د. هـ. لورنس.. شاعراً !
دَيفِد هِربرت لورنس. ولد في 11 أيلول 1885 في إيستوُد ، إنكلترا. وتوفي في 2 آذار 1930 في "فانس" بفرنسا. مؤلف روايات وقصص قصيرة وأشعار ومسرحيات وكتب رحلات ورسائل. جعلت منه رواياته: أبناء وعشاق 1913، قوس قزح 1915، نساء عاشقات 1920، وعشيق الليدي تشاترلي 1928 ناهيك عن مجموعاته القصصية العديدة واحداً من أكثر الكتاب الإنكليز تأثيراً في القرن العشرين.
ربما تعرف الكثير من قراء العربية على لورنس باعتباره واحداً من ألمع الروائيين والقصاصين وأكثرهم إثارة للجدل، لكن القليل منهم من يعرف أن لورنس كان واحداً من الشعراء المرموقين. لقد شهد كل من عرف لورنس على السحر الذي يميز شخصيته، تلك الشخصية التي تعيش بعنفوان في قصصه وشعره وكتاباته النثرية العديدة ورسائله. لكن شعر لورنس يستحق وقفة خاصة: إن لمساته في القصائد المبكرة كانت غير واثقة في أغلب الأحيان؛ وعباراته "أدبية" أكثر مما ينبغي، وكثيرا ما تقيـِّده القافية. لكنه ومن خلال قدرةٍ فذةٍ على التقدم، طور أسلوباً شديد التلقائية من الشعر الحر الذي يسمح له بالتعبير عن خليط لا يضاهى من قوة الملاحظة والترميز.
ربما يكون لشعر لورنس أهمية كبيرة في تتبع سيرته، كما في "انظروا! لقد أفقنا!"(1917)، كما أن بعض القصائد في "أزهار البنفسج" (1929)، و"الأشواك" (1930) لاذعة السخرية وذكية. غير أن أكثر مساهماته أصالة هو "طيور ووحوش وأزهار" (1923) التي يبدع فيها شعرا لا سابق له حول الطبيعة يقوم على أساس تجاربه في مسرح البحر المتوسط وجنوب غربي أمريكا، أما في "آخر الأشعار" (1932) فنراه يتأمل الموت الذي أحس بدنوّه، كما إن أعماله القصصية والروائية تحفل بالكثير مما يمكن عده من عيون القطع الشعرية النثرية كما في هذه المقطوعة من الشعر المرسل في قصته "النغمة التوافقية" التي ترد على لسان البطلة المحبطة في مونولوج طويل.
لا يمكن للباحث في أعمال لورنس أن يهمل رسائله التي لا تبارى؛ فهي تنقل -سواء في تنوع أساليبها أو حيويتها أو نطاق اهتماماتها- صورة رائعة وغنية لكاتبها، وعلاقاته بمن يراسله، والبهجة، والكآبة، والتأملات النبوية لحياته المترحلة. جُمعت قصص لورنس القصيرة في "الضابط البروسي وإنكلترا.. إنكلترتي وقصص أخرى" (1922)، "المرأة التي رحلت بعيداً وقصص أخرى" (1928)، و"حب وسط أكداس القش وقصص أخرى" (1930)، وغيرها . كما إن مسرحياته الأولى: "ترمُّل السيدة هولرويد"(1914) و" الكنّة" (قدمت على المسرح عام 1936) قد نجحت في المسرح والتلفزيون.
وفي ما يخص كتب الرحلات فإن "سردينيا والبحر"(1921) أكثرها تلقائية، أما كتب الرحلات الأخرى فهي تتضمن رحلات موازية الى أعماق لورنس.
لقد اتسمت حياة لورنس وآرائه وحقول إبداعاته بتنوع مدهش: فقد عُرِف في بداياته روائيا من الطبقة العاملة يرسم صورة لحقيقة الحياة العائلية في المقاطعات الإنكليزية. أما في الأيام الأولى للتحليل النفسي فقد أشتهر مؤلفاً-بطلاً للتاريخ المرضي لحالات عقدة أوديب. لكن أعمال لورنس اللاحقة التي تناول فيها موضوعة الجنس بشكل صريح رسمته رائداً لـ"التحرر"، الأمر الذي لم يلق استحسان لورنس نفسه. لقد شعر القراء منذ البداية بميل شديد الى الحيوية الشعرية لكتاباته والى سعيه لوصف الحالات الذاتية للعاطفة والإحساس وقوة البديهة. إن هذه العفوية والوضوح في المشاعر يترافقان مع التكرار المستمر، مع قليل من التعديل، للموضوعات والشخصيات، والرموز التي تعبر عن الأفكار والرؤى الفنية المتطورة للورنس نفسه. وتبقى رواياته العظيمة صعبة لأن واقعيتها مبطنة باستعارات شخصية كثيرة، وعناصر ميثولوجية، وفوق ذلك بمحاولته التعبير بالكلمات عن أمورٍ يعجز عنها الكلام في الحالات العادية لأنها توجد في ما وراء الوعي. حاول لورنس أن يتجاوز "الأنا القديمة، المترسخة" للشخصيات المألوفة لدى قراء الروايات التقليدية. إن شخصياته تعاني باستمرار من تحولات ناتجة عن عمليات غير واعية وليس عن مقاصد أو أفكار أو مُثُـل واعية.
لقد كان لورنس في النهاية كاتباً "دينياً" لم يبلغ رفضه للمسيحية حدا يدفعه الى أن يحاول خلق أسس دينية وأخلاقية جديدة للحياة العصرية عن طريق البعث والتحول المستمرين للنفس. إن هذه التحولات لا تتحد بالذات الاجتماعية فقط، كما أنها لم تكن يوما ظاهرة بوضوح تحت سمع الوعي وبصره. لقد دعا لورنس الى انفتاح جديد على ما أسماه " الآلهة الخفية" للطبيعة، والإحساس، والغريزة، والنشاط الجنسي؛ لقد كانت إعادة الاتصال بهذه القوى، في نظره، بداية لطريق الحكمة.
(1) الأسى
الخيطُ الرماديُّ الرفيع
الصاعد من السيجارة التي
نسيتها بين أصابعي
لماذا يوجع قلبي ؟
**
آه ، لسوف تفهم :
حين حملتُ أمي بضع مرات
نازلا بها السلالم
في أول مرضها
كنت أكتشف
-تأنيبا لي على مرحي-
بضع شعرات رمادية طويلة
على صدر معطفي
وأراقبها وهي تطير
واحدة واحدة
صاعدة في المدخنة السوداء
Sorrow
Why does the thin grey strand
Floating up from the forgotten
Cigarette between my fingers,
Why does it trouble me?
Ah, you will understand;
When I carried my mother downstairs,
A few times only, at the beginning
Of her soft-foot malady,
I should find, for a reprimand
To my gaiety, a few long grey hairs
On the breast of my coat; and one by one
I let them float up the dark chimney.
(2) ترنيمة امرأةٍ مريرة
من قصته القصيرة "النغمة التوافقية"
كحديقةٍ في الشتاء كنتُ
مفعمةً بالبراعم والجذور
عامرةً وحبلى بالأزاهير الصغيرة
ولقد تهاوت كلها من قبل أن تولد
أجِنَّةً صغيرة .. مجهَضة .. من زهور!
كل يوم كنت أحلق كالنحلة لأجمع الشهد من السماء
وأروح ابحث بين نجومها عن الرحيق الذهبي الأشهى
حتى أملأ بها أقراص عسلي الصافية
ثم كسرتُ قرص العسل، وأدنيته من شفاهك
لكنك أشحت عنه وقلت لي:
قد وسختِ وجهي ولطختِ لي فمي!
يوماً بعد يوم كان جسدي مثل بستان من الكروم
وكانت عروقي هي الكرمات.
وحين نضجت أعنابها وتدلت عناقيدها الحلوة الريانة
عصرتها لك حبة فحبة
حتى ملأت لك الكأس خمراً
وهرعت به اليك جذلى
لكنك أجفلت وابتعدت
فسقط الكأس من يدي
وتناثرت شظاياه تحت أقدامي.
لطالما قلت له، لطالما قلت:
ها هي الساعة قد أزفت
لكنه يجيبني: ليس بعد.
لطالما كان يسمع صيحة الديك عند الفجر
فيخرج للعراء.. ثم يبكي.. دون أن يعرف السبب.
كنتُ روضة وكان يجري خلالي كما على العشب.
كنتُ جدولاً من الماء رقراقاً
لكنه رمى فيه أقذاءه!
نشرتُ له قوس قزح بين أذرعي الممدودة
لكنه قال لي:
فتحتِ ذراعيكِ لي ولم تمنحيني شيئاً!
وما أنا الساعةَ غير إناء لزهور ذابلات
غير شظايا ملونة من جمال محطم
غير قفير نحل خاوٍ.
نعم.. أنا ثوب قشيب أكله البلى قبل أن يُرتدى
أنا مغنٍّ أبكم وعندليبٌ ينشد في نغمةٍ نافرةٍ شوهاء
قد انتهى أمري وانقضت أيامي
وسرعان ما ألقى، مثل صدفة خاوية، على شاطئ البحر
فتسحقني الأقدام.. وتحيلني تراباً.
غير أنني، في هذه الساعات
سأغني، سأغني لأولئك الذين يمنحونني آذانا مصغية
عن البحر الذي وهبني شكلي ووجودي
البحر الخالد الأبدي..
ولسوف تكون أغنيتي مثقلة بالمرارة
لأنني سأفارق حياة البحر الدافقة
لأنني سأستحيل الى غبار
ذلك المسحوق الذي لا يعرفه البحر.
ولسوف أكون ميتة
أنا المجبولة من جوهر الحياة
ولسوف أكون صامتة
أنا التي خُلِقتُ لأكون فما صادحاً
ولسوف تختفي هيأتي
أنا التي صُنِعتُ من جمال خالص.
نعم، لقد كنت البذرة التي احتضنت السماواتِ في برعمها
بقمرها الراسخ الأقدام
ونجومها الراكضة المدومة.
ولقد سُحِقت البذرةُ، فلن تشقَّ أديم الأرض.
إن سماءً قد ضاعت، وقمراً، ونجوما لن ترى النور.
كنت برعماً لم يُكتَشف بعد
وفي أحضان كأسي المغلقة تجثم سماوات وبحيرات وجداول منهارة
وشمس ونجوم زالت عن الوجود
وطيور استحالت قبضاتٍ من هشيم تذروه الريح
لقد صارت أغنياتي القديمة هواءً يابساً
وأنا، أنا كأسَ قربان معتم
A bitter psalm of a woman
"Like a garden in winter, I was full of bulbs and roots, I was full of little flowers, all conceived inside me.
"And they were all shed away unborn, little abortions of flowers.
"Every day I went like a bee gathering honey from the sky and among the stars I rummaged for yellow honey, filling it in my comb.
"Then I broke the comb, and put it to your lips. But you turned your mouth aside and said: You have made my face unclean, and smeared my mouth.
"And week after week my body was a vineyard, my veins were vines. And as the grapes, the purple drops grew full and sweet, I crushed them in a bowl, I treasured the wine.
"Then when the bowl was full I came with joy to you. But you in fear started away, and the bowl was thrown from my hands, and broke in pieces at my feet.
"Many times, and many times, I said: The hour is striking, but he answered: Not yet.
"Many times and many times he has heard the cock crow, and gone out and wept, he knew not why.
"I was a garden and he ran in me as in the grass.
"I was a stream, and he threw his waste in me.
"I held the rainbow balanced on my outspread hands, and he said: You open your hands and give me nothing.
"What am I now but a bowl of withered leaves, but a kaleidoscope of broken beauties, but an empty bee-hive, yea, a rich garment rusted that no one has worn, a dumb singer, with the voice of a nightingale yet making discord.
"And it was over with me, and my hour is gone. And soon like a barren sea-shell on the strand, I shall be crushed underfoot to dust.
"But meanwhile I sing to those that listen with their ear against me, of the sea that gave me form and being, the everlasting sea, and in my song is nothing but bitterness, for of the fluid life of the sea I have no more, but I am to be dust, that powdery stuff the sea knows not. I am to be dead, who was born of life, silent who was made a mouth, formless who was all of beauty. Yea, I was a seed that held the heavens lapped up in bud, with a whirl of stars and a steady moon.
"And the seed is crushed that never sprouted, there is a heaven lost, and stars and a moon that never came forth.
"I was a bud that never was discovered, and in my shut chalice, skies and lake water and brooks lie crumbling, and stars and the sun are smeared out, and birds are a little powdery
dust, and their singing is dry air, and I am a dark chalice."
(3) على مهلٍ تتزاوج الأفيال
الفيلُ، ذلك الحيوان العريق الجسيم،
لا يسرع في الاقتران،
وحين يعثر على أنثاه
فإنه وإياها.. ينتظران، ولا يتعجلان..
...
ينتظران العاطفة التي ترقد
في قلبيهما الكبيرين الخجولين
كي تتصاعد رويداً رويدا
وهما يتسكعان عند الضفاف
و يرعيان العشب أو يشربان
...
أو يندفعان في ذعر مع القطيع
خلال أحراش الغابات
وينامان في صمت مهيب
ويستيقظان معا.. دون أن ينبسا بكلمة
...
قلوب الأفيال الدافئة الكبيرة
تمتلئ بالرغبة على مهلٍ شديد
ويتزاوج الحيوانان الكبيران أخيراً
ويطفئان نارهما
...
هي أعرقُ الحيوانات، هي أكثرها حكمة
ولهذا فهي تعرف في الختام
كيف تنتظر أكثرَ الولائم وحشة
وأكثرها امتلاء
...
هي لا تنتزع، هي لا تمزِّقُ..
ودماؤها الهائلة تتحرك
كأمواج البحر تحت القمر
تمتد، تقترب، تزداد اقترابا
حتى تتلامس.. ساعةَ المدِّ
The Elephant Slow to Mate
The elephant, the huge old beast,
is slow to mate;
he finds a female, they show no haste
they wait
for the sympathy in their vast shy hearts
slowly, slowly to rouse
as they loiter along the river-beds
and drink and browse
and dash in panic through the brake
of forest with the herd,
and sleep in massive silence, and wake
together, without a word.
So slowly the great hot elephant hearts
grow full of desire,
and the great beasts mate in secret at last,
hiding their fire.
Oldest they are and the wisest of beasts
so they know at last
how to wait for the loneliest of feasts
for the full repast.
They do not snatch, they do not tear;
their massive blood
moves as the moon-tides, near, more near,
till they touch in flood.
(4) بيانو
في رقةٍ، في ضياء الغسق..
ثمة امرأة تغني لي
وتعيدني عبر مجاز السنين، حتى أرى
طفلاً يجثو تحت البيانو
يغمره طنين الأوتار
ضاغطاً أقدام أمه الصغيرة المتوثبة
وهي تغني.. وتبتسم
...
تمكر بي بَراعةُ الأغنية الخفية
وتعيدني مرغماً حتى أبكي من القلب
حنيناً لأمسيات الآحاد المنزلية القديمة:
الشتاء خارج الأبواب،
الترانيم في غرفة الاستقبال الدافئة
ورنين البيانو دليلنا
...
عبثٌ أن ينفجر المغني بالصياح الآن
في رفقة اللحن العاطفي للبيانو
ففتنة أيام الطفولة تغطيني.. ورجولتي
مطروحةٌ في طوفان الذكريات،
وأنا.. أبكي أنا للماضي.. مثل طفل
Piano
Softly, in the dusk, a woman is singing to me;
Taking me back down the vista of years, till I see
A child sitting under the piano, in the boom of the tingling strings
And pressing the small, poised feet of a mother who smiles as she sings.
In spite of myself, the insidious mastery of song
Betrays me back, till the heart of me weeps to belong
to the old Sunday evenings at home, with the winter outside
And hymns in the cosy parlour, the tinkling piano our guide.
So now it is vain for the singer to burst into clamour
With the great black piano appassionato. The glamour
Of childish days is upon me, my manhood is cast
Down in the flood of remembrance, I weep like a child for the past