مزامير راكوم الدهماء وقصائد أخرى.. مجموعة شعرية


مزامير

راكوم الدهماء

وقصائد أخرى

د. ماجد الحيدر




تقديم:

المهمةُ محددةٌ :

كُنْ عظيماً وارفضِ الصِغَر

" ي . يفتوشنكو "



الى دفتري

يا أيُّها الدفترُ ... أيامُنا

قافلة تمضي الى المستحيلْ

تسوقنا الأوهامُ صوبَ الفَنا

فنوسعُ الخطوَ ونهوى الذَميلْ

ونخدعُ النفسَ بأنَّ المُنى

دانية القطفِ وما مِنْ سبيلْ

لو أيقنَ الإنسانُ بالخُلدِِ لمْ

يضنَّ بالأنفاسِ ضنَّ البخيلْ !




مَنْ ؟

مَنْ يرمي حجراً في مستنقعِ هذا الإجماعِ الآسنِ ؟

من يقتلُ مَن يُشبهُهُ

من يصرخُ ها أنذا

عريانٌ لا أخشى عُريي

لا أعبدُ مِرآتي

لا أخشى هذي الأرضَ المسكونةَ بالحَمقى

وبأنصافِ الموتى الماشينَ على دَمـِهـِمْ

مثل دُمىً ، أو أشلاءِ دمىً

سيئةِ الإستنساخْ ؟!




إمرؤ القيس

متخَماً بالجوعِ

يستلقي على

عرشهِ المضفورِ مِن أخيلةِ الحُمّى

وأوجاعِ السفرْ .

يسألُ الندمانَ عن برقٍ سنا فوق الجبالْ .

يحشدُ الأشباحَ والغيلانَ جيشاً

ويسوقُ الهمهماتْ .

يُفلِتُ الكأسَ فتعلو /

تتشظى.. مِزقاً مثلَ غمامٍ

يُمطِرُ الويلَ وأشلاءَ خيولٍ

ورفوفاً من طيورٍ حجريةْ .

….

7

إيهِ يا قُـبـّرةً حاصرها الثلجُ بهذي الفلوات

إيهِ يا " فاطمُ " يا ثوبَ جراحي

إيهِ يا كأسَ غَبوقي .. واصطباحي

إيهِ يا مُنجرِداً داسَ على صدري ووَلّى .. كشهابِ

لن تعودي .. بيننا ألفُ إحتراقٍ .. واحتراقِ

بيننا – مشرعةً - غاباتُ خوفٍ وحرابِ .

هذه " أنقرةٌ " تدنو وتدنيني الى مفترقٍ

ليس به إلا طريقانِ … طريقٌ واحدٌ ..

محضُ سرابِ !

…. ….

يُعملُ السيفَ بهاماتِ الأغاني

….

حينَ يَسّـاقَطُ نفْسـاً بعدَ نفسٍ

يلعنُ القيصرَ والآباءَ والدربَ الطويلا !




المَحْجَرُ الأبديُّ

كَـوَليِّ عهدٍ منسيٍّ

يحبو الى التسعين

يعـدُّ شبابيكَ حُجرتهِ شُبّاكاً شُبّاكا ..

ويسدلُ فوقها ستائرَ من حجرٍ .

وعلى "رزنامة" الجدارِ الأبديةِ

يرسمُ تسعين دائرةٍ صفراء

على مواعيدِ الإخصاءِ السنويةِ .

كان الفائضُ عن حاجتهِ

يمسِّدُ جثتَهُ أمامَ الموقدِ المنطفئ

ويباركُ القمصانَ التي

ما خضّبها الزمانُ بدَمِ الشعرِ .

أما أنا .. الملكُ الميّتُ ، فأذكـرُ أنّي

في الجنةِ كنتُ

سكرانا تدوِّمُ بي جدليةُ الذرات .

أحرِّقُ الحبَّ

في مَجمَرةًٍ من عظامِ سُلالتي

وأمارسُ طقوسَ " إقليدسَ " التي

ما استعادتْ كينونَتَها

والسباتَ المهيمنَ .. فوقَ ظُـلمةِ الهيولى .

لأني لم أفهمْ شيئا

لأني أسافرُ .. مثلَ فُجاءةٍ عاديةٍ

لأني أسفرُ عن وجهي

في الأزرقِ المُتَماهي ،

وفي الولاداتِ التي تكررتْ ،

في الحوباءِ التي ما اكتمَـلَتْ ،

وفي الخرائطِ التي سالتْ

بينَ عينيّ والأسيجة .




أخبرني العرّاف

الى يوسف الصائغ

أخبرَني العرّافُ

بأني سأموتُ على مزبلةٍ

في أرضٍ لا تعرفني فيها الشمسُ

ولا أعرفُ فيها إلا أصحاباً أربعةً :

بوّابٌ سكّيرٌ ،

وعجوزٌ عمياء تمزِّقُ أوراقَ الحظّ

وتذروها في الريحِ

وكلبٌ ضيّعهُ سيّدهُ المجنونُ

على أرصفةِ الميناءِ

وكأسُ عُقـارْ !!

* * *

أخبَرَني أني سأسافرُ وحدي

وأقومُ الى حتفي وحدي

وأمارسُ طقسَ نزولي للأرضِ الظلماءِ

وأرجعُ منها ثانيةً ثم أعودُ اليها وحدي ..

وحدي .. وحدي ..

وسأمسكُ في كلّ يدٍ نصفَ رغيفٍ محترقٍ

وكتاباً أبحثُ عمّن يقرؤهُ لي في الموتى

أخبرني أنّ الطيرَ الخارجَ من رأسي

لن يهدأَ

حتى يتفجّرَ من صخرةِ أوجاعي ماءٌ

يغسلُ تاريخ جدودي ويحيلُ الصحراءَ الشرقيةَ

جنّاتٍ من قمحٍ ونبيذٍ ونســاء !

* * *

أخبرني أن "الأولمبَ" سيمسحُ إسمي

من ألواحِ الأبطالِ وأنصافِ الأربابْ .

وسيمنعُ سادةُ "طِيبةَ" صوري

فيواريها الفقراءُ على عَجَلٍ

تحتَ سِلالِ الخبزِ وبينَ جِرارِ الزيتونْ .

وسيأمرُ " نيرون " بأن يُنصبَ لي تمثالٌ

من روث الأبقارِ ويُحرَقَ عندَ غروبِ الشمسْ .

وسيصنعُ " كسرى " من أضلاعي قيثاراً

يعزفُ فيهِ حَوارييِّ الخائنُ ألحاناً

لأغانٍ تسخرُ من معجزتي الخرقاء !

" وكمثلِ نبيٍّ ينكرهُ أهلُ مدينتهِ …. "

أخبرني العرافُ :

" .. كمثلِ نبيٍّ .. أحملُ تاجي وعصايَ وأرحلُ .." *

لكني لن أستجدي ..

قطرةَ مـــاء !!




* يوسف الصائغ : إنتظريني عند تخوم البحر



حكاية

عن رجلٍ يسفح نصف سنيّ العمر

مضطجعاً فوق أريكة وحدته

منشَدِهاً يفتحُ فاهُ ويغلقُ عينيهِ

ويفتحُ مذياعاً معطوباً

ويمارسُ حلماً يومياً ما فارقهُ

حلماً عادياً مبتذلاً :

أن يخلعَ نعليهِ ويدخلَ في وادي اللذةِ

أن يعرى ويمرّغَ جثتهُ

برمادٍ لم يبردْ بعدُ

ولم تسفعهُ الريحُ الثلجيةُ أو صمتُ الأيامْ

....

عن رجلٍ لا ينهضُ إلا كي يقضيَ حاجتهُ

أو يطعمَ قطّتهُ العمياءَ

ويحكمَ إغلاقَ البيبانْ

عن رجلٍ لم يأثمْ يوما ، لم يندمْ

لم يبكِ ولم يشربْ خمرا ، لم يقرأ فنجانا

أو يلثمْ شفةً ….

…..

عن رجلٍ يشعرُ بالبــردْ !




الهاتف

للهاتفِ في الليلْ

همهمةٌ لا يعرفها إلا مَن حدَّثَ سيدةَ القلبِ

من الجبهةِ في منتصفِ الليل .

…. الهاتفُ في الليلْ

يملؤني وَجَلاً .. يُشعِـرُني بالبردِ

وبالعُـريِ أمامَ طبيبٍ

يتفحَّصُ أعضائي في غرفةِ إنعاشٍ

طُـلِيتْ أوجُهُها :

بالأزرقِ حتى الأكتافِ

وبالأبيضِ حتى السـقفِ

وبالرهبةِ حتى الأضلاعْ .

…. أطلبُ رقماٌ فيرنُّ الهاتفُ في الجهةِ الأُخـرى

– منذُ سنينٍ- دونُ جوابٍ

15

… أسمعُ قلبي في الهاتفِ

أسمعُ أنفاسي..

وصدى الساعات !!




الشاعر

" هكذا لن تستقـيمَ الأغـنيـةْ "

ومضى الشاعرُ يتلو ، ثمَ يمحو ، ويعيــدُ

كـلَّ سطـر ٍ، كـلَّ حـرفٍ .. من جديدِ

وتلــوّى .. هاصــراً فَـودَيـهِ في يأس ٍ

وألـقى باليـراعْ

وتمشـّـى جيــئةً ثـمَ ذهـابا ..

وأصــاخَ الســمعَ للّــيلِ وللأبوابِ

للخـوفِ الذي .. ألقى على الروحِ إهــابا.

" آه ما أقســى العــذابا ! "

واعتــرتهُ رعشــةٌ هــزّتــهُ كالحُـمـى فغـابا

في ديـاجيـرِ الأسـى واليأسِ والأوهــامِ

في أمسٍ مضــى .. مثـلَ ســرابِ

والسـنونُ الزرقُ تطــوي عمرَهُ

طَــيَّ سجــلِّ ..

" إيــهِ يا قلبــاً ، وكــمْ كنتُ هممــتُ

ثم لـم أفعـلْ ، وقـد كـدتُ "

ولكـني ارتجــفتُ

وهــوى سـيفي الى القاعِ زجــاجاً ...... وتشــظى ..

ثم لـم يبـقَ ســوى الأفـقِ الجليــديّ

وأعشـاش طـيور ، هـاجــرَتْ صــوبَ روابٍ

لـم يـعدْ يســمعُ عنهـا

غيـرَ في الأحلامِ ، فـي الذكـرى

وفـي صـمتِ الأغاني ..

آه لــو آبـتْ أغانــيه وآبــا !

آه لــو …!

لكــنها الروحُ التــي أمســتْ خــرابا !




رؤيا

قرأتُ الوصــايا .. وآياتِ محنتيَ المُنجيــاتْ

ورددتُ ألفاً تراتيلَ خوفــي….

وصـمتُ عن العشقِ عشــرينَ حــولاً

ومــا ذقتُ إلاّ رحــيقَ التجــلدِ

والخبزَ والمــاءَ والأمنياتْ

فلمــا اكتهلـــتُ أتــاني اليقـــينُ

وأخبرني أننــي قد أنــامُ أخــيرا

تهلــلتُ ، أوقــدتُ كفــي شمــوعاً

وأغلقــتُ بابــي.....

……..وفي ليلــةِ الشِـفعِ من شــهرِ " آه "

توضَّـأتُ بالبــردِ والزعفــرانْ

ونِـــمتُ على جانبـــي عاريــاً

فأبصــرتُ فيما يرى النائمـــونَ …..

نخيــلاً يســيرُ الهُــوَينــى الـى حتفــهِ

نـازفاً طــلعَـهُ في الطــريقِِ الى المدفــنِ المــرمــريِ الرحــيبِ

المُضــاءِ ببـــرقِ الجنــونْ .

وأبصــرتُ وجهــيَ يَــنفِـرُ منــّي ويَشرَِقُ بالـوهمِ و المَوجِعـــات .

وأبصــرتُ في الضـوءِ هنداً تلوكُ – وتضحكُ - أحشــاءَ مهــرٍ

يحــدّقُ في حــَزَنٍ في القمـــرْ .

نظــرتُ لعينــيهِ : كانت مآقيهُــما اكتظـّـتا بالســؤالِ القديــمِ

عن اللــهِ والمــوتِ والديدَبــانْ .

توكأتُ فــوقَ جــدار كســيرٍ

وأجهشــتُ بالبردِ والعـــارِ حتــى دَهاني الصــباحُ ،

وأغمضــتُ عينــي …

الــى الليلـــةِ القــادمةْ.....!




مدينة الذباب

تثـاءَبَ الصـيفُ على الأرصـفةِ الغبراءْ

وهـوَّمَ الـذبابُ فـي المدينـةِ الموصـدةِ الأبـوابْ

وراحَ شـيخٌ منحـنٍ يقتـعِـدُ الطـريقْ

يـرددُ الآيـاتِ فـي فتـورْ

وصـِبَـيةٌ حـفـاةْ

يمضـونَ في الدروبْ

يشـقونَ .. يكـبرونَ .. يهـرمونْ

فـي الصـمتِ .. في النسـيانِ .. في الضـياعْ

وأعتصـرتْ فؤاديَ المحـاصَرَ الكـسيرْ

غمـامةٌ حـالكةٌ خرسـاءْ

ربـاه !

من يبيعُـني تـذكـرةً لعـالَمِ الفنـاءْ ؟!

ربـاه !

مـاذا يفعـلَ الشاعرُ فـي مديـنةٍ

يضـربُهـا الجـرادُ والسَـمومْ ؟

حاناتها مقفلةٌ بالشمعِ والسيوف

أقمارها يلفها الديجور

أيـّامها تدورُ كـالناعورْ

وأهـلها .. أصــداءْ




شذوذ

لا أعرفُ ألوانَ التمرِ

ولا أحفَظُ أدعيةً للإسترزاقْ .

لا أعرفُ شيئاً عن سعرِ الدولار ،

ونتائجِ كأسِ الأممِ الأوربيةِ

أو إجراءاتِ السفرِ الى عمّان .

لا أفقهُ شيئاً من بركاتِ " الحبّات السود " ،

ولا أعرفُ أوزانَ الحصصِ التموينيةِ ،

لا أحلِقُ رأسي قبلَ العيدِ ،

ولا أحفلُ بالتلفاز ،

لا أحضرُ حفلَ زفافٍ أو تأبينٍ

.......

لكني أذهلُ حينَ تغني فيروز

وأبكي..

حين أرى كرسيَ صديقي .. دونَ صديقْ !




ليس حزناً

ليس حزناً على بلادٍ أُبيحتْ

ليس حزناً على الزهورِ الصبية

ليس حزناً على خدودٍ أشاحت

ليس حزناً على سنين أريقت

ليس حزناً على حطام كؤوسٍ

ليس حزناً على أغانٍ قديمة

ليس حزناً على سويعات أنسٍ

أو أمانٍ ماتت على الكفّ غَولاً

إنما الحزن أن أسافر وحدي

وبرأسي مليون لغزٍ ولغزٍ

وسؤالٍ لما يزل دون ردِّ .




نعم

نعم ، أنا العبدُ الذي

أغريتُ أفلاطونَ بالسُكرِ

حتى بكى أمامي

وأنكرَ كلَّ شيءٍ : الكهفَ والحصانَ الأبيضَ

صورةَ الحصانِ ، وصورةَ البياضِ

وجثا على ركبتيهِ : أنْ أعِدني الى صباي

أريدُ أنْ أركضَ حافياً

أريدُ أنْ أتسلّقَ شجرةَ تينٍ

أريدُ أن أسرقَ العسلَ : عسلا حقيقيا ،

من أغصانِ سروةٍ حقيقيةٍ ،

في غابةٍ حقيقية

....

نعم أنا الذي صنعتُ لهم

أقداحَ الراحِ .. وألواحَ الكتابة

وخيوطَ القيثار

وعصيرَ الشَوكَران

…… نعم أنا !




سفير الجنون

سفيرُ الجنونْ ..

يقدمُ أوراقه في المساء

الى سيّدِ العالَمِ العاقلِ

الى الجَـدَثِ العفنِ العاطرِ

الى نائمٍ ، سادرٍ ، سائرِ

يدور على صخرةٍ للرياء

كما المنجنونْ …..

….

سفيرُ الجنونْ ..

سيكشفُ في المحفلِ المُخملي

عورتَه ( قلبَه النابضا )

وتحتَ ضياءِ القصورِ الكسيف

يُراقصُ عذراءَهُ الميّتة

ويرتفعُ "الفالسُ" نحوَ الفضا

الى قمرٍ سملوا عينَه

وألقوا به في دروبِ السماءِ

ليحسُبَ ساعاتِه الباقياتْ

…. …..

سفيرُ الجنون

سيركضُ في الشارعِ المُظلِمِ

على بركٍ من رَشاشِ الدمِ

ويهوي على ركبتيهِ هناك

قُبالةَ مشنقةٍ غافية …

تغنّي وتضحكُ في نومها

وتهتزُّ في غنجٍ ناعمِ ..

ليحرقَ أوراقَه في الصباح

ويرسلَ في إثرها دمعتين

ويصعدَ زحفاً على الدكتين

الى حيثُ مُدَّتْ حبالُ المنون

سفير الجنون ……!




أوراق من كتاب " تدبير العاشقين" للحسين بن معين

(1)

حدَّثني مزاحمُ بنُ ساهمِ الورّاقْ

عن صاحبٍ يجولُ في الأفاقْ :

لمّا اشترى الحاكمُ باسمِ الله

سربا من الإماءِ والعبيدْ

ليخدموا المَحظيّةَ الروميةَ الحُبلى بنورِ الدينْ

أبصرَ فيهِ كاعِبا كَرجيةً صهباءْ

تجيدُ ضربَ العودِ والنبالْ

من عينها الساحرةِ النجلاءْ

فشفَّهُ غرامُها وحارَ فيه الأهلُ والطبيبْ

….

واعتكفَ الإمامُ / ظِلُّ اللـه

في المخدعِ الحصينْ

حتى إذا أتمَّتِ المحظيةُ الروميةُ الحُبلى بنورِ الدينْ

شهورَها . وقَرَّتِ العيونْ

بالخَلَفِ الصالحِ والأمينْ

شوهدتِ المليكةُ الحسناءْ

مذبوحةً في الباحةِ الخلفيةِ الظلماءْ

وشوهدتْ سيّدةُ الحِسانْ

الكاعبُ الكرجيةُ النجلاءْ

في المخدعِ الحصينْ !

ومّـرَّ عـامٌ ثم عـامٌ وعـامْ

وانكشفَ الغمامْ

عن أُمّةِ الإسلامْ

بموتِ ذاكَ المارقِ اللعينْ ( سيّدنا القديمْ )

على يدِ الهُمامِ نورِ الدينْ

وشوهدتْ في الباحةِ الخلفيةِ الظَلماءْ

العاهرُ الكَرجيةُ الشمطاءْ

مذبوحةً .. غارقةً في بركةِ الدماءْ !

وحدَّثَ ابنُ ساهمِ الورّاقْ

عن جدّهِ وجدِّ جدِّ جدِّهِ

عن يافثٍ عن شالخٍ عن نوحْ :

أنَّ فناءَ الباحةِ الخلفيةِ المهجورْ

لَمّا يزلْ – من زمنِ الطوفانْ –

يفيضُ بالجدائلِ الصفراءِ والسوداءْ

تشحَطُ في جداولِ الدماءْ !

(2)

بينا أنا في مجلسٍ يضمُّني

وصحبةً كطلعةِ الأقمارْ

سألتُ شيخي كاشفَ الأنوارْ

موسى بن عيسى بن أبي مهيارْ :

هل يَعشـقُ البَصّاصُ والجلاّدْ

هل يلثمُ الخدودَ ، يبكي من جوى الفؤادْ

فقالَ : حتى يزهر العاقولْ

وتزحف الساعات بالمقلوب

وينزل الجليد في بغدادْ !!

(3)

حدّثني الشَمراخْ

عن شيخنا عن عروةَ بن نونْ :

وحين ضاقَ العاشقُ المسكينْ

بالجوعِ والترحالِ والديونْ

أرسلَ بيتينِ الى الحبيبةِ الحسناءْ

يحلُّها من عهدها فقالْ :

" لا تحزني حبيبتي ، لستُ سوى حمارْ !

أضاعَهُ صاحبُهُ الخاسرُ رأسَ ماله في شارعِ التجّارْ

ثم مضى مستترا

من حارةٍ ضيّقةٍ لحارةٍ

خوفاً من الدائنِ والشرطيِ والسمسارْ

لا تسألي حبيبتي

عن عاشقٍ لا يملكُ الرغيفْ

وأنصتي لأمِّكِ الحكيمةِ العجوزْ

فإنها تعلمُ كلَّ العلمِ أنَّ العار

أن تتبعي فؤادَكِ الغريرْ

وتهجري من يُمسكُ الدينارْ !

(4)

وأنشدَنا عمرو بن زبيدٍ لنفسهِ :

وسألتُ "مسرورا"* فقلتُ مُداعِباً:

هل تستطيبُ تغزُّلي وصِفاتي

للغيدِ والبيضِ الحِسان وخُـرَّدٍ

مثل البدورِ فقالَ لي: هيهاتِ

إني أنا الخِصيُ الموَكَّلُ بالطُلى

والنطعِ والأسيافِ والفَتكاتِ

لم أعرفِ الشوقَ المبَرِّحَ والهوى

إلا الى الخبطاتِ والشحطاتِ

لا تسـقِني كأسَ الغرامِ فإنني

كفَّنْتُ قلبي فاشتريتُ حياتي !!

* مسرور : خادم الرشيد وسيافه الأمين

33

(5)

وعن أبي العباس يزيد بن نعمان عن شيخه أبي زكريا الأعشى قال :

بينا نحن ببادية السماوة نغُذُّ السيرَ الى الكوفة سنة كذا وكذا - قال أبو العباس وأُنسِيتُها - إذا بواحةٍ غناءَ تعرِضُ لنا وسط هذه البيداء وإذا أفياءٌ حسنةٌ وماءٌ جارٍ ونعمةٌ دافقةٌ وجوارٍ حسانٍ يخطرنَ في السندسِ والديباج حتى ظننا واللهِ أننا في جنةٍ من جنانِ النعيم . قال فما لبثنا هنيهةً حتى برزتْ لنا عجوزٌ وقورٌ حسنةُ الهيئةِ وسمعنا إحدى الجواري تناديها يا عمّتَنا أمَ عمرو فانبرى شيخٌ فينا اسمه محمد بن أبي صيدا فأنشد:

ما اغطوطَشَ الليلُ بذاتِ الحَجْرِ

إلا دُعينا من بناتِ فَهـرِ

لشــربةٍ تُعفي كلومَ الوِترِ

ومتعةٍ حتى نشورِ الفجرِ

ماذا قِرانا اليــومَ أمَّ عمروِ

زقاقُ خمرٍ أم جرابُ تمرِ؟

قال فما انتهى من إنشاده حتى خرجتْ علينا من ناحيةِ المغربِ غمامةٌ حمراءَ فدنَتْ من الأرضِ حتى لفّتْنا ونحنُ نسمعُ لها عزيفاً وعويلا فغشيَتْنا ساعةً فلما انكشفتْ أقبلتْ علينا العجوزُ وقد برز لها من تحت عقالها قرنانِ كقرني التَيسِ وهي تجرجِرُ ذيلا يضربُ الحصى فيقدحُ شررا فأيقَنّا أننا في حضرةِ الشيخِ إبليس فسلّمنا تسليمَ دخيل خائف فضحك حتى برزت أنيابه وقال مَن القومُ ومن أين والى أين فقلنا جماعةٌ من أهل صناعةِ الأدبِ قدمنا الكوفةَ وبيننا هذا الغلام الشاعر وأَشَرنا الى فتى من عُذرةَ وهو سقيمٌ قد أمضّهُ العشقُ وقد أبا وليُّ من أحبَّ تزويجَها إلا بألفٍ من الدنانير فقدم معنا عسى أن يصيبَه شيءٌ من عطاءِ الأمير فيعود الى أهله بالبشر والغنيمة . قال ما أظنُّه يفعل. فواللهِ إني على هذه الأرض منذ ما لا أُحصي من الأعوام ولم أرَ من جمع الشعرَ والعشقَ الى المالِ والدعةِ. ثم التفت اللعينُ الى شيخنا وقال هل سألتموني القِرى قال نعم فأنشد:

قِراكم اليومَ خبيصُ الفِكرِ

في مرقِ النثرِ وخبزِ الشعرِ

لا رِقّةُ الجيدِ ولينُ الخصرِ

ولا قيانٌ كـتمـامِ البـدر

ولا نبيذٌ من نقـيعِ التمـر

أو قهوةٌ تفـرجُ همَّ الصدرِ

بل كدرٌ يصحبكــمْ للقبرِ

لا يشتكي من فرقةٍ أو هجرِ !!

قال فلما سمع الغلام ذلك صرخ صرخةً عظيمةً وخرجت روحه فغسلناه وصلينا عليه ودفنّاه وعدنا من حيث أتينا. قال وهذا سببُ تسميةِ تلك الناحية من بادية السماوة واحةَ أُمِّ عمرو على أن لا واحة فيها ولا ماء والله أعلم !!






من مزامير

راكوم الدهماء


مقدمة

في خرائب مدينة " راكوم الدهماء " الأثرية عثر على هذه المجموعة من الأناشيد المكتوبة باللغة الدهمائية القديمة. ولأن هذه الأناشيد " المزامير كما سماها كاتبها " تلقي المزيد من الضوء على فترة عصيبة من تاريخ الحضارة الدهمائية فقد ارتأت نخبة من علماء التاريخ الأجلاء نشرها في ترجمة أمينة دقيقة تحقيقاً للفائدة العلمية. بقي لنا أن نشير الى أن بعض السطور التي طمست معالمها أو لم تهتد اللجنة الى قراءتها قد أشير اليها بنقاط متجاورة محصورة بين الأقواس ، فنسترعي الانتباه .

لجنة الآثار القديمة

29 / 2/ 2960


المزمور الأول

"مزمور لحب الإنسان ، لمغني راكوم الأعمى غناه في شرخ الشباب ، قبل أن يسملوا عينيه"


أيها الإنسانُ

لَكَمْ أرتِّلُ أناشيدَ مجدك !

أني لأعدُّ فضائلك فلا أحصيها

ها هي الأشجار تعلو وتعلو

لكنك الأبهى

وتلك القمم الشامخات تناطح الغيوم

لكن مجدك يسمو فوقها

العواصفُ لك والغمامُ

الشمسُ لك وغناء الطيور

الأشعارُ الماجنة والوقور

دوالي الكروم وأسرابُ النحلِ التي

تطنُّ فوق الحقول

الألوانُ والدرجاتُ والآفاقُ

كلُّها ، نعم كلُّها .. لكَ وحدكَ

يا أنتَ ، يا مَن لا يُتعبني الترنّمُ بحبِّك

* *

ليست عبثاً قصائدي

وغنائي ما كانَ طيشا

ها أنتَ تحت قميصي وفوقَ أوتارِ قيثارتي

ولأنّي لا أنطقُ بالزورِ

سأشهدُ أنّي أحبّكَ !

دعني إذنْ أنحني

لأقرأ يديكَ حين تجترحانِ الأعاجيبَ

دعني أُنصت لعيون الحمائم التي تلقط الحب منهما

دعني أجس ريشها الذي يحسن الثناء عليك

ثم تعال معي

وأنظر لذاك القارب الوحيد

تقدم رويدا واسمع أنينه الذي يتهادى

مستوحشاً صحبتَك البهيجة

(……. )

ويا شيخيَ الجليلَ

الغارقَ بين الخرائطِ و( …..) والمجاهر

حين تنزعُ نظارتيك

وتداعبُ لحيتك البيضاء

متفكراً في فكِّ أُحجيةٍ محيّرةٍ

سأخطو إليك ، وأقبّلُ أصابعَك الملطخةَ بالمِداد

و جبينَك العرقان !

ويا فتايَ العاشقَ

إن صفيرَك الحزين إذ تروح وتجئ ..

فوق الرصيف الموحش

لأغنيةٌ سماويةٌ .. لا تُحسنها غيرُ ملائكةٍ مجنّحة

لَكُمْ أنحني ..

يا خرافيَ الغافلة

ولكُم أبكي .. للذئاب التي ستجيء!




المزمور الثاني

" في الحنين الى العاصفة "


لمَ إذن حدث كل ذلك

وعلامَ جاءت العاصفةُ ثم ولَّت

وتركتني ها هنا

أجترُّ من جديد

بغيضَ أحزاني

وما ظننتُه مخاضا مباركا

ما كان إلا نوبةً من جنون دائري قديم

(.......)

أيتها العاصفةُ المجيدةُ ارجعي

وأطيحي بسقفِ ضريحي الجليل

قد آدَني الصمتُ أودا

وليس إلا في هزيمكِ المُدوّي

في برقِكِ الساطعِ

في مائِك الغاضبِ

الخلاصُ لروحي

سِلاه !


المزمور الثالث

"لإمام المغنين ، يوم طردوه من المدينة"


برباطةِ جأشي أناديكم

مثلَ حقيقةٍ باهتةٍ قديمةٍ

كأغنيةٍ ملَّها العازفون

ومثل بصقةٍ أُطلِقها في الهواء

سأسمّيكم بأسمائكم واحدا فواحدا..

ذاكَ انّي .. ذاك انّي.. آهٍ .. شاخَ قلبي !

وأتعبني التفكرُ فيكم !

أيها ( …… ) الغارقونَ أبدا في الحمأ !

(……) ألأنّي آويتُ قبّرةً عمياءَ

في الهيكلِ المحرّم ؟

ولأني سألتُ عن سرِّ الظهورِ العوجاء

في هذهِ السُلالة

أسلمتموني للعسسِ

وفَقَأتُم عيوني ؟

(......)


المزمور الرابع

" مزمور ناقص "


(….…..)

(……..)

إذ يساقونَ للمسالخِ المهجورةِ

الى حيثُ تُنفخُ المناطيدُ

كُلٌّ بألفِ روحٍ وستينَ أغنيةٍ

يطلقها حكيمُ راكومَ وراعيها

رسائلَ توبيخٍ للآلهة

حينها سأحبُّكِ أكثر

وسأمسكُ بك قوياً

وأشدُّ روحَينا

بألفِ حبلٍ من أوردتي

الى الشجرةِ المقدَّسةِ العجوز

شجرةَ العذابِ والدمِ

شجرةَ الحـر ( ……)

سِلاه !


المزمور الخامس


إبكِ أو اضحكْ في راكوم

فلن تخرجَ من صدركَ

غير حشرجاتٍ واهنة.!

آه .. عبثا تريد !

فوجهك قد شوّهه طويلُ الخوفِ!

( ……… )

.. نساؤنا العقيمات ..

….ورجالُنا المخصيون..

(………)

(………)

نعم …. نعم..

خلفَ الأبوابِ الموصدات

وأمام المرآة.

نعم، في الهواء وبين طيات الثياب.

.. أمامَنا وخلفَنا

في كل مكان

(……….)

نخاف من صغارنا ( ….)

بعضَ هذياننا

وعليهم نخاف.

لا تكبروا يا صغار، لا تكبروا

فالفؤوسُ في انتظاركم!

رأسـي يتصدّعُ !!

ســِـلاه!


المزمور السادس

" الحوض "


عينِي على المجرّةِ التي

لم تصلْ بعدُ

الى واحةٍ وُعِدتْ بها

يوم أطلقها الربُّ

في وجه الزمكان

فبكتْ وتوسلتْ

كما توسلتْ اليَّ

الكراكي التي فاتها الموعدُ الأخيرُ

للِّحاقِ بنجمة حلّقتْ

وراء تخومِ الأبدية ..

بكَت المجرةُ ، والكراكي أعوَلتْ

وظللتُ صامداً

عائذاً بحبال الصمتِ القرمزية

كانت الفصولُ تتهاوى أمامَ ناظريَّ

كانت السنونُ تحلُّ حبوتها

تهرعُ وراءَ خطوي المتأني

وأنا أدورُ وأدورُ

حول الحوضِ المسموم

يكادُ الفضولُ يقتلني

كلما أبصرتُ في الماءِ صورةَ أبي

دائراً حول حوضٍ مسموم

يبصر فيه صورة أبيه

دائراً .. دائراً .. دائراً ..


المزمور السابع

"مزمور للفجر "


لماذا تأخر الفجر؟

هل ماتت "اورورا" حقا؟

قد أيقظونا للصلاةِ لكنهم

لم يشعلوا حطبَ المواقد

لأجل خبز الصباح.

الأبقارُ لم نسمع خوارها.

والجداءُ الجائعات،

لم ترفس بيبان زرائبها

(… ….)

آه ….نسـينا صوتَ الديك .!

(… …)

البردُ يقتلنا..!

ســــِــلاه !


المزمور الثامن



(…..)

القروياتُ الهزيلاتُ اللاءِ

يزحفْنَ الـى المقـابر

ليضـاجـِعْنَ الأشــباحَ

ويلــِدنَ صـغاراً

بوجوهٍ مكفهــرة،

وعــيونٍ حـزينـةٍ ..

كــعـيون شــيوخ دفنــوا أولادهــم

فـي أيــام القحــط والحــروب.

(…......)

وهذا فـمـي المـُدمــى

الـذي ضــربتهُ الـريحُ الشــرقيةُ ..

لــمّا يــزل يغــني.

غــير أنّ الدمـــوع تخــونني

ويعــروني الصــمتُ

حــين أتــذكــّـرُ قـيثــارتي

وأنظــرُ الـى أصـابعـي الماهرةِ

أصــابعي الحـاذقــاتِ الطوالِ

الــتي داســتها العجــلاتُ الحديــديـة.

سـِــلاه !


المزمور التاسع

" خارج الأسوار … في برية راكوم"


وأنتِ أيتهـا العقبـانُ الكـاسرة ..

ما الذي يمنعكِ من افتــراسي

وأنـا الوحـيدُ .. في هذا المدى الشاسعِ ..

من الطـينِ والدم ؟

أنـا الأعــزلُ .

أنـا السـائرُ في نومـي أبــدا.

أنـا الجـثّةُ / نصـفُ الجثــةِ المتــرنِّحــه.!


المزمور العاشر

"مزمور لصديقهِ القتيل"



(…..)

أعِدنــي الى بيتـي ..

قـد سئــمتُ الدم في الطـرقات

سِـــلاه ..


المزمور الحادي عشر

" مزمور للأصوات"



كفــى ، أصـيح كفـى ..

يا آبـاءَ الهياكـلِ المذهَّــبة.

فلتـوقفوا هـذا المســاء

صـلواتكم الصاخبــة.

دعـوني أنصــت

لصـوت المطــرِ الساقط ..

فوق الأسقف الحزينة


المزمور الثاني عشر

" لسيد العازفين على ذوات الأوتار، سراً ، لمحظية الملك"


أيتها العاهـرةُ الصغـيرةُ

يا ابنـةَ راكـوم الجائعة

أما غطّيتكِ بعباءتي

حـين ألقاكِ السكـارى تحت مصباحِ الطـريق

أما أطعمتكِ خـبزَ المعبد

ومن خمرهِ المقدسةِ أما سقيتك ؟

واشتريتُ منك خطاياكِ.. بدمي وصَلاتي ؟

لا تشمتي بي يا ابنتي

لا تشتميني

مقيّـداً كنتُ أنا

ساعة أخرجوكِ من بيتي

لترقصي عـاريةً

أمـام الملك !


المزمور الثالث عشر

"مزمور لرثاء راكوم"


آهٍ راكومَ صبايَ الأوّل

يا بستاناً لأقاحٍ ترقصُ للفجر ِ

وتغسلها حبّاتُ الطَلّ المسكونةُ بالسحرِ وبالألغاز

آهٍ راكوم الطاهرة العذراء الوهبت خمر أنوثتها

بحاراً لا تعرفه

ألقاها في أول ميناءٍ ومضى

آهٍ راكومي

يا سيدةً ترفل في أثواب اللؤلؤ والمخمل

يا أنبلَ خاطئةٍ في الدنيا

كيف تعريتِ وجعتِ وأنكركِ العشاق؟

آهٍ يا راكوم السفر الدائم

يا رائحةَ الخبز الساخن في أحياء الفقراء

كيف انكفأ التنّورُ وماتت أمي

وانطفأتْ في البيت الأضواء ؟

آهٍ راكوم المحبوبة

آهٍ راكوم المغلوبة

آهٍ يا أعظمَ غرفةِ إعدامٍٍ في الدنيا .. آه !


المزمور الرابع عشر

"مزمور للمصير"



عبثٌا تنأى بنا العربات الموَلْوِلَة

وعبثاً تقفل راجعة

عبثٌ هذي المسافات

هذي الأقاليم، هذي السهول الفسيحة والهضاب

عبثٌ هذي العقارب التي لا تكل

عبثٌ صحونا ونومنا عبث

عبثٌ سماع الأغاني

وهذي الثُمالات عبث

عبثٌ كلُّ القبلاتِ … والموتُ والميلادُ

عبثٌ أرائكُ اللذةِ

وأسِرَّةُ الترابِ الأبدية

عبثٌ… آهٍ عبثٌ مرير

لأني ما حظيتُ ساعةً بعناقك

أيتها العذراءُ المقصوصةُ القدمين

المحلِّقةُ أبداً

بعيداً عن سماءِ راكوم


المزمور الخامس عشر


" مزمور للغد"



بعد خمسينَ سنةٍ

سينقرضُ سعاةُ البريدِ

وأوراقُ الرسائلِ المعطَّرة

ودكاكينُ الخبزِ والخمرِ

بعد خمسينَ سنة

سيلقَّحُ أطفالُنا بأمرِ السيِّدِ الأبدي

ضدَ الحبِّ والشعرِ .. وحساسيةِ الورودِ اللعينة

بعد خمسين سنة

سنكبرُ خمسينَ حزناً

بعد خمسين سنة

سنغلقُ أبوابِ المدينةِ بخمسينَ قفلٍ إضافي

بعد خمسين سنة

من سيبقى من الشهود ؟

بعد خمسين ..

ســلاه !.. بعد خمسين !


المزمور السادس عشر

"مزمورٌ للحصـــاد"


حصــاداً مــريراً كان يا ابنتــي…

ذاك الذي انتظــرناه طـويلاً

تفحّــمَتِ البتَلاتُ والـسنابلُ والرئاتُ والفضاءاتُ والأحلامْ

إذ أثلجتِ الشمسُ رمادا

حين سطعت شمسُ إلــهِ راكــومَ الحجريةُ

وأقفلَ القمــرُ في زورقــهِ عائذاً بسماواتٍ أُخرْ

إذ أضاعَ المــاءُ فحولتَهُ

والأرضُ شبقَهــا

فقطفنا تفاحــاً أسودَ برائحــةِ الخيــانةِ

ولبنــاً دامياً

عسـلاً من صديدٍ

وعصافيرَ مجنـونةً

خمـوراً مـالحه

وأناجيـل مزيـفه

معجزات كاذبة

وأغنياتٍ مريبــةً

وفيـالــقَ من جــرادٍ محمــوم

وحــزناً ســرمداً ، ثـابتاً ، مضـــاعَفاً ، جلــيلاً ، راسخــاً ، أبديــاً

وعمــراً …ســلاه….عمراً قصــــــــيراً!


المزمور السابع عشر

"مزمور للأقدام"



وقلت سأنشد هذا النشيد لقدميكِ العاريتين

قدميك اللتين أضاعتا الطريقَ الى بوابةِ السور العظيم

وشرَدَتا الى حقول الرب

قدميك / الطفلتين الراكضتين وراء الغيوم

الخائضتينِ في جداول البُكورة

اللذيذتينِ كقُبُلاتٍ مستَرَقة

المغسولتينِ بالطين والتعب

النحيلتينِ كظلّ عجوزٍ بوذي

الشاحبتينِ كفجرٍ صيفي

العابثتينِ كموجةٍ طائشة

الحكيمتينِ كقطرة ماء

الساخنتينِ كدموع ندامةٍ

الخَرقاوَينِ كخَطِّ عاشقٍ يافعٍ

المفضوحتينِ كأسرارِ شاعر

ورفعتُ صوتي في قبوي

فقالَ الحراسُ قد جُنَّ

فرفعتُ صوتي من جديد

وأنا أسمعُ رنينَ قيودي الصدئة

وقلت سأهلّلُ لهما

لقدميكِ المحلقتين

"لأنهما تسخران أبدا

من كلِّ معدِنٍ آفل"


المزمور الثامن عشر

"مزمور لطفلة"



للطفلةِ التي لم تأتِ بعدُ

سأشعلُ شمعةً .. شمعتين

وسأحرق البخورَ

وأنثر ماءَ الورد

للطفلة التي .. لن أراها..

سأرقصُ حتى الصباح

وسأشربُ ألفَ نخبٍ

لصغيرتي .. الطالعةِ من المقابر الشاسعة

لابنتي .. لابنة أخي .. وأبي .. ومعلمي الذي ما عُدتُ أذكرُهُ

سأُغنّي .. في يومها الذي أنتظر

وسأبكي ..

لأنني .. لن أراها..


المزمور التاسع عشر

"مزمور لها "



أيتها المجنونةُ الحكيمةُ العاهرة المقدسة

لَكَمْ مرَّ تحت شباكك من شاعر

فلفظتِهِ كحبّةِ توت فاسدة

وجلستِ هناك ..

عند شباكك المشرَع

تنتظرين ..

آه .. تنتظرين .. تنتظرين …


المزمور العشرون

" مزمور للضجر"



كصورةِ قديسٍ ضامر

في أيقونةٍ تَرِِبة

تلفُّ رأسي ..

هالةٌ من ضجر

وترسلُ ذؤاباتها

أزواجا أزواجا

لتقمِّطَ جسدي المتهالك.

كهُلامٍٍ مُنتِنٍ من دمٍٍ وطين

تكنسه ليلا

بعيدا عن أفنية المسالخ

آنسات شمطاوات

ينفثن من صدورٍ آيلاتٍ للرحيل

دخانا برتقاليا

يعجُّ بالخفافيش

والرؤى التي لن تكون

كنطفةِ تيسٍ عقيم

كمشرطٍ صدئ

كلغةٍ خاثرة

كنومِ سلطانٍ مغتصب

كغَداةِ موتِ أم

كعَرَقِ زوجةٍ خائنة

كجوربِ جنديٍ قتيل

كهذا الخواء .. الخواء .. الخواء,..

تلفّ رأسي ..

ســلاه ..

تلف رأسي

هالةٌ من ضجر.


المزمور الحادي والعشرون

"الى قيودي"



ويا قيودي الباردة البلهاء

ما كنت يوما جميلة

ولن تكوني …

ســلاه


المزمور الثاني والعشرون

" مزمور للطريق "


وبعد أربعين يوما مضاعفا

سأحسُّ بالتعب

وسأجلسُ عند البركة السرية

وأغمرُ رأسي طويلا

في مائها الفضّيِ الصامت

وأصطلي بالنار التي أوقدَتها لأجلي

راعيتي المقدسةُ العمياء

وأسرِّحُ ناظري …. في الطريقِ الذي يرتمي تحت أقدامي

مثل أفعوانٍ غافٍ

الطريق الغارق في ضباب الوديان

الذي قدمْتُ منه

ثم أسرّح ناظري في الأعالي

في الطريق الذي إليه أمضي

الطريق الأزرق الذي يتلوّى

غارقا في غمام الجبال


المزمور الثالث والعشرون

"مزمور للقبيلة"



وها أنا أحاول منذ اليوم السابع

أن أفتح تويجات وردة عنيدة

لأنام فيها أو أموت

ها أنا أزداد نفورا

حتى لتضيع ما بيننا اللغة

احلق بأجنحة السذاجة الواهيات

وتحفرين أنفاقك

بمخالب من حديد السلطان

كل صباح أبادل كيساً من دمي

بكتاب جديد أتهجى فيه

حروفاً دافئة ناصعة

وتفتحين مغمضة العينين كتابا وحيدا

عطّنتْهُ رطوبةُ القرون

كل مساء أفتح شبابيكي للشمس

وأبحث عما وراءها من نجوم

وتستفيئين بخيوط لزجة

تقيؤها عناكب بضّة

تحلم بالطيران

فيصيبها الدوار

أنكفئ وأقوم ، وتقومين لتنكفئي

قسمةٌ لكلينا .. عوجاء للأبد :

لكِ السيف ولي السعال

لكِ الصولجان ولي ورد الجعفري

لك اليوم والأمس والغد

ولي .. ليس لي !

…..

وكمثل دقات ساعة خفية

يطاردني التمزق

بين الجهر والكتمان

وأحمل مثل سوط مُدمى

نسبي المزدرى العتيد

وأضيع بين أشباح

أبكي لها ومنها

….

قسمة لكلينا

أن يظل هناك

راقداً أبداً تحت نخلة عوجاء

شهيدٌ قبل الأخير !


المزمور الرابع والعشرون

"مزمور في ذكرى الحريق"



يوم أخبرِتكم النبوءةُ أن راكوم ستحترق

كان الطريقُ الخارج منها يعجُّ بالعربات

أما أنا فكنت وحدي

أسير في الطريق اليها

لأسقي زيتونتي

آه ٍ..

لم يبقَ في راكوم من طفلٍ سواي

أنا العجوز الأعمى !


المزمور الخامس والعشرون

"للقادمين"



سأموت ظمآناً بالتأكيد

وسيهمي بعدي مطرٌ كثير

فهنيئاً لكم هنيئا

أيها الراقدون في أرحام الآتيات

أيها الغاذون من مشائم الغد

أيها الراضعون من ثدي الحر (….)

لا أريد أن تذكروني

فما ذلك بنافعي

لكنني أصلي

كي لا تعيدوا التجربة :

كل هذا الدم !

كل هذا الدم !


المزمور السادس والعشرون

"مزمور للخراب"



يا إلهي ..

أهذا إذن ...

كلُّ ما تبقى ؟!

فهرست

الى دفتري

امرؤ القيس

مَن

أخبرني العراف

المحجر الأبدي

الهاتف

حكاية

رؤيا

الشاعر

شذوذ

ليس حزنا

مدينة الذباب

سفير الجنون

نعم

أوراق من كتاب تدبير المحبين

من مزامير راكوم الدهماء


الدكتور ماجد الحيدر

e-mail: majidalhydar@yahoo.com



المكتبة الوطنية ( الفهرسة أثناء النشر)

رقم الايداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

(113) لسنة 2002

طبع بموجب موافقة وزارة الإعلام 74

في 27 / 1 / 2002

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية