إقتراح متواضع
بقلم جوناثان سويفت
ترجمة وتعليق: د. ماجد الحيدر
جوناثان سويفت
حياته وأعماله:
يعد الكاتب والسياسي الانكليزي-الإيرلندي جوناثان سويفت Swift, Jonathan (1667-1745) واحداً من أعظم أساتذة النثر الانكليزي وكاتباً هجائياً من الطراز الأول. سلط قلمه الذي لا يعرف الرحمة على حماقات البشر ونفاقهم في كل زمان ومكان. وهو في لغته التي تتصف بالقوة والإيجاز معا لما يزل منذ قرون يأسر قلوب الصغار والكبار من مختلف الأهواء والمشارب والاتجاهات.
ولد في دبلن في الثلاثين من نوفمبر 1667 وتلقى تعليمه الديني في جامعة ترينتي في ايرلندا ثم عمل في إنكلترا سكرتيراً للدبلوماسي والكاتب الإنكليزي السير وليم تمبل الذي اتسمت علاقته به بالشد والجذب حتى وفاة الأخير عام 1699. غير أن هذا العمل وفر لسويفت فرصة عظيمة للقراءة والدرس وتفتح موهبته الأدبية.
نشر عام 1697 عمله المبكر "معركة الكتب" The Battle of the Books وهو محاكاة ساخرة لما كان يحتدم في عصره من خلاف بين أنصار الكتاب القدامى والمحدثين فنراه ينتصر للمؤلفين القدامى مهاجماً فساد وزيف الأوساط الأدبية والفكرية في عصره. أما كتابه "قصة حوض غسيل" A Tale of a Tub (1704) فيعد أحد أكثر أعماله الهجائية إمتاعاً وأصالة. وفيه يسخر بشكل لاذع بأنواع النفاق والحذلقة والدجل وخصوصاً في الأوساط الثقافية والدينية، مما أثار شكوكاً قوية حول التزامه الديني، كما أثار حفيظة الملكة آن[1] وحال، كما قيل، بينه وبين ارتقائه في المناصب الدينية.داخل إنكلترا.
كان سويفت في بداية حياته العامة ينتمي الى حزب الأحرار، غير إنه كان يختلف مع حزبه في الكثير من القضايا المهمة، وعندما جاء حزب المحافظين الى الحكم عام 1710 حول سويفت انتماءه السياسي اليه موجهاً سخريته اللاذعة وأهاجيه صوب حزب الأحرار في سلسة من القطع الصغيرة البارعة وتولى تحرير صحيفة المحافظين الرسمية كما نشر عدد من الكراسات السياسية التي دافع فيها باقتدار عن سياسة حزبه ومن أهمها تلك المعنونة "سلوك الحلفاء" The conduct of the allies التي اتهم فيها حزب الأحرار بتعمد إطالة أمد حرب الوراثة الاسبانية لأغراض نفعية، وكان لتلك الكراسة أثرها في إقصاء قائد الجيوش البريطانية عن منصبه.
شاب علاقة الكاتب بالنساء شيء من الغموض؛ فقد قيل إنه تزوج سراً من "ايثر جونسن" وهي المرأة التي كتب لها "يوميات الى ستيلا" Journal to Stella 1710 وهي سلسلة من الرسائل الحميمة استخدم فيها أسلوبا يزخر بالألفاظ المستقاة من أغنيات تنويم الأطفال مما يكشف عن جانب مبهم من شخصية هذا الهجّاء العظيم.
في عام 1713 عُيِّن سويفت رئيساً لكاتدرائية القديس باتريك في دبلن، وفي العام الذي تلاه أسقِط حزب المحافظين من الحكم وانتهى معه النفوذ السياسي للكاتب. وخلال السنوات التي تلت كرس سويفت الكثير من جهده وكتاباته للدفاع عن شعبه الايرلندي مما صيره بطلاً قومياً محبوباً. غير أن أعظم أعمال الكاتب هو بلا شك "رحلات الى العديد من أمم الأرض البعيدة" والمعروف على نطاق عالمي بـ "رحلات غوليفر". وقد نشره عام 1726 دون ذكر اسم المؤلف فلاقى نجاحاً مدويا على الفور. كان غرض سويفت من كتابهِ هذا في الأصل أن يسلط سهام سخريته وهجائه على النفاق والغرور والغباء الذي كان يتحكم في رجال السياسة والأحزاب والبلاطات الملكية في عصره، لكنه، خلال كتابته إياه وظف انطباعاته الأكثر نضجاً عن طبيعة المجتمع الإنساني فصارت رحلات غوليفر عملاً مريراً وحشي القسوة في سخريته من الجنس البشري برمته. غير أن هذا الكتاب الخالد كان من سعة الخيال والظرف والسهولة بحيث ظل منذ ذلك الوقت عملاً يستمتع به الصغار والكبار وتحول الى مصدرٍ لعشرات من الأعمال السينمائية والتلفزيوني والإذاعية وأفلام الرسوم المتحركة.
عانى سويفت في سنواته الأخيرة من أدوار متزايدة من القنوط والوحدة والخوف من الجنون وخصوصاً بعد رحيل حبيبته ستيلا حتى توفي في التاسع عشر من أكتوبر 1745 ودفن الى جانبها في كاتدرائيته بدبلن. وعلى شاهدة قبره نقِشت هذه الكلمات التي كتبها بنفسه "هنا يرقد جسد جوناثان سويفت، رئيس هذه الكاتدرائية, حيث لن تستطيع نيران النقمة أن تلسع فؤاده بعد الآن. إرحل يا عابر السبيل، وتشبَّه، إذا استطعت، بمحارب مقدامٍ من أجل الحرية"
اقتراح متواضع
لمنع أطفال الفقراء في أيرلندا من أن يكونوا عبئاً على ذويهم أو وطنهم ولجعلهم مفيدين للشعب
إن مما يبعث الكآبةَ في نفوس الذين يتجولون في هذه البلدة الكبيرة أو يتنقلون عبر الأرياف رؤيتَهم الشوارعَ والطرقاتِ وأبوابَ الأكواخ وهي تعجُّ بالمتسولات، اللاتي تجرُّ كلٌّ منهنّ في أعقابها ثلاثةً أو أربعةً ولربما ستةً من الصغار، وهم جميعا في أسمالهم البالية، يضايقون كلَّ رائحٍ وغادٍ بطلب السؤال. هؤلاء الأمهات، وبدلاً من أن يحصلنَ على عمل يكسبن منه رزقاً شريفاً، مرغماتٌ على إنفاق الوقت في السعي هنا وهناك لاستجداء ما يسدُّ رمق صغارهنّ البائسين: الذين ما أن يبلغوا أشُدَّهم حتى ينقلبون الى لصوصٍ لانعدام فرصِ العمل، أو يهجرون وطنهم العزيز ليقاتلوا تحت لواء المدّعي بالعرش في أسبانيا [2] أو يبيعوا أنفسهم الى أهل الباربادوس[3].
وإني لأعتقدُ بأن جميعَ الأحزاب متفقةٌ على أن هذا العددَ الهائلَ من الأطفال في أحضان، أو على ظهور، أو بين أقدام الأمهات (والآباءِ في أحيانٍ كثيرة)، وفي هذه الظروف المُحزِنة التي تمرُّ بها المملكة، هو حيفٌ إضافي عظيم. لذلك فإن أي شخصٍ يكتشفُ طريقةً سهلةً لتحويل هؤلاء الصغار الى أعضاءَ نافعينَ سليمين في المجتمع يستحق من الجمهور أن يقيم له تمثالاً باعتباره حامياً للأمّة.
لكن غرضي أبعدُ بكثيرٍ من أن يتحدد بتوفير سبل العيش لأطفال المتسولين المحترفين، وهو يمتد الى مدىً أوسع، وإنه لَيأخذُ بالحسبان العددَ الكليّ للأطفال في سنٍّ معيَّنةٍ مِن الذين ينجبهم آباء لا يختلفون عملياً في عجزهم عن إقامة أوَدِ أطفالهم عمّن يسألوننا الصدقةَ على قارعة الطريق.
أما عن نفسي فقد أمضيتُ سنواتٍ عديدةً في التفكير بهذا الموضوع المهم، وقلّبتُ النظر ملياً في البرامج الكثيرة التي وضعها المخططون الآخرون، فوجدتُها جميعاً وقعتْ في أخطاء حسابية كبيرة. فمن الواضح أن الطفل الذي خرج للتو من بطن أمه يمكن أن يعيش على لبنها عاماً شمسياً كاملاً، مع قليل من الطعام الإضافي، وذلك بكلفة لا تتعدى اثنين من الشلنات، وهو المبلغ الذي تستطيع الأم الحصول عليه، أو على ما يعادله من فضلات الطعام، عن طريق مهنة التسوّل القانونية. وعند هذا العمر، أي بعد سنة من الولادة بالتحديد، أنوي أن أنهض بأعباء هؤلاء الصغار بطريقة لا تتركهم عالةً على والديهم أو أبرَشيّاتهم، أو مُعوِزين الى الطعام والكساء بقيةَ حياتهم، بل تجعلهم يسهمون، بدلاً من ذلك، في تغذية الآلاف والآلاف، وإكسائهم جزئياً.
كما إن خطتي تشتمل على فائدة عظيمة أخرى، وهي إنها ستمنع عمليات الإجهاض الطوعية أو ممارسة النساء لتلك العادة البشعة، أعني قتلَ أطفالهن البائسين، وهي شائعةٌ بيننا مع الأسف! مضحياتٍ بأولئك الصغار الأبرياء تجنباً للنفقات أكثرَ من خشيتهنَّ العارَ كما يرجِّح ظني، الأمر الذي يستدرُّ الرحمةَ والدموعَ في أكثر القلوب همجيةً ولا إنسانية.
جرت العادة على تقدير عدد سكان هذه المملكة بمليون ونصف المليون نفس، وقد دلتني حساباتي أن بين هؤلاء حوالي مائتي ألف زوج (couple) تكون فيها المرأة قادرةً على الإنجاب، وسأطرح من هذا العدد ثلاثين ألف زوج ممن يستطيعون إعالة أطفالهم، رغم خشيتي من كون عددهم أقل من هذا في ظل المصائب التي تعانيها المملكة هذه الأيام. وحتى لو سلّمنا بذلك فسيبقى لدينا مائة وسبعين ألف مُنجِبة، سأطرح منهن مجدداً خمسين ألفاً ممن يعانين من الإجهاض أو يموت صغارهن خلال سنتهم الأولى من جرّاء الأمراض أو الحوادث. الباقي هو مائة وعشرون ألف طفل ممن يولدون سنوياً لوالدين فقيرين. لذلك فإن السؤال هو: كيف يمكن إعالة وتنشئة كل هذا العدد؟ وهذا أمر تعجز كل خطة قدمت للآن عن تحقيقه في هذه الظروف الاقتصادية التي ذكرتها للتو. فنحن لا نستطيع تشغيل كل هؤلاء في الحرف اليدوية ولا في الزراعة، ونحن لا نشيد الدور (أعني في الريف) ولا نستزرع الأرض. وهؤلاء الصغار لا يقدرون -إلا في ما ندر- على كسب قوتهم بالسرقة حتى يبلغوا السادسة من العمر، إلا إذا تمتعوا بمواهب نادرة، رغم اعترافي بأنهم يتعلمون المبادئ الأولية في سنٍّ أبكرَ بكثير. أما قبل ذلك فلا يصح النظرُ إليهم إلاّ باعتبارهم متدربين، وذلك كما أخبرني أحد السادة المحترمين في مقاطعة كافِن[4] الذي أكد لي أنه لم يعرف سوى حالةً أو حالتين لأطفال دون السادسة، حتى في جزءٍ من المملكة مشهورٍ بأنه الأسرعُ في إتقان هذا الفن.
وقد أكد لي تجّارنا أن الفتى أو الفتاة دون عمر الثانية عشرة من العمر لا يُعَدّان بضاعةً قابلة للبيع. وحتى لو بلغا هذا العمر فإنهما لن يُؤتيا عند البيع أكثرَ من ثلاثة جنيهات، أو ثلاثة جنيهات ونصف الكراون[5] في أبعد تقدير، وهو المبلغ الذي لا يوفي الوالدين ولا المملكة مصاريف الطعام والأسمال التي تزيد عن هذا بأربعة أضعاف على الأقل.
لذلك سأتقدم الآن، وبكل تواضع، بأفكاري الشخصية التي آمل ألاّ تكونَ ضعيفةً أمام أي نقدٍ أو اعتراض.
لقد أكد لي أحدُ معارفي الأمريكان في لندن، ممن هم على إطلاع عظيم، أكد أن طفلاً صغيراً صحيحَ البدن حسنَ التغذية يشكل عند إكماله العام الأول من عمره طعاماً شهياً ومغذياً وصحياً للغاية سواء قُدِّم مسلوقاً أو مشوياً أو محمصاً أو مطبوخاً بالبخار. وأنا من جهتي لا أشك بأنه يصلح بنفس القدر لإعداد الكفتة أو اللحم المتبَّل.
ولذلك فإني وبكل تواضع أعرض على أنظار الجمهور إن نحتفظ من المائة وعشرين ألف طفلٍ الذين حسبناهم آنفاً بعشرين ألفاً لأغراض التكثير على أن يكون ربعهم فقط من الذكور، وهو ما يفوق النسبةَ المسموح بها للأغنام والأنعام والخنازير، ومبرري في ذلك أن هؤلاء الأطفال قلما يكونون ثمرةً للزواج، وهو الأمر الذي لا يعيره أوباشُنا كبيرَ اهتمام. لذلك فإن ذكراً واحداً سيكفي أربعة إناث.
ثم نعرض المائة ألف الباقين للبيع على الأشخاص ذوي الثراء والمنزلة الرفيعة في أرجاء المملكة وذلك فورَ إكمالهم السنةَ الأولى، على أن توصى الأمهاتُ بإرضاعهم جيداً خلال الشهر الأخير كي يكونوا ريّانين ومكتنزين فوقَ الموائد المحترمة. إن طفلاً واحداً يمكن أن نصنع منه طبقين في وليمة ندعو إليها الأصدقاء. أما عندما تتغذى العائلة لوحدها فيمكن أن نصنع من الربع الأعلى أو الأسفل من الذبيحة (اللشّة) وجبة معقولة. أما إذا أضفنا قليلا من التوابل والملح فيبقى صالحاً للسلق حتى اليوم الرابع، وخصوصاً في الشتاء.
لقد دلتني حساباتي أن معدل وزن الطفل الحديث الولادة هو 12 رطلاً، ثم يزداد خلال سنة شمسية واحدة حتى يبلغ 28 رطلاً، إذا أُحسِن إرضاعُه. أنا أُسلّم بأن هذا الطعام سيكون غالياً بعض الشيء، ولذلك سيكون مناسباً جداً لملاّك الأراضي الذين كما يبدو –وبعد أن التهموا أكثر الآباء- يمتلكون الحق الشرعي الأوفر بهؤلاء الصغار.
إن لحم الأطفال سيكون متاحاًً على مدار السنة، غير أنه سيكون وفيراً في آذار وقبله أو بعده بقليل، وذلك لأن أحد المؤلفين الموقرين، وهو طبيب فرنسي بارز، أخبرنا أن لحم السمك يُزيد الخصوبةَ لدى الإنسان، وبهذا يَزيد عدد الأطفال المولودين بعد تسعة أشهر من الصوم الكبير[6] عما يولد في المواسم الأخرى في البلدان الكاثوليكية. لذلك، وبعد احتساب عام على الصوم الكبير، سيكون السوق متخماً أكثر من المعتاد لأن عدد الأطفال الكاثوليك هو ثلاثة أضعاف غيرهم في هذه المملكة. وعلى ذلك سيكون للأمر فائدة إضافية أخرى وهي تقليل عدد الكاثوليك بيننا.
لقد حسبت للتو أن كلفة إرضاع الطفل الواحد من أطفال المتسولين (الذين أدرجتُ في قائمتهم كل سكان الصرائف، والعمال، وأربعة أخماس الفلاحين) هي شلنان في العام(مع احتساب الأسمال). وأظن أن أي سيد محترم لن يتبرّم من دفع عشرة شلنات لقاء "لشة" طفل سمين ممتاز يمكن أن نُعدَّ منها، كما أسلفتُ، أربعة أطباق من اللحم الشهي المغذي في مائدة تجمعه ببعض الأصدقاء المقربين أو بأفراد الأسرة. وهكذا سيتعلم مالك الأرض أن يكون ملاّكاً ممتازاً وستزداد شعبيته بين المستأجرين، وستحصل الأم على ربح صافٍ قدره ثمانية شلنات، كما ستحافظ على لياقتها للعمل حتى تنتج طفلاً ثانياً.
أما الذين هم أكثر اقتصاداً (وعليَّ الاعترافُ بحاجة زمننا الى ذلك) فإن في مقدورهم سلخُ "اللشة" والاستفادة من جلدها بعد دبغها لصنع قفازات رائعة للسيدات المحترمات أو أحذية صيفية للسادة المحترمين.
أما بالنسبة الى مدينتنا دبلن فيمكن تعيين مجازر متخصصة في الأماكن المناسبة فيها،. كما لن يعوزنا القصابون بالتأكيد، رغم أني أفضّلُ شراءَ الأطفال أحياءً وإعدادهم للشواء بعد ذبحهم فوراً (ودمهم لما يزل ساخناً كما نفعل بالخنازير).
إن شخصاً نبيلاً محباً لوطنه، أُكـِنُّ لفضائله أكبر الاحترام، سَرّهُ عندما تحدثنا مؤخراً في هذا الموضوع، أن يقترح تحسيناً على خطتي فقال إن العديد من السادة المحترمين في هذه المملكة قد استنفدوا الأيائل في أراضيهم في الآونة الأخيرة،. وهو مقتنع بأن شحّة لحم الطرائد يمكن تعويضها بأجساد الفتيات والفتيان اليافعين على أن لا يتجاوزوا الرابعة عشرة ولا يقلوا عن الثانية عشرة. والكثير الكثير منهم، في كل البلدان ومن كلا الجنسين، يتضورون الآن جوعاً لغياب العمل أو المعونة. وهؤلاء يتم التخلص منهم بواسطة أبويهم، إن كانوا أحياء، وإلا فبواسطة أدنى الأقرباء.
ولكن مع الاحترام الواجب لهذا الصديق الرائع والوطني الغيور، فإنني لا أستطيع مشاركته مشاعره على طول الخط. فبالنسبة للذكور: أكد لي صديقي الأمريكي، ومن خبرته المتكررة، أن لحمهم عادة ما يكون قاسياً وهزيلاً، كما يحدث لأطفال المدارس عندنا بسبب التمارين المستمرة، وأن مذاقهم ليس بالمستساغ، ولن يفيدَ تسمينُهم في حلّ المشكلة. أما فيما يتعلق بالإناث فإني أعتقد، بكل تواضع وخضوع، أن في ذلك خسارةً للجمهور، حيث لن يمرَّ وقت طويل قبل أن يبلُغن هن أيضاً سنَّ التكاثر، علاوةً على أن بعض المتشككين قد يميلون الى استهجان هكذا ممارسة (رغم أنهم في الحقيقة جائرون للغاية في ذلك) على اعتبارها قريبة بعض الشيء من القسوة. غير أن علي الاعتراف بأن هذا ما انفكَّ في رأيي أقوى الاعتراضات على أي مشروع مهما بلغ من إحكام.
ولكن لكي أبرِّئ ساحةَ صديقي فقد اعترف لي أن هذا التدبير ورد في باله بتأثير من "سالمازار" المشهور، وهو مواطن من جزيرة فرموزا قدم منها الى لندن قبل عشرين عاماً وأخبر صديقي في حديث بينهما أن العادة في بلاده عندما يحكم بالموت على شخص في مقتبل العمر أن يبيع الجلاد "لشة" الضحية الى صفوة القوم كطعام من الدرجة الأولى، وقال إن جسد إحدى الفتيات السمينات في الخامسة عشرة من العمر، وقد صُلِبتْ لمحاولتها تسميمَ الإمبراطور، قد بيع في زمانه الى رئيس وزراء صاحب الجلالة الإمبراطورية وكبارِ موظفي البلاط قطعة فقطعة وهو في المشنقة بأربعمائة كراون.[7]
كما لا يسعني إنكار أنه لو جرى استعمال مماثل لعدد من فتيات مدينتنا السمان اللاتي، وقد حرمن من قرش واحد حتى لم يعد بإمكانهن مغادرة البيت إلا على محفّة، يظهرن في المسارح والتجمعات في ثيابٍ أجنبية مبهرجة لا يدفعن ثمنها، فإن حال المملكة لن يزداد سوء.
ينتاب بعض الميالين الى الكآبة قلقٌ شديد لهذا العدد الكبير من الفقراء المسنين، أو المرضى أو المشوهين. وقد طلب الي أن أُعمِل تفكيري في طريقة لإراحة الأمة من هذا العائق الخطير. لكني مطمئن تماماً بهذا الصدد. إذ من المعروف أن هؤلاء يهلكون ويهترئون كل يوم بسبب البرد والجوع والأقذار والحشرات بالسرعة المعقولة المتوقعة. أما بالنسبة للعمال الشباب فهم في حالة واعِدة مشابهة: فهم لا يستطيعون الحصول على عمل فتراهم يهزلون من نقص الغذاء الى درجة تجعلهم عاجزين عن أداء أي عمل عمومي قد يُستأجَرون بالصدفة لإنجازه. وهكذا يتخلصون وتتخلص البلاد من أي شرور قادمة.
لقد استطرتُ كثيراً، ولهذا سأعود الى موضوع حديثي: أنا أعتقد أن فوائد اقتراحي هذا واضحة وعديدة ، كما إنها ذات أهمية رفيعة.
فهو أولاً، وكما لاحظت للتو، سيقلل الى حد بعيد عدد الكاثوليك الذين يفيضون علينا عاماً بعد عام لكونهم المصدرَ الرئيس للتكاثر في أمّتنا وعدوَنا الأخطر في نفس الوقت، الذين يتعمدون البقاء في الوطن وفي نيتهم تسليم المملكة الى المدعي بالعرش، أملين أن يجدوا فرصتهم بغياب كل هذه الأعداد من البروتستانت الصالحين الذين آثروا مغادرة وطنهم على البقاء فيه وتسليم أموال الزكاة -بالضد من ضمائرهم- الى أحد القساوسة البروتستانت.
ثانياً: سوف يكون لدى المستأجرين الأكثر إملاقاً شيئاً ذا قيمةٍ يملكونه، يمكن للقانون أن يجعله قابلاً للحجز ويساعد على دفع مبالغ الإيجار المترتبة عليهم عند الملاك، بعد أن قبضوا على زرعهم وماشيتهم فعلاً، وبعد أن صارت النقود شيئاً لا يفقهون معناه.
ثالثا: حيث أن إدامة مائة ألف طفلٍ، من العام الثاني فصاعداً لا يمكن أن يقدر بأقل من عشرة شلنات في العام للقطعة الواحدة، فإن خزينة المال العام ستزداد خمسين ألف جنيهاً كل عام. أضف الى ذلك فائدة إضافة صحن جديد الى موائد السادة المحترمين الأثرياء في المملكة الذين يملكون شيئاً من حسن الذائقة. كما إن النقود ستظل دائرةً بيننا، لكون البضاعة من إنتاجنا وتصنيعنا.
رابعاً: سيتخلص المولِّدون الدائمون من تكاليف الحفاظ على أطفالهم بعد العام الأول، ناهيك عن أنهم سيحصلون على عشرة شلنات إسترلينية من بيعهم لهم كل عام.
خامساً: إن هذا الطعام سيجلب أيضاً أرباحاً عظيمة للحانات، إذ أن تجار الخمور سيكونون بالتأكيد على قدر من الحصافة تجعلهم يبذلون قصارى جهدهم ليُعدّوا منه وصفاتٍ مثاليةً، وبذلك سيتردد على بيوتهم المزيدُ من السادة المحترمين المهذبين الذين يحقُّ لهم التباهي بخبرتهم في الأطعمة الراقية. أما الطباخ الماهر الذي يعرف كيف يمسك بزبائنه، فسيحتال كي يجعل طعامَه بالغلاء الذي يسرُّهم.
سادساً: سيكون في هذا حافزٌ عظيم على الزواج، الذي ما فتأت كل الأمم العاقلة تشجّعهُ بالمكافآت حيناً، أو تفرضه بالقوانين والعقوبات حيناً آخر. وسيزيد من عناية ولطف الأمهات بصغارهن، عندما يتأكدنَ من وجود ترتيبات لمدى الحياة لأطفالهن المساكين، يقدمها المجتمع بشكل ما، وتعود عليهن برَيعٍ سنوي بدلاً من النفقات. وسنشهد تنافساً شريفاً بين النسوة المتزوجات على من تجلب للسوق أسمن الأطفال. وسيكون الرجال مغرمين بنسائهم أثناء الحمل كما يفعلون الآن مع أفراسهم وأبقارهم وخنازيرهم المنتفخات البطون بالفِلاء والجداء والخنانيص. ولن يُقدِموا بالتأكيد على ركل نسائهم أو لطمِهِنَّ (كما هي العادة المتّبَعة) خوفاً عليهن من الإسقاط.
وبوسعي أن أعدد الكثير من الفوائد الإضافية. منها على سبيل المثال: إضافةُ عدة آلاف من "اللشات" الى ما نصدِّرهُ من براميل اللحم المعلب. تحقيقُ وفرة في لحم الخنزير. تطويرُ فنِّ صناعة لحم الخنزير المقدد الذي نحن أحوج اليه بسبب التدمير الواسع لثروتنا من الخنازير لكثرة ما يقدم منه على موائدنا، وهو في كل الأحوال لا يضاهي في المذاق والفخامة طفلاً حولياً سميناً كامل النمو، حين يشوى دون تقطيع فيُضفي منظراً جليلاً على وليمة يقيمها حضرة السيد المحافظ أو على أية وليمة عامة أخرى. لكني أهملت هذه الفوائد وكثيرا غيرها لحرصي على الإيجاز.
***
ختاما لكل ما قلت فإني لست شديد التعصب لفكرتي هذه الى الحد الذي يدفعني الى رفض أية عروض أخرى يقدمها حكماؤنا، على تكون على القدر نفسه من البراءة والرخص والسهولة والفعالية.
ولكن قبل أن يتقدم أحد بشيء من هذا القبيل يناقض به خطتي ويطرح بديلاً أفضل، أود أن ينشرح صدر المؤلف أو المؤلفين فيأخذوا بنظر الاعتبار هاتين النقطتين: أولاً كيف يمكنهم، والأمورُ على ما هي عليه الآن، تدبيرَ الطعام واللباس لمائة ألف من الأفواه والأجساد العديمة الفائدة.
ثانياً: هناك ما يقارب المليون مخلوق في أشكال بشرية في طول هذه المملكة وعرضها من الذين إذا وضعنا كل ما يملكون من مقومات البقاء في حساب رأس المال العام لوجدناهم مدينين بمائتي مليون جنيه إسترليني. هؤلاء هم المتسولون المحترفون يضاف إليهم السواد الأعظم من الفلاحين، وسكان الصرائف، والعمال، مع أزواجهم وأطفالهم المتسولين عملياً.
أتمنى على الساسة الذين لا يحبذون اقتراحي، والذين يمتلكون من الشجاعة ما يدفعهم الى محاولة الإجابة، أن يسألوا قبل كل شيء آباءَ هؤلاء الفانين إنْ كانوا في هذه الأيام لا يجدون سعادة عظيمة في بيعهم كطعام للناس عند بلوغهم السنة من العمر، كما شرحت آنفاً. لكي يتجنبوا مشهد الشقاء السرمدي الذي كابدوه من جور ملاك الأرض، واستحالة دفع الإيجار في غياب المال أو الأعمال، والافتقار الى مقومات العيش الأساسية، دون بيتٍ يأويهم أو ثياب تقيهم قسوة الأنواء، والمصير المحتوم لذريتهم في ملاقاة هذا الشقاء أو ما يزيد عليه حتى آخر الزمان.
أنا أعترف، بكل ما بقلبي من إخلاص، أنْ ليس لي من منفعة شخصية في مسعاي الى تشجيع هذا العمل الضروري. ولا دافعَ لي غير رفاه مواطني بلادي عن طريق تطوير تجارتنا والقيام بأعباء أطفالنا الرضع، وإراحة الفقراء، ومنح شيء من السعادة للأغنياء. وليس عندي من صغار يعودون علي ببنس واحد. فأصغر أطفالي في التاسعة من عمره، وقد تجاوزت امرأتي سن الإنجاب.
1729
[1] Queen Anne ملكة بريطانيا (1702-1714) نشأت على المذهب البروتستانتي خلافاً لوالدها الكاثوليكي الملك جيمس الثاني. وقفت الى جانب حاكم هولندا "وليم اورانج" عندما غزا إنكلترا وأطاح بوالدها عام 1688. وحين توفي وليم اورانج خلفته آن على عرش إنكلترا عام 1702. انشغلت طيلة فترة حكمها في محاربة اسبانيا وفرنسا خلال ما سمي بحرب الوراثة الاسبانية (1701-1714). لم يبق أحد من أبنائها على قيد الحياة فخلفها على العرش الملك جورج الأول من أسرة هانوفر لينتهي بذلك حكم سلالة ستيوارت في إنكلترا الذي بدأ منذ 1603.
[2] المدعي بالعرش The pretender واسمه الكامل جيمس ادورد ستيوارت (1688-1766). ابن عاهل إنكلترا الكاثوليكي المخلوع جيمس الثاني(الذي طرد من الحكم عام 1688). لقبه أنصاره بجيمس الثالث وقاد من منفاه في فرنسا عدة محاولات فاشلة لاسترداد العرش. شارك الى جانب حلفائه الفرنسيين في حرب الخلافة الأسبانية في الأعوام (1701-1714)
[3] The Barbadoes في القرنين السابع عشر والثامن عشر كانت جزر الكاريبي (ومنها باربادوس) مستورداً رئيسياً للعبيد للعمل في مزارع قصب السكر العظيمة التي أنشأها المستعمرون الأوربيون.
[4] Cavan مدينة في جمهورية ايرلندا الحالية كانت تشكل واحدا من النواحي التسع التي كانت تتألف منها مقاطعة أولستر التاريخية
[5] الكراون Crown عملة بريطانية قديمة كانت تساوي خمسة شلنات.
[6]الصوم الكبير Lent وهي فترة من الصوم والعبادة تدوم أربعين يوماً في الكنيسة الكاثوليكية قبل عيد الفصح تخليداً لصوم المسيح في البرية.
[7] تنبغي الإشارة الى أن محتالاً فرنسياً يدعى سالمازار (توفي عام 1763) قد ظهر فعلاً في إنكلترا وادعى بنجاح بالغ أنه من مواطني فرموزا حتى أنه ألف كتابا عن تلك الجزيرة التي لم يرها قط!