيدر دون أن تعبر ضفة الى أخرى ؟

وما فائدة الجسور إن لم نعبر بها من ضفة لأخرى؟ ولماذا لا أعبر مرارا وتكرارا؟ إن عبور الجسور واحد من أجمل أشكال التنزه، أليس كذلك؟ أنا لا أمكث طويلا في ضفة واحدة أعني اهتماما أدبيا واحدا. هل هو الملل؟ هل هو حب الاستكشاف؟ هل هو تعويض عن رغبة مقموعة بالسفر والتصعلك؟ هل هو التحدي أم التجريب أم هو خليط من كل ذلك؟ لست أدري لكني أقول لك إن لا تناقض ولا أذى في هذا التنوع في الاهتمامات فهي تعبر جميعا عن جوهر واحد هو الوقوع في شرك هذه الصفقة الخاسرة الجميلة التي يسمونها الأدب.

س/ في ظل ليمونة / النهار الأخير / ماذا يأكل الأغنياء/ مزامير راكوم الدهماء محطات لم نلمح فيها إلا القليل من بصيص الأمل فلماذا هذا السواد ؟

سأعيد قراءة سؤالك وأسمي الأمل فرحاً والسواد حزناً. أعمالي ليست يائسة بل حزينة، وبين الاثنين بون شاسع. وإني لأسألك بالله عليك: متى يحتاج المرء الى الأمل؟ أليس حين يكون في حالٍ من الضيق والحزن والشدة؟

نحن كعراقيين سادة الحزن وسدنته منذ عصر "دموزي" وبكاء "ذوي الرؤوس السوداء" عليه. إن المرء ليحتاج الى طاقة جبارة كي يستعير ألوان قوس قزح في عاصفة ترابية خانقة. وقديما سألوا ابن الرومي: هلا قلتَ كما قال ابن المعتز. فقال: وماذا يقول ابن المعتز؟ قالوا: إنه يقول وهو يصف الهلال:

أنظر اليه كزورقٍ من فضةٍ قد أثقلتهُ حمولةٌ من عنبرِ

فصاح:

وا غوثاه، يا لله، لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ذلك إنما يصف ماعون بيته؛ لأنه ابن الخلفاء، وأنا أي شيء أصف؟

ولكن الأمل موجود. موجود في كل الثنايا الحزينة وفي كل نبرةٍ ساخرةٍ أو نادبة، وحتى في اللحظات التي تسبق الموت أو الشهادة بل وحتى في اليأس نفسه. إنها ثنائية عجيبة مدهشة، متناقضة في مظهرها منسجمة في جوهرها. اسمع ما قالت "إميلي برونتي" ذات يوم:

حين مضت أيام الأحلام الذهبية

ولم يعد اليأس نفسه قادرا على التدمير

تعلمت ساعتها كيف أن الوجود

قد يكون عزيزا قويا

دون عون من السرور.

أو ما قلت على لسان الشيخ المغني في "مزامير راكوم الدهماء":

... وهذا فـمـي المـدمــى

الـذي ضــربته الـريح الشــرقية ..

لــمّا يــزل يغــني.

غــير أنّ الدمـــوع تخــونني

ويعــروني الصــمت

حــين أتــذكـــر قـيثــارتي

وأنظــر الـى أصـابعـي الماهرة

أصــابعي الحـاذقــات الطوال

الــتي داســتها العجــلات الحديــديـة....

س/ أين المرأة فيما تكتب وكيف تراها ؟؟

المرأة في أعمالي ليست الكائن الآخر. إنها الكائن الأول، إنها المعبودة والأَمة، الجلاّدة والضحية الأزلية، أثينا وأفروديت في آن واحد !

س/ أن تخلع نعليك وتدخل وادي الشعر عليك أن تتعمد بالخيبات . هل من خيبات وهل من آمال ؟؟

الخيبات؟! لا يحدثك مثل خبير. نحن جيل الخيبات. جيل التقارير السرية والمشانق والبساطيل العسكرية والنوم في الكراجات بانتظار باص ينقلنا الى المسلخ. لكننا كنا على الدوام نحمل في حقائبنا كتاباً نقرأ فيه بين حربٍ وأخرى. ولهذا فنحن أيضاً جيل الآمال، جيل الحلم الأبدي بالحرية، ثم الحرية... ثم الحرية.

س/يلاحظ القارئ انك تكتب بسهولة ويحس بان احتراق الشاعر فيك مغيب باليومي والعام .هل تتقصد هذه السهولة أم إنها عفوية ؟

هل سمعت يا صديقي بحكاية الرجل الذي نعلم كيف يطير؟ إن لم تكن قد سمعتها فسأحكيها لك باختصار: ثمة رجل يستيقظ كل صباح ليمارس التمارين الرياضية على سطح منزله، لكنه أحس ذات يوم أنه يرتفع في الهواء ثم يحلق مثل الطيور، وتكرر الأمر حتى ذاع صيته بين الناس، وعندها اجتمعت لجنة من كبار العلماء لفحص هذه الحالة الغريبة تجمعوا حول الرجل المذعور وأمطروه بوابل من الأسئلة: بماذا تفكر بالضبط لحظة طيرانك؟ أية رجل تقدم أولاً؟ هل تتنفس بعمق أم تكتم أنفاسك؟علام تركز أنظارك؟ الخ. وحين حاول الرجل أن يطير في اليوم التالي تذكر كل تلك الأسئلة فارتبك وتعثر ولم يرتفع من يومها شبراً واحداً!

أنا يا صاحبي لا أخطط لكتابة القصيدة. نعم أحترق بها وأشعر براحة كبيرة عندما ينتهي مخاضها، لكنني لا أعرف ما سيولد بعد هذا المخاض. وحين أنظر الى صغاري/ قصائدي أشعر أحيانا أن بعضها مغرق في الغموض والانشغال الفلسفي والسؤال الوجودي، وبعضها بسيط مثل أغنية للأطفال أو لقطة فوتوغرافية عابرة. من الشاعر العراقي الذي قال: أفتح فمي فتخرج القصائد؟

س/في زمن كانت تخاف الرئتان فيه من التنفس بعمق نفست أنت وجماعتك عن أوجاع الكثيرين في قصصكم وشعركم فمن أين استمديتم جرأتكم وكم يمكن للأديب أن يتجاهل الخوف والطغيان ؟

سأهمس لك بسرٍّ صغير: لقد كنا مجانين! الجنون أحيانا يصنع المعجزات. أنا شخصيا أشعر بأني من أولئك الناجين بالمصادفة. ألا تذكر يا صديقي: لقد كنا نختنق، وكان لا بد لنا أن نصرخ، ولو بكلماتٍ غير مفهومة أحياناً أو متهورة في أحيان أخرى. كان نشوء جماعة المقدادية الأدبية مغامرة لذيذة. لم نكن أبطالا بالتأكيد، لكننا كنا وما زلنا حالمين كبار!

س/ المزامير كان يمكن أن تحدث صدى كبيرا لو أنها أخذت حقها في النقد والإعلان الى أي حد يمكن أن يكون النقد مساعدا لانتشار رؤيا الشاعر ؟

تلك قضية فيها تأسٍّ ، كما يقول الشاعر. الانتشار في العراق خاضع لأشياء كثيرة ليس من أولها أصالة العمل الإبداعي. على الكاتب في العراق ألا ينتظر أحدا يبشر به وبمنجزه. عليه أن يعمل وكيل دعاية ومدير أعمال لنفسه. وهو من أجل ذلك يلجأ في بعض الأحيان الى وسائل أراها مُذِّلة أو لا تناسب مكانته.

المزامير طبعتها على نفقتي الخاصة في إحدى قمم أزماتي المادية-وما أكثرها- وصدرت في نسخ قليلة لكنها نشرت فيما بعد في أكثر من موقع الكتروني. المضحك إني قدمتها ذات يوم الى أحد رؤساء التحرير الخطيرين – تعرف.. من الذين تكاد ترثي لحالهم من فرط ما يتحملون من أعباء فكرية وإبداعية وفلسفية تغضنت منها جباههم وأصابتهم بالحموضة الدائمة واضطراب الأمعاء! الصديق رئيس التحرير سلمها الى الصديق المسئول عن تقييم القصائد واختيارها وهو بدوره سلمها بالتأكيد الى صندوق النفايات لانشغال الصفحات بالقصائد التي تقرأ من الجانبين! لم أسأل أحدا من هؤلاء الأصدقاء عن مصير المزامير فأنا لا أطرق باباً مرتين، غير أن المفاجأة المفرحة حين استلمت بعد أيام من تجاهل المزامير رسالة تخبرني أنها اختيرت كواحد من أفضل الأعمال المنشورة على صفحات الانترنت لتلك السنة! لاحظ إنني لم أتحدث بعد عن رأي النقاد فيها لأن الأمر مبكر جداً ، فعندنا في العراق طريقة أكثر نجاحا وأكثر ضمانا للشهرة الأدبية ولفت نظر النقاد وهي أن تموت! خصوصا إذا كان موتك شاعرياً أو بائساً، وعندها سيكتب عنك الكثيرون ويعيدون اكتشافك! تلك هي طريقتنا العراقية في الشهرة وأنا أعول عليها كثيرا!

س/ لو قدر لك أن تكون حكما وتطلق أحكاما عن هذه الأسماء فماذا ستقول عنها ؟

عبد الوهاب البياتي: سندباد مدلل.

السياب:مزقه سجن الجسد فغنّى. تحس في شعره بكل عنفوان وجنون وعذابات .. و(أخطاء) الرواد الكبار.

عبد الرزاق عبد الواحد: طبلٌ كبير. حاول ألا تخطئ في تسلسل الحروف: طاء ثم باء ثم لام!

نزار قباني: في شعره الغزلي فارس دون منازع أما في شعره السياسي فهو خاضع لتقلبات الرأي العام العربي الرسمي والشعبي وما أكثرها وما أشدها تهافتاً وزئبقية.

غائب طعمة فرمان: أستاذ الأدب الملتصق بالشعب، غوركي وجيخوف معا.

فؤاد التكرلي: لم اقرأ له، هل تصدق!

سليمان البكري: عرّابنا الجميل، غيمة من الطيبة في ثياب رجل، ونموذج المعلم/الصديق الذي نحتاج اليه في هذا الزمن.

احمد خلف: علامة كبيرة في تاريخ القصة العراقية. إنسان دمث، مثابر، يخجلك بتواضعه.

لورنس: مِن أحبِّ الكتاب الى نفسي. أحب أن أقرأه بلغته ففيها شاعرية لا تحد.

شللي: صديقي، أخي الذي رحل باكراً، والرجل الذي تمنيت أن أكونه!

بابلو نيرودا: سيدي ومولاي!. واحد من أكثر من تأثرت بهم في مرحلة التكون.

س/ هل يمكن للحداثة أن تكون بابا تلج منه الى جمهور أوسع ؟

بصراحة شديدة أنا لا أعرف ماذا تعني بالحداثة! إن مثل هذه المصطلحات تصيبني عادةً بالإرباك مثل طفلٍ أقحموه في مؤتمرٍ عن العلاقة بين الفلسفة والاقتصاد السياسي لدى مفكري القرن السابع عشر في هولندا! فأروح أتساءل :هل أنا غبي أم أنهم يتحدثون لغة لا أفقهها ! أنا أكتب، أكتب فحسب. ولا يهمني في أية خانةٍ يضعني الآخرون مع احترامي الشديد طبعاً لكل وجهات النظر.

س/ مع هذا الكم من الأساطير والآلهة التي تزخر بها نصوصك هل كانت المثيولوجيا وسيلة للتستر أم إنها استعراض ثقافي ؟

ج: لا أظن أن في أعمالي هذا الكم الكبير من الأساطير والآلهة والإشارات الميثولوجية الخ. إنك لو تصفحت ديوان السياب مثلا ستجد كما هائلاً من هذه الإحالات قد تثقل أحيانا كاهل النص وترغم القارئ على الاستعانة بمعجم للميثولوجيا. نعم هناك في أعمالي والشعرية منها على وجه التحديد إحالات من هذا النوع وهذه نتيجة حتمية لقراءاتي المبكرة واهتمامي بدراسة التاريخ والأساطير والفلكلور وأدب الأطفال غير أن الحد الفاصل في رأيي بين النجاح والفشل في استخدام الأسطورة في العمل الفني هو مقدار تكاملها مع العمل ومقدار ما تمنحه للعمل من مضمون ومن شحنة نفسية وعاطفية وتأملية. إشارتك الى التستر قد تكون صحيحة أحيانا ليس في استخدام الميثولوجيا فحسب لكن في استخدام الرمز عموما أما الاستعراض الثقافي فدون ذلك خرط القتاد كما يقولون فأنا بطبيعتي كائن محب للعزلة –المنتجة بالطبع- وواحد من أبعد الكائنات عن الاستعراض –الثقافي وغير الثقافي.

س/هل أنت متفائل لحال الثقافة العراقية الان؟ وما هي نتائج الحرية الثقافية برأيك؟

بالطبع أنا متفائل من كل شيء في العراق، وإلا فأخبرني ما معنى هذه الدموع التي فوق وجهي!؟ أنا لا أمزح فالتفاؤل في العراق كان على الدوام يقوى ويشتد في أيام الكوارث والمحن الكبرى. الإنسان العراقي عصي على الانهزام. والثقافة العراقية التي لم تتبخر كما أراد الجلادون لن تزداد إلا عافية في أجواء الحرية. لكنها الآن شأنها شأن كل شيء في بلادي تمر في حقلٍ للألغام اكتشفناه فجأةً عندما خرجنا من أسوار السجن الكبير. ستعود الثقافة العراقية الى عافيتها بالتأكيد لكن خوفي أن لا يدوم هذا الربيع الدموي الصاخب الجميل ما يكفي من وقت حتى تُظهِر البراعمُ رؤوسها الفستقية ونعود لنخبئ ورودنا القرمزية في أكياس النايلون السود! أنا أشعر مثل الكثير من المثقفين بأن هذا الواقع السياسي المضطرب يقدم (إضافة الى احتمالات قيام ديمقراطية راقية تحترم الإنسان وحقوقه) احتمالاتٍ قويةً أخرى بقيام نظام شمولي أكثر قسوة وإرهابا. والأدب كما تعرف من أكثر الكائنات رقة وهشاشة وسرعة في التأثر بالبيئة السياسية والاجتماعية، والمثقفون المبدعون في بلادي أقلية محرومة من كل حول وقوة، يحيط بها بحر من الجهل والطائفية والعشائرية والمصالح السياسية والجريمة المنظمة وغير المنظمة. لكن دعونا نعمل ونعمل ونعمل ..ونأمل خيرا!

شهربان 11/2/2006


ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية