في ظل ليمونة

مجموعة قصصية مشتركة

أعدها وقدم لها

د. ماجد الحيدر


المساهمون في هذه المجموعة

1- سليمان البكري

2- أوميد ماجد

3- جاسم عطا

4- حسن مهدي

5- شيماء نوري

6- عباس كربول حسين

7- عمران الغانم

8- د. ماجد الحيدر

9- مهند الشهرباني


مقدمة

الناس .. المدينة .. الحكاية

هذه إضمامة صغيرة من القصص يجمعها شيء واحد مؤكد : المدينة !

والمدينة التي أتحدث عنها هي المقدادية .. أو كما يسميها أهلها منذ قرون وقرون: شهربان !. المدينة / الجزيرة الغافية في أحضان الليمون والوداعة .

أنها أول ما يلاقيك من مدن الوطن وأنت تهبط من جبال حمرين وتجتاز البحيرة المتقلبة الأبعاد المسماة باسمها .. فهي شمال أهل الجنوب وجنوب أهل الشمال !

وأهل هذه المدينة يحبون مدينتهم بشكل غريب ويتعصبون لها ، يبكون لها حنينا وهم في مرافئ الغربة وشطآن السفر وكأنهم مشدودون اليها أبدا بألف حبل سري. من هذه المدينة قدم كتاب هذه القصص .. بعضهم تحدر منها منذ أجيال لا يذكرها وبعضهم تشبث بها كدوالي الكروم واختارها بيتا وظلا ومصيرا.

وإذا كانت بساتين النخيل العامرة ورائحة القداح التي تتخلل الهواء أول ما يفاجئ الزائر الجديد لهذه المدينة / القرية أو القرية / المدينة فإن من يعش فيها زمنا سيعرف الكثير من طباع أهلها وطقوسهم في الموت والحياة ، في الحب والمقت ، في الغضب ، والحزن ، والفرح ، والشقاء ، والسعادة ..

ومن بين تلك السمات المميزة ، التي سرعان ما يكتشفها المثقف القادم الى هذه المدينة حب أهلها للثقافة عموما ، وللأدب خصوصا .. فكثيرا ما يفاجئك إنسان متعب ، كهل منحن أو فتاة في عمر الزهور ، برأي تستشف منه حسن الاطلاع ، أو أبيات من الشعر يريك إياها على استحياء ، تنم عن الذوق ورهافة الحس . بل إن السرور ليغمرك وأنت تراقب مواقف السيارات وهي تعج بالعشرات ، إن لم يكن بالمئات من الطلبة والطالبات وهم يشدون الرحال كل يوم الى جامعاتهم ومعاهدهم ، في العاصمة أو مركز المحافظة . ومن بينهم العشرات من الذين تجاوزوا سني الدراسة التقليدية دون أن يمنعهم ذلك من المتابعة والاستمرار.

…. …..

من مقهى صغير ترتاده كل مساء مجموعة من عشاق الأدب والفكر ، ومن بين ركام الأحلام والمشاريع المؤجلة يوما بعد يوم ، وفي هذا الزمن المر: زمن التعب والقلق ، خرجت الى الوجود فكرة هذا الكتاب الجماعي : نافذة نطل منها على العالم الفسيح ، وأغنية حميمة نهمس بها .. تحت ظل ليمونة عاشقة .

كتاب هذه المجموعة جميعهم من الشباب ، رغم أن أعمارهم تتراوح بين الثامنة عشرة والستين ! منهم من أمضى عقودا من العطاء الأدبي الثر حتى غدا وجها ثقافيا معروفا على صعيد العراق والوطن العربي مثل أستاذنا الحبيب سليمان البكري ، ومنهم من يخطو خطوته الواثقة الأولى في هذا الطريق المحفوف باللذة والتعب مثل القاص اليافع أوميد ماجد . غير أن القاسم المشترك لهم جميعا هو هذا الالتزام الواعي بقضايا الناس وهمومهم وآمالهم .

….. ……

أنهم جميعا يحاولون أن يقولوا شيئا جديدا .. فلنستمع اليهم …!

د. ماجد الحيدر·


سليمان البكري

· ولد عام 1937

· مارس كتابة القصة والرواية والنقد الأدبي

منذ الستينات.

· نشر العشرات من الدراسات والمقالات النقدية .

· عضو مؤسس لاتحاد الأدباء / فرع ديالى ورئيس الدورتين الأولى والثانية.

· أصدر في بداية عام 1968 عددين من مجلة " القصة " التي أوقفت عن الصدور.

· شارك في العشرات من الأمسيات والندوات والمؤتمرات وحلقات البحث النقدية.

· كان له وما يزال فضل رعاية الكثير من الأسماء الجديدة في الساحة الأدبية العراقية.

· من كتبه المطبوعة :

1- مدار الأشياء المرفوضة ( رواية ) 1970

2- عبد الرحمن مجيد الربيعي وتجديد القصة العراقية ( دراسة نقدية ) الطبعة الأولى 1972 / الطبعة الثانية 1984

3- أدب الرفض الأمريكي ( دراسات نقدية ) 1996

4- التجديد في القصة العراقية ( دراسات نقدية ) 2000

إذا ذكرت الثقافة أو الأدب أمام أحد من أبناء هذه المدينة فسوف تقفز الى ذهنه على الفور صور معدودة لن تكون صورة البكري إلا واحدة من أوائلها ..

وسليمان البكري ، شيخ الأدباء الشباب والناقد الأصيل الذي رفع رأس هذه المدينة في كل مكان تقرأ فيه العربية .. هذا الرجل ( ولربما يتفاجأ البعض ) بدأ حياته الأدبية الحافلة قاصا وروائيا محسوبا في جيل الستينيين ، الجيل الذي شكل انعطافة بارزة في تاريخ الأدب العراقي الحديث .

وهو يسرق نفسه من زحام العمل النقدي المتواصل ليعود بين وقت وآخر الى شاطئه الأول : القصة ليقدم من خلالها نماذجه الإنسانية بما عهدناه فيه من شفافية وطيبة.

هنا نقدم صديقنا الكبير في ثلاث قصص قصيرة كتبت في أوقات متفاوتة ، اثنتان منها ما زالتا قابعتين في ملف ينتظر النشر منذ سنين وسنين : مجموعة قصصية أسماها : أحبكَ .. أحبكِ ..!


ظلال الحب

سليمان البكري

تلامس أصابعه بحنان أغلفة الكتب التي استعارتها منه ، يتصفح أوراقها بنعومة ورقّة بالغتين ، ثمة هاجس يجسد رغبته المكبوتة في اقتناص لحظة حب طبعت بصماتها على "الحب في زمن الكوليرا " و " الدون الهادئ " . صدى أعماقه يردد أن أصابعها البيضاء الجميلة تركت آثارها على أوراق هذه الكتب ، فتنزلق أصابعه معانقة أصابعها في لحظات بوح صامت ومشاعر قراءة مشتركة تنغمر في عمق الموقف الإنساني الذي عاشه أبطال الروايتين.

ينظر في كتاب " ماركيز " . يرى " فيرمينادا " و " فلورينثيو أريثو " عجوزين تجاوزا زمن الشيخوخة وأبحرا يمارسان طقوس حبهما العظيم الذي ظللهما تحت أفيائه وفي شراعه الأبيض المسافر في نهر الشمال رافعين قلوع سفينتهما مبحرين في زمن الحب الذي جمعهما بعد أعوام الحرمان المريرة .

يعيد قراءة المقاطع التي أعجبتها وصدى الماضي ينقل إليه صوتها العذب وكركرات براءتها الطفولية وهي تهاتفه في صباحات شتائية باردة . كانت موجات صوتها الدافئة تذيب صقيع أيامه وتجدد إحساسه بالحياة والإقبال عليها.

ذاكرته الموشومة بصورتها وأذنه التي تحفظ نغمات صوتها وحبها الذي أوقد النيران في أعماقه يوم جاءت نقلا الى دائرته التي يعمل فيها ورأسه الطافح بالبحث عنها يوم كان يسمع من صديق طفولته حكايتها ويحدثه عن روعتها وذوقها وتأثيرها في الآخرين . كان يرتعش لدى سماع أخبارها وذكر اسمها ، وحين التقيا في درب الحب في الشارع المزدحم بالعشاق وتساقط الأقمار الورقية في ثنايا عصر التكنلوجيا والكومبيوتر كان طفلا يوجعه الظمأ لشفاهها ، وجفاف مائه من بوابات نهره المغلقة منذ أعوام يدفعه لامتصاص رحيق كلماتها . وقال لها:

- " كنت أبحث عنك في كل الوجوه ، وصديق طفولتي ينقل لي أخبارك دون أن يدري. أراك تلك الصبية الغضة تجلسين أمام داركم التي تحاذي النهر . حين كنا نمر من أمامك ونرى ظلالك تنعكس في الماء تشكل لوحة فنية رائعة ، كنت أقول لصديقي:

- " أنظر الى هذه الصبية . إنها حورية الماء تخرج يوميا من الموج في هذه الساعة لكي ترانا ونحن ذاهبان نمارس طقوس السباحة في النهر "

والتقينا ، ذكرتك بأيام صباك ، ابتسمت بحنان وصوتك يكركر عذبا ينقل لي أحلى جملة سمعتها منك.

- " لو حاولت اختطافي ذلك اليوم لما امتنعت لحظة "

لقاؤهما حدث في "زمن الكوليرا" ، حيث يأتي الحب دائما في غير أوانه . لكنهما استسلما لدفقه وطوفان مشاعره وعاشاه في موجات أصواتهما الصباحية عبر الهاتف وقصائدهما وفيض رسائلهما . وكان يردد أمامها دائما قولا أعجبه سمعه في مسلسل تلفزيوني: " إتبع نداء قلبك دائما ، فهو نداء الحب " . تبعها وتبعته واسمعها أحلى القصائد وأرق الكلمات : (وجهك استفاق به الفجر عصفورة خضراء قبلها الندى وزاحمها في أغنيات الصباح حزني الأبدي . صوتك نغم يلون مسامعي بالرجفات . ها أنذا منشد اليك بالحب . في هوس اللحظات الهاربة من زمني والآتية اليك تهتف باسمك وتعلن عن هوى انتظاري لسماع صوتك ) .

لكن طوفان المدى ورداءة الزمن ألقيا بهما على شواطئ متباعدة من الحيرة والتشتت، وظلا متمسكين بالأمل .. واحة المتعبين في الأرض .

الحب . المنفى

الى الصديق عبد الرحمن

سليمان البكري

- 1 -

كم معركة دارت رحاها فوق جبينك وآثار سنابك الخيل ملأت عينيك بغبار المعارك وصليل السيوف له هدير في مسمعك . ولما انجلى الغبار كنت وحيدة . تركوك في حيرة ومتاهة . وكان على الأرض فارس مغلوب نظرت اليه منكسرة، زحفت اليه أسقيته ماءً . تعلقتما ببعض وعبرتما الميدان فأصبحت السيدة حرمه.

يكوم بدانته فوق فراشك كل ليلة يجرر خلفه الهزيمة وتعب الشيخوخة والأيام القديمة ، وأنت تلهثين كل مساء لم ترتوي يوما وظللت أنثى غير مروضة عذراء تبحث عن عطر الرجولة .

- 2 -

نزل أرضك رجل الزمن في ليلة كانت زرقة السماء تتجمع في ضوء مصباح ليلي يملأ فضاء الغرفة ويشيع جو الحب ممتزجا بضوع عطرك يهيم في ثنايا الروح معانقا لحظات الاحتدام الملتهبة في الأوردة والشرايين.

تلك الليلة امتدت أصابعك مرتجفة تلامس كفه بوجل ، لكنه بسط يده الكبيرة اليك بثقة فبانت عروقها الزرقاء متوترة. ظل يحدق في وجهك طوال الليل وأنت نائمة يقرأ ملامحك ويعبر حدود أيامه . سار معك في دروب الحياة وسلك من أجلك هجيرة الشوارع ليصل اليك . ونساء غيرك حاولن سرقته لكنهن لم يفلحن . ترك أحلامه عندك وحين غدرت به الأيام تخليت عنه . تلقفته أخرى ، نجا من الغدر وكان فارسك المهزوم يغرس شيخوخته في أيامك ولم يكن باستطاعتك هجرانه .

- 3 –

في سيارة قديمة خط عليها سائقها لافتة رديئة ( الحسود لا يسود ) سلك بها طريق الجنوب وهناك في الأهوار قضى زمنا صعبا ، افترش البردي ونام في الزوارق تحاصره الغربة ويقضّه شظف الحياة وأمراض تلامذته المزمنة.

- 4 –

إجتزت حدود مدينتك وطفت في شوارع وأسواق مدن بعيدة تصبغين شعرك بالأشقر وتلبسين " الجينز " والقمصان المزكرشة موضة الموسم . يراقصك رجال أنيقون ، أما هو فكان بعيدا في أرض الجنوب يقرأ أشعارك على ضوء مصباح نفطي وسط ليل الأهوار المعتم وأسراب البعوض تجتاح الأكواخ الفقيرة.

- 5 –

ارجعي الى الماضي يوم كنت تنصبين له شركا ، كان يبتعد عنك وأنت تحومين حوله كما الفراشة الصغيرة تحوم على النور حتى انهارت مقاومته وفقد كل أسلحته فدخلت كالفاتحة المنتصرة جسده ونفذت الى شرايينه وأوردته . عاش معك أعواما ظمأى بين مد وجزر سلبت فيها أيامه ولياليه . وكنت معه تهرمين دون مقاومة حتى رحلت الى أرضك القديمة وقلت : " وداعا "

لن تدحري رجل زمنك . ألف زورق في الشاطئ يوصله الى جزر الحب . لكن وجهك وحده ( عقاب الأيام الذي لا يبرأ منه ) عندما تصفعه نظراتك المغلفة يندحر ويشحب مثل مقاتل نزف دمه على أرض المعركة . لن ينتهي ، ولن يمضي عنك . يعرف أنك تحملين ايجابية الماضي وحبه معشش في ربوعك التي ارتضت الهزيمة.

-6 –

تفلسفين الموقف ، وترددين أقوالا جميلة: " نحن نحب .. إذن نحن موجودون " . ونترحم على " سارتر " وتهربين من المواجهة . حوار طويل وجلسات مستوفزة دون جدوى . يغادرك ، يعبر سور البيت في ساحة الثيل المستطيل تحيطه زهور الرازقي ، يقف عند الباب الخارجي ينظر اليك ترفعين يدك مودعة ويذهب الى الضجيج حيث هجير الشوارع وصخب الأيام . يتسكع دون جدوى ويدخل مقاهي قديمة يتذكر فيها عبق الماضي وأعوام المنفى في الجنوب.

- 7 –

- " أَرتضي بحلم البيت ، أخشى المغامرة "

قالتها مهدمة منكسرة دون أن تنظر في وجهه . طال بها النواح وحملت جسدها الى غرفتها وعاد الى مدينته البعيدة يدخن ويثمل وألسنة النار في أعماقه تعانق دخانا أزرق . وكانت في سجنها تهرم تعاني الخذلان والهزيمة.

- 8 –

ظل اسمها أغنية يرددها دون ملل ، فقد كانت حب العمر كله . يعتريه الجفاف وليس من رواء إلا عندها . يحمل معاناته بعيدا في ربوعه اليابسة . غريب يجمع أنقاضه رضع اللبن في واحتها فذاق لذة الحياة لكنها تخلت عنه منهارة أمام حلم البيت والزواج الثري وتركته للموت البطيء . لم يرتو من رضاب الينبوع وظل فمه يطبق على زجاج بارد وتمضي أيامه كسلحفاة تستحم بالوقت.

يداه مبسوطتان . هكذا يصلب جسده بعيدا عن أرضها يختلس الكلمات يحفظ قصائدها وأشعارها في الصحف ويعرف أنها تناجيه وتضطهد نفسها . يترقب ظلها في معنى القصائد ويسمع صوتها في أذيال الصدى لعلها تنبثق بين قامات الأجسام المزدحمة في نظرات العيون وفي خوارق الزمن وعند تزاحم الوجوه ما زال وجه غير وجهها يجتاز المسافة.

ينتظرها بجلد ، ينسج وقت غيابها دقائق أمل طويلة تنغرس في وحدة الطريق . هكذا يتقلص وجوده وينهمر عندها في المدينة الخضراء المسورة بالحب الذي يستلب كينونة الإنسان في أرق البحث عن العشق وانهمار العواطف في المنفى البعيد وأغاني المحبين . هكذا كان " أورفيوس " حين يغني وحين يكون الغناء ، يروح ويجيء من منفى الى منفى ، يتقمص زهرة يوما ، يومين ، ثلاثة ، أكثر.

" آه ، كم عليه أن يزول لو تعرفين

حتى ولو كان الزوال يخيفه

فهو هناك حيث لا تقدرين

أن ترافقيه "


غضب

سليمان البكري

الأوساخ ترمي ثقلها داخل الحاوية والروائح النتنة تصعد مبكرة الى فضاءات الرصيف وسط حركة المارة ، فلتلعن صباحك أيها الرجل وتأخذ في الدوران حول نفسك بعيدا عن الحاوية المدخنة بعفونتها الشبيهة بلحم الكلاب الميتة. هو ذا العفن السائل يفقدك الذاكرة ، وحاوية الأوساخ لا تبعد عن باب المستشفى سوى خطوات. ترقص في داخلها حشرات سكرى عند البوابات الرطبة التي تعلن عن احتفالية يومية جوار البناية البيضاء ذات الهلال الأحمر.

عن أي وضع إنساني تحدث نفسك وأنت ترى الخزان الحديدي مملوءاً بالقناني الفارغة وقطع القماش القذرة الملطخة بالدم تختلط ببقايا الطعام والأنابيب المطاطية المتهرئة من جراء الضيافة طويلة الأمد وتفيض من الجوانب المفتوحة مسافة أمتار يرتفع الخليط السميك من العفن فينحدر الى الشارع حيث تمر السيارات ويسير الناس . تنظر أمامك في الشارع المحاذي للمستشفى ، يطالعك مبنى مدرسة عريقة مطلية جدرانها بزنابق الحلم وضوء المستقبل وعبق التاريخ وسط فضاء كبير تنتشر فيه أشجار الأثل والنخيل الذي اختنق بأكشاك البقالين التي تناسلت على مسافة مترين من سياج المدرسة فأغلقت منافذ الهواء والضوء على امتداد ضلعها الشرقي . كل شيء في داخلك انتهى الى لا شيء ومطهرات المستشفى تفقد تأثيرها داخل الحاوية وفي ريح الفضاء المملوء بالعفونة الذي تراه أمامك . يخبرك مراقب البلدية بأسف وحسرة ، بعد مجيء الليل تغلق مملكة البقالين أبوابها تزحف القاذورات ويسيل عصير الخضراوات الفاسدة في المسافة المحصورة بين سياج المدرسة ومؤخرات الأكشاك ، تتحرك ببطء ، تعبر الشارع ، وعند منتصف الليل تصل الى حاوية المستشفى ، تدخل رأسها من الفتحة الضيقة ملقية التحية (مساء العفونة يا قمامة المستشفى !) تتمخض الحاوية عن همهمة غير مسموعة تنم عن الخوف والذعر ( إصمتي يا قمامة البقالة ، إن أحدهم سكران يتبول ) .. فأين تخبئ غضبك أيها الرجل ؟


مهند خزعل الشهرباني

· ولد عام 1965 – المقدادية

· نشر عددا من القصص القصيرة في الصحف

· والمجلات العراقية والعربية

· ساهم – قاصا - في عدد من الأمسيات الأدبية

· له اهتمامات جادة في متابعة الفن السينمائي.

مهند الشهرباني ماكنة رهيبة للقراءة ! أذكر كم من المرات خرج من بيتي حاملا رزمة ثقيلة من الكتب المستعارة ليعيدها بعد أيام قلائل وهو يردد ضاحكا : "هاك ! .. خلصتها .. أريد بعد ! " ولا ينسى أن يدلي ببضع ملاحظات تنم عن تمثله وفهمه الجيد لما قرأ .

إنه يقرأ تحت كل الظروف وفي كل الأماكن . لكنه لا يكتب الكثير ، أو قل أنه يتردد مرات ومرات قبل أن يقدم على نشر شيء جديد . فهو يشعر – ومعه الحق – أن استسهال النشر يمثل استخفافا بذوق القارئ وبسمعة الكاتب في آن واحد . قصصه الثلاث المنشورة ها هنا تدور حول محاور ثلاثة : الحب .. الحلم ( الوهم ) … الانتظار . وهو يلجأ الى تقنيات متنوعة بدءً من الاستفادة من الحكاية الشعبية الى التغريب الى التداعي والحوار الذاتي .


في انتظار ما لا يأتي

مهند الشهرباني

استقبلتني عربة "درويش" الزبال بجعجعتها وأنا أفتح الباب الخارجي وكان يغني بصوت يحاكي صرير عجلات عربته :

-" هَم هاي دنيه وتنكضي وحساب أكو ابتاليهه !"

ترحمت على الكرخي وحسدته . فأن يحفظ شخص مثل "درويش" الزبال حِكَمه وأشعاره هو ضرب من الخلود، إن لم يكن الخلود نفسه.

صعدت سيارة الأجرة وأنا أتحاشى نتوءً هنا ولطخة زيتٍ هناك حتى وصلت مقعدي .. الوجوه المكسوة ببلاط المقابر تحيط بي ، وثمة فتاة يلوح من مؤخرة رأسها أنها جميلة تجلس أمامي. تحركت السيارة بصوت مقزز فرفع أحدهم صوته وهو يكمل حديثاً بدأه مع صاحبه:

- "سأذهب الى العاصمة .. هكذا اخبروني . لعلي أجد حلا لهذه المشكلة."

- " هل تعرف أحداً هناك ؟ "

- " لا يهم ، المهم أن أصل ثم يتكفل أولاد الحلال بالباقي "

وصلنا الى موقف السيارات وهبط الجميع . وتأكدت من أن الفتاة التي كانت تجلس أمامي جميلة فعلاً ، نفضت عن رأسي فكرة الاهتمام بها ومضيت الى وجهتي وهي سيارات العاصمة حيث مقر عملي.

حين صعدت الى السيارة كان الشخصان اللذان تحدثا في السيارة الأولى قد انفصلا. عرفت هذا لأن الرجل الذي كان يبحث عن حل لمشكلته يعيد نفس الكلام عن أولاد الحلال والعاصمة التي تحل المشاكل. كنت محاصراً بالأفكار المحبطة والمخيبة للآمال كقصة حبي التعسة والحَرّ الذي لا يطاق، ومصباح الزيت الذي كاد أن يحرقني في غرفتي في ليلة البارحة التي قضيت نصفها أطرد البعوض ونصفها الآخر أحرك المروحة اليدوية أمام وجهي.. كل تلك الأفكار كانت تجول برأسي دون رابط والسيارة تكمل مشاهد هذا الفيلم الكئيب بصوت محركها الذي يطلب الغوث بصراخ متواصل وهي تقطع الطريق ، عاد صوت الرجل عالياً وهو يؤكد أن مشكلته ليست صعبة وكل ما فيها أن هناك من يعرقلها .

- "يا أخي إن ولدي يريد أن يتزوج والمؤجر الذي يستأجر بيتي لا يريد أن يتركه، وهو فوق هذا يتصرف كأن البيت بيت أبيه فهو يؤجر غرفه لمن يشاء ويعطيني الإيجار وقتما يشاء وكأنه يمنحني مكرمة. إن له أيضاً زوجةً سيئة السمعة . ألا تكفي كل تلك الأسباب لكي يترك البيت ؟!"

- "وما رأي القانون ؟"

- "هناك من يستفيد من هذا الأمر وهو يساعده على التسويف".

- "القانون هو العلاقات الشخصية ، وهذا يجعله صاحب حق".

فجأة ارتفع صوت آخر جذب سمعي وقد كان شيخاً كبيراً يقول لجاره:

- "إنها قصة قديمة لا أدري لماذا تذكرتها الآن !"

- "لا يهم السبب ، المهم أن نفضي ما تبقى من الطريق في سماعها"

- "يقال بأنه في سالف الأيام وفي إحدى القرى النائية كان هناك رجل يكفي الناس مشقة التفكير بأوقات الصلاة وأيام رمضان ومواعيد الأعياد ، وهو رجل ثقة سلّم الناس اليه مقاليد دينهم. وكان هذا الرجل حريصا على أداء عمله كل الحرص فمن عاداته عندما يأتي رمضان أن يضع في جيبه ثلاثين حبة زبيب يأكل واحدة منها كل يوم لكي يعرف موعد العيد."

كان واضحا أن جميع الركاب يستمعون الى الحكاية لأن الأصوات قد انقطعت وحتى محرك السيارة اللعين كان يشارك الآخرين الاستماع لأنه خفض من شكواه ..

- " .. وفي إحدى السنين وكعادته في رمضان أخبرهم الرجل أن الغد هو الأول منه. وصام الناس في اليوم التالي ووضع هو حبات الزبيب الثلاثين في جيبه. وبعد بضعة أيام انتبهت زوجته لجيبه فحدثت نفسها بأن زوجها يحب الزبيب، وقررت أن تسعده بحفنةٍ منه ، وهكذا فعلت .."

- " ألا تعرف تلك الزوجة عاداته ؟ "

( اللعنة ! سأصل الى مكان نزولي قبل أن يتم الشيخ الحكاية !)

- " يبدو أنه قد تزوج حديثاً أو أنها نسيت أو أي شيء آخر ، فليس هذا مربط الفرس "

- "أين إذن مربطه؟ "

( ألا يكف هذا المهذار عن المقاطعة حتى تنتهي هذه القصة التي شدتني اليها ؟!)

- " مربطه يا سيدي أن هذا الرجل ظل يأكل في كل يوم حبة زبيب ولكن الزبيب لم يكن ينقص بل انه في زيادة مستمرة ، أما الناس فإنهم استكثروا أيام الشهر الكريم وأخذوا يسألونه "أليس من عيدٍ بعد رمضاننا هذا؟" فيجيبهم " بل لعله قريب!" "

هنا وصلت الى مكان نزولي فلعنت السيارة التي أوصلتني هذه المرة بهذه السرعة. أوقفت السيارة ونزلت وأذني مشدودة لصوت الرجل الذي استمر في سرده :-

-" وهكذا …."

لكن السيارة تحركت وضاع صوت الرجل ومضيت أنا سائراً الى مقر عملي مفكراً في القصة ونهايتها ثم أمر صاحب البيت ومؤجره ، ثم نسيت الأمرين معاً وأنا أمر من أمام كافتيريا كانت تضم لقاءاتنا القريبة أنا وحبيبتي التي تزوجت بيتاً وسيارةً فارهة. وحين وصلت مقر عملي سلمت على العم حمزة فراش الدائرة وطلبت قدحاً من الشاي أحارب به نعاسي. جلست الى مكتبي أوليه ظهري مواجهاً نافذة الغرفة التي غطيت بجريدة قديمة. قرأت العناوين التي تطالعني كل يوم منذ أن الصقت الجريدة وكأن الزمن في هذا المكان لا يتقدم فالأخبار هي نفسها في كل يوم وكأن حبات الزبيب لا تريد أن تنتهي !. جاء العم حمزة ووضع الشاي أمامي. طالعتني يده المعروقة فتسلقتها نظراتي حتى وصلت الى وجهه الذي احتلته تجاعيد الزمن المتعب المكرر، سألني إن كنت أريد شيئاً آخر فأجبته بالنفي ولكن قبل أن يخرج تذكرت الحكاية التي لم أكملها في السيارة فناديته وقلت له :

- " عمّ حمزه ، هل تعرف قصة الزبيب؟ "

- أي زبيب ؟"

- لا بد أنك سمعت قصة إمام الجامع الذي يحسب أيام رمضان بالزبيب "

- نعم ، نعم ، ما بها؟ "

- لا أعرف نهايتها فقد سمعت نصفها .. قل لي ماذا فعل الناس بعد أن طال انتظارهم ؟"

قال العم حمزة ضاحكاً :

- " ذهب الناس اليه يسألونه عن الخبر فوقف عاجزاً ثم فتح الله عليه فقال لهم " ربما لا عيدَ في هذه السنة ! ""


في انتظار الرصاصة

مهند الشهرباني

أيتها القشة التي قصمت ظهر البعير.. لا فخر لك !. أيتها الضربة الواحدة بعد المائة.. ليس أنت من أجهز على أنين الصخرة!. يا عقل الفتى لم تجهز عليك الحبيبة التي خانت ولا الأخت التي هربت ولا الصديق الذي غدر.

طريقك المرسوم بين الجامع والمدرسة مروراً بمحكمة المدينة ساعدك على تغييب العقل. ونظرات الازدراء والرثاء أمكنك التعود عليها وصارت بالنسبة إليك كسيقان العابرات، تمنحك اللذة. والعقل المغيب يساعدك على سماع ما لا يُسمع ومشاهدة ما لا يُسمح برؤياه. وعبارات الاستصغار صارت تعينك على الدخول الى أماكن الخطر دون خوف. يا لهذا العقل ! يا لجواز المرور الساحر !

في أيام صباك كان طريق التيه الذي يسيّر خطواتك الآن طريقاً مزروعاً بالحب والرهبة والإيمان ، الحب للعلم والرهبة أمام سلطان العدل والإيمان بخالق العلم والعدل وليس كما هو الان، إنه طريق مستقيم .. مستقيم .. الويل لكل قشة تقصم ظهور الأباعر !.. الويل من ضربات المطرقة التي تجعل الصخرة مكتومة الصرخة ليس من خيانة الحبيبة وليس من فرار الأخت ولا من .. ولا من.

" يا أصحاب النيات الحسنة لا أبغي إحسانكم لو تعلمون ، إنها كلمة واحدة .. قولوا إنه كابوس هذا الذي أسبح فيه بكل التفاصيل"

أيها الفتى المجبول من طينة لينة.. لماذا لم تحاول من أنجبتك أن تخلط طينك ببعض المياه الآسنة ؟! .. لماذا لم تعلمك نطح الصخور واحتباس الألم والنوم كما ينام أصحاب المواخير دون هاجس.. دون ضمير.. ودون إحساس بأي شيء ؟ لماذا لم تكبلك بشرانق الحديد ؟ لماذا لم تعلمك أن العلم نور في بلاد النور ؟ ولماذا لم تعلمك بأن العدل اساس الملك في بلاد الله لا في بلاد الشياطين ؟ لماذا لم تعلمك بأن رحمة الله تسع الجميع إذا كان الجميع يعرفون الله ؟

أيها الفتى الذي داست أرض ملعبه عمارات القاضي والذي حجبت بيت حبيبته دكاكين الإمام وداست على كرامته عربة اليد التي يدفعها المعلم. لماذا لم تجبرك زوجة القاضي التي ضاجعتك بحجة انك دون عقل بأنه لا يستطيع أن يرميها بالحجارة لأن له بيتاً من زجاج ؟ لماذا لم تخبر العالم بأنك في لحظة تخلٍ وفي لحظة حضور للعقل الغائب سمعت الإمام يقول : " من كان منكم بلا خطيئة فليكتسبها الآن !" ؟

أريد أن لا أتيه عن صعودي الى السماء .. سأنقل الطريق المرسوم ، الى الأعلى .. مدرسة ، محكمة ، جامع .. جامع ، محكمة ، مدرسة .. محكمة ، مدرسة ، جامع …..!"

الحـجة تناطح الحـجة فأما أن تدميها وأما أن تُدمى أنت هل تعـيش لأنك مجنون أم إنك مجنون لأنك تعيش ؟؟!

أيها الفتى الذي تخلى عن عقله طوعاً في عالم بلا عقل .. هل أنت مثلنا نحن العقلاء ( ربما) تحس بالخواء والامتلاء ؟ تلك اللعبة التي تمارسها النفس مع صاحبها .، تلك المؤامرة الدنيئة على خلايا الجسد والأعصاب ، كأن العالم بكل سفالاته لا يكفي.

" ينغمر جسدي في قوقعة لزجة من الخوف والقلق والترقب والاحتمالات ، وعنكبوت القهر ينسج حولي خيوطاً بل حبالاً تكبلني ، وما بين اللزوجة وخيوط العنكبوت أواجه جداراً في خيالي وأعصب عيني وانتظر رصاصة الرحمة .. أنتظر وأنتظر دون جدوى فلا صوت ولا دم ولا ارتطام على الأرض. ثم فجأة .. ينهمر الرصاص من كل جانب ولكنني لا أسقط. عشرات الاطلاقات أحسها في كل أنحاء جسدي ولكن دون أن أسقط ولو من ثقل الرصاص.

أفتح عصابة عيني .. أنظر الى جسدي المثقب.. أرى الدم يتدفق من ثقوبه على الأرض ليكتب كل جرح ما يكتب : "وطـن مغتصب" ، "هـروب ما له من آخر" ، "أسياد وعبيد" ، ""نفط ودولارات" ، "عواهر وقوادون" … تتجمع أنهار الدم وتشكل أناساً يمدون أيديا الى السماء ، أيديـاً تبتهل للخلاص ولا خلاص، عيوناً تنتظر البشارة ، ينهمر المطر.. يمسح الأجساد والدماء، تختلط الرؤى، هناك نقطة دم وحيدة تقوم من الأرض تأخذ شكل امرأةٍ أحببتها ، امرأة كانت تحبني ، امرأة أختصر بين ذراعيها عذابي وهواني وحيرتي ويأسي ، تفتح ذراعيها بعد أن تفتح ثوبها ، أغرق وجهي في غياهب الصدر الذي كان حنوناً، أحاول أن أغفو ولكن هناك شيء في عمود الظهر .. شيئاٍ محرقاً... إنها أخيراً رصاصة الرحمــة !


يوم مختلف

مهند الشهرباني

كل يوم تسألني أمي السؤال نفسه (ماذا أطبخ لك اليوم؟). وفي كل يومٍ ومنذ عشر سنين أجيبها الجواب نفسه : (أي شيء !)، وأخرج!.

* * *

جاري الذي عاد من الأسر مؤخراً يسلم عليّ يومياً، ويومياً أصحح له اسمي حتى توقفت عن المحاولة بعد أن عجزت!.

* * *

جارتنا البعيدة "أم حامد" تستوقفني دائماً للسؤال عن صحتي وبعدها تسألني: (هل والدتك موجودة في البيت؟). ودائما أخبرها بأن أمي لا تكاد تفارق البيت.!

* * *

حين أصل الى بيت أبي حازم فإنني يجب أن أرفع طرف سروالي قليلاً لأنهم يغسلون الممر كل يوم، وما أن أعبر بركتهم المتخلفة عن الغسيل حتى أتذكر أن ألتفت الى صابر البقال لأسلم عليه فيرد تحيتي التي تضيع مع دخان سيجارته !

* * *

سيارة الدائرة التي تقلني والتي استحال لونها الى مجرد لطخات مزرية، تعودت أن أنفض التراب عن مقعدي فيها ثم تعودت أن أترك المقعد لأتربته وأنفض ما علق بسروالي عند النزول !

* * *

أدلف الى دائرتي .. أسلم على جمعة الفراش ثم على رئيس القسم وأجلس خلف مكتبي فيأتيني الشاي، ودائماً أطلب كمية إضافية من السكر، ودائماً أشربه دون طعم فهذا أفضل من أن أشربه بارداً !

* * *

أدخن سيجارتي الثانية وأبدأ عملي الذي أستطيع أن أدبره مغمض العينين !

* * *

أعود الى البيت ظهراً ، المحلة فارغة ، أشعة الشمس تضرب الجدران بقوة لترتد الى جسدي الذي أنهكه الملل !

* * *

أتغدى ثم أتمدد على السرير ، أحدق في المروحة ، دورانها يصيبني بالغثيان. أغمض عيني لأنام !

* * *

* * *

اليوم بعد الإفطار قالت أمي أنها ستصنع لي قدراً من "الدولمة" التي لم أذق مثلها في حياتي !

* * *

حياني جاري الأسير تحية الصباح وبعد أن اجتزته ابتسمت لأنه لفظ اسمي صحيحاً !

* * *

استوقفتني جارتي أم حامد وبعد سؤالها عن صحتي أخبرتني مبتسمة بأنها وأمي ستذهبان لزيارة بعض الأصدقاء !

* * *

وصلت الى بيت أبي حازم ، وجدت انهم غسلوا الممر لكنهم دفعوا الماء الزائد الى المجرى فلم أضطر الى رفع سروالي حتى أني نسيت أن أسلم على صابر البقال ولكنه بادرني بالتحية وهو يقضم تفاحةً !

* * *

وأنا على الرصيف وقفت أمامي سيارة حكومية جديدة رأيت عبر زجاجها زملاء الدائرة .. أخبرني السائق بأنها السيارة الجديدة التي خصصتها الوزارة لنا ، فلم أنفض التراب عن المقعد وبحركة لا إرادية نفضت سروالي عند النزول وابتسمت !

* * 8

دلفت الى الدائرة وسلمت على جمعة الفراش ثم على رئيس القسم وجلست الى مكتبي وجاءني الفراش بالشاي .. لكنه كان حلواً !

* * *

أخرجت سيجارتي ولكني لم أشعلها. وقبل أن أبدأ العمل أخبرني رئيس القسم بأني قد نقلت الى قسم آخر ، ويمكنني الذهاب إذا أكملت بعض معاملات الأمس !

* * *

جاءني جمعة الفراش وأخبرني بأن هناك من يطلبي وحين خرجت من الغرفة وجدت "أماني" التي غادرت مدينتنا منذ خمس سنين، ولكنها لم تغادر قلبي. أخبرتني أنها قد عادت الى المدينة ، وأنها تبحث عن مكان للسكن مع أمها ولم تجد غيري لتسأله هذا الصنيع !

* * *

أخذت إجازة زمنية وجلسنا أنا وأماني في كافتيريا قريبة وبعد نصف ساعة كان الحب الذي بيننا يعود كأنه لم يرحل أصلاً !

* * *

عدت الى مكتبي وأسندت رأسي الى ذراعي وما لبثت أن غفوت .. ثم سمعت صوت أمي وهي تناديني لتسألني ( ماذا تريد على العشاء ؟) !!


د. ماجد الحيدر

· ولد عام 1960 – بغداد

· تخرج من كلية طب الأسنان /بغداد عام 1984

· يمارس كتابة القصة القصيرة والشعر

والترجمة الأدبية والعلمية

· أصدر عام 2000 مجموعته الشعرية الأولى " النهار الأخير "

· نشر عدد من القصص المترجمة في مجلة الثقافة الأجنبية

· ترجم الى العربية كتاب " الأميرة وقصص أخرى "

للكاتب " د. هـ. لورنس " بالاشتراك مع الأستاذ سليمان البكري.

· بانتظار الطبع كتاب " الإيدز بين المناعة والفيروس" ومجموعة

شعرية بعنوان " مزامير راكوم الدهماء وقصائد أخرى"

ربما تكمن مشكلة ماجد الحيدر في أنه يحاول الإمساك بعشر تفاحات بيد واحدة . فهذا التوزع اليومي بين الشعر والقصة والترجمة والكتابة العلمية وأدب الأطفال كفيل بإحداث حالة من الإرهاق والإعياء . بيد أن هذا الانسان قد اختار الكتابة همّا ومصيرا وملجأ لا يتخلى عنه تحت كل الظروف . نقدم هنا ثلاث قصص من مجموعة تنتظر النشر وهي تتناول موضوعا واحدا .. مأساة الإنسان الأزلية ، ثورته ، استسلامه ، فلسفته ، في مواجهة المصير


ســيـرة

د. ماجد الحيدر

يوم أولد ستستدين جدتي لأمي أجور القابلة من جارتها أرملة الحرب الغنية. وسوف يرسلون الى أبي الذي انتهت إجازته قبل ولادتي بثلاثة أيام رسالة شفهية مع ابن عمته نائب ضابط الإعاشة في كتيبة الدروع، يخبروه فيها بولادة طفله الخامس ؛ أنا.

سيسأل نائب الضابط عن أبي فينبئه أحدهم بأنه موقوف في سجن الوحدة لأنه " ضرب " يومين على إجازته انتظاراً لولادتي. فيذهب الى مساعد آمر الوحدة " إبن ولايته " يتوسل من أجل إطلاق سراحي. فيوافق المساعد على مضض: " هذه آخر مرة ، فقط لخاطر عيونك " ثم مع نفسه : "ولخاطر الشامة السوداء المثيرة تحت نهد ابنتك! "

وهو يسمع الأنباء سيكون أبي منهمكاً بشد أربطة حذائه العسكري الكبير ثم حلاقة ذقنه. وهو يتأهب للخروج من الموقف، يسأل ابن عمته عن الاسم الذي سموني به فيجيب : " موفق "، فـيعفط أحد الموقوفين بفمه ويقول : " من طـ….ي ! " فيضحك أبي ويقول له " قوّاد ! سأرسل لك ربع العرق حصتك من الاحتفال الذي سأقيمه.. سأسكر الساتر كله هذه الليلة ! كـ… أخت الدنيا! ".

* * *

في الثامنة من عمري سيضربني معلم التربية الاسلامية كل يوم ويقول لي " ردد يا غبي : الله ربنا. محمد نبينا. الإسلام ديننا. الكعبة قبلتنا. المسلمون إخواننا. المسلمات أخواتنا ….." فاحاول جاهدا، أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ونظرات التلاميذ تحاصرني وأنسى كل شيء وأخلط الأمور فيضربني المعلم من جديد.

في نهاية العام وعندما أستلم النتيجة النهائية : "راسب للسنة الثالثة على التوالي" أقرر ترك المدرسة نهائياً. وقبل أن أخرج اثقب إطار الدراجة الهوائية لمعلم التربية الإسلامية وأرمي زجاج ادارة المدرسة بحجر وأولي الأدبار. ‍

* * *

في عمر العاشرة سأقف على الرصيف وأصيح بصوت منغم : " بيض خشن ، ثلاثة بربع ‍‍" وعندما تقترب دورية شرطة البلدية سأحمل سلتي وأهرب الى الزقاق الفرعي. وحين يقفون على عربة أبي التي يبيع فيها الملابس المستعملة سوف يخرج اليهم رجله المقطوعة في الحرب ويستعطفهم : " يا أولاد عمي، كيف أعيش وأنا معوّق ولي سبعة أطفال ؟ " فيقرر كبير مراقبي البلدية السماح له باستعمال الرصيف لقاء إتاوة يومية‍. وفي المساء سيمر بي معلم التربية الاسلامية الذي يبدو أنه نسي شكلي فيرجوني أن أبيعه بعض البيض بسعر أقل. فاقول له تأمر أستاذ فينظر لي متعجباً من التفاتتي الودية‍!

* * *

في الثالثة عشرة سوف أمتلك عربة لبيع النفط يجرها حصان مستأجَر أعور. وسأصبغ عربتي بدهانٍ أخضر لماع وسأذهب بها الى نبيل الخطاط وأطلب منه أن يخط لي عليها بحروف كبيرة " الحسود لا يسود" وتحتها " محبوبة سوسن".

* * *

في السادسة عشرة سأذهب مع رفاقي الى حمام السوق وأغتسل غسلاً "تاريخياً" وأرتدي ثيابا مكوية وأذهب بصحبتهم الى مضارب الغجر في مدينة " ك" القريبة وهناك سوف أذوق طعم المرأة للمرة الأولى. وحين أنتهي سأشم في جسدها رائحة النفط‍ !.

* * *

في سن العشرين سأكون قد تعلمت النوم في الحافلات والقطارات وحذائي العسكري في قدمي. وفي سن الثانية والعشرين ستزوجني أمي من ابنة أختها خلال إحدى اجازاتي وسأتغيب عن وحدتي ستة أيام وأحكَم بالسجن لمدة سنتين.بعد ثمانية أشهر سيصلني خبر مولد طفلي الأول فأقرر أن أسميه " سعيد" فيعفط زميلان لي في القاووش في وقت واحد.

أخرج بعد سنة وشهر مستفيداً من قرار العفو. سأتعلم في السجن استنشاق السيكوتين وتناول حبوب الآرتين.

* * *

في سن الثلاثين سيرسل لي اهلي مع ابن عمي سائق المدرعة كيساً من المعجنات المنزلية اليابسة وخبراً عن ولادة ابني الثالث فأترك تسميته لزوجتي.

* * *

في سن الخامسة والأربعين سأكون عائداً من الأسر فيجد لي أولاد الحلال عملا في محل الأخوين لتأجير الخيام المقوسة والكراسي ومكبرات الصوت وجميع مستلزمات إقامة مجالس الفاتحة. سأكون مواظباً على الصلاة وسوف أتعلم بضع آيات قصار من كتاب الله المجيد.

* * *

في عمر الثالثة والخمسين سوف يأتون بابني الكبير من جبهة الحرب ملفوفا بالعلم. وسوف يوصيني الجندي الذي يأتي بالجثمان أن لا أفتح التابوت لكي لا أصاب بالغثيان. سيتبرع مالك المحل مشكوراً بتأجيري مستلزمات مجلس الفاتحة بنصف الثمن.

* * *

عندما أبلغ الستين سترسل لي ابنتي "سراب" المقيمة مع زوجها في اليمن أربعة أوراق لأحج بها بيت الله فأفرح كثيراُ وأدعو لها ولزوجها بطول العمر.

* * *

في السابعة والستين، في العاشرة صباحاً سأكون قد سئمت من الجلوس في الشمس، وحيداً في البيت. فالصغار ذهبوا الى المدرسة وكنتي ذهبت منذ الصباح الباكر مع ابنتيها لزيارة حفيدي الجريح في المستشفى العسكري بالعاصمة. أشتهي شايا ساخنا فأقوم مترنحا الى الموقد وأشعله وحين يسخن الشاي أحاول بيدي المرتجفة أن أصب لنفسي قدحاً فيندلق الإبريق الساخن على حضني ويحرق أعضائي حرقا شديداً. بعد يومين سيبدأ الجرح بالتقيح وبعد عشرة أيام سأموت.

* * *

سيقف قارئ القرآن الضرير على التابوت ويقول :" يا موفق يا إبن مسعودة. إعلمْ أنك يا عبد الله في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. فإذا جاءك الملكان يسألانك فقل لهم : الله ربي، محمد نبيي، الإسلام ديني، الكعبة قبلتي،…………."

يهيلون التراب علي وأنا أنظر اليهم. عند الغروب يأتي ملكان يحملان كتاباً كبيراً ويبدآن الاستجواب فأحاول جاهدا. أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ، ونظرات الموتى من حولي تحاصرني وأنسى كل شيء وتختلط عليّ الأمور. ينظر الملكان أحدهما في وجه الآخر في أسف ويطويان الدفتر الكبير ويتركاني في حيرتي!


بكائية العرانيس

د. ماجد الحيدر

تغتسلُ عرانيسُ الذرةِ المكتنزةِ في شمسِ الصباحِ الحانية، وتنفضُ عن أجسادِها الغضةِ قطراتِ الندى التي خلّفها الفجر. ثمةَ نسيماتٌ وسنى تهبُّ من هناك، من الجبالِ الغارقةِ في الغمام..فترقصُ في غُنجٍ يثيرُ رغبةً عارمةً في الحياة .

" كنا نرقصُ لكلِّ خبرٍ جميل، ولو جاءنا من أقاصي الدنيا.. من جزائرَ مجهولةٍ يلفُّها السحرُ والغموض. كنا نعرفُ كيفَ نفرحُ حدَّ البكاء. كنا نقرأُ في كتبِ البراءةِ والحب. كنـا نفغرُ أفواهنا بدهشةِ الطفلِ الذي يكتشفُ العالم.

يومَها…كنا قد بدأنا الحياة."

يجيئون من قُراهم. تنهمرُ أهازيجُ الحصادِ كشلالاتٍ من فرحٍ ونور. يتراكضُ الصبيةُ في الحقلِ الفسيح. يقرأُ الكبارُ اسمَ اللـه. وبأيديهمِ المعروقةِ الخشنة يقطفونَ العرانيسَ المباركةَ الصفراء. تمتلئُ العرباتُ وتتهادى …نحوَ المدينةِ القريبة.

"هناكَ..في أولِ المنعطفات، رأيتُ ذئباً. وهنا..على قارعةِ الطريقِ الترابيِّ العريض تعثّرَت خُطانا بأولِ الأحجار. وأَفَـقنا :ليستِ الحياةُ إذَن كتاباً، وحلماً، وأغنيةً؟

ها قد بدأنا بالنضوج . شكراً لحرارةِ التجربة!"

العرانيسُ البضّةُ المشتهاةُ تتعرّى من ثيابها. إنها تُطلقُ تأوهاتِ اللذةِ إذ تتقلبُ فوقَ نارِها الهادئة. ها هيَ ذي تتتشربُ بلونِها البرونزيِّ المثيرِ ويفوحُ منها عبقُ الأنوثةِ العارمةِ.

” لم نعرف كيفَ حدثَ الأمر. لقد ازدادت "حرارةُ التجربةِ" فاستحالت إلى نارٍ متوقدةٍ حامية. أحرقتنا وذَرَتنا رماداً "

العرانيسُ تئنُّ، تتوسلُ، تلعنُ ساعةَ ميلادِها، تتفجرُ، تتفحمُ، تستسلمُ ليد القدرِ الغاشمة.

" يا الهــي ! هل احترقنا إلى الأبد؟…."


عباس كربول حسين

· ولد عام 1953 - المقدادية

· بدأ كتابة القصة القصيرة منذ الثمانينات.

· نشر عدد من القصص القصيرة في مجلة الطليعة

الأدبية وعدد من الصحف العراقية.

أمامي نسخة من جريدة يومية صادرة عام 1982 احتلت قصة قصيرة لعباس كربول حصة الأسد من إحدى صفحاتها . ثم نسخة من عدد آخر من نفس الصحيفة يحتوي على تعليق نقدي مسهب يشيد بتلك القصة ويعتبر عباس كربول " صوتا يافعا من كل تلك الأصوات ، والذي استطاع الثبات لتأكيد موهبته " ويلاحظ الكاتب منذ ذلك الوقت " أن هذا القاص لم يقدم سيلا من الأعمال كما فعل بعضهم ، بل قدم قطرات ندى جميلة ونقية .. ". ولقد ظل هذا دأبه بالفعل الى هذا الحين ، فهو مقل في نتاجاته ، ربما بسبب من مشاغل الحياة ، أو لأسباب أخرى نتمنى ألا تقف أمام استمرار تقدمه. هنا يتناول القاص حالتين إنسانيتين واقعيتين يحاول أن يستكشف من خلالهما مواقف أبطاله إزاء حدث مؤلم ( رحيل الحبيبة ) أو مفاجأة تعكر صفو الحياة ( فتيات تنتهك حرمة المأوى الذي يعشن فيه في هدوء ووداعة ) بأسلوب شديد الواقعية والبساطة ..


النساء والمجهول

عباس كربول

في البيت المتداعي .. المركون في أحد جوانب الشارع العام تبدو الحياة ساكنة أو شبه متوقفة ، على الرغم من ضجيج المارة والسيارات .. فبابه السوداء . وبصمات الزمن الماضي ، وكآبة البناء .. كلها تجثم على شرفاته المتداعية وحديقته القاحلة إلا من بقايا أدغال ونباتات شوكية تشي بالصمت الموحش والإهمال.

نادرا ما تتحرك الحياة في شرايين البيت . فهو لا يعرف غير الهدوء والصمت الجليل ودبيب أقدام هادئة تسير في جنباته لنساء غريبات عن المدينة يحاولن أن يبنين لهن حياة خاصة داخل حجراته ، تتفق مع حاجاتهن اليومية البسيطة ، فيتحول البيت الى غرف نظيفة أنيقة.

حاولن جهد الإمكان أن يجعلن من البيت ملاذا يقضين فيه شطرا من العمر . كن جميعا بعمر الزهور الناضجة التي قدمت الكثير في تربتها الأصلية . فأينعت وردا ذا رائحة عطرة زكية تفعم القلب وتسر الناظر . وكان الصمت الرزين يخيم على جنبات البيت إلا في أوقات قليلة يصدح فيها صوت القرآن الكريم .. أو ربما موسيقى هادئة تتماوج في جنبات الدار وتبعث خدرا لذيذا في الأجساد المتعبة طوال اليوم في العمل.

هكذا هو البيت .. صومعة هادئة ، أو معبد منسي تسكنه مجموعة من النساء أشبه بالملائكة حسنا ورقة . بيت له قدسيته وسكونه وجلاله .

فجأة .. وفي صباح يوم غريب .. عج البيت بالضجيج وراحت أقدام رجال شتى تدق أرضيته و تدور في حجراته . فيما انتشرت الأنباء عبر مواسير الأفواه البشرية تتحدث عن سرقة البيت الآمن المستقر وراحت أفواج من الشرطة والإدارة تدقق وتناقش وتستنتج.

أما النساء فقد كن ثلاثاً .. إحداهن كُسِرت باب غرفتها وتبعثرت أمتعتها فوقفت مندهشة متوردة الوجنتين فيما ظهرت التجعدات على جبينها الغاضب وانتابتها مشاعر ما بين القلق والخوف والتحسب.. الأفكار تدور في رأسها المتعب في ذلك الصباح اللعين .. لماذا ؟ لماذا أنا ؟ .. تسأل نفسها .. تسأل الآخرين . أسئلة تدور في ذهنها . ولكن الإجابة تبقى مجهولة . وفي الصدر غصة ، فينمو بداخلها خيط من الشك والخوف : تبحث في سجل تعاملها اليومي فلا تجد غير الإخلاص ومحبة الناس والمرضى . تتذكر : ربما يكون هو .. ذلك الذي قالت له : " زوجتك في خطر ، لا يوجد ما يفيدها في المستشفى .. نقص "

وقبل أن تكمل انفجر غاضبا وتركها.

الصمت الحزين الوقور يجلل وجهها الغاضب .

أما الأخرى فقد ارتدت " ربطتها " البيضاء والذهول يلفها برفق كمن فقدت شيئا عزيزا .. لم تستطع أن تتكلم . لم تجد تفسيرا لهذا الغريب المجهول الملعون الذي دخل البيت . تحدث نفسها : ربما كان هو .. ذلك الرجل الطاعن في السن . حين قالت له " لا يوجد هذا الدواء " ثارت ثائرته في شباك الصيدلية وكاد يبصق عليها.

أما الثالثة .. فقد ظلت واجمة مجللة بالصمت والهدوء ولكنك تحس بخوفها المقدس وتحس بضربات قلبها الأبيض الناصع النقي . وحركة شفتيها الراعشتين تعبيرا عن القلق المشروع والخوف من هذا الذي دنس قدسية مكانهن – تجفل .. إنه هو .. ذلك الرجل الذي طالبته بورقة من الشرطة لشكها بأنه هو السبب في ضرب زوجته .. ثارت ثائرته وتكلم بلغة غير مفهومة .. وصراخ طويل ممدود.

الزمن الملعون يمضي ببطء في تلك اللحظات والشكوك من الأسئلة تدور والضجيج يخفت .. ولم يبق سوى الرؤوس الثلاثة لنساء موزعات بين أسئلة وأفكار ..

قالت الأولى : إنه مجنون .

قالت الثانية : إنه طفل لا يعي ما يفعل .

قالت الثالثة : إنه غبي ، حتما غبي .

عند المساء .. ظلت الأفكار تتناوب فتطرد النوم .. وعند الصباح .. ودعن المدينة .. الى حيث الأهل .. تاركين وراءهم كل شيء ..

إنهن يبحثن عن النوم بهدوء وسكينة .

1/4/2001


اللوحة والفنان

عباس كربول

لا أستطيع أن أحدثكم عن موته . فذلك شيء خاص به . ولكن الذي أود إيصاله اليكم هو أنني أعرف سراً لا يعرفه أحد منكم. أنتم أصدقاؤه كما أنا صديقكم .. ينتابكم الصمت لموته .. فقد كان طيبا كريما معكم كما كان معي .. ولكن صدقوني : إنه لم يخبرني به .. أنا الذي اكتشفته كما اكتشف كولومبس أمريكا الظالمة .. لا تتعجبوا .. فالسر هو هذه اللوحة المعلقة في جدار غرفته .

كان يقفز من فراشه مذعورا ليقف أمامها يتأمل كل انحناءات الألوان المتكسرة بحدة باتجاهات طالما تمتد أنامله إليها ، ثم يمسح إطارها بأمان ويتجه بعدها الى المغسلة .

مرة .. سمعته يقول : " أمي تحب النور حتى الموت .. وأمل هي الأخرى تحب النور وأنا " . أما أمه فكلنا يعرف أن الموت قد خطفها منذ الطفولة ولم تترك له سوى شمعة خافتة تضيء ظلمة الذاكرة..

أما أمل .. فكل الذين يعرفونه ويعرفونها .. أنا وأنتم والآخرون .. حينما غادرت ودعها الجميع كما تعلم وكان هو بين المودعين .. صامتا ، متأسيا . وعاد الجميع الى دوامة العمل في الدائرة وقد عاد معنا . وكثيرا ما حاولتم أن تستفزوه بوداعها .. أنتم الصامتون اليوم . ولكنه كان أبدا في القلب .. حينما نتحدث عن أمل يشاركنا الحديث بعطف وأدب تشوبه نبرات عاطفة صادقة ..

بالأمس فقط رأيته ساهما في اللوحة فيما بدا شرخ طويل يقصم ظهرها .. وألوانها بدت فاقعة صفراء مغبرة .. وأحسست أن دموعه تجري بصمت وتنساب بهدوء بين الأخاديد المغروزة في عنقه .

مزقها فجأة .. وبسرعة .. حتى تحطمت . ثم قذفها الى زاوية غرفته المبعثرة وانكفأ على وجهه وفي يده ورقة مكتوب عليها : " لقد انتهى زمن اللوحات … التوقيع : أمل "

أما ما خطه لكم في لوحته الجديدة فأرجو أن تتمعنوا فيه .. إنه ليس بخطه .. إنها دعوة خاصة جداً .. دعوة من أمه .

18/4/2001


عمران الغانم

· ولد عام 1966 - المقدادية

· مارس كتابة القصة القصيرة منذ الثمانينات.

· شارك في عدد من الامسيات ضمن فعاليات

اتحاد الادباء / فرع ديالى

· طالب في قسم الكيمياء في كلية العلوم / جامعة بغداد.

هذا الرجل يمارس لعبة شاقة وجميلة : السباحة في المياه التي تمتزج فيها أمواج الشعر بأمواج القصة ! وهي لعمري لعبة خطرة يصعب الاستمرار فيها إلا لمن إمتلك ذائقة أدبية رفيعة وثقافة فنية تمكنه من الاحتفاظ بتوازنه وتجنب الوقوع في فخ التشنج أو هاوية الاستسهال .

هذا ما كنت أقوله لنفسي كلما جاءنا هذا الفتى الأسمر الحييّ بأوراق جديدة يعرّي فيها جراحاته .. جراحات جيل بأكمله يبحث عن هوية ومأوى .. وإلا فشراع آمن يسوق زوارقه الى مرافئ الطمأنينة / الحلم.

إنه يكتب بصمت وايجاز وبحساسية ورهافة بالغتين ، وبلغة يكاد الشعر يقفز من بين طياتها . إن هاجسه الأول هو الوطن : والوطن عنده هو المرأة ، هو الحب والأمل والقلق ..

أما مدى نجاح عمران الغانم في تأكيد حضوره قاصا حقيقيا مبدعا فأمر متروك للقراء .. ولست أشك في حكمهم ..!


أحزان

عمران الغانم

{ إتفقنا على ألا نبكي أمام السجان كي لا يكتشف سر النهر الذي يروي أرضنا }

كان مساءً جميلا رغم الظلمة والسكون والصمت القاتل. أعلنت فيه تحرري من السلاسل والقيود الصدئة، أمام ذلك الجسد المكتنز أقسمت بالإخلاص والحب أن أكتب عن الذين يحملون جراحاتهم . يوم أهدتني كتابا أهدتني عذاباتها الممزوجة بالأنين المحبوس داخل تنهداتها المطلسمة ، حينها كنت أود أن أقول لها أن الدموع وحدها لا تكفي حينما تتفجر الآهات ويبقى ما في القلب من خشوع. صمتّ لأنني أعرف أنها تبكي بلا دموع، تخشى أن يشاركها أحد في أحزانها ، تجعل من دموعها اللامرئية بلورات حارقة تذيب شبابها ، تضحك وتظهر السعادة والانشراح أمام الناس والبراكين النازفة تحرق كل مسامة في جسدها .

الكتاب بين يدي وأنا أسير في المدينة المظلمة . أحس بقلبي يقرأ نبضات الحروف . رحت أعدو بخطوات سريعة . وعلى ضوء الفانوس المنكسر رحت أقلب صفحات الكتاب ؛ ثمة خطوط سود تحت الكلمات التي لها طعم الغربة والسفر الى عالم بعيد أجهله.. تراءى لي أنها تبحث عن صديق رحلتها .. رحلة الحب والعذاب .. عن زوجها المسافر في اللامكان . صار كل خط سوطاً يضربني ويبعث في داخلي الهواجس والأحلام . قلت في سري بامتعاض :

" لن أقرأ لهذه المرأة التي ترتدي ثياب غادة السمان "

ورحت أقفز كطير منكسر أبحث في اللاشيء سوى الخطوط السود التي رسمتها بمرارة ..

يوم آخر..

وليل آخر..

وكتاب آخر… وخطوط سود أشد ظلمة وأشد مرارة . إنها امرأة يُعتَصَر قلبها خلف قضبان الزمن القاسي ، تخفي وجهها عن العيون المتلصصة في النهار . وفي المساء ، حين يسدل الليل الشاحب ستارة تفيض بالأسى ، وتصعد أنفاسها المحمومة في الفضاء ، ولاتكف العيون عن الدوران … تحترق وتذوب أمامهم كشمعة رغم ربيع عمرها الذي لم ينته بعد . تغفو الشمس وتتباطأ عند المغيب ولا تود الرحيل .. تريد أن تمنحها يوما طويلا بالتأمل ، فرصة للبحث عن رجل يزيح من على صدرها الأشواك . إنها تسمع همسا خفيا دائما :

" لا تمزقي ثوب الأمل ، لا بد أن يكون المسافر هناك ، خلف شجرة الصنوبر ، مع طائر النورس الحزين "

**** *****

أيقظني ظهورك سيدتي رغم شتائي الطويل الممتد عبر الأزمنة المسمومة . لا أعرف كيف أورثتني الحياة فرصة للتمرد والعصيان . يداك الناعمتان كانتا أقوى من كل القيود والسلاسل وهي تكسر جدار صمتي وخوفي ، وتكشف عن فوهة بركاني . إمنحيني الثورة والانفجار سيدتي . كبت السنين الماضية مزق أحشائي . تنهداتك هي محطتي الأخيرة ، هي مرفئي الأخير . ثلاثين عاما لم يمر أحد في بحر أحزانك ، وأمواجك تصرخ منذ أن سافر بلا وداع.

**** ****

مزقي كل تذاكر السفر وابقي معي . ستسمعين صوتي يتدفق كنهر منساب من أعلى قمة مسكونة بالحب والعذاب . أحزاننا هي سعادتنا المشتركة في عالم مريض بالهوس والجنون ، كلانا صار ينتظر الآخر لنزرع بذرة الصمت معا ، نسقيها بآهاتنا لتكون زهرة احتجاج …


الخلاص المستحيل

عمران الغانم

صرت كمن يلملم بقايا من الرماد ليجعل منها وطنا يسكنه في هذيان الريح وصخب الأمطار .. في صحراء قاحلة غادرها ندى الصباح .

الرماد .. الرماد .. الوطن …

آه .. يا لهذا الوطن المتمرد . الحطام الذي أراد أن يكون فيه .. وعبثا أحاول والزمن المقدس يطاردني .. لهاث الأنفاس يقبع في ركن قصي في مدينة النسيان التي لا يدخلها إنسان يحمل في طياته الذكريات ..

آه يا وطني الجريح .. لك كانت النذور في الصدور قبل أن تكون وقبل أن يكتشفك إنسان قبلي . وما أن دخلت معالم الوجود فيك وصليت للرب تغادرني !

لا أدري كيف يحتضر الأطفال وتموت البراءة وأنت طفلي الأول . لم تدع لي لحظة للبكاء . كأنك تمنحني فرصة أخرى للبحث عنك وعن مدينة النسيان . كيف يا وطني والذكرى الأولى تحاصرني ؟

الرماد … الزمن المقدس .. مدينة النسيان .. وأنا !

الصوت الذي لا أسمعه يتحدى عقلي . النشيد الأول يصرخ في داخلي ، وإعلان الصوت ، والتحدي .. فما زلت أصرخ وأتحدى .

أربعة وثلاثين عاما وأنا ألملم رماد وجودك .. واليوم ترفضني ! كأنني جسم غريب دنست عتبات حصونك .. تهرب مني وأنت تشاركني لغتي !

علمني إذن كيف أهرب منك .. وأنت حطامي !

عمران الغانم


الضياع

عمران الغانم

أمامها انكسرت الكلمات وهربت الحروف ، ولم تعد عيناها العسليتان اللتان أذابتا جليد خوفي وارتباكي في يوم ما قادرتين على أن تعيدا ثقتي بأي شيء . حاولت ترتيب خطواتي المنهارة على أرصفة القلب وأن أنتشل نفسي من السقوط في هاوية الاستسلام والضياع ؛ فالزمان والمكان حلقتان متآمرتان إتحدتا أمام خوفي وضعفي فتوقفت عقارب الساعة وأماني الحاضر والمستقبل . لذلك لم أجد مناصا من ركوب ذاكرتي المتعبة والعودة بها الى الماضي … أجل ، الى الماضي ؛ ذلك الماضي الذي يبدو اليوم ملاذا آمنا للمتعبين أمثالي .

قررت الهروب من مدينتي الجميلة التي غادرتها الشمس بدخول الأشباح الذين حملوا الأسواط وراحوا يضربون الأجساد الميتة . لقد زرعوا في كل بيت شبحا باسم المحبة الإنسانية. صار كل واحد من أهل مدينتي يرتدي أقنعة يتظاهر بها حسب الأنواء الجوية . رفضوني كلهم ووصفوني بالمختل .. صدقتُهم فالتجأت الى طبيب يبدو رقيق القلب عطوفا على مرضاه وهو يجلس في مستشفى حكومي . كان يقول لمريض يجلس أمامه :

- " إن حالتك سيئة جدا ، أنت بحاجة الى رعاية خاصة فهنا كما تعرف .. "

يقاطعه المريض بسذاجة :

- " إنها الانفلونزا يا دكتور ! "

- " أخطر من الإيدز " قال الطبيب مقاطعا بعد أن ثبت قناعه جيدا وأردف :

- " عيادتي الخاصة هناك ، حيث الراحة والهدوء والاطمئنان ، إسأل المعلمين الذين يفترشون الرصيف أمام عيادتي .. إنهم يبيعون البيض ! "

هرعت الى بيتي وفتحت صندوق جدي العتيق وأخرجت الأقنعة المتربة ، إخترت أحدها وارتديته على عجل .وعدت مسرعا لأبيع البيض .. بانتظار من يسألني عن طبيب …


أوميد ماجد

· ولد عام 1983 – المقدادية

· لديه محاولات في كتابة القصة والمسرحية

· طالب على أبواب المرحلة الجامعية

يقولون عن عراقنا الحبيب أن كل نخلة تنبت في أرضه تُظِل شاعرا . هذا ما عرفه القاصي والداني حتى غدا قولاً مأثوراً . غير أن السنين الأخيرة لم تشهد ولادة المئات من الأسماء الجديدة في الشعر وحسب ، بل كان للقصة والرواية حصة لا يستهان بها، حتى غدا هذا القول المأثور بحاجة الى بعض التعديل !

أستذكر هذا وأنا أقدم أوميد ماجد الصوت اليافع الجديد الذي يساهم في هذه المجموعة بقصة تنم عن مخيلة رحبة وقدرة على تناول الحدث بأسلوب ساخر ذكي . الأحداث في هذه القصة تروى على " لسان " مرآة . والمرآة هنا رمز للحقيقة التي لا تداجي . وإذا كانت هذه المرآة / الضمير / الحقيقة قد تهشمت ذات يوم فإن القاص الشاب يترك الباب مفتوحا أمام عودتها يوما ما .. لتبصر فيه النور من جديد..


مذكرات مرآة

أوميد ماجد

لقد كان أشعث الشعر ، مزري الهيئة ، رث الثياب ، غير أنه يتمتع ببدانة لم أر مثلها من قبل . كان يمكن أن يكون أفضل من ذلك ولكنه معذور فمن المؤكد أن هناك سببا وجيها لهذا الشكل المربع الجالس أمامي ؛ فقد يكون السبب هو عدم توفر المال لأعطائه الى الحلاق نظير أخذ شعره ، أو بسبب كونه مشغولا في معظم الأحيان بجمع المال وتكديسه .

إنني المرآة الأخيرة في محل الحلاقة هذا . كان الحلاق قد إختار هذا المكان لحلاقة الزبون البدين لكثرة أصدقائه المتطفلين . لكنه رغم ذلك لم يتخلص منهم تماما . لقد بدأ الحلاق برش الماء على شعره لكنه فوجئ بأن شعر الرجل صار مجرد كومة من الطين الدبق ، فحثه على غسل شعره قبل أن يأتي في المرة القادمة فدمدم البدين ببضع كلمات غير مفهومة. كنت أراقب الحلاق وهو يؤدي كل ما حفظه من حركات قديمة ومبتكرة حتى صار طول شعر الزبون لا يزيد على ربع سنتمتر تقريبا حسب ما قدرت من خبرتي الطويلة. ربما كان سبب هذه القسوة هو رغبة الحلاق في عدم رؤية هذا الشخص والتمتع بوسامته أطول زمن ممكن.

بعد دقائق قليلة رحل هذا الشكل المربع ، وانتصب أمامي مستطيل عرضه حوالي العشرين سنتمترا وطوله يزيد على المائة والخمسة والثمانين سنتمترا – تقريبا – آه ! لقد جاء من تعودت أن ألقى منه ما لا يسر !. إنه يقوم على الدوام بأعمال لا أستطيع فهمها أو تبريرها مثل شدة الحاحه على الاهتمام بشكله : فبالأمس ظل يحاول دون جدوى أن يمنح صورته شيئا من الانتظام قربة الساعة . وعندما هم أخيرا بالخروج أمطرت السماء !

أما اليوم فقد بصق علي رغم أنه كان يظن بأنه يبصق على نفسه ! مرددا عبارات غريبة مثل " عابت هالشكل ! " و " تف عليك ! " مما جعلني لا أتمالك نفسي من الضحك . لقد فكرت في إمكانية تغيير صورته ليقتنع بشكله – وهذا ما أستبعدت حصوله – ولأتجنب هذا الرذاذ اليومي . حاولت أن أفعل ذلك لكني فعلت الأسوأ : فلقد عكست صورته بحيث أصبح جذعه أنحف من عود ثقاب وكبر رأسه حتى غدا كالبالون المنتفخ . تخيلت بأنه قد يسعد عندما يرى نفسه واقفا أمام مرآة كتلك التي كانت منتشرة في مدائن الألعاب ( لا أكتمكم سرا أني كنت في زمن ما واحدة من تلك المرايا ) ، لكني بدأت ألحظ علائم الغضب والهستريا على وجهه .

وفجأة وبدون مقدمات رماني بالمشط علي بكل قوته . لم أستطع فعل شيء ولكنه لحسن حظي لم يصب قلبي بل خدش الزاوية العليا اليسرى من جسدي. ورغم ذلك تألمت كثيرأ : تألمت لحالي ولحال هذا المخبول الذي كان يقف أمامي قبل أن يدفعه صاحب المحل بعيدا ويبدأ الشجار معه .

لم أستطع أن أتيقن بأنه تشاجر معه من أجلي ولأني خدمته طيلة خمس سنين وحتى هذه اللحظة . لكنني أستطيع أن أجزم بأنه لم يكن يتشاجر إلا لأنه دفع ثمني عشرة آلاف دينار ( ثمن أربعين رأس مثل هذه الرؤوس التي نهضت من مقاعدها وحاولت تهدئة الأمر ) . لم أكن منتبهة حين جاءتني ضربة أخرى قوية ومباشرة من منفضة للسكائر كانت موضوعة على الطاولة . لقد أصابتني في الصميم فغرقت في غيبوبة لم أستفق منها إلا وأنا ملقاة في مكان مظلم حيث لا يوجد ما أراه أو يراني . ولم يكن هناك من صوت سوى صوت الجرذان التي لم أعرف لونها : أسمراء هي أم بيضاء .

منذ ذلك اليوم وأنا أنتظر الساعة التي أعود فيها الى الخدمة .. الى الضوء ..وأظل أحلم : ربما يقطّعونني قطعا صغيرة تفترش حقائب النساء .. أو أتحول الى شظايا مدورة تزين ثوبا أو مبراة أقلام أو حذاء ..

ربما .. ربما .. ربما .. وعندها سأعود لأكمل عليكم ذكرياتي .. !


حسن مهدي هادي

· ولد عام 1957 –

· بكالوريوس اقتصاد

· نشر في العديد من الصحف العراقية ومجلة ألق

الدورية الصادرة عن فرع الاتحاد في ديالى.

· له مساهمات في الترجمة الأدبية.

في قصة " الحصان " ( وهي القصة الوحيدة من قصص حسن مهدي التي أسعفنا الوقت على إدراجها ضمن المجموعة ) يحاول القاص أن يفلسف _ عبر حوار ذاتي ولقطات استرجاعية موفقة - قضية العلاقة بين الفارس والحصان ، وهي في هذه القصة علاقة غريبة شاذة يرزح فيها البطل في ظل عبودية دمرت حياته وحولتها الى سلسلة لا تنتهي من الركض المجنون وراء القسوة وشهوة الدم . الحصان هنا هو السيد والفارس عبد لا حول له إزاء الحصان الذي يبادله حالة من الحب والكره المتبادلين . إنه يبحث عن لحظات من الهدوء والجمال والطمأنينة مع هذا الحصان المتوحش الجميل ، لحظات يتمتع فيها بالخبب الذي ظل حلما .. حلما لا يتحقق..


الحصــان

حسن مهدي هادي

(1)

كانت فكرة التخلص منه جديدة عليّ تماما. فطوال سنيّه معي كنت أتلذذ برؤيته ، أطرب لسماع صهيله الأنيق . أسعد لحظات حياتي قضيتها معتليا صهوته المكتنزة ممسكا بشعره الأسود الطويل وهو يعدو حتى لا تكاد تميز ساقيه الأماميتين من ساقيه الخلفيتين ، وحيث لا شيء سوى حفيف الريح في الأذن وهمهماته المتقطعة . الحق أقول : كان حصانا ولا كل الأحصنة.

(2)

أتساءل دوما في نفسي : أعشقٌ هذا الرابض في قاع النفس أم كومة نار ؟..أ لهذا الحد أهون؟ . أي مرار ! .. أي دمار ! .. أ أظل أكابد إخفاقات الاحلام المنسية وهذا المعشوق المخلوق يسلبني حتى أبسط أحلامي ؟ .. وآهٍ من أحلامي .. فلطالما حلمت طوال رفقتي معه أن يسير الخبب ولو لمرة واحدة في حياته .. مرة واحدة من أجلي . طلبت منه ذلك وألححت بإصرار ، لكنه كان يرفض ، كان يرى أن هذه مشية العشاق والمخنثين وهو حصان حرب حقيقي لا يجدر به أن يفعل ذلك . كان ينتشي لرؤيتي بملابس الحرب شاهرا سيفي المقوس الطويل وقد تدلى الدرع من يدي الشمال الى الأرض فيروح يصهل ويهمهم هازا رأسه الى الأعلى والأسفل ، ضاربا الأرض بقدمه اليسرى حتى لشككت أكثر من مرة بأنه يكرهني . وإلاّ لِمَ يدفعني لخوض الغزوات ومبارزة الصناديد والعتاة ؟ أ ليس لأنه يريد لي الهلاك ؟ فإن كان يحبني كما يصِّور لي أفلا تبدو مفارقة أن يمتزج الحب والكره حتى لا يعود في مقدوره التمييز ؟ إن يكرهني الى درجة الحب ، أو يحبني الى درجة الكره مثلا ؟ ولكن أليس الحب والكره على طرفي نقيض في مفهومنا كبشر ؟ وهل تختلف المعادلة في مفهومه لأنه ليس من جنس البشر ؟ .. كنت كلما جرحت في غزوة من الغزوات ينكب على جرحي يلعق الدماء التي تتفجر حتى ليكاد لا يدع قطرة منها تسيل . كان منظر فمه يبدو قبيحا مقززا وتظل رائحته نتنة أربعين يوما . الحق الحق أقول : كان حصانا عصيا على الفهم حتى أني لم أدرك كنهه حتى هذه اللحظة.

(3)

حين عقدت العزم وأسرجته للريح كانت عيناه السوداوان الواسعتان ترمقاني بأسى ، حتى تساءلت في داخلي : ترى هل كشف سري ؟ ولكن كيف وأنا لم أنبس ببنت شفة ؟ وفي محاولة مني لطمأنته ربت على رقبته بلطف فأشاح رأسه الى الاتجاه الآخر… أسمعته بعض كلمات الحب الرقيقة كعهدي دائما ولكنه هز رأسه يمينا وشمالا غير آبه .والحقيقة أني كنت أسيطر على الموقف تماما . ومن المؤكد أنه لم يكن يملك الدليل على ما أضمره له بالفعل سوى إحساسه بأنه في طريق اللاعودة هذه المرة .. وما دام لا يملك الدليل فهو متأرجح بين الشك واليقين .. فلأدعه هكذا . فقد يوبخ نفسه على أفكاره السوداء وهواجسه الشيطانية تلك حتى يأتيه اليقين . والحقيقة أن اليقين لم يأته قط . كنت واهما تماماً ولم أدر حتى الآن كيف تسللت اليه نواياي هذه . فطوال وجودنا في البرية كانت حركاته تدل على نزق وطيش. حتى أني لم أره في مثل هذه العصبية طيلة سني الرفقة. كان يطاول الأرض يدكها بحوافره دكا حتى لتكاد تسمع لصداها رنينا .. وفي لحظة رعب حقيقي أدركت أنه يصارع نفسه تحت شمس الصحراء الملتهبة والعرق يتصبب من جلده البني المائل للحمرة . وفجأة خرج من الطريق واستدار نحو تلال الظلمة ودار هناك دورتين كاملتين ثم راح يعدو باتجاه وادي الأفاعي . كان النهار قد قارب الانتصاف حين توقف عند السن الصخري . ترجلت . مددت يدي الى السرج ، فككته وأنزلته من على ظهره . تناولت قربة الماء وسلكت الطريق الافعواني أسفل الوادي باتجاه عين الماء .. قلت في نفسي : " أسقيه شربة ماء أخيرة ". كانت الطريق جد متحدرة وقد رصعتها نباتات الشوك والعليق التي شقت طريقها بين الصخور. كنت في أغلب الأحيان أجدني مضطرا الى الالتصاق بعجيزتي الى الأرض لأنزلق بكلتا قدمي تاركا يدي لتسندا جذعي من الخلف . وأثناء ذلك كنت أحس به واقفا عند حافة السن الصخري ينظر اليّ ، يراقبني. لا أدري بماذا تحدثه نفسه ولكنه كان يراقبني بالتأكيد. كان كل ما يمكن لعقلي أن يفسره حينها أنه أدرك فعلا أنها النهاية .. النهاية لكل شيء. كنت أحس ذلك الأسى والحزن الذين يجيشان في نفسه ولكني كنت صلدا حقا كالصخور التي أنزلق عليها ، غير متردد في أن أثأر لكل معاناتي معه ، لكل سني شبابي المفجوع التي سلبها مني عشقه الدموي ، لكل طعنة وشمت جسدي الذي شاخ ، لكل لحظة رعب ارتجف لها قلبي الذبيح . وحين وصلت عين الماء طمست وجهي حتى أذني وطوحته

في الهواء لأطفئ جمرة اشتعلت في فؤادي . رششت الماء فوق رأسي ورقبتي وطرحت القربة في العين لتمتلئ . استرقت نصف نظرة باتجاهه ، لم أشعر بوجوده . كررت الأمر .. لقد احتفى تماما ذلك الظل الذي كان يرصدني قبل قليل . استدرت باتجاهه فلم أره . صعقت .. حملت القربة وهي لم تكد تمتلئ وأسرعت متسلقا باتجاهه . كنت أسرع .. أسرع .. أسرع . وما بين اللهاث والانزلاق والتشبث أصبحت في الوادي بعد حين . كان قد اختفى تماما .. تلاشى في زوايا الصحراء وكثبانها الرملية . حملت قربة الماء والسرج ورافقت إحدى القوافل التجارية في طريق العودة الى المدينة .

الحق الحق أقول : كان حصانا يجب أن يموت . ولكن يبدو أن للموت وجوها متعددة .


جاسم عطا

· ولد عام 1958 - الكويت

· نشر العديد من القصص والمقالات في الصحف

والمجلات العربية.

· شارك في عدد من الأمسيات والندوات القصصية

· من أعماله المنشورة :

1- هلوسات شرقية (مجموعة قصصية) – بيروت 1985.

2- وطن ومواطنون ( مجموعة قصصية) – بيروت 1987.

3- وناسه (مسرحية أخرجها عبد العزيز الحداد) – الكويت 1988

4- سنو وايت ( مسرحية أطفال كتبت أغانيها وغنتها إيمان الطوخي) . أخرجها

عبد العزيز الحداد – الكويت 1989

· له مجموعة قصصية تنتظر النشر بعنوان (متاهات فارس الأكاذيب)

الغريب في أمر معرفتي بجاسم عطا هو أننا صديقان بالواسطة ! فرغم أننا نعيش في المدينة نفسها ونحيا في الجو الأدبي ذاته فنحن لم نلتق وجها لوجه بعد . ولربما تكون هذه الغرابة منسجمة مع جو التغريب الذي نراه في قصص جاسم عطا ذاتها : إنه يمارس ضربا من الكوميديا السوداء أو الفنتازيا الساخرة المتجهمة . فشخوصه لا تعترف بقيود الزمان والمكان ، وهي مطلقة العنان في اختيار أفكارها وأفعالها وردود أفعالها .. وهلوساتها . غير أنك تشعر في ختام القصة أن تلك الحرية لم تكن إلا وهما وسرابا خادعا حين تتواجه تلك الشخوص مع مصيرها المحتوم ، وأن هذه الأسلوبية الرمزية المحكمة تخفي وراءها وجعا صارخا .. ومأزقا لا فكاك منه ..

هنا نقدم ثلاث قصص من مجموعته غير المنشورة : ( متاهات فارس الأكاذيب )


جمهورية مصر القديمة

جاسم عطــأ

نسابق الزمن،السلاحف،الموتى،وفي النهاية نكون في آخر المطاف

المطاف الصعب! حيث تنعدم فيه أشياء كثيرة،أو تفقد قيمتها،الا الحب الذي يبقى له دور أكــبر وأعظم وقت المحن، ولأننا نعيش بشرانق أحلام اليقظة،وإذا استيقظنا،أبحرنا في مياه الجحيم،بمجاديف منخورة،وأشرعة أمل مثقبة، فقد اكتسبت مـن هذه الرحلات المشبوهة،وجهاً مشوهاً وجسداً معوقا، لذلك لم أجد من تقبل بحبي سوى فتاة عمياء فقيرة،جمعتنا معاً أحلامنا الموءودة في صحراء الزمــن المالح،وفيما بعد اكتشفت ان زواجي مـن هذه الفتاة زادني قيداً حول عنقي،أعاق تحركاتي وحريتي، فعقارب ساعتنا تدور وتدور الى الخلف،حتى صرنا لا نشبه أنفسنا ولا عصرنا،اننا نموذج قديم في عصر حديث جدا،الا أن زواجي كان أيضا يخفف من مرارة حياتي،عندما أضع رأسي على صدر زوجتي، وأنا أشكى إليها ما عانيته طوال النهار،فمنذ عشرين عاما،والشمس تفتح عينيها على مائة ألف عامـل مسخرين لجلب الأحجار من وادي حمامات لبناء هرم الجيزة للفرعون خوفو،وأكثر مـن هذا العدد ينحتون تمثال أبي الهول للفرعون خفرع،وضعف هذا العدد يعملون لإزالة شعر الفرعونيات،وأضعاف أضعاف هذا العدد يبكون لموتاهم ومرضاهم،ولقهرهم وجوعهم،وأشد ما يبكيهم غفلة الإله "آمون" عنهم،كل هذا ونحن مجبرون بالقوة على جمع البيض كي يجلس عليه الفرعون،هكذا حياتنا كانت وما تزال خالية حتى من الابتسامة،فالابتسامة في مصر القديمة،كالعصفور المهاجر ليس له وطن على شفاه المواطن الفقير،لانشغالها دوماً بالتأوه.

لكنني بعد أن علمت بان بذرة الحب تنمو بأحشاء زوجتي،بدأت لأول مـرة أتذوق طعـم الأمل،وأقضي معظم أوقاتي متسائلاً بسذاجة الأطفال:-هل سيكون المولود ذكراً أم أنثى ؟ وكيـف سيكون شكله ؟ وما أسمه و.. و.. و.. والأيام تمر ونحن نبني ونجمع البيض للفرعون،والأيادي مرفوعة للسماء،لتطلب من الله أن يخفف من محنة الفرعون المبجل،ونفذت دعوات الناس نحو السماء،ومـن ضمنها دعواتي أنا وزوجتي،ورزقنا بمولود ذكر كزهرة اللوتس ، منحنا السعادة والبهجة ، وكشتلة أمـل بيضاء مزروعة وسط حقول الحرمان.

ولما فقس البيض تحت الفرعون،رفعت رايات الفرح،و أقيمت الولائم للّئام، وهزت الصدور والخصور،ووزعت الهدايا والعطايا على البغايا،ونحن كالمطايا بانتظار الأوامر والوصــايا، وخرجت مـن البيض فراعين كثيرة،انطلقت لتتفرعن على الناس،وكل منها يريد بيضاً يخصه،فازداد الطلب علـى البيض،وصرنا فراعنة ومتفرعنين،ومتفرعن عليهم،واستمر الحال مـن سيئ الى أسـوأ، و أصبحت مشاهدة رغيف الخبز أمراً شاقا،فأنا وزوجتي كنا نعجن من الحجر لقيمات،ونستحلب من الرمل ماءً لأبننا،الذي ينمو بالدعاء والصلاة المتواصلة بشق الأنفس،ولكن هيهات أن نفلت بريشنا! فكيف بغلامنا الذي شب ؟ وأرحام نسائنا صارت موانئ تجارية لتصدير فلذات أكبادنا للخـارج، الذين نودعهم ونستقبلهم بالدموع والزغاريد،فقد أخذوا ابننا منا عنوة ليشاركهم في جمع البيـض، وودعناه بالدعوات والتحيات،وبقينا نحسب المواسم،ونقرأ القرآن،ونصلي ونصوم،وننذر النذور لكهنة "آمون" ونزور قبور الصالحين وننتظر البشرى.

وفي ليلة رأيت اله الموت "أنوبيس" مستلقياً علـى النهر العطشان،أشار علـي بعصى من "ألاكاسيا"،فررت منه وشوقي لأبني ينزف دمـاً مـن مساماتي، وقلقي على زوجتي يبعثر أفكاري، دخلت منزلي وأنا أحمل خوفاً وحزنا،شممت رائحة أبني الطيبة،وقفت مكاني مشدوهــا، حاولت أن أعيد رسم صور كثيرة بخيالي،بعدما مزقتها نواقيس العذاب وهـي تقرع وتقرع بداخلي لغيابه، وتصورت بأن لقاءنا سيطرد من حياتي غربان الأحزان التي كانت تحلق في يقظتي ومنامي،لتأكل بذور مسراتي،الا أن اللقاء بيننا سار ليس كما توقعت! فلقد كنت أحضنه وأقبله بحرارة،وهو واقـــف أمامي كأنه محنط غير مبال بأسئلتي وترحيبي،تقبلت الامر برحابة صـدر،وأرجعت السبب للخجل، التعب،الصدمة،وبقيت أسئلتي وكلماتي لا تجد مقراً عنده،الا عندما سألته:-

-أين أمك ؟

لا أعرف هل أجابني أم أمرني،فلقد قال:-

-اتركها وشأنها.

-كيف أتركها ؟ يجب أن تراك بقلبها وتحضنك،انها مريضة جداً يا ولدي.

رحت أبحث عن زوجتي في المنزل ، وحين هممت بدخول الغرفة ، قفز أمامي وأمسكني قاومته بقوة ، وأفلت منه،ودخلتها ، تسمرت مكاني فزعاً وأنا أشاهد أحد الفراعنة يأكل زوجتي الملطخة بدمائها ، إلا أن الفرعون قال لي:-

-لا تخف لن أكلك ! فهذه تشبعني اليوم.

كانت الهواجس برأسي ، والكلمات بفمي تائهة ، لا تعرف الاستقرار ، لم أحس إلا بابني يحملني خارج الدار ، ووقف أمامي كالحجر ، فتمتمت قائلا:-

-بسم الله الرحمن الرحيم ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا.))

-(( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم.))

-لكنه يأكل أمك يا بني.

-إنه الفرعون يا بابا.

-أمك التي حملتك تسعة شهور انه يأكلها يا ولدي.

-إنه الفرعون يا والدي.

-أمك التي أرضعتك وربتك ، أنه يأكلها يا رجل.

-إنه الفرعون يا والدي.

-أنني أعرف أنه الفرعون ، ولكن أنت، أنت ، أتعرف أنها والدتك ؟

-لو كنت حقاً حقا تعرف أنه الفرعون لما أنجبتني في عصره.


فقاعات رمادية

جاسم عطـا

وقف أمام النافذة مراقباً القمر المتكئ خلف الغيوم المتقلبة المزاج، سمع بطنه يعزف مقطوعة الجوع ، دون تردد توجه الى الثلاجة ، وأخرج منها بقرة كبيرة ، ونام تحتها ليرضع منها ، سمع زوجتــه تصرخ بألم قائلة:-

- " انقلني الى المستشفى فورا ، لقد حان موعد وضعي ! "

على الفور ترك بقرته ، وأخرج من مزهرية فخارية حماره الذي يستطيع الطيران بفضل نجاح عالم عربي في تحسين الهندسة الوراثية لهذا الحمار ، ومزجها بهندسة الخفاش الوراثية ، وتبع العالم العربي عالم باكستاني مبدع ، وضع في مؤخرة الحمار محركاً نووياً لتصبح سرعة طيرانه كسرعة طائرة نفاثة.

نهق الحمار وحلق مبتعداً عن الأرض حاملاً المرأة وزوجها ، الذي يركله طالباً سرعة أكـبر، فأقرب مستشفى تقع على الساحل الأوربي للبحر الأبيض ، ولسبب ما كان هناك قصور بالسرعة ، أقلق الزوج المحاصر بآهات زوجته العنيفة والمستمرة . وتسرب التشاؤم الى داخله ، لما رأى عنق حماره خاليـاً مـن تعويذته الدائمة ، ولم يخطئ إحساسه، فبدخول الأجواء الأوربية استقبلته بحماس المطبات الجوية ، والعواصف والأمطار التي صعبت جراءها الرؤية كثيرا ، وكاد الحمار أن يصطدم بطائرة الشبح ، لولا انحرافـه الحاد المفاجئ، مما أربكه وجعله يقفز بالفضاء وهو ينهق بعصبية ويرفس ، والزوج ممسك بذيله ولجامـه بقوة للسيطرة عليه ، فزعت الزوجة فزعاً أخرج الطفل من أحشائها ، فهوى في الفضاء ، نبهت زوجهـا وهي تبكي وتتأوه قائلة:-

- " الطفل سقط مني،ابحث عنه بسرعة."

- " اللعنة عليك وعلى هذا الحمار المتهور ! "

بحث عنه بدورانه على شكل دوائر مترابطة ، مستعملاً شاشة الرادار ، وهو يلعن ويشتم زوجته المهملة ، التي كانت تدافع عـن نفسها بالبكاء ، وتلطم خديها وصدرها بقوة، وأخيراً وبعدما يئـس من البحث استنجد بكل نقاط الطوارئ الأوربية عبر الاتصال الفضائي المزود به الحمار ، أمـا الطفل فحين سقط ظل يهوي الى أن أستقر في أحضان كاهن يشارك بمراسيم دفـن ميت ، وتفاجأ الكاهـــن والحاضرون ، وصلوا شاكرين الرب، وآمنوا بأنه معجزة نزلت من السماء ، وتناولت كل وكالات الانباء العالمية خبر الطفل السماوي مـع بعض الإضافات الطفيفة ، وصار لـه اتباع يقدسونه ، وزوار يتباركــون ويتعالجون ويطردون الأرواح الشريرة به ، بينما يصر والداه على ان الطفل هـو طفلهما وأنه لم ينزل مـن السماء وأنما سقط منهما اثناء طيرانهما ، واشتد الخلاف بين الكنيسة وبلد الوالدين ، ثم بين أسيا وأوربا، وحاولت الأمم المتحدة التوسط لفض الخلاف ، لكنها لم تنجح، بـل عجلت بإشعال فتيل الحرب بين القارتين الجارتين ، ومنذ البداية ظهرت قساوة ووحشية الحرب ، فكلتا القارتين تضمران لبعضهما حقداً دفيناً بسبب الثارات القديمة ، وهيئ كل شئ لهذه الحرب ، من أسلحة الى عوامل نفسية ، وإعلامية وتاريخية ، واخيراً تعاطفت أفريقيا مع أسيا ، ودخلت الحرب ، وأمريكا الشمالية ساندت أوربا ليزداد عدد الضحايا والخطابات الكاذبة والوعود الواهية ، والخرافات السياسية ، وتم إعدام الأسرى من كلا الطرفين ، وفرز الضحايا الى شهداء وخونة وأعداء ، ونتيجة الكساد الاقتصادي العالمي وقعت المجاعات، وزاحم البشر الحيوانات على علفها ، وصار الأباء الوقورون يقودون بناتهم الى دروب الرذيلة مقابل حفنة قمــح ، والأمهات يبلغن السلطات بخيانة أبنائهـن ، ليستلمـن المكافآت المادية ، وأصبح المواطنون يجاملـون السلطات على حساب مبادئهم وأحلامهـم نتيجة قهرهـم وجوعهـم ، وألغت السلطات المتحاربة الديانات دون تميز ، لأنها بحاجـة لعبادة وتقديس مديري المعركـة ، وأخيراً انتشرت الأمراض والأوبئة ، لتحصد من لم يقحم في حقول المعارك.

كانت هناك دول ترفض هذه الحرب المجنونة ، ومن بين هذه الدول المحبة للسلام، دول أمريكا الجنوبية المشغولة دائماً وأبداً بتطوير لعبة كرة القدم ، وكان لهذه الحرب أثر سيئ على تطوير اللعبــة خصوصاً في كولومبيا بعد امتلاء شوارعها ببنات وأولاد السوء النازحين من الدول المتحاربة ، وهـم يهربون الأمراض والموت تحت جلودهم أينما وصلوا، وبعد جلسـات ومراسـلات ومفاوضــات ومداولات سرية وعلنية لمدة عشرين عاما ، استطاع الرئيس الكولومبي أن ينهي القتال ، بموافقة حلـف أوربا على أخذ الجزر اليابانية تعويضاً عن الأضرار التي لحقت به ، وأتضح بعد نهاية الحرب أن سبب قيامها هو رغبة دول أسيا وأفريقيا بإعادة الاستعمـار الأوربي لبلدانها ، بعد فشـل حكوماتها الوطنية بإدارتها ديموقراطياً واقتصاديا ، أما بالنسبة للطفل السماوي الذي لم يذكر في برتوكول السـلام ، فقد صـرح رئيس إيطاليا بأن الطفل أعدم في أوربا ، لما بلغ العقدين لإدارته منظمة مشبوهة سرية تدعو للسلام.!


رجل في قارورة امرأة

جاسم عطا

عرفتها منذ زمن الفطحل،حيث كانت الحجارة رطبة،وقبل بدء التاريـخ عشـقتها بجنون ، وهمت بأطياف سحرها،وألغيت من حياتي الحزن والحسرة،كان كل يوم جديد عيداً لميلاد يوم سعيد،فالشمس لم تشرق إلا كي أشاهد وجـه حبيبتي،والقمر لا ينير ألا ليعكـس نوره في عيني حبيبتي،حتى الزهور لا تتفتح الا لتقلد ابتسامة حبيبتي،هكذا كنت وكانت وكانوا ، الى أن ضيعني قـدري، فأصبحت دموعها لآلئ يتاجر بها أثرياء بلادي،ودموعي ماءً طهورا لأحزان فؤادي،وفقدت الكثير من الدم والمبادئ،وأشياء أخر،ومن بين ما فقدت سر وشيجتي بها،فصارت تعصف وتعبث بي ومعي كما تشاء،كمهرة جامحة متوحشة،ترفض السدود والحدود،لا يطيب لها إلا دهـس ذكرياتي وأحلامـي، أقدامها لا تفرق بين الزهور والصخور،تأتيني حينما تريد،لتحرقني بأنفاسها الملتهبة،ولتصهر انتصاراتي الكاذبة وأوسمتي التالفة،اقفز في حبها درجات،وهي تدفعني للعذاب دركات،الهروب منها يعني الولوج في دوامة عشقها، انها امرأة فريدة مـن نوعها،لم أقابل مثلها إبان تجوالي في مطارات،وموانئ،وفنادق ومعتقلات العالم أجمع ! وكم من المرات تصورت بأن نظام الكون يدور حول محورها،والا ماذا تعني صورها التي تغطي كل الشوارع والجدران،والصحف والمجلات،وعلب السجائر؟ ومن هي حتى تكون بهذه الشهرة؟ وإذا سألتها عن ذلك،أجابتني إجابات ساخرة أو مبهمة،ثم تعود لممارسة هوايتها في جمع الكلمات لتكون منها جملاً مفيدة في عالم يكسوه اللون الرمادي،ولهُ طعم الحنظل،ولهـا حنان يغطـي الدنيا كلها، إلا أنا ! الا أنا ! لقد كانت توقظني متوسلة كـي أطفئ الشمعة لها خوفاً على الفراشة، التي تحوم حول لهبها،وأنفذ لها مـا تريد،وأمزق لها دياجير الليل ووحشته،بسرد الأكاذيب الكبرى،واجترار الأوهام.

آه ! دمها يرفض البرودة والتخثر،مثلنا كانت هـي ترفض توسلاتي وتضرعاتي،وتدحرهـا بسيول شبقيتها لتميتني غرقاً ببحر قسوتها،لا توجد في علاقتنا أية عدالة بيولوجية،فأنا لي ثقب واحد، ولها عدة ثقوب بظهري،تحفرها بأظافر كفيها،عندما يثور البركان ويفيض النهر،ليمتزج دمي بعرقي، وشهوتي بألميصرخاتي توقظ بقايا فحولة في قائد قطيع فقد قرنيه بسلسلة معـارك خاسرة،وأصبح يدافع ويهاجم بمؤخرته.

إنها تجيد التنمر والتثعلب علـي،وتخادعني بجريها أمامي،لتتعب بصـري وأعصابي بجسدها المخطط،لقد استطاعت مرة أن تخدعني وتوهمني بأنها قطعة بوظة!! ودفعتني للحسها من أخمص قدميها الى قمة رأسها،وهي تضحك بغنج،وأنا ألحس البوظة الساخنة بجنون!

أيتها القبور! اطردي موتاك! فأنهم لم يجيدوا الحياةفقد أرسلت لك بدلاً عنهم امرأة تعشق كل شيء،وتعرف وتجيد كل شيء،تعرف كيف تجعل ملابسها الداخلية معطرة دون عطور أو بخور، إنها تزرع الأمل وتنشر الحرمل في الصحراء،لتخرج منها لؤلؤاً وياقوتا،نعـم. نعم انها ساحرة! فحين تلمسني تلغي مرارة الحاضر،وتبعث في نفسي نشوة مزخرفة بوجع اللذة،يكـاد الزمن أن يطمرها،ولما تحضنني تتوقف دقات الساعة،وتنفرج عقاربها الملساء بحبور،ولا يسمع سوى طقطقة عظامي في أجمل معزوفة،وتضع في فمها قطع ثلج صغيرة،كي لا تحرقني أنفاسها الساخنة،لكنني أجدها أسخن مــن دبابتي حين احترقت بي.

يا ليت الأطباء أخرجوا الشظية من جمجمتي،فلربما مت حينها،وحددت خسارتي مسبقا! نعم أنني نادم على قتلها،فأنا أعيش في قارورة هذه المرأة،ولكن ماذا أفعل؟ وهي دوماً تؤجج بداخلي نار الغيرة ، لتحرق ما تبقى لدي،فلقد اتصلت بها اليوم عدة مرات،ولم أسمع إلا نغمة انشغال الهاتــف، حسبتها تكلم عشيقاً،انتابني هاجس يخدش بمخالبه الملوثة الأماكـن البيضاء بداخلي، ودفعني للمنزل متسللاً كالقط الأسود،وأنا أحمل سكيني،فجأة قفزت أمامها،وقد كانت عارية،وصحت بها قائلا:-

-أني أتصل بك منذ الثورة الفرنسية،وهاتفك مشغول،فمع من كنت تتكلمين؟

أجابتني كأن الأمر لا يعنيها:-

-هاتفي وهاتف نوال الزغبي عاطلان! ألم تقرأ ذلك في الصحف؟

حدقت بها،وأنا أتحسس السكين بجيبي،ونظراتي تتفقد مفاتنها حيـث ملاعـب أصابعـي، وثارت الذكريات وثقب الباب والستارة المثقوبة،وتراقصت أمامي صـور مقلوبة لزجة،وصـوت تنهدات محمومة لرجل وامرأة،وشخير يخصني،انتفضت من هذه الذكريات كالكلب المبتل،وقررت أن أحسم الأمر،وأمنع وقوع الخيانة مستقبلاً،من أجل ذلك طعنتها بالسكين ، فكل ما في هذه المرأة المثيرة يدفعها للخيانة ، ولكن الذي يحيرني أن دمها يرفض التخثر،والبرودة التي بدأت تتسرب الى أطرافي.

عندما فتحت عيني ، وجدتها عارية أمامي وبصحبة رجـل عـار أيضا،حسبته نفسي، إلا أن أعضائه لاتشبه أعضائي،بل يزيدني عضوا،حاولت النهوض لكنني وجدت ما يقطع أنفاسي،ويشـل حركتي،ثم سمعتها تقول للرجل غاضبة:-

-لماذا أفزعته هكذا ؟

أجابها الرجل بتعجب:-

-لقد مزق كل الوسائد بسكينه،وكاد أن يطعنني بها.

صرخت به قائلة:-

-أنت الذي طعن زوجي المسكين !

قاطعها الرجل قائلا:-

-لم يكن زوجك مسكيناً بل مجنوناً! ألم تشاهديه وهو يطعن نفسه بمحض ارادته ؟

قالت بأسى كأنها تخاطب نفسها:-

-في البداية أراد أن يكون بطلاً، فكان مجنوناً،وفي النهاية كرر المحاولة فكان مقتولا.

انهما يكذبان! يكذبان! فقائد القطيع عليه أن يدافع ويهاجم حتى لو بمؤخرته ، وإلا لا يكون قائدا.


شيماء نوري

· ولدت عام 1976 – المقدادية

· دبلوم معهد طبي

· نشرت عددا من القصص القصيرة والقطع النثرية

في جريدة الاتحاد ومجلة صوت الطلبة

للصوت النسوي نصيبه الذي يستحقه في هذه المجموعة . فشيماء المقدادي صوت واعد جريء يمتلك كل إمكانات العطاء والتطور والاستمرار ، ولغتها واضحة رقيقة . وإذا كانت قصصها ذات طابع رومانسي واضح فأنها تجيد التقاط صور نفسية ذكية لشخوصها وهي تمر في نقاط تحول حياتية هامة . أبطال قصصها ليسوا نساءً على الدوام ، كما قد يفسر البعض خطأً مصطلح الأدب النسوي . بل هم أناس عاديون بسطاء : رجال ونساء يواجهون لحظات الاختيار في مفارق الطرق .. ويبقى اختيار القاصة ثابتا في انحيازها الى الجانب المضيء … جانب الإنسان الذي يختار الخير والوطن والحب والانتماء الأصيل ..


ليلة الميلاد

شيماء نوري

باردة ، ثقيلة هي الليلة . دقات الساعات تحملها رياح الليل كأصوات أشباح تعيث في السكون فساداً . نظرت الى الساعة المعلقة في أعلى الجدار ، كان صوت عقاربها يمزق حبال صبرها ويبدد سكونها. التفتت الى المائدة وهي تزدهي بالشموع الأربع وما أعدته من طعام وشراب لهذه الأمسية. تساءلت :

- "سيأتي ؟ لقد أكد لي مجيئه. "

إن عقارب الساعة تنطق بطريقة رومانسية " لقد تأخر … قد لا يأتي .." ترى عقاربها تبتسم بسخرية .. تلعنها .. تتمنى لو تحطمها.. لكنها أضعف من ذلك. الساعة اللعينة هديته في عيد ميلادها. عواء الكلاب وعويل الرياح يذكرانها بالموت الذي تخشاه. ما زالت تتذكر حين توفيت أختها في حادث سيارة ، لزمت الفراش وهي لا تعي .. وعندما استردت وعيها كان المأتم قد انتهى والعويل قد صمت. الكلاب صمتت أيضا. الساعة ما زالت تسخر منها .. لن يأتي !

تجاهلت سخريتها ونظرت الى المرآة : ما زالت فاتنة الجمال .. ثوبها هذا هديته أيضا . إختاره بلون البحر : أزرقا وهو يكشف عن عري كتفيها وذراعيها. وهذا العقد الذي يعانق جيدها ويزين صدرها كنجمة تتلألأ وسط ضباب الفجر هديته أيضا. وشعرها الذي تركته ينسدل كشلال من الليل فوق كتفيها … هكذا يريدها : ساحرة .. رائعة .. فاتنة..

عواء الكلاب يمزق الصمت والسكون من جديد ويوقظها من أحلام ذكريات مضت . التفتت الى الساعة : كانت تقهقه .. " لقد أخبرتك أنه لن يأتي .. " صرخت بها " كاذبة ، كاذبة ‍ إنه آتٍ ، إنه آتٍ "

إستدارت صوب الشموع اللاتي ذبن قليلا .. لكنهن سئمن الانتظار: الإنتظار كمصاص دماء يمتص هدوءها ويقتل بقايا أمانيها. إحداهن بدأت تميل جانبا. كان النعاس قد بدأ يسرقها.. حدثت نفسها : " لقد تغير كثيرا ، لم يعد رقيقاً ، ولم يعد يأبه بشيء. منذ أن تسلم منصبا أكبر وهو يختلس من ساعاتي معه ليمنحها لعمله. لقد أصبح مغرورا، لكنه ما زال يحبني ، أنا واثقة " عواء الكلاب يستدرج ذاكرتها ، يذكرها بالموت والوحدة، هل تخاف الموت ؟ ‍ هي لا تعلم . لكنها تخاف الوحدة. وتساءلت لمَ يتغير البشر حين يصبحون في مناصب أرقى وأعلى ؟ مالذي يضاف اليهم ليتصرفوا كآلهةٍ خالدة ؟

نظرت الى الساعة : لم تكن تهزأ أو تسخر منها. ربما أشفقت عليها ، وربما استسلمت للنعاس. إلتفتت الى الشموع : خشيت أن يغلبها النعاس هي الأخرى . ما زلن يقظات .. تقربت اليهن وهي تعلق فوق جانب خدها الأيسر إبتسامة صغيرة لم تفتر فيها عن أسنانها رددت وهي تدور حول نفسها : " مظهري هذا كان يذكره بالبحر والطبيعة .. أما اليوم فإنه يرضيه كسيدة راقية " صمتت وهي تراقب احتضار الشموع

- " آهٍ .. أين تلك الأيام التي كنا نخلع فيها رداء الحضارة ونحيا مثل بربريين عند شواطئ البحر نشاكس أشعة الشمس ونهيم مع ضوء القمر فننسى قوانين البشر ونصبح جزءاً من قوانين الطبيعة. ؟ "

عواء الكلاب يشتد والريح تحمله اليها ، تشعر بأنامل الخوف تضغط فوق صدرها فتعقد ذراعيها حول نفسها .. " لقد أصبح بارداً .. بارداً .. أتراه ما زال يحبني ؟ لا أعرف . الأمور تختلط أمامي .. أيكون الحب كهذه الشموع ؟ يضيء ببهجةٍ ثم يذوي وينطفئ ؟ كلا .. لا يمكن . الحب أقدس وأنبل من أن يكون جذوة تنطفئ بعد حين .. إنه عالم يتوقف عنده الزمن ليكون العالم الأوحد . رنين الهاتف يقطع سلسلة أفكارها :

- " ألـو .."

- " …… "

- " لماذا ؟ "

رغم سماعها لصوت إغلاق الهاتف الآخر إلا أنها استمرت تتكلم..

-" وشموع زواجنا الأربع من سيطفئها ؟؟ "

تركت سماعة الهاتف تنزلق من بين يديها لتتأرجح في الهواء وهي تشعر برغبة في التصدي للريح التي تضغط زجاج نافذتها وبرغبة أكبر في أن تشاركها العويل .. لن تخاف الوحدة ، ستتمرد كالريح وتسترد ذاتها ، إنها لا تطيق أن تكون متاعا في المنزل ولا تريد أن تكون ذكرى حب مضى.

فتحت نافذتها وهي تجيب عن سؤالها صارخة :

-" فلتطفئها الـــريح ! "


في مطار الغربة

شيماء نوري

لم تعرفه في بادئ الأمر ، رغم أن ملامحه لم تتغير كثيرا ، كان يشق طريقة وسط حشد من الناس نحوها بجهد غير يسير.

ارتسمت فوق شفتيه ابتسامة هادئة حزينة وهو يسألها عن أهله وبغداد , عن دجلة والفرات بينما ارتسمت الدهشة فوق ملامح وجهها وهى تجول ببصرها بين وجوه الجالسين في قاعة الانتظار المزدحمة.

كان صوت الموظفة يأتي عبر الأثير يعلن عن موعد إقلاع الطائرات من المطار حسب وقتها ويدعو المسافرين للتوجه الى طائراتهم المعنية ثم يعود ليعلن عن ترحابه بالقادمين .

عادت نظراتها اليه , لم تسمع ما كان يتفوه به لكنها رأت شفتيه تتحركان فقد سرقتها الدهشة لمرآه وأعادتها مجبرة الى ماضيها ..الى ذلك الماضي الجميل حيث كانت تسير برفقته عند شواطئ دجلة وتقف طويلا بجانب تلك الشجرة العملاقة التي ينحني أعلى غصنها فوق صدر الماء فتبدو كمظلة سحرية تغازلها أشعة الشمس , لطالما أعلنت عن الشبه بين قامته وغصن تلك الشجرة حين كان ينحني فوق أمواج دجلة ويداعبها.

أعادتها الضوضاء الى حاضرها وتساءلت وهي تتفحصه :أين تلك الكبرياء التي جعلت قلبها يتمرد على تقاليد وأعراف العائلة ليعلن حبه فتصبح شريكة عمره , أتبعثرت في دروب الغربة ؟ وأين سكونه الذي يشبه سكون الأصيل ..أنسيه في طرق الضياع ؟ .

ثبتت نظرات عينيها في عينيه , ما زالت عيناه لوزيتين لكن نظراتهما اصبحتا ضيقتين ينبعث منهما شعاع ضئيل انهما غير تلكما العينين اللتين كانتا تسبحان في بحريهما أشعة الشمس وينكسر عند عتبتيهما ضياء القمر .

وبدا غصنه الذي كان يميل على أمواج دجلة كأنه يميل الى هاوية اليأس .حملت حقائبها وتحولت عنه الى حيث الطائرات بينما كان يشير اليها للخروج من

المطار .. سألها " الى أين " أجابته بهدوء "الى وطني فآنا أخشى آن تتبعثر أنفاسي في طرق الغربة فاضيع عن نفسي وليتك ترجع معي عسى أن تعود كما عرفتك من قبل .

-لقد ضاعت أيامي وأحلامي على أرصفة الغربة فماذا ستحقق لي عودتي.

-سيغسل ماء دجلة ليل غربتك ويبتسم لك الوطن ويهديك فجر عمر جديد.


خريف العمر

شيماء المقدادي

الصمت والسكون رفيقاه الدائمان بعد أن احتوته الوحدة. أذناه ترهفان السمع الى صوت النافذة التي تصد رياح الخريف لتعلن عن قدوم الشتاء " سيد الفصول". زاغت عيناه عبر النافذة الى السماء .. حيث الغيوم التي ابتلعت معظم النجوم . كان كل ما في الكون يذكّره بوحدته ويعزف على أوتارها . ودون أن يعي قلّب في ذاكرته أوراق عمره فعاد عبر السنين مخترقا الزمان والمكان ، الى حيث وعى الدنيا فرأى نفسه ابنا لمليونير ثري ووريثا وحيدا بين وريثات أربع فكان مركز الرعاية والاهتمام ، فشب محبا لذاته طامعا في كل ما تصبو اليه نفسه. لم يحرم نفسه من ملذات الحياة المباحة أمام أموال أبيه ، وعرف عنه التفوق في الدراسة ، لا حبا بالعلم ، بل لكي يكون الأفضل .. الأفضل دائما.وتساءل وهو يمتص نفسا من سيجارته " الرفيقة الثالثة " : كيف يُترَك رجلٌ لديه من الأموال ما يغرق به مدينة بأكملها ولا يتمسح بأذياله الأكابر والأصاغر ؟

هذا هو : إبن السبعين كما كان ابن العشرين .. الغرور هاجسه وديدنه الوحيد . إلتفت الى منضدة وضعت جانبا واستقرت فوقها صورة لشاب في الثلاثين من عمره : أنتَ أيضا هجرتني .. الكل يهجرني حسدا وحقدا .. لكنك لستَ حاقدا .. أنتَ ولدي .. وحيدي ..

ولقد هجره ولده حقا .. لا حسدا ولا تعنتا ، لكنه رأى بعينيه الواعيتين كيف بدأ الناس يبتعدون عن والده كأن به مسا أو مرضا معديا ، فحاول أن يعود به الى جادة الصواب . ولكن كيف السبيل الى من تربع الغرور والكبرياء المزيفان على قلبه ؟ أصبح أمامه طريقان : إما أن يقيع مع والده في القصر المنيف ، أو يرحل عنه ويبدأ حياة جديدة بعيدأ عن غروره ، فاختار الطريق الأصح . وها هو اليوم يثبت وجوده في عمله ويحظى بحب واحترام الجميع ويحقق نجاحا لم يتوقعه الكثيرون ومنهم والده . لقد كان طريقاهما متناقضين فأصبح مصيراهما متناقضين أيضا رغم أن خيطا رفيعا قويا ظل يربط بينهما .

قال لنفسه وهو مسترخ في كرسيه الهزاز بينما تعلقت نظراته ما بين خيوط القمر الوهمية وشجرة التوت المتعرية : ما أشبه أيام عمري بهذه الشجرة ّ تساقطت أوراقها برياح الخريف وتساقطت أيام عمري برياح الزمن . وما أشبه اسمي ومركزي بهذه الخيوط ! لامعة .. براقة .. عزيزة المنال ، لكنها في الحقيقة لا شيء .. لا شيء..

وارتفع عويل الرياح في الخارج .. فأحس ببرودة الوحدة تشل أوصاله ..


المحتويات

الصفحة

المقدمة : الناس ..المدينة .. الحكاية ……………. 1

1-سليمان البكري ….. …….. ……………. 3

ظلال الحب ……….. ……… …………… 5

الحب ..المنفى …….. ….. ……… 7

غضب ………… ……….. …….. 10

2 _ مهند خزعل الشهرباني ……………… ………. 11

في انتظار ما لا يأتي …….. …………… 12

في انتظار الرصاصة ………….. ………… …….. 14

يوم مختلف …….. …….. …… 16

3 – د. ماجد الحيدر ……… …….. 19

ســيرة …….. ………… ………… 20

الغــراب ……… …………… ……. 22

بكائية العرانيس ……. ………….. …………. 25

4 – عباس كربول حسين ……… ………… 27

النساء والمجهول ………….. ………….. …… 28

اللوحة والفنان ………….. ……… ……… .. 30

5 – عمران الغانم ………….. ……… ………. 31

أحزان ……. ………….. ….. 32

الخلاص المستحيل …….. …….. ………. 34

الضــياع ………. ………. ………… 35

6 – أوميد ماجد ……….. ……… …. 36

مذكرات مرآة …….. ……. …… 37

7 – حسن مهدي هادي …….. ……… ……. 39

الحصــان ………. ………. …….. 40

8 – جاسم عطا …….. ……… …….. 43

جمهورية مصر القديمة ……….. ……….. 44

فقاعات رمادية ………… ……… …….. 47

رجل في قارورة امرأة ………….. …….. 50

9 – شيماء نوري …….. …….. ………. 53

ليلة الميلاد ………… ……… …….. 54

في مطار الغربة …….. …….. …….. 56

خريف العمــر ……….. ……… ……… 58

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد

420 لسنة 2001

____________________________________

طبع بموافقة وزارة الإعلام المرقمة

368 في 5 / 5 / 2001



· يقتضي الوفاء منا أن نشكر صديقنا العزيز الشاعر الكبير محمد الصيداوي على تفضله بمراجعة مسودات المجموعة وإبداء ملاحظاته وتصويباته اللغوية القيمة على كل ما نكتب ونقرأ مما يجعلنا جميعا في حالة استنفار دائم حرصا على سلامة اللغة ونقائها!

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية