سليمان البكري - النهار الأخير، جدل القصيدة بين الذاتي والجمعي

النهار الأخير

المجموعة الشعرية لماجد الحيدر

جدل القصيدة بين الذاتي /الخاص والجمعي/العام

سليمان البكري

في المدونة الشعرية العراقية آليات فنية مبدعة تقود المتلقي للدخول في عالم التأويل والبحث عن المعنى الظاهر والمختفي للبنيات الرمزية المقّنعة في نظامها اللغوي وعناصرها الفنية وجمالياتها المستندة الى القيم الانسانية في بعديها المكاني والزماني ، مما يجعل النص الشعري نصاً حياً متدفقاً ينبض بالحركة في إشارة واضحة لتجاوز قانون الأشياء في ثباته الشكلي وحركته الداخلية التي تقود الى التغيير.

إن الشعر الجديد في عطائه المستمر ومن خلال متابعة جادة له يُعَد مشروعا وتجربة آخذة مكانها في فضاءات المدونة الشعرية العراقية المبدعة بإلتزام الشعراء الشباب البحث عن جماليات لسانية جديدة واستلهام التجربة الشخصية في مواجهة الحصار والحروب وطغيان الموجة السوداء المدمرة لكل ما هو خيّر ومبدع ومحاولة تجاوزها من خلال التجذر في الواقع العراقي المحلي المضيء بمشاعل الحرية التي تنير الدرب أمام المبدع ونزوعه الشعري منزعا إبداعيا يتجاوز إشكاليات الواقع الصعب الذي فرضته الحرب والحصار.

يحضرني هذا المعنى وأنا في مشروع قراءة " النهار الأخير "المجموعة الشعرية للشاعر د. ماجد الحيدر. وقد يطول البحث في هذه القراءة لكنني في مواجهة هذه التجربة الملتزمة كانت استجابتي تلقائية، ولا أريد أن أعلل سبب تلقائيتي تلك لكن القراءة ستوضح ذلك بالتأكيد : ففي تصوري أن الشعر ليس محاكاة "سواء لما هو خارج الانسان أو داخله" إنما هو خلق لعالم بديل يجسد العالم الموضوعي في نفس الوقت الذي يتجاوزه وهذا العالم البديل منفصل وغير منفصل؛ منفصل لأنه متكامل تحكمه قوانينه ونظمه الخاصة والمادة الحياتية التي لا شكل لها تنتظم داخله ويصبح لها مكانها ودورها الخاص وهي تنتظم أيضا لمنطق خاص بهذا العالم الجديد وهو شكل العمل الفني. ورغم انفصاله فهذا العالم البديل ليس منفصلاً فهو ينطلق من العالم الموضوعي يستمد منه مادنه ويستخدم لغته ويتوجه اليه. *

التوجه هذا يكون بالشمولية المعرفية في طروحات قصائد المجموعة التي تشير مقدمتها لمعرفة الآخر / الإنسان / الحيوان / النبات / الجماد / لكن هذه المعرفة تظل قلقة تحت ضغط الظروف الصعبة التي يعيشها الشاعر :

أنتَ إذنْ سليمانٌ جديدْ

تكلِّمُ النملَ والطير

تحدّثُ الكلابَ الشاردةَ تحتَ المطر

وتحاورُ العشبَ الذي نما

بينَ أحجارِ الطرقات

لكنكَ حين تختلي بنفسكَ أخيرا

حينَ ترنو اليها

باحثاً عمّا تواسيها به

تفر منكَ الكلماتْ

وتضيعُ اللغة

لا ..

لا لغة !

هذا الموقف توضحه قصيدة " النهار الأخير " التي تحمل عنوان المجموعة وتبدو من خلاله الطريق غير واضحة يعيش فيها الإنسان القلق والخوف والغربة.. وبهذا يكون الموقف في القصيدة يحقق رؤيا مركبة في حالتي اليأس ومحاولة الخلاص :

نهارٌ أخير

وتسدلُ هذي الستارة

….

لأني سأرحلُ صِفرَ اليدين

لأني سأرحلُ .. لا سعفة .. أو إشارة

الى الأرضِ يا صاحبيَّ نعود

الى الطين والماء والغبش السرمدي

فهل سنفكر في أغنيات جديدة

أم سوفَ نقعي .. وننعى الزمان !؟

الاختيار الذي يضعه الشاعر في تساؤله / فهل سنفكر في أغنيات جديدة / أم سوف نقعي وننعى الزمان / يثير تساؤل المتلقي وقلقه. هل يلجأ الإنسان الى الصمت إزاء الخطأ ويظل ينتظر تغييره أم يتحرك ويكون آلية مؤثرة للتغيير؟ هنا تكمن رؤيا " النهار الأخير " النص الجميل الحزين ، لكن رغم الحزن فهو يثير ردود فعل المتلقي باتجاه التفكير كخطوة أولى وبهذا تحقق القصيدة رؤيا وموقفا ملتزما بالإنسان العراقي الذي أوقعه الحصار ووضعه في دائرة صعبة من الإشكالات على مختلف الأصعدة والمستويات.

إزاء آليات الحروب والقمع والحصار الإجرامية ومن خلال موقف ذاتي يعيشه الشاعر وإحساسه بالعزلة والوحدة والوجع وسماعه أنين الأصدقاء يلجأ الى المرأة التي يتعامل معها بحساسية عالية في دور مسؤول لمشاركته واقع المأساة وتخفيف وطأتها :

وأنتِ قريبة .. قريبة

كهمّي ، كأغنيتي الشاجنة

..

أردتُ ذراعيَّ أن تحتويكِ

أردتكِ قربي ..

تنامين في رئتي .. لصق قلبي ..

..

هلمي إذن وتعالي .. تعالي

أقاسمكِ مائدتي والبكاء

وشمعتيَ الراجفة

ليس المرأة وحدها من يلجأ اليها الشاعر إنما يدعو أصدقاءه الشعراء لمشاركته همومه ومأساته في قصيدة " شعراء " .. والشعراء في النص يقٍصد بهم الشعراء الحقيقيون الصادقون لا الشعراء الجوف " المملوءين قشا وتبنا " وهم ينكئون جراحه القديمة ويمسحون دمعته ويشاركوه الرحيل المستديم للمأساة ويستمعون الى هذيانه :

بي ظمأ لخفقةٍ من فرحٍ

بي ظمأٌ لصرخةٍ تمزق الأحشاء

بي ظماٌ للنوم

فلترفعوا يا ساداتي هنيهةً

عن جسدي السياط

الصراخ له رسالة واضحة المعنى تصل المتلقي بوضوح لتشيد من خلاله الموقف/ القصيدة/ الشعر/ الإنسان.

باتجاه آخر يوظف الشاعر الحيدر أسطورة الآلهة السومرية في نص شعري يقترب من البنية القصصية السردية في نص " ألواح إنليل .. رؤيا كاتب من نفّر ". عدد الألواح خمسة ، كل لوح يحمل نصا يكمل ما بدأه النص الذي قبله لكنه يحمل رؤيا مستقلة ، وفي النهاية تتوحد الرؤى مرسومة على خلفية عراقية أسطورية مقنعّة بقناع المعاصرة تمتزج بأفكار عن الوطن / التاريخ/ السياسة / الفلسفة / القدر .. هذا العمل يرتبط بأعمق ما في الذاكرة من مفهومات ورؤى تخلق حالة التوتر الشعري اللازم بعمل متميز.

إن "ألواح إنليل" إشارة الى وجود شعري مبدع والتوظيف الأسطوري في القصيدة هو وجود محدد موحي بأشياء متعددة غير محدودة فـ " إنليل " و "الشاعر " ارتباط أسطوري حسي بعراقية صميمية يوحي بآلاف الأشياء والمعاني التي إن اجتمعت تساوي في النهاية شيئا كبيرا هو سر الخلق والتكوين وسفر الإنسان مندمجا في مغامرة تحقيق وجوده وحريته.

يغادر النص الشعري بعد " ألواح إنليل " الى حالة معاصرة تتحقق في خمس قصائد هي : " الفارس الضليل / أغنية الأربعين / محاكمة المجنون / حديقة الجنون/ تأكيد " ليكشف للمتلقي حالة معاصرة : الإنسان في مواجهة إشكاليات الحياة الصعبة وسفر حياة في براري موحشة وأناس يتلذذون بالصمت فيشيخون ويهرمون حزنا وكمدا:

أيتها السنون

يا سرب خيلٍ جامحٍ أفلتَ من حظيرة السماء

..

من أين لي أن أعبر الجحيم ..

..

وأذرعي مبتورة شوهاء

أكثر من هذا يقود الموقف الى المواجهة:

وقالوا تكّيف وإلاّ .

وقالوا ترجّلْ وإلاّ ..

وقالوا ، وقالوا

فما ازددتُ إلاّ جنوناً

والمواجهة تؤدي الى الدمار ، لكن وفق مقولة أرنست همنغواي "قد يتحطم الإنسان لكنه لا يهزم" يتألق الموقف الفردي / الجماعي إزاء الدمار فتحصل المواجهة وتتألق قصيدة "الربان والبحر" بهذا الاتجاه فلا يخسر الإنسان/المواجهة في نهاية الأمر سوى قيوده :

لا تهجر جزعا مركبة لم تغرق بعد

ولا ترمِ الى الأسماك قلائدك المسحورة

لا تهرب

قد يتحطم صدر البحار ولكن

لن يهزمه

لا … لن يهزمه

موج أو إعصار

وقد يتعب الإنسان ويعيش حالة الإرهاق فيستكين مثل / حصان واجم عجوز / يريد الخلاص من تعبه ولو قليلا :

أريد أن أنام دون خوف

أواه .. كم أتعبني المسير !

فيجلس طلبا للراحة على خليج الذاكرة يستعيد ما جرى ويؤشر الموقف إزاء مسيرة وطن طهرته الحرائق والناس فيه يحتفلون بالعام الجديد وبشارة للغد الآتي لذكريات المستقبل السعيدة الآتية تتجاوز كل الضياع / المعاناة / القهر / الحصار.. وثمة أوراق جديدة يكتبها المبدعون بشارة الإنسان والانتصار .

"النهار الأخير" قصائد الشاعر د. ماجد الحيدر تعاملت مع الذاتي/ الخاص والجمعي / العام وكشفت عن الوعي بالقضية التي يجب أن تكون وليس الوعي الكائن فعلا ، وبشرت بولادة عنقاء جديدة تنبعث من رمادها الحرية التي حاصرتها الحروب وحاصر معها الإنسان لتؤثث فضاءات عراقية أصيلة وترتقي بالقصيدة الشابة الى مستوى إبداعي يضج بالحركة والفعل.

· د. رضوى عاشور / قراءة في قصائد الآداب 1992/ بيروت – مجلة الآداب / العدد الثالث / آذار – مارس.

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية