ماذا يأكل الأغنياء (قصص قصيرة)


ماذا يأكل الأغنياء

(قصص قصيرة)

د. ماجد الحيدر

بغداد-2002



الإهداء

الى رفيقة العمر

قربان محبة ووفاء

تنويه

هذه القصص من بنات أفكار كاتبها. وأي تشابه بين أحداثها أو شخصياتها وبين أية أحداث أو شخصيات حقيقية هو من قبيل المصادفة والخيال الأدبي.



من أوراق "يزيد بن مفرِّغ الحميري"

حين غادرتُ المدينةَ كانت ما تزال تحترق.. لم ألتفت ورائي لألقي عليها النظرةَ الأخيرةَ.. لكنني أحسستُ أن ألسنةَ اللهبِ ما تزالُ مرتفعةً، أدركتُ ذلك من الهسيسِ الذي لا يكاد يُسمع، وأخبرني بذلك الهواءُ، ورملُ الصحراء الذي غاصتْ فيه أخفافُ راحلتي، والكثبانُ التي اصطبغتْ بضياءٍ برتقاليٍ شفيف.(1)

كانت ناقتي هادئة على غير عادتها، وهذا ما كان له أهميته في تلك الساعات؛ فناقتي – نسيتُ أن أخبركم – هي معلمي الأول، ودليلي الذي يفلسف لي الحياة. كانت هي من نصحني بإحراق هذه المدينة، وكل المدائن التي أحرقتُها من قبل.

توقعت منها أن تفرح، أن ترقص جذلا، أو أن تهيج على الأقل. لكن عيونها قالت لي اليوم:

- "لا شيء يهم! لم يعد من شيء يمكن أن يثيرني أو يُدخِل الحزنَ أو السرور الى قلبي الهرِم.. كل شيءٍ تافه.. كل شيءٍ عقيمٌ .. تفاهات، تفاهات، تفاهات مدى الأبصار."

ورفعتْ رأسها الى السماء برهةً ثم استوت وراحت تخب دونما اكتراث(2)

لم يطل الأمر حتى ظهر لي الشيطان من جديد. وكما يفعل في البرّية الخارجة من كل مدينة أحرقها.. راح يساومني على ناقتي وزنادي وفتيلي. ورفضتُ كما في كل مرة. قلتُ له إن الوصايا تقول: لا تجرّبْ الإلهَ ربَّك. وقلتُ له أنْ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وقلت له أن "الجُمانة" ما رقأت أدمعُها مذ فارقتُها، وإنها تنتظرني هناك.. في رُستاقها بالأهواز البعيدة. لكنه استل من الهواء مرآته السحرية وأراني صورة فرسان مدججين وصلبان شائكة وخيل مطهمة، ورماح تلمع أسنتها في النقع، وقال لي:

- "حتامَ تفرّ من كورة الى كورة ؟ وهؤلاء جند ابن زياد يبحثون عنك منذ ألف عام ". وقال لي إن ابن زياد لن يكتفيَ هذه المرة بأن يدور بك في أزقة البصرة وأسواقها. وإنهم قد اغتصبوا "الجُمانة" و "أناهيد" و "ليلى" و "سلمى" وأن الخليفة في دمشق قد أهدرَ دمكَ . غير أنني ضحكت ساخرا وقلت له:

- " أبعدَ ألفٍ أخاف ابنَ سُميّة !؟ "(3)

وضرب الشيطان الهواء فاختفت المرآة. وضرب الهواءَ من جديد فإذا هو حية تسـعى. وراح يماشيني ويكلمني في صدق ظاهر وقال:

- " أنا أعلم أنك تحب أن تراني بهيئتي هذي ".

فأومأتُ مصدّقا. وقال لي:

- " أما تعبتَ وأنتَ لما تزلْ تُساقُ من سجنٍ الى سجن، من البصرة الى سجستانَ ومن الطفّ الى كابلستان ومن رامهرمز الى قندهار ومن دمشق الى الموصل ؟

فقلت له:

- " ليس بعدُ ! "

وقال إنه مثل أخٍ لي كبيرٍ فسكتُّ موافقا، لكن ناقتي أدارت رقبتها الطويلة إليه في وقارٍ ورمقَتْهُ بنظرةٍ تائهةٍ لا معنىً لها، ثم عادت تجترّ ضجرها.

أسكتَتْهُ تلكم النظرة برهةً طويلةً (لقد كان مثلي يَجِـلُّها ويحسَب لها حسابا عظيما). ثم أنه شرع يتملقها ويحدو بأبيات لطرفة ولبيد. حتى إذا اطمأن لها صعّد في الهواء رويدا ودنا مني وهمس:

- " نشدْتُكَ بحقّ بُردٍ والأراك، وبما بين صُلب الزمان وترائبه من نُطَفِ الشعراء والفلاسفة والمجانينَ ومشعلي الحرائقِ.. أن تبيعني عُدّتكَ السحريةَ هذي ".

- " وما تصنعُ بها ؟ " سألته وأنا أدرى بالجواب.

- "ألم أنبئك ألف حين أن لي هناك (وأشار الى المدى الغامض) مدنا أتوق الى إشعالها، وأن لي –أنا الآخر- ابن زيادي الذي يتعقبني من قبل أن تهبط منها بمليون عام؟ "

- " فلتشعلها بدمك ! ألستَ مصنوعا من نار ؟ "

- " بلى، ولكن ناري شائخة.. ناري كسيفة باردة ! "

وتهدج صوته .. وترقرقت عيناه. ورأيتُ الشيطانَ يبكي.. رأيته مخذولا مهزوما. وكدتُ أميل عليه لأواسيه لكنه أدرك ما بخاطري فانقلب من حياءٍ غمامةً بيضاء صغيرة تُساقطُ من حولي رذاذا دافئا يرطب قميصي ولا يبلّه. وسمعته من خلال السحاب يتضرع إلي:

- " إذا لم يكن الى شرائها من سبيل، فهل لكَ يا بن عمّ أن تعيرنيها بضعَ سويعات. إن في حشايَ جمراً ولا كجمر الشياطين!"

-" وهل من ملكٍ يعير تاجه وصولجانه ؟ "

-" أنا فعلت، نعم.. ومن أجلكم أنتم "

-" وندمتَ ؟ "

-" ندمتُ ؟ لا … ربما .. لكني أشعر أن هناك شيئا ناقصا في قصيدتي.. أحس أن لوحتي يعوزها لونٌ ما "

-" أهو البرتقالي ؟ "

-" البرتقالي ؟ … ربما " (4)

وهدرت ناقتي. ثم قرّتْ.. واستغرقت في تفكيرٍ عميق. وغمر الكونَ صمتٌ مريب. وبدأتُ أتوجسُ خيفةً. وراح الشيطان يتلوى ويكّتم تنهداته الوجلة.

وحدث أخيرا ما كنا جميعا – أنا وناقتي والشيطان- نترقبه ونخشاه ونتوق إليه مثل آلام طلقٍ محتوم.

وانتفضتْ.قتي صيحةً عظيمة.. وانتفضتْ . واستدارت صوب المغرب، وأطلقت جِرانها للريح كمن به مسٌّ من جنون.

-الى أين؟ (هتفتُ بها جزِعا) ليس هذا الطريقُ الى ديار الجُمانة! "

لكنها صمّت آذانها ، ومضت لا تلوي على شيء . كانت في حالٍ من الوجد والذهول وهي تشق طريقها بين أسراب القطا المفزوع.. وحلّقت.الخيمة وجهرت بالعويل.. وحلّقت .. وابتلعها الظلام..

أدركت أن لا جدوى من الرجاء فأفلتُّ الحبل، ولعنتُ الزمان.. ولعنتُ عبّادا وعُبيدا.. ولعنت كل سلطانٍ ودعيّ.. ولعنت الشيطان.. ولعنتُ نفسي..

ومن بعيد.. في ضوء الشفق الشاحب.. أبصرتُ أسوار مدينةٍ جديدة..

******

(1) قال صاحب الشعر والشعراء : ولماّ وُلّيَ سعيد بن عثمان بن عفّان خراسان استصحب يزيدا فلم يصحبه وصحب عبّاد بن زياد بن أبي سفيان فلم يحمده وكان عبّاد طويل اللحية عريضها فركب ذات يوم وابن مفرغ معه في موكبه فهبت الريح فنفشت لحيته فقال ابن مفرغ:

ألا ليتَ اللحى كانت حشيشا فنُعلفها دواب المسلمينا

(2) وقال صاحب الشعر والشعراء : وأخذه عبيد الله بن زياد فحبسه وعذبه .. وحمله على بعير وقرن به خنزيرة .. فطيف به في أزقة البصرة وأسواقها والناس يصيحون خلفه : إين جيست ؟

(3) وقال صاحب الأغاني : وطلب عليه (عباد بن زياد) العلل ودس الى قوم كان لهم عليه دَين فأمرهم أن يقدّموه اليه ففعلوا فحبسه وأضرّ به ، فبعث اليه أن بعني الأراكة وبُردا ، وكانت الأراكة قينةً لابن مفرغ وبردٌ غلامَه ، ربّاهما وكان شديد الضّن بهما ، فبعث اليه ابن مفرّغ مع الرسول : أيبيعُ المرءُ نفسه أو ولده ؟ فأضرَّ به عبّاد حتى أخذهما منه .

(4) ثم أن عبيد الله بن زياد أمر به فحُمل الى سجستان الى عباد بن زياد فحُبس بها فكان مما قال في الحبس:

حيّ ذا الزور وانهه أن يعودا إن بالباب حارسـين قعودا

من أســاوير لا ينون قـياما وخلاخيل تُسـهر المولودا

افإنسٍ ؟ ما هكـذا صبر إنسٍ أم من الجن أم خلقتُ حديدا

لا ذعـرتُ الســوامَ في فلق الصبح مغيرا ولا دعيت يزيدا

يوم أعطي مخافة الموت ضيما والمنايا يرصدنني أن أحيدا

قال وتمثل الحسين بن علي (رض) بهذين البيتين لما أتته بيعة يزيد بن معاوية فعلم من معه أنه خارج عليه.

( 2001 )



الغراب

في ذكرى إدغَر ألَن بو

حلما كـان إذن ؟

أخبِـرنني يا كاهـنات المعـابد المقدســة، يا مـن يعــرفْنَ تـآويل كـل الرؤى الغـريبة.

هـل كـان حـلماً ؟

لم أعرف كيف دخل غرفتي.. كان شيخاً قوي البـنية، مديد القامة، منحني الأكتاف بعض الشيء، وشعراتٌ بيضٌ نافرات أفلَتَتْ من طاقية رأسه المستديرة المنقوشة بكتابات لم أتبينها. كانت عيناه تلمعان ببريق رائع السحر ومن أصابعه النحيفة الطوال كانت أنهار صغيرة من الماء والأضواء تتدفق، لكنها لا تصل الى الأرض. اندفعت نحوه فرِحاً، قلت له: "إني أعرفك.. أنت هو!.. أنت هو !.. أنت الشاعر! ". لكنه تقدم بهدوء ووضع يده على فمي. لم يقل شيئاً غير أني أدركت أنه لا يريدني أن أذكر اسمه، ربما خوفاً عليّ من أمر يعرفه هو.

حين هدأتُ قليلاً لمس جبيني بيُمناه فأحسستُ أن روحي تتخلص من أثقال وأدران أتعبَتْها قرونا طوال. وهدرت في رأسي شيئاً فشيئاً أغنية زرقاء هو الذي ألـهَمَنيها .. أغنية تجيش بالسحر والأسـرار والأمنيات. لكزني في مرفقي برقّة فوجدتُني في الخارج ..أسـير وحـيداً في شارع كليتنا القالمـرّ: أن تعلو عمارات أباطرة الزمن المـرّ:-

الفندقُ العتيق الذي كان يأوي صديقي القادم من ريف الجنوب ما زال يترنح في المنعطف والمخبز الذي يقابله شرع بالتثاؤب. أصغر بكثيرٍ كنت أنا.. ربتما في العشرين. ها قد بدأ الفجر الصيفي يغمر في خجلٍ أسطح البيوت…دورية الشرطة المتأخرة النعسانة تجوب الشارع في مللٍ، وعصافير جريئات تتقافز فوق الإسفلت المشبع بطراوة الليل طاردةً الكسل من أجسادها الصغيرة...

هـل كنت حقـاً وحـيداً ؟….

لقد ، واللـهِ ، أحسست أن ألوفاً غيري لست أراها تتسكع كالأشباح الحيارى بين الخرائب والساحات..كانوا كلهم شعراء وفلاسفة جائعين. للبعض لحـى متلبدة ورؤوس مغبرة.أو وجوه شاحبة وعيون منطفئة تلوذ بنظارات سميكة بلون الرماد… كانوا كلهم في قمصان اندثرت منها الياقات، ووجوهٍ نسيت رائحة الصابون طويلاً.. كانوا كلهم … آه !

بعضهم ما يزال يلعق هزيمته، وبعضهم ما يزال تراب المقابر يعفر وجهه.. بعضهم خرجوا للتو من الأقبية الظلماء.. وبعضهم نبذهم الأهل والأصحاب الى الأبد.. والقليل.. القليل منهم ما يزال يغني بأصوات أدركها الخوف والوهن.

كانوا كلهـم تعساء ومنفيين..

كانوا كلهم لا يملكون ما يشترون به أقلاماً يكتبون بها وصاياهم أو تواريخ عارهم !

" أيتهـا الأغنية الزرقاء.. انتظري قليلاً !

الزرقاء. الأغنية الزرقاء .. لا تهربي منـي.."

" انتظري أيتها الأغنية.. ريثما أنال قلمـاً وأوراقا ! "

*** ***

في ناصية الشارع دكان يفتح حتى الصباح. فلأغتنم الفرصة إذن حين يجتمع أفراد الدورية عند بائعة اللبن التي افترشت زاويتها المعهودة احدها.قدمت فرأيت الدكان مضاءً وحمدت اللـه إذ رأيت علبة من الأقلام تركن في إحدى الرفوف فابتعت احدها.. لن أتكلم كثيراً فربما يفضحني صوتي..

استدرت لأعود الى الخربة التي أقيم فيها. قلت لنفسي "سيكون مريباً أن أطلب ورقاً في هذا الوقت. إن هيئي البريّة المتوحشة تكفي وحدها لإثارة شك المختار / البائع ! .. علبة دخان فارغة التقطها من قارعة الطريق ستفي بحاجتي."

فجأة ومثل لعنة ألقتها ساحرة شمطاء، مثل مرض مداهم، أحسست بعطـش ضارٍ… لا، ليس العطـش !..إن بي رغـبة لا تقاوم في شرابٍ بارد: مشروبٍ غـازيٍ على وجه التحديد ! يا للسماء! هل تعرف كل قواميس الأرض ماذا تدعو شهوة شاذة كهذه.. وفي آخر الليل !؟

" نعم ..نعم أيها الخَبال ! إن في جعبتي بقية من نقود.! "

أمسكت بالقنينة الباردة وشرعت بإفراغها في جوفي. وأحسست بلذة عارمة تغزو جسدي برمته وتمتد الى أناملي. قلت لنفسي " هو ذا حقاً رحيق الآلهة !"

*** ***

كيف حدث الأمر بالضبط ؟ لست أذكر إلاّ إنني حين أفرغت القنينة وأردت إرجاعها أبت العاهرة أن تفارق فمي. ثمة رقى سود ألصقتها بشفاهي وجعلتها تزداد التصاقا كلما دفعتها بعيداً.

- " ابتعدي ! " صحت بها " ابتعدي يا أفعى الشيطان ! لم تكن إلا رغبة مجنونٍ عابرةٍ في آخرة الليل ، فابتعدي ! "

هيهات.. هيهات !.. صارت القنينة تكبر وتعظم.. ها إنها تجثم الآن على صدري وتمتص منه الأنفاس. بذلت آخر ما تبقى من قواي قبل أن أموت اختناقاً فانفلتتْ وسقطتْ أرضاً وتهشمتْ. وكما في الحكايات رأيت بأم عيني كِسَر الزجاج المتناثر تتجمع ثانية وتتشكل على هيئة غرابٍ فاحم الريش، عريض الجناحين.

انتابني فزع عظيم فانهزمت راكضاً دون وجه. لكن الغراب ظل يلاحقني. كان ينعب وهو يطير بثقة واطمئنان على علو أشبار قلائل فوق هامتي. وخيل لي أن في نعيبه ما يشبه كلام البشر. تعبت وأدركني اليأس وأبطأت، فأبطأ هو الآخر. وتوقفت فظل محوِّماً فوق رأسي… أخذ الصوت يزداد وضوحاً :

- " قاق..قاق.. أيها السـيد..أنت حصـتي.!

قـاق .. أيها السيد.. قاق.. أنت حصتي …! "

*** ***

ثلاثون عاماً مضت.

كسرت قلمي ورميته في النهر.

طلقت زوجتي، وأبدلت عملي ثلاثين مرة.

هجرت أهلي ورحلت من مدينتي.

غيرت شكلي ألف مرة ومرة.

لكن " غرابي " ما فارقني أبدا..

أنصتوا معـي .. ألا تسمعون :

- " أيها السيد .. أيها السيد .. أنت حصــتي ! "

( 1998 )



في القاعة 2102


كنت صاحياً تماماً ساعة أجروا لي "العملية". الغريب إنني لم أشعر بألمٍ يذكر. لم يكن هناك غير شيء من الغثيان وبعض الخوف الذي اعتدت عليه طوال حياتي.

لقد حضرت الى المبنى باكراً جداً. هذا هو دأبي حين أريد إتمام عملٍ ما في أية مؤسسة رسمية. كنت بالطبع قد أحضرت معي كل الأوراق والوثائق التي تجمعت لدي طيلة شهورٍ من المراجعات هنا وهناك. أخبرني بعض العارفين أن كل شيء سينتهي هنا .. في هذه البناية. بعد ساعات من الصعود والنزول وطرق الأبواب وملء الاستمارات والتوقيعات سلمني أحد "الموظفين" المتجهمين العلبة الحديدية الصغيرة ، وأمرني أن أتوجه فوراً الى "محسن".

-" في أية غرفة رجاءً ؟ "

سألت بوجل فلم يكلف نفسه عناء الرد.

بعد ربع ساعة بالضبط كنت قد اهتديت الى "محسن". سلمت عليه بأدب جم رغم علمي بأنهم لا يردون التحيات في هذا المكان. استلم الملف الثقيل ورماه دون أن ينظر إليه في أحد الدواليب. أما العلبة فقد أمرني أن أحتفظ بها وأسلمها الى "الجماعة" حين أدخل عليهم.

أمران إثنان حيراني قليلاً حين دخلت القاعة : الأول هو تعرفي على العديد من أفراد "الجماعة" تلك. واحد منهم كان مختار محلتنا والثاني تذكرته حالما رأيته : كان مراقب صفنا ، الثالث "ب" في متوسطتي القديمة : متوسطة "الحكمة"" القريبة من ساحة السلامة الحالية. لكني حين حاولت أن أبتسم لهم محيياً أنكروني وقطبوا جباههم.

أما الأمر الثاني فهو زيهم الذي بدا لي غريباً نسبةً الى المكان : فقد كانوا جميعاً يرتدون بذلات السفاري ذات القطعتين المصنوعة من قماش محلي أزرق أو أخضر ويضعون على رؤوسهم أغطية رأسٍ غريبة الأشكال.

قلت إني كنت صاحياً ساعة أجروا لي "العملية". أخبرتني السيدة الوحيدة الموجودة في القاعة بصوت معدني رتيب حاولت أن أعثر فيه على بصيص من التعاطف بأن الأمر لا يستحق القلق وبأن "العملية" مؤكدة النجاح ؛ فقد جربوها آلاف المرات مع غيري. بل أنها أخبرتني –ويا للغرابة- بأن قد أجروا لي واحدة مثلها في زمن سابق. غير أني لم أستطع التذكر ..

أمروني أن أستلقي على بطني فوق سرير مرتفع تغطيه ملاءات خضرٌ قذرة ما يزال الدم الطري اللزج عالقاً بها. غالبت نوبة الغثيان وأذعنت للأمر. أمروني أن أثبت النظر على صورة في الجدار وأردد باستمرار أغنية حفظناها في المدرسة ..

-" لن تشعر بالألم " طمأنوني بين السخرية والنهي ،

ثم شرعوا بحلاقة رأسي. بعد قليل أحسست بوخزةٍ حادة في مؤخرة جمجمتي. ثم بضع طرقات خفيفة وأحسست بسائلٍ كثيفٍ دافئ يتدفق من الفتحة التي أحدثوها .. واصلوا النقر .. وبعد قليل دخل شرطي بملابس مدنية عرفته هو الآخر لكني لم أجرؤ على تحيته. وقف قبالتي فلم أعد أستطيع أن أرى غير النصف الأسفل منه. فتح الدفتر الكبير الذي بين يديه وسألني:

-" هل تحمل بطاقة الهوية ؟ "

أجبت بنعم وأومأت برأسي الى جيب سروالي الخلفي. أدخل يده هناك وظل يعبث زمناً طويلاً ثم أخرج لباقة أخيراً. سجل بعض الملاحظات في دفتره وسألني سؤالين أو ثلاث ثم أخبرني أن الصورة التي في البطاقة قديمة وعلي تجديدها في أقرب فرصة وإلا تعرضت للمساءلة القانونية فأجبته :

-" حاضر يا سيدي "

رمى البطاقة على ظهري وخاطب القائمين على رأسي الذين لم يتوقفوا عن العمل :

-" الرقم التسلسلي الجديد للحالة هو 292960 / ب. ع. /57 "

-" ماذا ؟ أعدها ببطء يا ابن الـ .. ! "

اتخذ وضع الاستعداد وأعاد الرقم بوضوح :

_"292960 / ب. ع. /57. سيدي ! "

ولم ينس قبل أن يستدير ويخرج أن يستل من جيب قميصي المتدلي قلم الحبر الثمين الذي أهدته لي أمي في عيد ميلادي الذي لم أعد أتذكره ، وأخبرني أني لن أعود بحاجة الى مثل هذه الأشياء. ثم ضحك ضحكة لم أعرف مغزاها.

بضع طرقات أخر في الرأس .. ثم أزيز ماكنة تدور بسرعة هائلة داخل الجمجمة فتصطك لها الأسنان. صوت آلة لحام كهربائي ثم رائحة لحمٍ محترق ... وقبل أن أغيب عن الوعي أحسست بتيارٍ من الماء البارد ينهال على رأسي .. " إنهم يغسلون الجرح ".. قلت لنفسي بارتياح.

-" أف .. ها قد انتهينا !" قال واحد منهم.

أدارني على ظهري وفحص وجهي ملياً ثم نظر الى رئيسه الذي دنا مني وبصق في فمي وبين عيني. قال إن هذا سيفيدني كثيراً في المستقبل وضحك فضحك الجميع بنفس الطريقة فاستجبت أنا الآخر بضحكة بلهاء مستسلمة.

-" هيا .. انهض سريعاً .. لا تتظاهر بالمرض .. هل حفظت الرقم ؟ "

-" نعم سيدي .. 292960 / ب. ع. /57…

رددت دون وعي وأحسست ببردٍ شديد يخترق قلبي .

-" حسناً .. إياك أن تنساه .. هيا اخرج ! ..

محسن .. محسن .. أنت يا محسين .. ترى أين ولى ابن الكلب هذا!؟ هيه يا محسن ..

أدخل المراجع التالي !! "

( 2000 )



حفلة صلبٍ في ليلة صيف


كنتُ يافعاً آنذاك. مرتدياً قميصـي الفضفـاض ذو الخطـوط العريضـة الصـارخة، أسـير دون هـدى في شوارع مدينتنـا المزدحمـة الخـالية. كـانت العـذارى يمسـن في خفيـف الثيـاب التي ألصـقها العـرق بالأجسـاد الغضـة اللـدنة فيثـرن الـدم الذي سـبتَ طويـلاً في العروق الآســنة.

يحمل الهـواء الثقيـل صـوت صفعـةٍ يتلقـاها شــحاذ طـردوه للتـو من حـانةٍ وضيـعة. وطـرقاً متواصـلاً تهتـز له الأرض من آلـةٍ تنتـزع من وجـه الشـارع أديـمه المجـدور.شـرطي مـرورٍ بدين يحتمـي تحـت مظلة من الأسمنت الملتهـب يحـاول أن ينصـت الى نشـرة عن آخـر أخباري من مذيـاع أدنـاه من أذنـه ويتفجـر من فـوق لسـانه الثخـين القـرمزي سـعالٌ لا ينقطـع.

حين رفعـت رأسـي إلى السـماء أبصـرت "زيوس" المبجـل منشــغلا برمـي قـداحه المبـرية من خشـب البلـوط المقـدس.ويصـغي، أو يتظـاهر بأنه يصـغي إلى حـديثٍ حمـيم لشـيوخٍ فـانين قـدموا الـيه من الشـرق البعيـد ليزوجـوا ابنتــه التـي لم تخـرج بعـد من رأسـه الى ابنهم الذي مـات في الحـرب.كنت أرى وأســمع كـل شـيء.

كـانت كـل المـوجودات عـاريةً أمـامي: قبيـحةً ، غبيـةً ، تثـير الغثيـان.

يـومها أدركـت مثـل عـراف أتتـه البشـارة بأن الجنـون وحـده سـوف ينقـذني من ورطـتي الأبـدية. وليـلتها ، تحت جنح الظـلام ، زرت مقـابر الكـلاب التـي قتـلها الحـزن. وليـلتها صـرخت في الحشـود التي جـاءت لتصـلبني :

-" فلينزل عـرق الخـزي البـارد على ظهـوركم المحنيـة ! "

وحين دقـوا أول مسمـارٍ في كـفي صـرخت ثـانيةً :

- " لتغــزُ البـراغيث أنـوفكم المتـورمة ! "

وحـين أرسـلوني أشـعةً ملـونةً إلى الفضـاء المتـرامي بكـيت . وبكى يهـوذا الذي أسـلمني. وبكـت أمـي العـذراء.

غيـر أنـي، في تلكـم السـاعة المرتعشـة ، لـم أنـسَ أن أحمـل معي قلمـي. ولهـذا عـدتُ اليكـم.. لأصـلبَ في الصـيف القـادم من جديـد !

( 1983 )


فنتازيا التحولات

"حكاية ليست للأطفال"

" 1 "

" لقد تحولت ببركة من السماء – أو ربما بلعنةٍ منها – الى قارضٍ للورقِ عتيد". رفعت القلم الى شفتي وتأملت الجملة الأخيرة (التي كانت في الحق الجملة الوحيدة) في رسالةٍ لم أكن أعالم لمن أرسلها، وهل سأرسلها بالفعل أم لا.

تمطيت في المقعد الوثير ووضعت القلم على المنضدة المزدحمة. كنت أعرف الآن ما أريد : سيجارة !. غير أني كنت قد انتهيت قبل لحظات من غسل أسناني وآليت على نفسي كما في كل يوم ألا أدخن المزيد – على الأقل في ما تبقى من الليل - من هذه اللفافات التي تشبه رائحتها رائحة الروث. تأملت أرجاء الغرفة الدافئة التي لما يزل هواؤها مختنقاً بالدخان والوحشة، ثم نظرت الى سريري الغارق في الفوضى ؛ تلك الفوضى اللذيذة التي طالما أحببتها وأحطت نفسي بها كلما سنحت لي الفرصة : فتروح ساعات الليل والنهار والقراءة والثرثرة والشراب والنوم وسماع الأخبار تتبادل المواقع في عبثٍ لا يضاهيه سـوى عبث وجودنا في هذا المـكان

النائي ، دون عملٍ حقيقي. وفي آخر الليل ، حين يذهب كل منّا الى غرفته ليبدأ سهرته الفردية الطويلة ، وحين أضجر من الجلوس الطويل الى المنضدة أحمل " عدتي " كلها: علبة السجائر والمنفضة والقلم والكتب والأوراق والمذياع الصغير فأكوّمها على الفراش ، بمحاذاة الجدار الأبيض الرطيب. وبعد وقت قد يطول أو يقصر يدب النعاس الى جفني فأغط في النوم والكتاب على وجهي. ولربما استيقظت فجأة لأذرع الغرفة الطويلة الضيقة جيئة وذهاباً ثم أغرس نفسي ثانية خلف منضدتي مبعثراً كل شيء على وجهها من جديد.

نظرتُ الى الساعة المرمية فوق الكتب ( لم أكن أشدها الى معصمي إلا حين أنزل مدينتي في الأجازات المتباعدة. كان الوقت قد تجاوز الثالثة صباحاً. تذكرت بقرفٍ شديد أن عليّ الاستيقاظ في الثامنة لأمرٍ هام.

- " حسناً " قلت لنفسي " يكفي هذا !"

غير أني لم أغادر مقعدي ، بل دفعته خلفاً وأملته الى الجدار وتمتعت بحالة التوازن القلق. ثم انتابني الملل وتسللت الى صدري هالة الكآبة فنفثتُ حسرةً طويلة أعلم يقيناً ما الذي يعقبها : التبغ بالطبع !

ألقيت أيماني المغلظة الى الجحيم ومددت يدي لألتقط العلبة .. فوقعت عيني على الجريدة للمرة المائة. وللمرة المائة تأملت الصبي

الذي يتوسط رفيقيه وهو ينظر تلك النظرة .. آهٍ كم حيرتني تلك النظرة !

كان الفتى يضم يديه في جيوب معطفه المهلهل الواسع وفي خلفية الصورة ترى أقدام جنودٍ بأحذيةٍ ثقال وقفوا على دكة حجرية واطئة وتحت الصورة كلمات اندثرت ولم يبق منها غير "…. مدينة … الأطفال … جنود الـ … ( صورة بالراديو ) … " !

لست أدري لماذا كان اهتمامي كبيراً بهذه الصورة ، وبهذا الصبي الذي يتوسطها على وجه التحديد. كان في الحق فتى وسيم الطلعة وكانت خصلة من شعره المنسرح تتدلى في عذوبة ويسر. كنت – رغم قدم الصحيفة – قادراً على تبين أنفه الصغير الراشح الذي احمر من البرد وأكاد أسمع لهاثه الدافئ وقد سرع يتظاهر أمام الجنود بأنه ليس سوى عابر سبيلٍ عادي يشق طريقه في هدوء وسلام. كانت يداه تغوصان في الجيبين الواسعين الذين أستطيع تخيلهما وقد قبضتا على حفنتين صغيرتين من الحجارة.

غير أن الشيء القاتل ، الشيء الفاتن الذي يتحداني كلما أبصرت الصورة هو تلك النظرة الغريبة، نظرة التحدي الساخرة التي أحسُّ أنه يخصني بها أنا وحدي. أشعلت السيجارة أخيراً ، وامتصصت نفساً طويلاً أنفذته على مهلٍ وسرحت أفكاري فرحلت نحو الأطفال؛ صـغاري الذين ينامون الساعةَ في أوضاعٍ يبرعون في ابتكـارها وقد ركلوا الأغطية بأقدامهم البيض الصغيرة. أسلمتني غمامة من الحزن الى نعاس أخذ يثقل أجفاني فشابكت ساعديّ على المنضدة وتوسدتهما وأدرت رأسي يساراً فلم أشعر بالارتياح فأدرته يميناً .. فإذا الصورة أمامي من جديد. ترى هل انزلقت من فوق كومة الكتب كي تواجهني ؟

شككت بأن الأمر برمته قد لا يكون مجرد مصادفة ، وإلا فعلام تلاحقني هذه النظرات أنى وليت وجهي ؟ تداخلت الأفكار في رأسي ثم ذابت في أمواج الكرى الذي استسلمت له سريعاً.

" 2 "

لست أدري كيف حدث الأمر. غير أن أول ما واجهت حين فتحت عيني كانت الصورة إياها. وبدأ شيء يشبه المعجزات بالحدوث : لقد دبت الحياة في تلك العيون ورأيت فيهما نظرةً غضبى مستنكرة .

- " لماذا تنظر الي هكذا ؟ " سألني الصبي في نفاد صبر.

- " ها قد بدأت أجن " قلت لنفسي ، ولكن شيئاً دفعني دفعاً الى الإجابة.

- " أنا إذن من ينظر ؟ ألستَ أنت الذي يحاصرني منذ أسبوع ؟ "

- " أنا ؟ "

- " نعم ، أنتَ ! منذ أسبوعٍ وأنا كلما أبصرت الجريدة …. "

- " يا أخي " قاطعني بلهجة متحدية أدركتها على الفور " يا أخي ، كل الناس مروا بالصورة مر الكرام ، وطووا الصحف إلا أنت. ألا تعرف إنك تحسبني هكذا عن الحركة؟ اطوِ الصحيفةَ أرجوك وارمِ بها في هذه الدقيقة كي يتحرر جسدي ونعود الى شغلنا .. هيا ، هيا .. أسرِع!"

لم أكن معتادا ، أنا الآمر الناهي في هذا المكان ، أن أسمع من يأمرني بهذا الشكل فأجبت في حنقٍ :

- " من أنت أيها الصغير حتى تحدثني هكذا ؟ ثم قل لي أي شغل لديك لتعود إليه ؟ أتسمع هذا اللعب شغلاً ؟ "

- " لا تناديني صغيراً ، أسمعت !؟ وهذا الذي تدعوه لعباً أفضل بكثير من اجترار الذكريات وإضاعة الأيام هباءً يا .. يا قارض الورق !؟ "

الحق أني قد صعقت لما سمعت ، غير أني تمالكت نفسي وسألت بألطف لهجة يمكنني اصطناعها ( هل بدأت أخشاه ؟)

-" ماذا تقول ؟ هل قرأت أفكاري يا .. بني ؟ "

-" لست ابنك يا هذا ! ولا أعرف ما قراءة الأفكار. لكني أستطيع بالتأكيد قراءة السطر الوحيد الذي كتبته منذ اسبوعٍ أيها الأديب الفطين ! "

- " ها أنت تسخر. ولكن قل لي بربك متى وكيف عرفت كل ذلك ؟ كيف عرفت أني لم أكتب منذ أسبوع غير هذا .. هذا المدخل ..

لروايتي الجديدة " كنت أكذب بالطبع وكان يدرك ذلك ! فأجابني متهكماً:

- " قرأت هراءك هذا قبل قليل. ألا تعرف أني أستطيع أن أرى وأسمع كل شيء، حتى أحاديثك المكررة المملة مع رفاقك حفظتها عن ظهر قلب. بيد أن يدي مغلولتان والفضل يرجع إليك أيها الفيلسوف الكسول!"

لقد بدأت هذا الصبي العنيد ، فقررت التغاضي عن وقاحته وسألته :

- " ولكنك لم تقل لي ما اسمك "

- " لا عليك ! "

- " إسم لطيف حقا ! ولكن أخبرني أيها السيد "لاعليك" ما الذي كنت ستفعل إذا حررت من أغلالك التي تدعيها ؟ "

- " أتريد حقاً أن تعرف ؟ "

- " نعم ، نعم ، بالتأكيد "

- " حسناً ، تعال معي كي أريك "

- " ماذا ؟ أجيء إليك ؟ ولكنك مجرد صورة في جريدة ! أهذا معقول !؟ "

-" معقول جداً يا أستاذ " ها قد أرضى غروري بعض الشيء ! " إطوِ الصحيفة وضعها لصق صدرك ثم أغمض عينيك وسوف ترى كل شيء "

ومرة أخرى انسقتُ إليه …

- " ألن تخدعني ؟ "

- " لا وشرفك يا أستاذ ! "

" 3 "

كان الظلام دامساً والجو ممتلئاً برائحة لزجة خانقة. وكنت أسمع هديراً مرعباً يصم الآذان. وأحسست بأني أعلو وأهبط بعنف. ومادت الأرض الرخوة من تحت أقدامي. كنت محاصراً بين جدارين من نسيجٍ كالإسفنج. ثم اصطدمتُ بحجرٍ كبير فسقطت على وجهي لكني لم أصب بأذىً لأني الأرض نفسها كانت من ذلك النسيج نفسه. قررت أخيراً لأن أستلقي دون حراك منتظراً مصيري. وقلت في نفسي " لقد خدعني الغلام الشرير " وتمنيت أن يكون الأمر برمته محض كابوس مزعج.

غير أن الضجة هدأت رويداً رويداً. وتوقف الاهتزاز الذي أصابني بالغثيان. وانبثق فجأةً ضوءٌ ساطع وهبط من الأعلى جسم مرعب وأحاطني برفق من خاصرتي ورفعني الى الخارج نحو الهواء الطلق ثم أنزلني بنعومة فوق أرضٍ صلبة. بيد أن الدهشة عقدت لساني حين سمعت صوتاً هادراً يخاطبني :

- " ها ! كيف حالك يا أستاذ ؟ "

خيل إلي أني أعرف هذا الصوت .. آه .. أليس هو صوت الصبي نفسه مكبراً آلاف المرات؟ فركت عيني اللتين أعشاهما الضياء المفاجئ وحدقت أمامي .. وكاد قلبي يقفز من شدة الرعب. لقد كنت أمام الصبي ، بلحمه وشحمه. ولكن أي صبي كان ! لقد كبر وكبر حتى غدا عملاقاً لا أتجاوز في أحسن الأحوال حجم كفٍ من أكفه.

وأدركت أخيراً حقيقة ما حدث : لقد تحولت بتعويذةٍ ما الى قزم من أقزام الحكايات. فاتقدت من الغيض وصرخت بأعلى صوتي :

- " كيف تجرؤ أيها الجاحد اللعين ؟ كيف تفعل بي هذا ؟ تمسخني قزماً لا يساوي قلامة ظفر!"

- " صدقني يا أستاذ " قاطعني وقد وكأن الأمر ليس بتلك الدرجة من الخطورة " لا يد لي في المسألة كلها. لقد حدث هكذا .. بكل بساطة. لم تكد تطو الجريدة حتى دبت الدماء بعروقي ووجدتك في جيبي. ولكن اسمع : ربما كان من الأفضل لك أن تظل قزماً ؛ فالمكان هنا خطير وقد يصبك الأذى إن شاهدك أحد الجنود"

من الواضح أن كرامتي جّرت الى الحضيض. لقد غدوت " شيئاً " ضئيلاً لا حول له ، عصفوراً مبتلاً التقطه الصغار من على قارعة الطريق. وها هو مصيري كله يتوقف على رعاية هذا الولد/العملاق الذي لا أعلم إن كان حقيقة أم محض وهم.

وتذكرت كيف أني امتعضت قبل دقائق معدودات من حديثه معي حديث الند للند. والآن صار لزاماً عليّ أن أقول شيئاً يعيد لي بعضاً من كرامتي المسفوحة. قلت متحدياً :

- " أتخاف علي من هؤلاء الأوغاد ؟ أتظنني أخشاهم ؟ أعدني الى حجمي "الحقيقي" وسأريك ما أفعل بهم "

-" لا داعي لذلك الآن. كما أن الأمر ليس بيدي على أية حال "

-" ليس بيدك ؟ … تقول ليس بيدك ؟ عظيم ! .. رائع ! .. ماذا إذن …… "

-" هش ! الجنود قادمون ! "

وحملني على وجه السرعة ورماني بجيب معطفه. لم يكن الجيب نفسه الذي وجدتني فيه قبل قليل. أدركت ذلك فوراً من الرائحة التي أعرفها جيداً : رائحة التبغ. كان في الجيب ثقبٌ صغير ينفذ الضوء خلاله فحاولت توسيعه ونجحت ، فصار بمقدوري أن أرى وأسمع ما يدور في " الخارج " .

توقف الجنود بأحذيتهم العملاقة وقد بدت فوهات بنادقهم كمثل مدافع هائلة ووجهوا إليه بضع كلمات لم أفهمها ولكن بدا لي واضحاً أنها نوع من الأسئلة أو الشتائم. غمغم الصبي وابتعد بهدوء مفسحاً لهم الطريق حتى ابتعدوا مسافةً كافية استدار صوبهم وصاح: "خذوا يا أبناء الزنى !" ثم رماهم بالحجر الذي كان في جيبه الآخر.

وابتدأت مطاردة قاسية .. وحين "وصلنا" الى مكان آمن ، أخرجني برفق ووضعني في إحدى راحتيه وسألني وهو يلهث :

-" هل أنت على ما يرام ؟ "

كنت في الحقيقة في أسوأ ما يمكن ، غير أني استحييت من أن أعترف بذلك فأجبت في وهن مغالباً نوبة من الغثيان :

-" نعم ، نعم .. أنا على ما يرام. ولكن أرجوك أن تبعد أنفاسك عني. إن لهاثك يكاد يطيح بي !"

ضحك صاحبي وأدار وجهه. ثم مرت برهة من الصمت كافية لكلينا فسألته :

-" منذ متى وأنت على هذه الحال ؟ رمي الأحجار والمطاردات العنيفة وأزيز الرصاص والضرب المبرح .. أليس لديك بيت تأوي إليه ؟ مدرسة ؟ أسرة ؟"

-" دعك من المدرسة ! إنها مغلقة منذ شهرين "

-" والبيت ؟"

-" هو هناك ، في أطراف حي الصفيح "

-" ومتى تأوي إليه ؟"

-" في المساء ، بعد أن أشبع أولئك الأنذال ضرباً "

-" وتشبع أنت من هذه السجائر الرخيصة !"

-"عمّ تتحدث ؟ أية سجائر ؟"

-" لا تحاول الإنكار ، فرائحة جيبك تَشي بك !"

-" جيب المعطف ؟ آه فهمت الآن ! لا بد أن تكون الرائحة من بقايا ما تركه أخي الكبير فيه "

-" وماذا تفعل سجائر أخيك في معطفك ؟ "

- "إنه ليس معطفي ، إنه معطف أبي "

- " يا سلام ! " (نسيت أن هذا العملاق يستطيع لو أراد أن يسحقني بين أصابعه فإذا بي أوبخه. والغريب إنه راح يدافع عن نفسه تماماً مثل أي طفلٍ متهمٍ بالإساءة). " يا سلام ! أخطأ أخوك الكبير فوضع سجائره في جيب معطف أبيك ثم أخطأت أنتَ فارتديت معطف أبيك! يا لها من رواية ! "

- " لا تسخر مني . أنا لا أكذب ؟ كيف أجعلك تفهم ؟ المعطف لوالدي والسجائر لأخي الكبير. (وتهدج صوته وأشاح وجهه وهو يغالب الدموع وأرسل ناظريه الى البعيد ، واسترسل كأنه يكلم نفسه:

- " كنت صغيراً عندما مات أبي. لا أتذكر منه الآن غير ذقنه الشائكة التي كنت أعبث منه وأنا بين ذراعيه وسبحته الكبيرة ذات الفصوص المعطرة. قالت أمي إنه عاد ذات مساء بعد أن غاب عن البيت عدة أيام .. لم يكلم أحداً ولم يقل أين كان . وحين ألحت عليه بالسؤال أخذ يبكي. ثم وجدوه في الصباح التالي ميتاً في سريره. قالت أمي إنه مات من القهر ، لكن أخي الكبير قال إن الجنود قتلوه ، وإنهم سيقتلوننا واحداً واحداً إن سكتنا. وعندما أرادت أمي أن تعطي ملابس أبي وحاجاته الى فقراء الجامع فرفض أخي وصار يرتدي الثياب. أحب أخي ، إنه وسيم وقوي. أحب دائما الاستماع إليه وهو يتحدث مع أصدقائه. صحيح إني لا أفهم كل شيء لكني أعرف إنهم مثلي يكرهون الجنود. أمي ظلت تقول إنها خائفة عليه من المصير الذي لقيه أبي.

قبل أسبوع زرته في السجن وقال لي " كيف كبرت بهذه السرعة دون أن أفطن إليك ؟ أظن أن معطف أبي القديم سيناسبك "

مرت فترة طويلة من الصمت. وساد المدى سكون شامل حتى أني صرت أسمع دقات قلبي. وفجأةً شقت الهواء صيحة عالية ، ثم وقع أقدامٍ راكضة وأصوات إطلاقات نارية. أسرع الصبي بإخفائي في جيبه الذي لم يكن لسوء الحظ ذلك الأيمن المثقوب فلم أستطع رؤية شيء. غير أن الاهتزازات العنيفة والأصوات المدوية جعلتني أجزم أن المطاردة تحولت هذه المرة معركةً حقيقية.

" 4 "

من الواضح إني غبت عن الوعي. ذلك لأني فتحت عيني فرأيت صديقي يراقبني باهتمام وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة عطف حانية.

-" حمداً لله على سلامتك. هل أنت بخير ؟ "

-" آه ، نعم. ولكن عظامي تؤلمني .. ورأسي .. آه .. أشعر أن جبلاً يحط على رأسي ! "

لابد أنه ضحك في سره لفكرة الجبل الذي يحط على رأس كائنٍ بحجمي، لكنه قال باهتمام ومحبة:

-" هوّن عليك. أنت بخير ما دمت معي. لا تحتاج إلا لشيءٍ من الراحة. انتظر ، سأعد لك فراشاً مناسباً"

واستل قماشة كبيرة زرقاء فرشها لي على العشب بجوار أحد الأنهار وأرقدني عليها في لطف وغطاني بطرفها الآخر. واستلقى قربي واضعا وجهه بين راحتيه. أحسست ببعض الارتياح وسألته :

-" قل لي : أين نحن الآن ؟ "

-" نحن في حي الصفيح ، في الحديقة الخلفية للمدرسة "

-" مدرستكم فيها حديقة بهذا الجمال ؟ "

-" نعم " (راح يشرح باهتمام) " لقد كانت فكرة المعلمة سلمى. قالت لنا: يا أولاد. آباؤكم وأجدادكم كانوا فلاحين ، وكانت لهم مزارع وحقول جميلة. يا أولاد ، حياة مدن الصفيح قاحلة وكئيبة ومدرستنا منظرها يقبض الأرواح ، فتعالوا نزرع حديقة ورد وآس وبرتقال في الباحة الخلفية للمدرسة "

_" وزرعتموها .. "

-" وسقيناها .. ونما الزرع وكبر. أتدري ؟ أنا أجيء الى هنا عصر كل يوم لأسقيها وأعتني بها .. " (وأعاد طرف الغطاء الذي رفسته بأقدامي) .. لقد رحلت الست سلمى ، بعد اختفاء أخي بعامين وقبل أن تصلنا الأخبار بأنه سجين. أمي قالت إنهما كانا متفقان على الزواج. لكنها رحلت .. ولم نعد نسمع عنها"

سألته والنعاس يدب الى أجفاني :

-" قل لي يا صديقي : متى أكبر ؟ متى أصير كبيراً مثلك "

-" ستكبر يا صاحبي .. ستكبر حتماً عندما يحين الوقت "

- " أرجوك "

- "ماذا ؟ "

- " إحكِ لي حكاية ! "

- " حسناً ، ولكن تدثر جيداً كي لا يصيبك البرد.

كان يا ما كان .. كان عصفور صغير يعيش فوق شجرة تفاحٍ في بستانٍ يملكه شيخ طيب .. وكان للشيخ ابنة جميلة .. جميلة جداً … "

وغططت في نومٍ عميق. أعذب نومٍ في حياتي. ولأول مرة منذ سنين لم أر الكوابيس .

"5"

عندما استيقظت كانت الشمس تجنح الى المغيب. لاحظت على الفور غياب صديقي فأحسست بالخوف وجلست منتصباً. سقط من فوق صدري منديلٌ أزرق قديم ونظرت حولي فاكتشفت أني كنت نائماً

بجوار ساقيةٍ صغيرة. أما البناء الكالح الكبير الذي كان يطل على الحديقة فقد صار مجرد مبنىً عادي متداعٍ لمدرسة صغيرة .. رباه! ماذا يعني هذا ؟ هل يعني أني قد كبرتُ أخيراً ؟ أية فرحة يا إلهي ! لقد استعدت حجمي !

وقفت على قدمي وأجلت الطرف في الحديقة التي سقيت للتو فخمنت أن رفيقي لم يذهب بعيداً. وحين أردت أن أناديه اكتشفت أني لم أسأله عن أسمه. ترى أين أنت يا صديقي ؟ ولماذا لم تنتظر لترى المعجزة الثانية .. المعجزة الحقيقية : لقد كبرت !

-" خذوا يا أبناء الـ …. !"

إخترق الهواء صوت رفيع. نعم ، إنه صديقي الصغير.

أسرعت بتسلق السور. كانت جولة جديدة قد بدأت. ولمحت الصبي وسط الناس. كان الجنود المدججون يتقدمون ببطءٍ محتمين بعربةٍ مدرعةٍ. قفزت الى الجهة الثانية والتقطت حفنة أحجار وركضت منضماً الى الحشد الغاضب. وتساءلت وأنا أقذفها واحدةً بعد الأخرى من أين واتتني يا ترى كل هذه الجرأة والقوة. إلتفت يميناً فالتقت عينانا وخيل إلي أنه يرمقني بنظرة تشجيع ورضا. إنحنيت لألم أحجاراً أخرى. دوى أزيز الرصاص فتراجع الحشد محتمياً بالمتاريس. تقدم الجنود قليلاً ثم توقفوا. وفجأة إنبثق صديقي كالعقاب وانفجرت زجاجة حارقة أمام العربة، وأزت رصاصات معولات

وخرّ الصبي أرضاً. ودوت من أعماقي صرخة وحشية وخرجت من وراء المتاريس وخرج الناس معي وانهال شلال من الحجارة واللعنات فتراجع الجنود مذعورين. وانتقلت المعركة الطرف القصي من الشارع فعدت الى رفيقي وجثمت عند جسده المدمى وصرخت به أنا أرتعش من الحزن والغضب :

-" لماذا تموت ؟ من سمح لك بأن تموت ؟ من سمح لك ؟ إفتح عينيك وانظر لي .. أنظر : لم أعد قزماً ! كلا ، لم يعد صديقك قزماً .. "

فتح عينيه وابتسم في عذوبة .. أمسك يدي وبسطها ووضع فيها حجراً صغيراً ومال برأسه ..

" 6 "

كان السيجارة قد انطفأت منذ زمن طويل. وكان ألمٌ شديد يكاد يمزق عيني وصدري. وعندما أفقت تماماً رأيت الصحيفة أمامي وكان الصبي ما يزال يرمقني بابتسامة. طويت الصحيفة برفق ووضعتها تحت وسادتي. وإذ وقعت عيني على الورقة ذات الجملة اليتيمة مزقتها مزقاً صغيرة. ارتديت معطفي وخرجت الى العراء. كان الفجر ينبلج. نثرت الجذاذات في الهواء فتلاعب بها النسيم الندي. أحسست بخيط من البرد فدسست يدي في جيبي فأحسست فيه بشيء صلب ، أخرجته فإذا هو حجر صغير بلله العرق الدافئ.

نظرت الى السماء .. الى الغيوم البعيدة وتمتمت :

-" شكراً يا صديقي .. لن أضيع حجارتي .. أعدك بذلك ! "

( 1989 )



مقعدٌ للبكاء


لم أفعل الشيءَ الكثير لتبديد نوبة حزنكَ التي تفجرتْ فوق مكتبي. لم أردد حكمة ما، ولم أتذكر – بل لم أحاول أن أتذكر- بيتا من الشعر أو قصةً وعظية .

لقد تركتُكَ تبكي . ولقد كان لذلك وقعُ السحر : لقد بكيتَ كالطفل ، وكنتَ تعيدُ على مسامعي وكأنكَ تحدّث نفسكَ :

- " رباه ، كم أنا تعيس ! كم أنا شقي ، تافهٌ عديمُ الحول .. ضائع! رباه كم أثقلتني حمولي!"

ولم أقل شيئا ؛ ليس لأني رجلٌ قاسٍ . كلا ، ولا لصلابةٍ قد أدّعيها. فأنا نفسي إنسانٌ شديدُ الهشاشةِ و سريعُ الكسرِ كالبسكويت. وليسَ لأنَّ المفاجأةَ عقدتْ لساني ؛ فلقد بكى الجميعُ وهم جالسونَ في مقعدكَ هذا ، ربما لأني أعرفُ كيف أكتمُ أسرارَكم ( …. قلبي المُعنّى الذي جعلوه مدفنا للأسرار ) أو لأني أجيدُ تقديمَ كأسٍ من الماءِ الباردِ وفنجانٍ من القهوةِ وبضع كلماتٍ خرقاءَ تُريحهم بعض الشيء وتُعفيهم من خجلٍ أو ندمٍ قد يعتري المرءَ في أعقابِ موجةٍ كهذه من الاعترافات .

ورفعتَ عينيكَ المحمرتينِ إلى عينيَّ فتحاشيتُهما ثم استزدتُكَ بهمهمةٍ متسائلةٍ فأجبتَني :

-" لقد أتعبَني هذا العبءُ الذي يثقلُ كاهلي ، أتعبني هذا الركضُ المجنونُ وراءَ لقمةِ الخبز. أتعبني تحملُ الإهاناتِ والمساوماتِ البليدةِ اليومية "

وطلبتَ مني سيجارة ففتحتُ درجَ المكتبِ وأخرجتُ العلبةَ والكبريتَ ووضعتُها فوق المكتبِ وقّربتُ منكَ منفضةَ الرماد (أنا لا أدخّن ولكني أحتفظُ دائما بهذه الأشياء تحسبا للظروف ، ألم أقلْ بأني قسيسٌ ماهر!) وامتصصتَ نفسا سريعا ثم قمتَ فجأة .

- " هاك ! " قلتَ لي وأدخلتَ يدك الى جيبِ سروالكَ الخلفي وأخرجتَ منها بطاقتكَ النقابيةَ القديمةَ ووضعتَها أمام وجهي " أنظرْ كيف كان شكلي قبل خمس عشرة سنة ! " لقد كان ذلك جزءً من المأساة سبقَ لي مشاهدتُهُ ، لكني تظاهرتُ بالدهشةِ وقلت :

- " يا الله ! لَكَمْ تغيرَ شكلُك ! "

- " وقلبي تغير أكثر" وطويتَ المحفظةَ باعتناء وأعدتَها الى جيبكَ وجلستَ ". لقد شختُ من داخلي عشرةَ قرون ! "

ومرت لحظات صمت ثقال . ولقد سرَت العدوى الى صدري ، ها قد بدأتُ أحس بالضيق والكآبة، إن عينيَّ لَتكتضانِ بشيءٍ ساخنٍ يرفضُ النزول….آه ! يا لَضغطِ الدمِ اللعين ! وسمعتُ فمي يقول :

- " أنظرْ يا صديقي . ربما لو عدتَ الى ولعكَ القديمِ بالقراءة .. "

قاطعتَني سريعا ( لماذا أسمحُ لكم بمقاطعتي كثيرا ؟):

- " أية قراءةٍ هذي التي تتحدثُ عنها في زمنِ الجوعِ والتايفوئيد؟! يخيّل إليّ أحيانا أنني لن أُوفقَ حتى في كتابةِ اسمي ! "

-" ربما قد ينفعُ شيءٌ من الحبِ في مثلِ حالتكَ ، ألم ترَ الى صديقنا الفنان كيف تغيّرَ بعد أن وقع في شَرَكِ غزالٍ شريدْ ! لقد صغرَ عشرينَ عاما !"

قلتُ ممازحا رغم أني تذكرتُ هذا الأخير وهو يجلسُ قبل أسبوعٍ فقط وفي الكرسي نفسه ، يبكي ويلعنُ الحبَّ ومَنْ اخترعَه ! … لم تُفلِح في الامساك بخيط الفكاهةِ الذي ألقيتُه في الفراغ فضججتَ متأوها:

- " لعنةُ الله على أبيهم ! أيُّ بَطَرٍ هذا الذي يخوضونَ فيه ؟ إني أفكرُّ ألفَ مرة ، ثم مرتين ، في حذاءِ ابنتي الممزقِ قبل أن أستسلمَ لأيةِ سخلةٍ حمقاءَ قد تحاولُ ولوجَ جنتي الآسنة !"

- " لم يبقَ إلا أن تصبرَ وتنتظر. فعسى أن يأتي الفرجُ عما قريب! "

- " عظَّمَ اللهُ أجركَ وأجزلَ لك ! ألم تعرفْ أن ( فرجاً ) قد مات وأنْتَنَ؟ " أجَبتَني مبتسما ، وقد عدتَ الى لعبتكَ المفضلة في حيازةِ الجُمَلِ ذات الاستخدام المزدوج ، وكان هذا إيذانا بانتهاء نوبةِ يأسِك.

وشربتَ قدحَ الماء وبللت يدك بما تبقى ومسحتَ وجهَكَ ، أخرجتَ منديلكَ المتهرئَ ومسحتَ وجهكَ وأفرغْتَ ما بأنفِكَ ، ونفثْتَ آهةً طويلةً ثم انتصبتَ واقفا . إعتذرتَ عن إزعاجي ولمّحتَ على استحياءٍ الى رغبتِكَ في أن يبقى ما قلتَه طيَّ الكتمانِ فوعدتُك خيرا.

- " إسمعْ ! " قلتَ لي ضاحكا " ربما لو قسّمتُ جسدي نصفينِ .. ربما سيعيشُ أحدهما وسيكونُ طفلاً سعيداً لا يعرفُ الشقاء ! "

- " ربما ! " أجبتُكَ وقد رسمتُ على وجهي تقطيبةَ تفكيرٍ ساخرةٍ" علينا أن نجربَ في أقربِ فرصةٍ " وضحكنا معا .

- " أراكَ في المساء " أومأتُ برأسي موافقا . توجهتَ الى الباب لكنكَ استدرتَ عائدا الى السيجارة التي كانت قد انطفأت ووضعتَها خلف أذنك بحركةٍ هزليةٍ داعرة .

- " خذ العلبةَ كلها " ناديتك.

- " لا يا عزيزي " جاء صوتُك وأنت تنزلُ السلالم " أنا ولدٌ مهذب ! "

نهضتُ لأزيلَ الفوضى الصغيرةَ التي أحدثها وجودُكَ واستعداداً للمغادرة.

رنَّ جرسُ الهاتف. كان صديقي مساعدُ الصيدلاني :

- " ألم تغادرْ بعدُ ؟ .. حمدا لله ! … أريدُكَ في أمرٍ هام . نعم ، نعم ، متاعبُ جديدة.. سآتيكَ بعد ربع ساعة.. آه، كم أريد أن أتحدثَ اليك! إني أشعر بالضيق .. إن رأسي ليكاد ينفجر … لن ينفعَ الحديثُ في الهاتف ……إنتظرني … سآتيك !



ماذا يأكلُ الأغنياءُ؟

مستوحاة من الحكاية الخرافية الأفريقية

"كيف صار للفيلِ خرطومٌ"

- "ماذا يأكل الأغنياء ؟ "

تساءل "علاّوي" فجأة ودون سبب واضح قاطعاً القصيدة المدرسية التي كان يعيدها للمرة العاشرة وبفشل ذريع أمام أمه التي عيل صبرها من شروده وسرعة نسيانه.

- " ماذا دهاك يا ذا الرأس الثخين ؟ أكمل القراءة ولا تسأل أسئلة سخيفة! ألا ترى شغل البيت مكوماً فوق رأسي؟ "

في الليل تقدم من أبيه الذي أنهى عشاءه البارد وظل قاعداً في مكانه منتظراً قدح الشاي ليشعل سيجارته.

- " أبي، ماذا يأكل الأغنياء ؟ "

- " مَـن ؟ "

- " الأغنياء !"

- " ما بهم ؟ "

- " ماذا يأكلون ؟ "

- " يأكلون خــ . ومِن أين لي أن أعرف؟! إسأل معلمتك غداً "

إنتظر الدرس الرابع بفارغ الصبر. كان يعرف أن معلمة العلوم هي الوحيدة القادرة على الإجابة. فهو أولاً يحبها كثيراً. وهي ثانياً تعرف الحيوانات جميعاً ، وطالما حدثتهم عن الطيور والوحوش والنحل والضفادع .. فكيف لا يعثر عندها على جواب لسؤاله المحيّر؟ جلس متحفزا وما أن سمعها تقول : " والآن يا أولاد، من لديه سؤال ؟" حتى رفع يده ونهض منتصباً وصاح دون انتظار الإذن:

" ست ! ست ! ماذا يأكل الأغنياء ؟"

انفجر التلاميذ في ضحك ساخر واقتربت منه المعلمة وربتت على كتفه وسألته:

" هل تناولت افطارك هذا اليوم ؟ "

" نعم ست "

" وماذا كان طعامكم ؟"

فاندفع مزهواً يعدد على رؤوس أصابعه:

-"بيض وجبن ست .. وقيمر .. وعسل ودبس ست .. ولحم .. لحم كثير .. وشاي .. وخبز ! "

كانت تعلم أنه أطلق لخياله الجائع العنان غير أنها ربتت على رأسه وقالت:

-" لا تشغل رأسك بهذه الأسئلة ..قد تعرف الجواب عندما تكبر"

** **

" علاوي .. علاوي .. أنت يا علاوي !"

ثلاث مرات صاح عليه عمه وهو غافل عما حوله فصرخ في الرابعة :

-" هيه ، أنت أيها الحمار! ألا تسمع ؟! ألعن أبو اليوم اللي شغلتك فيه !"

" ها ، نعم عمي " انتفض من أحلامه.

" نعم عمي ؟ اللـه، اللـه ! لا شيء يا عيون عمك ! أرجو فقط أن تتكرم بكنس المحل. ألا ترى الى الشعر الذي يملأ الأرض والى المناشف المبللة التي لم تعلق في الشمس منذ الصباح؟ ثم أين علبة الشفرات التي أوصيتك بجلبها من دكان "مسعد" عند عودتك من المدرسة؟ "

"حاضر عمّي !" وأسرع نحو المكنسة لكنه سرعان ما رماها وأسرع بالخروج.

" الى أين يا ولد ؟ "

" سأجلب الشفرات أولا! "

اختطف العلبة الصغيرة من يد الحاج " مسعد " وركض نحو صديقه " حمودي " وانتحى به :

" حمودي، سأسألك سؤالا واحداً وأحلفك بقبر أبيك ان تصدقني الرد : ماذا يأكل الأغنياء؟ "

حك حمودي قذاله واتخذ هيئة الوقار ؛ فلقد أقسم عليه بروح أبيه ، وهذه نقطة ضعفه الكبرى.

-" إسمع علاوي : أنا أقف مع أخي في هذه الزاوية وأبيع معه الخضار منذ عامين ، لكني لم أر غنياً يشتري من عندنا. إنهم يمرون بسياراتهم ولا يتوقفون .. لكني أعتقد .. إحم ، إحم .. أنهم لا يأكلون الخبّيز والبصل والباقلاء مثلنا "

** **

ظهيرة اليوم التالي جاع علاوي فتتفقد دراهمه ثم مضى كعادته الى مطعم الفلافل القريب مقطب الجبين متفكراً، وما أن دخلت رائحة الفلافل الى يافوخه حتى انفتحت أساريره فلطم جبينه

-" يا لغبائي ! كيف لم أفكر بهذا من قبل ؟"

ناول عامل المطعم دراهمه فشرع هذا بتهيئة طلبه اليومي الذي لا يتغير: شطيرة فلافل حارة مع الكثير من السلطة والكثير من المخللات والكثير من .. كل شيء. ثم ناوله إياها من فوق الحاجز الخشبي المتهرئ. لكنه لاحظ أن في عيني علاوي سؤالاً ملحا يكاد يقفز منهما :

-" ما بك اليوم يا علاوي ؟"

-" لا شيء .. ولكن .."

-" لكن ماذا ؟ هل تريد المزيد من الخيار ؟"

-" كلا ، كلا .. ولكن .. قل لي يا سلمان : ماذا يأكل أولاد الأغنياء حين يجوعون ؟ أعني هل يشترون الفلافل والباذنجان المقلي من مطعمكم ؟ "

ضحك سلمان وقال :

-" آه ، أهذا إذن ما يشغل بالك ؟ كلا بالطبع يا سيدي. إنهم يأكلون الأطعمة الفاخرة من مطاعمهم الراقية. ألا تشاهد الإعلانات في التلفزيون ؟ "

-" لقد بعناه ! ولكن قل لي : هل توجد مطاعم راقية في (ولايتنا)؟"

-" لا أعرف غير مطعم الأمراء ، عند رأس السوق الكبير "

ازدرد طعامه وشرب قدحين من الماء وأسرع بالخروج. ولكن بدلاً من العودة الى الدكان قادته قدماه الى رأس السوق الكبير. تهجى اللوحة الزاهية التي رسمت عليها دجاجة زاهية الألوان ترفع رأسها بزهو .. " مط .. مطعم الـ .. الأمراء ".

راقب الأصص الكبيرة التي تزين الواجهات الزجاجية البراقة والمولد الكهربائي العملاق الذي يزمجر فوق الرصيف. انساب الجسد الضئيل بين السيارات المتلاصقة المتوقفة ودفع الباب برفق فلم تستجب له فدفعها بقوة أكبر فانفتحت بصعوبة. دخل وأفلت الباب فعادت لتنطبق على مهل فاقشعر بدنه وكأن جنيا غير مرئي يدفعها لذلك. دهمته البرودة المفاجئة وأدارت رأسه موسيقى عجيبة وروائح

غريبة لذيذة فانتابه الوهن وكادت رجلاه تخذلانه لكنه استجمع شجاعته الصغيرة وتقدم صوب ذلك الرجل البدين الأصلع الأحمر الوجه الجالس في الطرف القصي، خلف مائدة ازدحمت فوقها الصحون والأقداح والقناني. ما الذي جعله يتوجه نحو ذلك الرجل بالذات؟ ذلك أمر لم يدرك أسبابه حتى اليوم. بدا الطريق الى هناك طويلاً وخيل إليه انه مشى ساعة حتى وقف أخيراً وهو يلهث أمام المائدة ورأى الرجل البدين الأصلع يمسك بشوكة وسكين توقفتا في منتصف الطريق بين الفم الكبير المفتوح والمائدة.

-"ماذا تريد أيها الشحاذ الصغير؟" أحس بيد قوية تمسك رقبته من الخلف..

-"كيف دخلت هنا يا ابن الكلب"؟

تخلص بحركة خاطفة من اليد المجهولة واندفع الى الامام:

-"اتركني لست شحاذاً ! أنا عندي ما أقول لهذا الرجل "

-" أتركوه ! " أمر الرجل الأصلع البدين فانصاع الجميع وعادوا الى أماكنهم

-" تقدم يا ولد . تقدم … تقدم أكثر .."

تسارعت دقات قلب الصغير وود لو رجع الزمن قليلاً كي يتجنب الورطة التي وقع فيها. كـان في مرأى الرجل وفي لهجته الواثقة الآمـرة وفي نظرته النافذة وابتسـامته الغـريبة ما بث الرعب في أوصال الصبي الذي تقدم خطوة واحدة ثم توقف.

-" ما بك ؟ تقدم أيها الصغير .. تقدم .. ماذا أردت أن تقول ؟ "

-" أنا ؟ .. لا ..أنا .. عمي .. لا .. كنت .. أريد .. أريد .. أنا عمي .. أريد أن أسأل .."

-" اسأل يا صغيري. ولكن تقدم مني أكثر ولا تخف. نعم ، نعم ، هكذا أحسن .. "

** **

لا أحد يعرف بالضبط ما الذي حصل بعدها. يقول أحد عمال المطعم انهم سمعوا صرخة الطفل المرعوب مختلطاً بصرخة وحشية أخرى، وحين هرعوا الى المكان شاهدوا السيد يعلك بتلذذ وهدوء فلم يجرؤوا على مضايقته ورأوا الباب الثقيلة تنغلق في بطء .

الذين في الخارج قالوا إنهم شاهدوا صبياً يركض بسرعة البرق ماسكاً بطنه وهو يولول بصراخ غير مفهوم.

أمه قالت إنه ذوى واصفر وقلت شهيته للطعام واللعب.

معلمته قالت إنها بدأت تلاحظ شرداته الطويلة وعزلته وصمته الغريب.

** **

مضت السنوات وكبر علاوي ، لكنه ظل على الدوام شاباً منطوياً كتوماً ولم يلاحظ إلا أقرب المقربين إليه أمرين اثنين : الأول إنه كلما رأى سيارةً فارهةً أو شخصاً عليه سيماء الجاه ، خصوصاً إذا كان سمينا أو أصلع ، ولّى مختبئاً عن الأنظار حتى يزول " الخطر". والثاني إنه لم يعد يسأل عن شيء قط ، حتى إنه عندما يريد شراء شيء يقف كالحالم حتى يبادر البائع بالسؤال. وحين جاء وقت التحاقه بالجيش لاحظ الطبيب المكلف بفحص لياقته أمراً مريباً فأمر بإجراء تحليلات كاملة وإجراء فحصٍ شعاعيٍ للصدر والبطن. ثم رفع التقرير التالي الى رؤسائه وكان ذلك –بالمناسبة- حديث الأوساط الطبية في ذلك العام :

" .. إنه عند مراجعة المكلف بالخدمة (علي جواد محمد) وإجراء الفحص الطبي تبين ما يلي :

1-غياب الكليتين والمعدة والطحال وجزء كبير من الفص الأيسر للكبد.

2-الغياب الكامل لحاستي الذوق والشم وانعدام التحسس بالتغيرات الحرارية.

3-في المكان الذي يفترض فيه وجود القلب يوجد جسم صلب (معدني على الأرجح) على شكل علامة استفهام.

راجين الإطلاع وإعلامنا بما ينبغي اتخاذه من إجراءات "



تحول

- "حسنا " كنت أقول لنفسي .." من الخطأ ، من أفدح الخطأ أن أظل شاة تنتظر دورها لتغرس فيها الذئاب أنيابها " .. وكنت أردد مع نفسي " ينبغي أن أتوقف عن الخوف .. ينبغي أن أفعل شيئا .."

كنت حزينا من أجل هذا المصير الذي ظل ينتظر أبناء صوفتي منذ الأزل ، غير أن حزني الأكبر، قلقي الذي أضناني كان – والحق يقال – من أجل نفسي .. نفسي الأثيرة العزيزة .

كنت أسلخ نهارات بأكملها أفكر في حل للمعضلة التي أنستني النوم والأكل حتى غدوت هزيلا .. تكاد بالكاد ترى إليتي..

أخيرا .. بينما أنا جالس في ظل شجرة كمثرى ، سقطت على رأسي برتقالة !

وبدلا من أن أسرع الى التهامها كما كان سيفعل أي خروف متوسط الذكاء ، أخذت أقلبها وأقلبها وأبحث في كل الوجوه ، كل الاحتمالات والتبريرات ..

وواتتني الفكرة ، الفكرة العبقرية ( لم أعرف بالطبع كيف واتت ومدى علاقتها بالكمثرى والبرتقال )

" حسنا " قلت لنفسي .. " لم لا أتحول أنا نفسي الى ذئب !؟ ، ليس الأمر مستحيلا، يكفي بعض المراقبة والمران "

لم يطل الأمر؛ فبعد يومين فقط من قراري الشجاع هجم علينا قطيع الذئاب ( بالمناسبة ، نسيت أن أخبركم بأننا قطيع لا راعي له). اخترت مكانا خفيا آمنا رحت أراقب منه كل ما يجري .. ولقد أعجبني بشكل خاص العواء .. ذلك العواء الرائع المتصل ..

غادرت مسرح الوليمة بعد أن ابتعدت الذئاب .. لم أنظر ورائي ، أنكرت اخوتي وأمي وأبي .. أو ما تبقى منهم . ما شأني بهم ؟ إنهم على أية حال ليسوا إلا خرافا .. خرافا ضعيفة ضالة!

وبدأت التمرين على الفور ..

أصعب ما فيه كان اتقان العواء . ساعات طوال أمضيتها وأنا أحاول أن أخرج من حنجرتي ذلك الصوت المبارك .. صوت الجبروت الجميل . كنت كبعير يحاول تعلم الطيران .. أو بعبارة أدق كنت كـ.. كخروف يحاول أن يتعلم العواء!

غير أني انتصرت على كل الصعاب . إذ لم تمر سوى أسابيع قليلة حتى أجدت العواء أيتما إجادة. ولكي أتأكد من قدراتي تسللت مقتربا من قطيع من الأغنام وأطلقت صوتي فتفرقت الأغنام هاربة مذعورة .. ضحكت كثيرا لمرآها وكدت أن أصيح بها لتعود غير أني لم أفعل ، وبدلا من ذلك استدرت على حوافري لأبحث عن قطيع من الذئاب التحق به.

حسنا .. لن أحكي كل التفاصيل . لقد قبلتني الذئاب أخيرا بعد أن أقسمت أيمانا مغلظة بأنني سأكون ذئبا مخلصا ، أخا في الشدائد ، صيادا ماهرا ، قاسيا لا يعرف الرحمة ..الخ. كانت الذئاب في مجلسها المهيب تنصت الى أيماني، ثم الى عوائي المنغم الرائع وهي ساكتة لا تريم .. الأمر الذي حيرني قليلا .. لكنها ضمتني اليها على أية حال ..

آه .. آه .. آه .. آه .. ! كم كانت فرحتي ! … لقد صرت ذئبا أخيراً! .. لقد فارقت الى الأبد عالم الخراف المستسلم الغبي !

حسنا .. في فجر اليوم التالي خرجـ"نا" في رحلة صيد . وسرعان ما ظفرنـ "نا " بأول صيد : شاة سمينة بيضاء . واجتمعـ"نا" حولها في حلقة كبيرة . وكما تقضي التقاليد الذئبية العريقة التي قتلتها درسا وحفظتها عن ظهر قلب تقدم رئيس القطيع ورفع عقيرته بالعواء وبارك الصيد وتناول منه شيئا ثم تراجع . وكان على كل ذئب أن يتقدم حين يأتيه الدور ويعوي ثم يتناول حصته ..

بينما كان دوري يقترب كان الوهن يدب الى مفاصلي ..

كانت قواي تخور ، وشرعت فرائصي بالارتعاش وامتلأت عيناي بالدموع .. وحين تقدمت أخيرا وأشرفت على الشاة القتيلة ونظرت الى عينيها المشرعتين .. حينها باعدت ما بين فكي بصعوبة وملأت صدري بالهواء .. و.. وإذا بمـــاع طويلة متكسرة تخرج من حنجرتي !

حسنا .. تبادل الذئاب نظرات ذات مغزى ، وابتسموا هازئين .. وتقدموا مني .. ….

حسنا…. !

الصعلوك

مقطعٌ من حكايةٍ .. عن قريةٍ منسيّة


جابر بن بدرية .. لن تفلت منّي هذه المرة !

كلا ، قل ما تشاء ! لن تجدي توسلاتك … فلقد ظفرتُ بك أخيرا !

تسألني ما ذنبك ؟

تقول إنك لم تدخل بيتي معهم ؟ لم تغتصب بناتي الأربع ؟

نعم ، نعم ، وماذا أيضا ؟ .. لم تكن هناك ساعتها ؟

لا ، لا ، يا جابر يا ابن بدرية .. إنك تكذب من جديد .

لقد كنت هناك ، واقفا في مجاز الدار ، تردد الأهازيج ، وتصيح بالجناة :

- "عفيـه خـوي ! تسلم إيدك !"

ورأيتك بعد أيام ، في حفل اغتصاب ثانٍ ، تغني وتقبض الثمن : أوراقا ملطخة.

ورأيتك ثالثة جالسا في المقهى ، تصيح بأعلى صوتك :

- "السركال أخي … حبيبي .. أكرم من عرفته قريتنا وكل القرى القريبة والبعيدة .. فداؤه أهلي ونفسي ! أيها الحساد الملاعين ! كيف تلومونني لأنني أهزج في مضيفه ؟ كيف لا أفعل ولحم أكتافي من خيره !؟ "

ورأوك في الليل تبكي ، وقد أدارت الخمر رأسك ، رأوك تميل على صاحبيك :

- " قولا لعوّاد بن مظلوم إني لا أكرهه . بل أخبراه أني أحبه . هو مثل أخي .. ابن أمي وأبي. أفهماه أني لم أحرضهم على قتل ولديه ولا اغتصاب بناته . قولا له إن السركال الكلب وجماعته فعلوها وإني "مِنطَرّ" الى مجاراته .. ويلاه ، يا ويلاه! ما لي وكل هذا!؟ أنا أصلاً غير منتمٍ لأيّ كان. صعلوكٌ أنا!. نعم صعلوك فقير لا حول له ، لا يبحث إلا عن الستر واللقمة . ما ذنبي إن الله حباني صوتا جميلا ؟"

جابر بن بدرية .. وحقّ حليب أمي ، حليب خالتك الذي تقاسمناه .. إني لأكرهك أكثر من السركال وجماعته . السركال غريب يا جابر وجماعته سيعودون يوما الى مباغي المدن البعيدة التي جاؤوا منها . ولكن أنت ؟ أنت تغني له ؟ أنت تقبل يده وتحطها على عقالك ؟ أنت تشتم خالتك وترميها بالزنى ؟ أنت ترقص لاغتصاب بناتي ؟

لا ، لا يا جابر .. لن أغفر وحقّ العباس !

لا .. لن أغفر لك !

( 1999 )



حدث في مقهى "البرازيلية"


في الخارج : يهمي المطر منذ ساعات الصباح الأول . يتراكض الناس كالمخابيل إذ تصب السماء جام غضبها في نوبة مفاجئة من غيثٍ منهمر. تضيء العربات مصابيحها رغم ما تبقى من ضياء العصر وكأنها تشارك الناس خوفهم المستريب.

الوحــل .. الوحـل ..ها هو يقتحم الرصيف وتتسلق منه الى نوافذ المقهى الرمادية بقع ممزوجة بالسخام تتناثر كأنها من فعل رسام نصف مشلول أصابه السأم .

في الداخل : تتصاعد الهمهمات وتخبو مثل موسيقى غامضة تتجاوب وعواء الروح المكتوم . هنا كلّ يغرق في أحزانه ، في أوهامه أو منافيه ، في كتاب يذهله عن هزيمته وفنجان من قهوة مريرة يحسوه على شرف يوم آخر يوشك على الانسلال من بين الأصابع الراجفة.

هو جالس منذ ساعات . لم يطو صفحة من الكتاب الذي ابتاعه في الصباح فاكتفى بالغرق في مقعده ومراقبة الشارع والحافلات المائلة التي تئن وتنفث البخار. أخبره العجوز جورج النادل أن شاعرا عظيما اعتاد الجلوس في هذا المكان وفي هذا المقعد بالتحديد في الأيام الخوالي . كان يستعيد الحكاية من العم جورج مرة تلو الأخرى مستمتعا بالمفارقة بين الشاعر المتهور الذي طوّف في جهات الدنيا الأربع وأحب أربعين امرأة في أربعين ميناء وخرج ظافرا … وبينه هو : المهزوم المتردد الذي لا يجرؤ حتى على إلقاء تحية الصباح على فتاته.

هبت نسمة من هواء بارد واندفع ضجيج الشارع الى الداخل حين فتحت الباب : إنه هو ، بائع السجائر الجوال ، كان محمر الأنف كالعادة ، يعلق فوق صدره بشريط عسكري عتيق إسودّ عند الرقبة صندوقه الصغير الذي ازدحمت حواشيه بتصاوير لممثلات مكتنزات الصدور ولاعبي كرةٍ مجهولين. أجفل وارتد حين رأى النظرة المهددة التي رمقه بها جورج فخرج ومسح الطين عن حذائه وعاد ليدور على الرواد. كان طفلاً مشاكسا ، جسورا . راقبه كثيرا وهو يقتحم على الجلاس خلوتهم أو نقاشاتهم الجادة الطويلة ، يعبث بالكتب والأقلام والصحف ، ويحتسي من أقداح شايهم دون استئذان، يماحك ويطيل المساومة ، ويفرض على الجميع حضوره الصاخب البهيج وسجائره الرخيصة المبتلة.

كانت هذه المرة الأولى التي يتقدم فيها من هذا المتفرد الشاحب الكتوم:

- سجائر أستاذ ؟

(غمره ارتباك وأحس أن كل من في المقهى ينتظر الكلمات التي ستخرج من فمه)

- " لا ، شكرا "( خرجت مثل صرير باب قديم فازداد ارتباكا )

- " ولم لا يا عم ؟ ألا تعجبك هذه الأنواع كلها ؟ اشتر مني يا عم، يخليك الله! "

- " دعني وشأني ! (قالها بما يشبه التوسل ) أنا لا أدخن."

- " لماذا ؟ "

- "ها؟ "

- " لماذا لا تفعل ؟ هل هناك أطيب منها؟ "

- "وما أدراك أنت ؟ هل جربتها ؟ "

- " هل جربتها ؟ يقول هل جربتها! ( وراح يهز كفه في استخفاف شيخ عرك الحياة ) يا عمي أنا أدخن مذ كنت صغيرا ! "

- "وأهلك ، هل يعرفون ؟ "

وتفحصه الصبي كأنه مستغرب من سذاجة السؤال.

- "لطالما سرق أبي من سكائري ! أما أمي فتشتري مني بالمفرد حين تريد البكاء وحدها!"

- "ولكنك يا ( وكاد قول يا صغيري لكنه تراجع ) .. ألا تخاف على نفسك ؟ على صحتك ؟"

- " يا عمي من يعيش ؟! "

وصعقه جواب الصغير، وأدخله في دوامة من التساؤلات :

ألا ينطق هذا الطفل بالحكمة ؟ نعم، من يعيش ؟ وفيم ؟ والى أية غاية أو سبيل ؟ وأستغل البائع الصغير الفرصة فوضع على المنضدة علبة أخرجها دون تمييز وفتح يده وقبض النقود دون مقاومة ! ثم دار على عقبيه. أكمل جولته على الزبائن وشرب فنجانا من القهوة المرة دفع ثمنه مقدما وراح يتحدث الى النادل الواقف خلف ماكنة القهوة القديمة العاطلة . وحانت منه التفاتة فرأى زبونه الجديد يبتسم في بلادة وعيناه ثابتتان على علبة السجائر فرفع كتفيه في سخرية وقال في سره : " يا له من مخبول ! "

- " يا للفيلسوف الصغير ! (كان الشاحب الكتوم يردد مع نفسه للمرة العشرين)

ومزق الغلاف الشفاف بخراقة وأخرج إحدى السكائر ، شمها بعمق ووضعها بين شفتيه . لكنه اكتشف أنه لا يحمل ثقابا . ولأنه خجول جدا، وكتوم جدا، وغريب الأطوار جدا جدا.. لم يجرؤ على طلب النار من أحد المجاورين .

- " لا يهم ! ( قال في نفسه ) لا فرق في كل الأحوال "

وحاول أن يعيد السيجارة الى علبتها فتثنت وانكسرت فترك العلبة مفتوحة وراح يعبث بالكتاب:

لا يهم ! حقا لا يهم !



حكاية العرانيس


تغتسلُ عرانيسُ الذرةِ المكتنزةِ في شمسِ الصباحِ الحانية، وتنفضُ عن أجسادِها الغضةِ قطراتِ الندى التي خلّفها الفجر. ثمةَ نسيماتٌ وسنى تهبُّ من هناك، من الجبالِ الغارقةِ في الغمام..فترقصُ في غُنجٍ يثيرُ رغبةً عارمةً في الحياة .

**

كنا نرقصُ لكلِّ خبرٍ جميل، ولو جاءنا من أقاصي الدنيا.. من جزائرَ مجهولةٍ يلفُّها السحرُ والغموض. كنا نعرفُ كيفَ نفرحُ حدَّ البكاء. كنا نقرأُ في كتبِ البراءةِ والحب. كنـا نفغرُ أفواهنا بدهشةِ الطفلِ الذي يكتشفُ العالم.

يومَها…كنا قد بدأنا الحياة.

**

يجيئون من قُراهم. تنهمرُ أهازيجُ الحصادِ كشلالاتٍ من فرحٍ ونور. يتراكضُ الصبيةُ في الحقلِ الفسيح. يقرأُ الكبارُ اسمَ اللـه. وبأيديهمِ المعروقةِ الخشنة يقطفونَ العرانيسَ المباركةَ الصفراء. تمتلئُ العرباتُ وتتهادى …نحوَ المدينةِ القريبة.

**

وهناكَ..في أولِ المنعطفات، رأيتُ ذئباً. وهنا..على قارعةِ الطريقِ الترابيِّ العريض تعثّرَت خُطانا بأولِ الأحجار. وأَفَـقنا :ليستِ الحياةُ إذَن كتاباً، وحلماً، وأغنيةً؟

ها قد بدأنا بالنضوج . شكراً لحرارةِ التجربة!

**

العرانيسُ البضّةُ المشتهاةُ تتعرّى من ثيابها. إنها تُطلقُ تأوهاتِ اللذةِ إذ تتقلبُ فوقَ نارِها الهادئة. ها هيَ ذي تتتشربُ بلونِها البرونزيِّ المثيرِ ويفوحُ منها عبقُ الأنوثةِ العارمةِ.

**

لم نعرف كيفَ حدثَ الأمر. لقد ازدادت "حرارةُ التجربةِ" فاستحالت إلى نارٍ متوقدةٍ حامية. أحرقتنا وذَرَتنا رماداً

**

العرانيسُ تئنُّ، تتوسلُ، تلعنُ ساعةَ ميلادِها، تتفجرُ، تتفحمُ، تستسلمُ ليد القدرِ الغاشمة.

**

يا الهــي ! هل احترقنا إلى الأبد ؟

( 1980 )



المسافر


أحب السفر كثيراً . ولهذا تراني أسرع الى دعوة كل من أسمع بعودته من سفر من أهلٍ أو أصدقاء ، وأمطره بوابل من الأسئلة التي أكسبتني الأيام خبرة ترتيبها بشكل منهجي محكم أحصل منه على ما أحتاج من علم. لم أكن أغلق فمي المندهش وأنا أستمع الى الأجوبة حتى وأنا أسمع أكثر المعلومات تكرارا وابتذالا .. أما عندما يكون المسافر العائد محبا للثرثرة مثلي فإن فمي ينفتح بانشداه أكبر وبانتباهٍ شديد لا تقطعه غير تأوهات اللذة الصغيرة .

كان عندي أكثر من عشرين ألبوما للمناظر السياحية من كل القارات وعشرة أطالس تتدرج من تلك المدرسية البسيطة الى الجامعية المتخصصة. وعندما صار عندي من المال ما يكفي لاقتناء كمبيوتر شخصي مستعمل فإن أول ما اشتريت من أقراص كان برنامج "أطلس العالم". أنا أعرف مواقع إذاعات العالم كلها في الراديو ، وأحتفظ بطوابع بريدية من بلدان لم يسمع بها أحد .. كنت مستعدا لأن أجادل بنجاح رجلا عاش شطرا طويلا من حياته في لندن عن أسماء الشوارع التي تؤدي الى متحف الشمع أو مقر الوزارة في لندن وأحفظ عن ظهر قلب أرقام الحافلات التي تمر بالقرب من قوس النصر أو برج إيفل أو اللوفر بباريس ، وأعرف أسعار سندوتشات الهمبرغر في ديترويت وعدد طوابق مبنى بلدية سان سيباستيان ..

نعم .. السفر عشقي .. حبي الوحيد .. وسلوتي في الحياة ..

ولهذا حزنت كثيراً حين اندلق كأس العصير على جواز سفري الحبيب الذي أضعه على الدوام فوق المنضدة القريبة من رأس سريري.

صحيح أن العصير لم يتلف غير الغلاف الجلدي الفاخر الذي حرصت على صنعه عند أمهر مجلدي الكتب في المدينة ، لكن الحادث أزعجني كثيرا .. خصوصاً أني كنت مضطراً الى تأجيل تصليحه حتى ظهيرة الغد؛ حين يأتي شقيقي لتفقدي وتبديل ثيابي وقضاء حاجاتي ..

آه ، نسيت أن أخبركم بأني مقيم في هذه الغرفة ولم أبرحها منذ ثلاثين عاماً .. ذلك لأني .. مصاب بالشلل الولادي !!

(2002 )



الأميرُ والشاعر


كان الأمير متعَباً ؛ يسمع ولا ينصت ، وينصت ولا يفهم. كان عائداً من سوح الحروب ، وصور الخيل المطعونة والأشلاء الممزقة والدم الذي يخالطه التراب لما تزل عالقة في ذهنه. وكان الشاعر متعباً هو الآخر .. لقد سهر الليل برمته يكتب هذه القصيدة . ورغم أنه كان معروفاً بين أقرانه الحاسدين بغزارة إنتاجه ( إذ ينجز في أيام الطلب الشديد ثلاثة أو أربعة من القطع المتوسطة الحجم والجودة ) ، أقول إنه رغم ذلك تعب كثيراً الليلة البارحة. وكان ما أتعبه هو حيرته في التوفيق بين ما سمعه – في السر – عن هذا الأمير الذي يقف أمامه مادحاً لأول مرة من بلادة وبطء تفكير (رغم قصص الشجاعة المتهورة) وبين الأسماء الكبيرة من العلماء النحارير الذين اعتادوا تناول العشاء على هذه المائدة الملكية عملاً بالتقليد القديم للعائلة .

كانت عيون الأمير الثقال تتنقل بين خاتمه الكبير والسقف ووجه الوزير وهي تتساءل في ضجر متى ينتهي هذا الحفل . وكانت عيون الشاعر تتنقل بين الرقعة الطويلة التي في يده ووجه الأمير الخالي من التعبير ووجه صاحب الخزانة البرم . وحين انتهى أخيرا من مطولته العظيمة كان يتصبب عرقاً .

لم ينتبه الأمير الى فراغ الشاعر من إنشاده فسادت برهة طويلة من الصمت المحرج كسرها الوزير حين انحنى على سيده وهمس في أذنه بشيء ، فرفع الأخير رأسه وأجال الطرف في الحاضرين وكأنه يراهم لأول مرة ثم هم بأن يسأل الوزير عمن يكون هذا الرجل المرتبك الواقف قبالته وبيده الرقعة الطويلة لولا أن الحاجب الأول قال :

- "الشاعر يا مولاي يستأذنك في تقبيل الأرض بين يديك "

أومأ الأمير موافقاً فتقدم الشاعر وسجد أمام السرير العالي وهو يدعو بطول العمر ودوام النصر ولم يرفع رأسه إلا حين سقطت أمامه الصرة الصغيرة ذات الرنين المحبب، فأسرع بالتقاطها وخمن على الفور قيمة ما بداخلها وهجم على يد الأمير يقبلها .

قبل أن ينفض المجلس تقدم أحد الخصيان وهمس في أذن الحاجب الأول بشيء فنهض الحاجب متهللاً وهمس في أذن الأمير بشيء فنهض مولانا متهللاً ونهض الجميع ثم انحنوا حتى الأرض وهو يمر أمامهم مغادراً .. لقد جاء الخبر من قهرمانة القصر بأن الجواري الجديدات اللائي جاء بهن الأمير الظافر من بلاد الكفار على أهبة الاستعداد وبانتظار تشريف سيدنا .

قبل أن يصل مولانا الى جناح الحريم التفت الى الحاجب الأول وسأله :

- -" ماذا كان ذلك الرجل يقول ؟ "

-" الشاعر يا مولاي ؟ "

-" الشاعر ؟ … نعم ، الشاعر "

-" كان يقول إنك يا مولاي تجيد القتل ! "

-" القتل ؟ … آه نعم ! القتل ! ذلك اختصاصي ! "

قال الأمير بزهو بالغ ومسد لحيته الجميلة وأضاف :

-" زيدوا ذلك الـ .. شاعر ! "

كانت الدموع تكاد تطفر من عينيه لفرط سعادته وإحساسه بالزهو والفخار .

وتقدم مولانا على اسم الله ووضع رجله اليمنى في الجناح المعتم المعطر !

( 2002 )


الخطابُ الأخيرُ

لفرسِ النهرِ الساذجِ العجوز


لأنني ساذج ، لأنني ثخين المخ ، سأسلخ الساعات الأخيرة التي تبقت لي على هذه الأرض في شتمكم ...

تسألوني من أين واتتني الجرأة ؟

عجباً..! لقد نسيت خوفي في مكان ما .. هناك ، في الأحراش الجنوبية ….

أسألكم عن صغيري .. طفلي الحبيب الذي غادر الماء ولم يرجع ، لم قتلتموه ؟ والى أين أخذتم أنثاي .. وإخوتي ..وأصحابي الآخرين؟لم يكونوا أشراراً أبداً، ولم يضمروا لكم سوءاً ، وحين كانوا يجتمعون للسمر، كانوا يتحدثون عن قوتكم ورجاحة عقولكم.

لماذا إذن، هناك، قرب تلك الأحراش .. أبدتموهم جميعاً ؟

** **

في قطيعنا الذي باد قبل يوم ويومين ويوم ، كان فرس يافع مستنير. يقرأ دائماً عن البشر وينحاز إليهم. وحين مرّ من أمامنا ذات يوم ناداه شيخنا الرئيس :

- " هيه ، أيها الفتى المهذب ! قل لنا لماذا يغرم بنـو البشر بقتل كل من ليس من جنسهم؟"

- " يا جدي يا جدي الطيب .. إنهم يفعلون ذلك لأنه .. حسناً ، لأنه أمر ضروري "

ولوّح بكتابٍ كان في يده ثم أردف بعد أن اتخذ سيماء الوقار :

- " دارون يقول ذلك ! إنه الصراع من أجل البقاء . ولكنكم لا تقرؤون.! "

كان المسكين يستعيد فقرة أعجبته من أسفاركم الجليلة حين حطمت جمجمته النيّرة رصاصةٌ أطلقتموها.

في ذلك اليوم الرهيب، شيء واحد لم أتمكن من فهمه. حين أخرجت رأسي من الماء خلسةً رأيت اثنين منكم. كانا غاضبين مهتاجين .. ارتفع صياحهما –ذلك يحدث عندنا - خفت وأخفيت رأسي ورفعته ثانية فرأيت كل شيء : المدية المعقوفة اللامعة ورشاش الدم الذي انبثق ، ورفسات القدمين المتلويتين في الطين… نعم رأيت كل شيء، لكني لم أفهم. آه كم تمنيت حينها أن يكون صديقنا الصغير حيا لأسأله : هل كان ذلك أيضاً " البقاء من أجل الصراع" ؟

** **

وأنا أفتح فمي تدخل فيه العصافير وتلتقط الفتات من بين أسناني. لم أفكر بالطبع أن أطبق على واحدة منها .. فعقلي الصغير كان ينهاني. غير أني مغرم بالثرثرة معها : أكثر من واحد حكى لي أن السادة هنا وهناك، في كل مكان، يجمعون الحطب. سألتهم :

-" ألكي يرقصوا حول النار ؟ يحبون النار .. يحبونها ؟ "

قالوا :

-" لا .. الحطب أكثر من ذلك .. ربما يعدون لحريق عظيم أخير"

الآن وأنا أسمع أصواتكم تقترب، أصرخ فيكم ملء شيخوختي ، ملء سذاجتي وضعفي : أدعو لكم بالفناء السريع ! أن تفنوا.. أن تفنوا جميعاً ! أن تفـ..نـ..وا… !!

( 1980 )



سيرة


يوم أولد ستستدين جدتي لأمي أجور المستشفى من جارتها أرملة الحرب الغنية. وسوف يرسلون الى أبي الذي انتهت إجازته قبل ولادتي بثلاثة أيام رسالة شفهية مع ابن عمته نائب ضابط الإعاشة في كتيبة الدروع، يخبروه فيها بولادة طفله الخامس ؛ أنا.

سيسأل نائب الضابط عن أبي فينبئه أحدهم بأنه موقوف في سجن الوحدة لأنه " ضرب " يومين على إجازته انتظاراً لولادتي. فيذهب الى مساعد آمر الوحدة " ابن ولايته " يتوسل من أجل إطلاق سراحي. فيوافق المساعد على مضض: " هذه آخر مرة ، فقط لخاطر عيونك " ثم مع نفسه : "ولخاطر الشامة السوداء الكبيرة تحت نهد ابنتك! "

وهو يسمع الأنباء سيكون أبي منهمكاً بشد أربطة حذائه العسكري الكبير ثم حلاقة ذقنه. وهو يتأهب للخروج من الموقف، يسأل ابن عمته عن الاسم الذي سموني به فيجيب : " موفق "، فـيعفط أحد الموقوفين بفمه ويقول : " من طـ….ي ! " فيضحك أبي ويقول له:

-" قوّاد ! سأرسل لك ربع العرق حصتك من الاحتفال الذي سأقيمه.. سأسكر الساتر كله هذه الليلة !

* * *

في الثامنة من عمري سيضربني معلم التربية الإسلامية كل يوم ويقول لي

-" ردد يا غبي : الله ربنا. محمد نبينا. الإسلام ديننا. الكعبة قبلتنا. المسلمون إخواننا. المسلمات أخواتنا ….."

فأحاول جاهدا، أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ونظرات التلاميذ تحاصرني وأنسى كل شيء وأخلط الأمور فيضربني المعلم من جديد.

في نهاية العام وعندما أستلم النتيجة النهائية : "راسب للسنة الثالثة على التوالي" أقرر ترك المدرسة نهائياً. وقبل أن أخرج اثقب إطار الدراجة الهوائية لمعلم التربية الإسلامية وأرمي زجاج إدارة المدرسة بحجر وأولي الأدبار. ‍

* * *

في عمر العاشرة سأقف على الرصيف وأصيح بصوت منغم :

-" بيض خشن ، ثلاثة بربع ! "

عندما تقترب دورية شرطة البلدية سأحمل سلتي وأهرب الى الزقاق الفرعي. وحين يقفون على عربة أبي التي يبيع فيها الملابس المستعملة سوف يخرج إليهم رجله المقطوعة في الحرب ويستعطفهم

-" يا أولاد عمي، كيف أعيش وأنا معوّق ولي سبعة أطفال ؟ " فيقرر كبير مراقبي البلدية السماح له باستعمال الرصيف لقاء إتاوة يومية‍. وفي المساء سيمر بي معلم التربية الإسلامية الذي يبدو أنه نسي شكلي فيرجوني أن أبيعه بعض البيض بسعر أقل. فأقول له

–" تأمر أستاذ! "

فينظر لي متعجباً من التفاتتي الودية !

* * *

في الثالثة عشرة سوف أمتلك عربة لبيع النفط يجرها حصان مستأجَر أعور. وسأصبغ عربتي بدهانٍ أخضر لماع وسأذهب بها الى نبيل الخطاط وأطلب منه أن يخط لي عليها بحروف كبيرة "الحسود لا يسود" وتحتها " محبوبة سوسن".

* * *

في السادسة عشرة سأذهب مع رفاقي الى حمام السوق وأغتسل غسلاً "تاريخياً" وأرتدي ثيابا مكوية وأذهب بصحبتهم الى مضارب الغجر في مدينة " ك" القريبة وهناك سوف أذوق طعم المرأة للمرة الأولى. وحين أنتهي سأشم في جسدها رائحة النفط !.

* * *

في سن العشرين سأكون قد تعلمت النوم في الحافلات والقطارات وحذائي العسكري في قدمي. وفي سن الثانية والعشرين ستزوجني أمي من ابنة أختها خلال إحدى أجازاتي وسأتغيب عن وحدتي ستة أيام وأحكَم بالسجن لمدة سنتين.

بعد ثمانية أشهر سيصلني خبر مولد طفلي الأول فأقرر أن أسميه "سعيد" فيعفط زميلان لي في القاووش في وقت واحد.

أخرج بعد سنة وشهر مستفيداً من قرار العفو.

سأتعلم في السجن استنشاق السيكوتين وتناول حبوب الآرتين.

* * *

في سن الثلاثين سيرسل لي أهلي مع ابن عمي سائق المدرعة كيساً من المعجنات المنزلية اليابسة وخبراً عن ولادة ابني الثالث فأترك تسميته لزوجتي.

* * *

في سن الخامسة والأربعين سأكون عائداً من الأسر فيجد لي أولاد الحلال عملا في محل الأخوين لتأجير الخيام المقوسة والكراسي ومكبرات الصوت وجميع مستلزمات إقامة مجالس الفاتحة.

سأكون مواضباً على الصلاة وأمتنع عن فاحش القول والفعل وسوف أتعلم بضع آيات قصار من الكتاب المجيد.. وسوف استغفر الله كثيراً !

* * *

في عمر الثـالثـة والخمـسين سوف يأتون بابني الكبير من جبهة الحرب ملفوفا بالعلم. وسوف يوصيني الجندي الذي يأتي بالجثمان أن لا أفتح التابوت لكي لا أصاب بالغثيان.

سيتبرع مالك المحل مشكوراً بتأجيري مستلزمات مجلس الفاتحة بنصف الثمن.

* * *

عندما أبلغ الستين سترسل لي ابنتي "سراب" المقيمة مع زوجها في اليمن أربعة أوراق لأحج بها بيت الله فأفرح كثيراُ وأدعو لها ولزوجها بطول العمر.

* * *

في السابعة والستين، في العاشرة صباحاً سأكون قد سئمت من الجلوس في الشمس، وحيداً في البيت. فالصغار ذهبوا الى المدرسة وكنتي ذهبت منذ الصباح الباكر مع ابنتيها لزيارة حفيدي الجريح في المستشفى العسكري بالعاصمة.

أشتهي شايا ساخنا فأقوم مترنحا الى الموقد وأشعله وحين يسخن الشاي أحاول بيدي المرتجفة أن أصب لنفسي قدحاً فيندلق الإبريق الساخن على حضني ويحرق أعضائي حرقا شديداً.

بعد يومين سيبدأ الجرح بالتقيح وبعد عشرة أيام سأموت.

* * *

سيقف قارئ القرآن الضرير على التابوت ويقول:

-" يا موفق يا ابن مسعودة. إعلمْ أنك يا عبد الله في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. فإذا جاءك الملكان يسألانك فقل لهـم : الله ربي ، محمد نبيي ، الإسلام ديني، الكــعبة قبلتي …."

يهيلون التراب علي وأنا أنظر إليهم. وعند الغروب يأتي ملكان يحملان كتاباً كبيراً ويبدآن الاستجواب فأحاول جاهدا. أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ، ونظرات الموتى من حولي تحاصرني وأنسى كل شيء وتختلط عليّ الأمور. ينظر الملكان أحدهما في وجه الآخر في أسف ويطويان الدفتر الكبير ويتركاني في حيرتي !

( 2000 )



الطبعة الأولى

جميع الحقوق محفوظة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد (114 ) لسنة 2002

طبع بموجب موافقة وزارة الإعلام المرقمة (73) في 27/1/2002

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية