الملاك الألثغ الصغير
الملاك الألثغ الصغير علق معطفه في مسمار خلف الباب فتحرر على الفور جناحان غضّان بلون الثلج كانا مختنقين تحت معطفه.. أعني معطفي الثقيل الذي أعرته إياه منذ سقط على سطح بيتي قبل خمسة أيام.. جريحاً.. شبه متجمد...
أوصد الباب وسلم كما يفترض بملاك رقيق وجلس جواري.. لصق المدفأة القديمة ومضى يحدثني وهو يفرك راحتيه أمام النار:
- "بَغد .. بَغدٌ شديدٌ في الخاغج! هنالك حيث ينام المشغدون والعشاق والفقغاء والسكاغى والمطغودون من فغاديس السماء والأغض! أشعغ بالحزن الشديد.. لماذا يوغِّطهم غَبّي بهذا الشكل؟.... منذ أن نزلت هنا كدت أنسى مهمتي التي جئت من أجلها.. الحزن أذهلني .. بل يدفعني أحيانا الى التفكيغ بالتمغد!"
أنا من جانبي لم أقل شيئاً. صببت له كأساً مخففة مرتين وناولته إياها في صمت وقربت منه صحن الزيتون الأسود. ارتشفها سريعا مثل كل مبتدئ يدفعه الحزن للسكر وواصل الحديث وكأنه يكلم نفسه:
- "أين هذا من نزولي قبل عامين الى بلاد الجزائغ السبع.. هناك أيضا كدت أنسى سبب مجيئي.. أعني إغسالي.. ولكن ذلك كان من شدة السغوغ.. يا للجمال.. يا للجمال الباهغ.. والطمأنينة والدعة! كأني لم أغادغ الجنة قط!"
وخرجت عن صمتي بتعليقٍ محايد.. بارد:
- "يبدو أنهم "هناك" يرسلونك كثيراً في مهمات الى الأرض"
- "نعم ... أوه لا .. ليس كثيغاً... الحقيقة .. لا أعلم ... لقد كان الأمغ هكذا على الدوام منذ وجدتُ نفسي في الجنة...بالمناسبة.. لقد نسيت أن أقول لك أنهم يعاملونني هناك معاملة خاصة.. مدلل بعض الشيء.. كأنهم يأخذون بنظغ الاعتباغ وجودي الأغضي كصبي مدلل قادته قسمته الى ميتةٍ بشعة.. بشعة ولكن بطولية لفتى في مثل عمغي... غبما وصل الى أسماعك شيء من تلك الأخباغ التي هزت الصحافة في شمال أوغبا شهوغا طويلة.. ولهذا عينني الغّبّ على الفوغ ملاكاً فوق العادة، ومنحني بعض الاستثناءات.. إنهم هناك يحبونني كثيغاً ولا يخضعوني لكل تلك الواجبات اليومية والاستجوابات المملة والمهمات الثقيلة..."
- "وهل تسنى لك رؤية الجحيم؟ أعني من باب الفضول"
- "الجحيم؟ لا لا. لا أغيد أن أغاه! يتحدثون عن أموغٍ فظيعة تجغي هناك! قلبي لا يتحمل غؤية ذلك؟"
- "ولكن ماذا لو أمروك بذلك؟" سألته وأنا منهمك في تقليب رغيف الخبز الذي لا أحبه الا محمصاً، وهو ما لقي إعجابه على ما يبدو "أعني لو وكلوا اليك مثلا مهمة تعذيب أحد المغضوب عليهم أو الضالين؟ هل ستفعل؟"
- "لو أمغوني؟ شكراً... أف.. أفففف" قال وهو يقلب قطعة الخبز الكاوية من يد ليد وينفخ عليها "لو أمغوني.. سأطيع طبعاً. وهل يمكنني سوى ذلك؟! آه الآن تذكغت! الآن فهمت!"
- " ماذا فهمت ؟"
- "قبل أيام من نزولي كنت أسيغ في إحدى القاعات هناك، أنت تدغي، هناك" وأشار الى السماء "حين سمعت بالصدفة احد الملائكة وهو يتحدث مع زميل قائلا انه يتفق مع الغأي القائل بضغوغة إغسالـ"ـه" الى أماكن أغضية تتمتع بظغوف مشابهه للجحيم لغغض التدغيب قبل ان توكل اليه مهمات أكثغ قسوة وجدية في الجانب الآخغ من ملكوت السماء. الآن عرفت لماذا قطعوا حديثهم عندما أبصغوني.. لا بد أن الشخص المقصود هو أنا"
وأخرج من مكان في الهواء قطعة من الحلوى الصلبة وراح يلعقها بلسانه وهو يهمهم غارقاً في التفكير.. وتأملته.. ما الذي جاء بهذا الطفل الى هنا؟!
- "بووووووم!"
ودوى انفجار قريب هز المكان فانتفض قافزا وقد فرد جناحيه القطنيين الفزعين ثم نزل الى الأرض بهدوء طاويا إياهما.
- "يا الهي.. سبحانك وبحمدك! ماذا يجغي؟ ما هذا الدوي؟"
- "لا شيء" قلت له وأنا انهض لأقفل الشباك الذي انفتح على مصراعيه من قوة العصف. "يبدو أن وجبة جديدة من الملائكة في طريقها الى الأعالي. دعهم "هم" يحدثونك هناك بما يجري. ستتعرف عليهم بسهولة من عيونهم الغائرة الحزينة. كن رفيقا بهم.. حاول ان تنسيهم بعض همومهم. آه نسيت أن أخبرك: ثمة واحد على الأقل ممن صعد للتو الى هنالك سيجد طريقه على الفور الى الهاوية المظلمة. اذا ما صدق توقع زميليك وأوكلت اليك مهمة ما هنالك.. في النار التي وقودها الناس والحجارة.. لا داعي لأن أوصيك به وبرفاقه.. لا تمنحهم ثانية من سكينة! هل سمعت؟ لا ترحمهم أبداً!"
- "هل هم من يفعل ذلك؟ أعني كل هذه الأموغ ؟"
- "ومن غيرهم يا صديقي؟"
- "وكيف سأتعغف عليهم هناك؟" بدا متحمسا للفكرة كطفل منحوه بندقية وأمروه بحراسة حقل على وشك الحصاد.
- "ستعرفهم على الفور من الرائحة العفنة التي تفوح منهم!"
- "هِممم.. فهمتُ.. الغائحة.. الغائحة!"
وحل بيننا صمت طويل كانت تتخلله بين الفينة والأخرى أصوات انفجارات وطلقات وعويل وعربات إسعاف. وكسرت الساعة الجدارية الصمت فنظر كلانا اليها وكأننا نكتشف شيئاً غريباً:
- "آه، هو ذا يومي الخامس ينتهي. أتعلم؟ أنا لن أعود الى هناك إلا بعد يومين لكنني بدأت منذ الآن أشعغ بأنني سأفتقد كثيغا هذه البلاد.. إنها لبلاد عجيبة.. جميلة وقبيحة في الوقت نفسه.. تملؤها المزابل والمقابغ لكنك تشعغ بأنك في إحدى حدائق السماء.. أهلها غغباء الأطواغ.. يضحكون وهم يتمزقون ويبكون وهم يغنون... بلاد عجيبة بلادكم هذي.. عجيبة حقاً!"
ابتسمتُ وخرجت من صدري آهة طويلة مثل زفرة حارقة.
- "لماذا تبتسم من فضلك؟"
- "لا شيء.. تذكرتُ بيتا من الشعر كنا حفظناه في المدرسة وكدت أنساه"
- "بيت من الشعغ؟ واو! الله كم احب الشعغ! هلا قغأته لي من فضلك!"
- "أحقاً تحب الشعر؟ حسنا. انه بيت للشاعر... آه لقد نسيت اسمه.. لكنه على أية حال يقول:
وطني لو شغلت بالخلد عنهُ نازعتني اليه في الخلدِ نفسي
- "وطني لو شغلتُ.."وأعاد البيت مرة واثنتين "جميل جميل جداً.. سأنقله الى أصدقائي حين أعود الى هناك.. أحقا تحبون أوطانكم الى هذا الحد؟"
- "ربما.. "أجبته بصوت مختنق وأنا أشيح وجهي عنه كي لا يراني أمسح الدمعة التي انحدرت على خدي".. ربما.. ربما" والتفتت اليهِ باسماً وأنا أمد له كأساً أخرى "هالك. إشغب ... إشغب .. لا تكثر التفكيغ ... أنت في بغداد ... كلنا هنا عشاقٌ مشغدون!"
29/7/२००९
لوحة بعنوان ملاك شارد الذهن للفنان العراقي الكبير ستار كاووش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق