الإله الأعسر
مرحباً بكم في الموقع الشخصي لماجد الحيدر.. يمكنكم الاطلاع على معظم الأعمال المنشورة للكاتب.. يسرنا استلام تعليقاتكم ورسائلكم The Personal Blog of Poet, Story Teller and Literary Translator Majid Alhydar
CH3CH2OH
ذات يوم اجتمع ثلاثة حكماء مجانين وقرروا أن يصنعوا شيئاً جديدا.
كان الأكبر شيخاً ذا مليون وجه، رقيقاً، هشاً حيناً، صلباً قاسياً حينا، متقلب السحنة بين تجهم.. وبريق يخطف الأبصار، وكان الآخران يجلانه أيما إجلال ولا يتكلمان في حضرته إلا همساً..
أما الثاني فكان امرأة ، نعم امرأة فتية أبداً، مغناج، أثيرية الطباع. وكان مكتوباً في الأقدار أن أحد السحرة الفرنسيين الذين دفنوا أنفسهم في قبوٍ خانق، سيطلق عليها هذا الاسم الغريب الذي يبدو مثل صرخة فرح أو إعجاب بهذه الأنثى التي لولاها ما كانت حياة! ليظل ذلك الاسم عالقاً بها حتى لتنسى اسمها القديم الذي أطلقه عليها أول المجانين.
وكان الثالث فتى خفيفا نزقاً سريع الغضب يعشق تلك الغادة ويجري خلفها منذ الأزل ولا يمل من الالتصاق بها والجري معها في كل وهدةٍ وواد!
اجتمع الثلاثة كما اعتادوا منذ القديم، وقرروا أن يصنعوا شيئاً جديدا.. في خفيةٍ من أعينِ الآلهةِ.
سبق لهم بالطبع أن جلسوا سوية، ثلاثتهم فقط أو برفقة ضيوفٍ طارئين، وكانوا في جلساتهم تلك يصنعون الأعاجيب: أجسادا حيةً ناطقة، دماً، ورقاً، سيوفاً، آلات موسيقية، صخوراً غريبة، حلياً، أقلاماً، وقوداً، أشجاراً باسقات وبقولاً لا تكاد ترفع رأسها عن الأرض.. آها.. الأرض! وما كانت الأرض هي الأخرى لولاهم؟
-إذن سنصنع شيئاً جديداً.. وسنهديه الى بني الإنسان.
-ليكن شيئاً يدخل السرور الى القلوب الحزينة.
-والأمل الى اليائسين.
-والشجاعة للمترددين.
-فلينطق به لسان المتلجلجين.
-وليملأ القساة بالرحمة.
-وليدفع الإنسان للرقص.
-والبكاء.
-والسخاء.
-والإقدام.
-ولينزع الأقنعة عن وجهه.
-والأصفاد عن خياله.
وجلسوا حول النار المقدسة.. وانتزع الشيخ ضلعين من صدره الفاحم، وترددت الحسناء ثم مدت يدها تحت ثديها البض وانتزعت ضلعاً واحداً.. واحداً فحسب.. وصاح الفتى العاشق المقدام:
-لضلعٍ واحد من سيدتي المتمنعة المتعالية سأمنح ستة أضلاع من صدري الملتهب بالعشق!
وألقاها الى القدر الذهبية.. وارتفعت النار.. وبعد أربعين يوماً.. سكبوا السائل الأثيري في قدحٍ عجيب التصاوير.. ونزلوا الى الأرض.. حطوه عند باب الكوخ الطيني.. وطرقوا مرتين.. ثم حلقوا في الغمام..
وفتح الإنسان الباب.. ولم ير غير الكأس.. فرفعه الى فمه.. وكان ذلك.. يوماً مباركاً في الأيام...
13/8/2011
من أين يأتي كل هذا الغباء
من أين يأتي كل هذا الغباء
من حفرةٍ في الأرض؟
أم من سماء
تَمور بالأشباح والعربدات؟
من أين يأتي كل هذا البكاء
من غيمةٍ للملح؟
من كربلاء..
ترضع من أوروك ثدي البلاء؟
من أين
من أين طريق الخلاص
لعالم لا ينحني النخل فيه
لسيد
أو حاكمٍ
أو إله؟
من أين..
لا أين..
(يعيد الصدى..
مختنقاً بصمته)...
لا رجاء!
أوائل الثمانينات-من البواكير غير المنشورة
عناد غزوان.. في بيتنا!
تعود بواكير معرفتي الشخصية بالراحل الكبير الدكتور عناد غزوان الى فترة متأخرة نسبياً (أواخر التسعينات
تقريباً) ربما بسبب من ندرة الوقت المتاح لي للاختلاط المباشر بالوسط الثقافي والأدبي، الأمر الذي يعززه ميلي المتأصل الى العزلة والاقتصار على عدد محدود من الخلصاء. كانت المناسبة هي زيارة يقوم بها عناد غزوان الى بعقوبة لإلقاء محاضرة في النقد الأدبي.. وكان هذا بالنسبة لي استثناءً وإغراءً لا يسعني مقاومته.. فذهبنا أنا وأستاذيَّ سليمان البكري ومحمد الصيداوي ووصلنا في الوقت المناسب..
ما الذي جعل الأمر استثناء.. ولماذا كان الالتقاء بهذا الرجل حدثاً جميلاً أحرص عليه وألغي من أجله كل مشاغلي وتحفظاتي؟ لأنه ببساطة يعني التعرف عن كثب على رجل يجمع العلم والأدب والمعرفة الغزيرة الى المكانة الأكاديمية السامية وطهارة الجانب التي عرف عنها وجعلته (مع عدد لم يكن -والحق يقال- بالكبير من المثقفين والأكاديميين الذين لم يهاجروا الى المنافي القسرية أو الاختيارية) يستنكف عن الانخراط في موجة المدح الرخيص والإسفاف وعبادة الشخصية التي شوهت وجه الثقافة العراقية. هذه الصفات لم تكن خافية على المثقفين العراقيين الذي حرصوا على الاحتفاء به ولا على السلطات الحاكمة التي تحملته على مضض.. ولهذا كنا فرحين حين رأينا القاعة (قاعة اتحاد أدباء ديالى) تغص بالحاضرين من كل الأعمار والمشارب والاهتمامات الأدبية والأكاديمية.. ولقد بادلهم عناد غزوان الود بالود فكان أن تألق في تلك المحاضرة بمضمونها الغني ومنهجها الواضح وأسلوبه الجميل السهل الممتنع، وتحمل بصبر عناء الرد على أسئلة ومداخلات الحاضرين الكثيرة التي لم تنته بانتهاء المحاضرة بل رافقته الى غرفة الجلوس المجاورة التي ازدحمت بتلاميذه ومحبيه الى وقت متأخر من المساء.. وهناك بالتحديد أسعدني الحظ بالتعرف عليه بشكل شخصي في الوقت نفسه الذي تشرفت فيه بالتعرف على أستاذي الراحل الكبير محي الدين زنكنه الذي علمت بأنه حرص على حضور هذه الجلسة على غير عادته في السنوات التي سبقتها..
خلال الحديث أعجبت بالمعرفة الواسعة والدقيقة للرجل ليس فقط بالأدب العربي قديمه وحديثه بل بالأدب الانكليزي ولغة قوم شكسبير التي كان يتحدثها، ويتحدث عنها، بطلاقة وإلمامٍ يحسد عليهما. وهذا (وأعني الإلمام بثقافات الآخرين ولغاتهم) هو –في رأيي المتواضع- عدة مهمة لكل مثقف ومبدع، ناهيك عن أكاديمي رصين.
أذكر أنني سألته في تلك الجلسة إن كان قد جرب كتابة الشعر فرد عليَّ بالإيجاب. وعندما سألته عما يمنعه من نشر شعره أجابني بطريقة شعرت معها بأنه يتهرب –عامدا- من ذلك، ففهمت بأنه لا يريد أن يُعرَف بالشَعر أو يتورط في أمرٍ قد يجلب له متاعب التغريد خارج سرب "الشعر" الإعلامي الرسمي الهزيل!
كانت زيارة عناد غزوان لبيتي المتواضع في شهربان، بصحبة نجله معتز والزميل الدكتور إبراهيم علي شكر الذي تولى نقل دعوتنا اليه ومرافقته من والى شهربان، مناسبة جميلة لا تبارح الذاكرة. وكان قضاء يوم كامل مع هذا العالم الكبير والشخصية المرحة المحبوبة مناسبة سعيدة لي وللعدد القليل من الأصدقاء الذين شاركونا ذلك النهار ومنهم الأستاذ سليمان البكري والصديق الدكتور أسعد محمد تقي الذي حضر من بغداد لهذا الغرض والصديقان القاصان مهند الشهرباني وعمران الغانم.. إضافة بالطبع.. الى أفراد أسرتي وعلى وجه الخصوص ولدي شوان الذي لم يمنع صغر سنه الأستاذ الكبير من الإصغاء الى "مداخلته" حول إحدى المعلومات التاريخية المغلوطة الواردة في أحد الكتب المدرسية فما كان من العالم الجليل إزاء إصرار صغيري إلا أن يطلب منه جلب كتابه المدرسي وقراءة المعلومة الواردة فيه والثناء عليه وتنبيهه الى أن الكثير مما يرد في الكتب المدرسية (وكان هو أحد مؤلفي ذلك الكتاب المدرسي بالتحديد) لا يمثل رأي العلماء وذوي الإختصاص بل رأي السلطات الحاكمة التي تكتب التاريخ على هواها...أما صغيرتي هدى فقد ظلت الى زمن طويل تتذكر مزاحه معها وضحكته الطاغية الجميلة.. وكنا كثيراً ما نسألها: كيف يضحك عناد غزوان؟ فتحاول أن تحاكي ببراءتها المحببة وقفته المميزة وصوته العميق: ها.. ها..ها!
لقد كان للقاءاتي اللاحقة مع الأستاذ الراحل وحضوري لبعض جلساته أو مناقشاته للرسائل العلمية أثر مؤكِّد للانطباع الذي تركه لدي: عالمٌ جليلٌ، متحدثٌ بارع، شخصيةٌ مرحة محبوبة آسرة، أديب مبدع، ومترجم بارع، وأكاديمي رصين لا يجامل على حساب ضميره ومكانته العلمية.. وفوق كل هذا.. رجل يعرف قدر نفسه وقدر تاريخه الذي ظل نظيفاً لم يلوثه نفاق أو ملـَق أو استسهال.
ولا يفوتني وأنا أكتب بهذه العجالة أن أتذكر وكلي ألم المناسبة الأخيرة التي رأيته فيها.. حين دخل الى قاعة أول مؤتمر انتخابي لاتحاد الأدباء بعد سقوط النظام البائد .. لاهثاً.. متعَباً..مستنداً على ذراع تلميذه المخلص إبراهيم علي شكر.. لقد ضجت القاعة بالتصفيق ووقف الكثير احتراما لمقدمه.. وما أن استقر في مقعده حتى توجهت اليه وقبلت جبينه وثمة شيء يتكسر في قلبي.. لقد كنت أنظر بعيني الى واحدة من منارات العراق الشامخة وقد هدها المرض والشيخوخة المبكرة.. ورغم الحفاوة الكبيرة التي استقبلها بها الحاضرون ورغم الإجماع الطاغي على اختياره لقيادة الاتحاد، وانسحاب الكبير ألفريد سمعان من سباق الرئاسة إجلالاً له ولمكانته، فقد كنت أشعر بأن نجمة مشرقة أخرى توشك على الأفول ولا أجد ما أقول غير بيت سيدنا الجواهري في رثاء الرصافي الكبير:
ليت السماءَ الأرضُ، ليتَ مَدارَها
للعبقريّ به مكانُ شِهاب
يُوما لـه ويُقال: ذاك شُعاعُهُ
لا محضُ أخبارٍ ومحضُ كتاب
تحية للذكرى العطرة للمربي والعالم والناقد والأديب والمترجم الكبير عناد غزوان وعسى أن تكون حياته وسيرته المضيئة خير ملهم لنا ولمن يأتي من بعدنا...
أغنية المومس البلهاء
وأنتِ أيضاَ
وأنتِ أيضاَ
أيتها المومس البلهاء
أيتها الكلاسيّة الساذجة
كم كنتِ واهمةً
حين ظننتِ أن النساء
ما زلن يبعنه.. ذلك الشيء النفيس
ليسكتن الجوع؟!
...
لا جوع في بلادي يا عزيزتي
لا جوع!
فمزابل السادة النابتين كالفقع
تملأ الآفاق
وفيها ما لذ وطاب
للقطط
والكلاب
والناخبين!
...
لا تكوني سخيفة
ذلك الشيء البالي
لم يعد غير حجة واهية
علبة صفيح خاوية
ومصباح أعمى
تهزه ريح بليدة
في شارع مهجور
...
لا تكوني سخيفة!
11-4-2012
اللوحة:نساء شوارع باريسيات لشارل لوفيير
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)