عروسٌ .. أَم نمر ؟
قصة: فرانك ستوكتن
ترجمة: د: ماجد الحيدر
تقديم:
فرانك ستوكتن (1834-1902) كاتب أمريكي عرف بكتاباته الفكاهية وقصصه وحكايته الخرافية للأطفال ذات الحس المرح البعيد عن الأسلوب الوعظي والتي لاقت انتشاراً كبيراً في أواخر القرن التاسع عشر. أثارت هذه القصة ذات النهاية المفتوحة الغريبة الكثير من الاهتمام وصارت حديث الأوساط الاجتماعية والتربوية ومصدر إزعاج للكاتب الذي كانت تنهال عليه الأسئلة أينما حل عن النهاية "الحقيقية" للقصة. تلك النهاية التي ظل يرفض الكشف عنها حتى رحيله.
عزيزي القارئ. لقد خطر لي عند قراءتي للقصة أن أقوم باستطلاع بسيط لأراء فتيات صغيرات أو في سن الشباب إذ كنت أروي لهم القصة وأسالهن أن يخبرنني بكل حرية عما سيفعلنه لو كنَّ في مكان بطلة القصة وكان الجواب في أغلب –إن لم يكن جميع- الحالات صادماً ومخيبا للآمال على أقل تقدير! سأتركك الآن لتستمتع بالحكاية العجيبة وأطلب منك أن تقوم بعدها باستطلاع بسيط مثل الذي أجريتُه.. عسى أن تحصل على نتيجةٍ مغايرة!
المترجم
عروسٌ .. أَم نمر ؟
في زمانٍ موغلٍ في القدم عاش ملكٌ نصف بربري، رجلٌ ذو أهواء لا تحدها حدود، وسلطانٍ بلغ من قوته أن كل ما يخطر في باله يتحول في الحال الى حقيقةٍ واقعة. وكان أيضاً مغرماً بمشاورة نفسه، وعندما يتفق مع نفسه على شيء فإنه يجد سبيله الى التنفيذ فوراً.
عندما تسير الأمور على ما يرام تراهُ لطيفا ودودا كريماً، لكنه حين يواجَه بعقدةٍ ما ... يغدو أكثر كرما ولطفاً، ذلك لأنه لا يُسعَدُ بشيء في الدنيا مثل سعادته بتقويم ما يراه معوَجّاً، وتسوية الأماكن غير السوية بالأرض.
وكان ميدان القتال العمومي واحدا من نزواته التي استعارها من جيرانه "المتحضرين". إذ وجد فيه المكان الذي يهذب ويطهر عقول العامة حين تُعرض أمامهم ضروب الشجاعة الآدمية والحيوانية. لكن هذا الخيال البربري الذي لا تحده حدود أبى إلا أن يؤكد نفسه ها هنا أيضا؛ فهذا الملعب الكبير بأروقته الدائرية وقبوه الغامض وممراته الخفية كان موضوعاً لعدالةٍ شاعرية يتم على يديها معاقبة الجريمة ومكافأة الفضيلة في أحكام تصدر عن الصدفة العادلة العمياء. فعندما يتهم شخصٌ ما بجريمةٍ تبلغ من الأهمية حد أن تثير اهتمام الملك يُعلَن على الملأ أن مصير المتهم سيتقرر في هذه الحلبة. وإذ يجتمع الناس في الأروقة، ويجلس الملك على عرشه العالي وقد أحاطت به حاشيته يعطي إشارته فيُفتحُ بابٌ أسفل موضع العرش ليخطو المتهم الى الحلبة ويجد قبالته تماماً، في الجانب الآخر من الحلبة المسوَّرة، بابين متجاورين متشابهين تماماً. وهنا سيكون من واجب المتهم، ومن امتيازاته أيضاً، أن يتقدم نحو واحد من البابين ويفتحه. نعم، كان من حقه أن يفتح أيّا منهما، دونما مؤثر خارجي أو دليلٍ يقوده سوى المصادفة العادلة العمياء التي ذكرناها. فإذا فتح واحدا منهما خرج اليه نمرٌ جائع، من أكثر النمور ضراوةً ووحشية، ليثب عليه في الحال ويمزقه إربا إربا، عقابا له على جريمته. وفي اللحظة التي يتقرر فيها مصير المتهم بهذه الصورة الشنيعة ترنُّ الأجراس الحديدية الحزينة، ويتعالى صراخ النادبات الأجيرات اللاتي اصطففنَ خلف سياج الحلبة. أما أفراد الجمهور المحتشد فيمضون الى بيوتهم، برؤوسٍ منكسة وقلوبٍ تقطر ألماً لأن رجلاً في ريعان الشباب والجمال أو شيخاً وقوراً مسِنّاً قد لاقى مثل هذه الميتة البشعة.
أما إذا فتح المتهم الباب الآخر فستخرج اليه امرأة! امرأة يختارها صاحب الجلالة من أكثر النساء ملائمة لعمر المتهم ومركزه بين جميع رعاياه. ويتم في الحال تزويجه منها مكافأة له على براءته. ولا يهم بالطبع كون الرجل متزوجاً بالفعل أو أن قلبه يميل صوب امرأة أخرى؛ فالملك لا يسمح لترتيباتٍ مغايرةٍ كهذه بأن تعرقل منظومته العظيمة للثواب والعقاب. ولسوف تجري مراسيم الزواج في الحال، وفي نفس الحلبة؛ إذ ينفتح بابٌ آخر تحت عرش الملك، ليخرج منه كاهنٌ تتبعه ثلة من المنشدين والراقصات ويتقدمون وهم يطلقون أنغام الفرح من أبواق ذهبية الى حيث يقف الزوجان جنباً الى جنب، ثم تتم المراسيم السعيدة في عجالةٍ، فتدق الأجراس النحاسية الطروب وترتفع صيحات الفرح من الحاضرين، ويمضي الرجل الذي بُرِئت ساحته، يتقدمه صغارٌ ينثرون الورد في طريقه، ليقود عروسه الى بيته.
تلك كانت طريقة الملك نصف البربرية لتطبيق العدالة، وعدالتها المطلقة واضحة بالطبع للعيان. فالمجرم لن يفلح في معرفة الباب الذي يؤدي الى العروس، إنه يفتح أي باب يشاء دون أن يملك أدنى فكرة إن كان سيتزوج أو يُفتَرس في اللحظة التالية. ربما خرج اليه النمر.. وربما خرجت اليه العروس. وليست القرارات عادلة وحسب، لكنها قاطعة حاسمة؛ فالمتهم يعاقَب في الحال إذا وجد نفسه مذنباً أو يجازى من فوره، شاء ذلك أو أبى، فلا فرار مما يصدر عن حلبة الملك من أحكام.
كانت هذه المناسبات تحظى بشعبية كبيرة، فحين يجتمع الناس في يوم من أيامها المشهودة لا يعرفون إن كانوا سيشهدون مذبحة دموية أم عرساً بهيجاً، وعنصر الغموض وانعدام اليقين هو الذي يضفي على الحدث سمة الترقب والتشويق التي تجذب اليه الناس الذين كانوا يحصلون على المتعة والتسلية. أضف الى ذلك أن صفوة المجتمع لن تستطيع اتهام هذه الترتيبات بالابتعاد عن الإنصاف : ألم يكن تقرير الأمر بيد المتهم نفسه؟!
وكان لهذا الملك نصف البربري ابنة في ريعان شبابها ونضارتها وكأنها واحدة من نزواته الوردية ولها روح متقدة ومستبدة مثل روحه هو. وكانت، كما هو معتاد في هذه الحالات، قرّة عينه وأحب الناس الى قلبه. وكانت حاشيته تضم فيما تضم شاباً له من رفعة الأصل وضآلة المركز الوظيفي ما اعتدنا عليه عند أبطال القصص الرومانسية التقليدية الذين يعشقون أميراتهم.
وكانت هذه الأميرة راضية بحبيبها، فقد كان وسيماً وشجاعاً الى حد غير مسبوق في كل أرجاء المملكة، وكانت بدورها تحبه بحرارةٍ فيها من البربرية ما يحيلها الى عشق ملتهبٍ عنيف. مضت العلاقة بينهما بشكل سعيد طوال شهورٍ عديدة، حتى جاء اليوم الذي اكتشفها الملك، فلم يتردد أو يتوانى إزاء واجباته التي ذكرناها في البداية. زُج الفتى في السجن على الفور، وحُدد موعدُ محاكمته في حلبة الملك. كان هذا، بالطبع، حدثاً ذا أهميةٍ استثنائية، وكان جلالته، ومعه الناس كلهم، منشغلين بتفاصيل المحاكمة وتطوراتها. فلم تقع حالة مثل هذه من قبل، ولم يحدث قبل ذاك أن تجرأ فرد عادي على أن يعشق ابنةَ ملكٍ ما. لقد أصبحت حالات كهذه أموراً طبيعية في اللاحق من الأعوام، لكنها كانت في وقتها غريبة ومريعة الى حدٍ بعيد.
بحثوا في أقفاص النمور في المملكة عن أكثر الوحوش قسوة وضراوة كي يختاروا لحلبة الملك من بينها أكثرها شراسة. وقام قضاة أكفاء بمعاينة دقيقة لصفوف الصبايا والحسناوات من كل أنحاء المملكة لينتقوا للفتى عروساً مناسبة إذا ما رسم له القدر مصيراً مختلفاً. كان الجميع يعرفون أن الفعل الذي رمي به المتهم قد حدث وانتهى. لقد عشق الأميرة، ولم يفكر، لا هو ولا هي ولا أي إنسان آخر في إنكار الحقيقة. لكن الملك لم يكن ليسمح لأية حقيقة من هذا القبيل بأن تعرقل إجراءات المحاكمة التي شارك فيها بسرورٍ واقتناع عظيمين. سيتم التخلص من الفتى بغض النظر عما ستؤول اليه القضية، وسيتمتع الملك بنشوةٍ أخلاقية في مراقبة سير الأحداث التي ستقرر إن كان الفتى قد أخطأ أم لا عندما سمح لنفسه بالوقوع في حب الأميرة.
حل اليوم الموعود. وتجمع القاصي والداني، وغصت بهم شرفات الحلبة العظيمة، والتصق الجمهور الذي لم يتح له الدخول بجدران الملعب الخارجية. واتخذ الملك وحاشيته أماكنهم قبالة البابين التوأمين، تلكما البوابتين المصيريتين، الرهيبتين في التشابه بينهما.
كان الجميع على أهبة الاستعداد. وأعطيت الإشارة فانفتح باب تحت الحضرة الملكية، وتقدم عاشق الأميرة الى الحلبة. كان طويلاً، جميلاً، وسيماً، فقوبل ظهوره بهمهمةٍ خافتة من الإعجاب والقلق. لم يكن نصف الجمهور يعرف أن شاباً بهذه الروعة يعيش بين ظهرانيهم. لا عجب إذن في أن تحبه الأميرة! ويا لمقتله من أمرٍ فظيع!
عندما توسط الفتى حلبة الميدان استدار، كما تقضي التقاليد، كي ينحني للملك، لكنه لم يكن يفكر بالحضرة الملكية؛ كانت عيناه مثبتتان على الأميرة التي جلست على يمين أبيها. كان من المحتمل ألا تكون حاضرةً في المكان لولا العرق البربري الذي يسري في طباعها، فروحها المتقدة الشديدة لم تكن لتسمح لها أن تغيب عن مناسبة تهمها بهذا القدر الرهيب. ومنذ اللحظة التي صدرت فيها الإرادة الملكية بأن يقرر حبيبها مصيره في حلبة الملك، لم تفكر بشيء، في الليل أو في النهار، غير هذا الحدث العظيم وكل الأشخاص الذين لهم صلةً به. ولأنها تملك من السلطة والنفوذ وقوة الشخصية ما لم يملكه قبلاً أي ممن اهتموا بقضية مثل هذه فقد فعلت ما لم يفعله أحد قبلها: لقد عرفت سر البابين، عرفت في أي من الحجرتين القابعتين وراءهما ينتصب قفص النمر بواجهته المفتوحة، وفي أيهما تنتظر العروس.
كان من المستحيل أن يخرج من خلف البابين السميكين، المبطنين من الداخل بستائر جلدية ثخينة، أي صوت أو إشارة للشخص الذي يفترض به أن يتقدم ويرفع مزلاج واحدٍ منهما. لكن الذهب، وقوة إرادة النساء جاءا بالسر الى الأميرة. فلم تعرف فقط في أية حجرة تقف العروس المتألقة المتوردة من الخجل وقد استعدت للخروج حالما ينفتح بابها، بل عرفت أيضا من تكون. إنها واحدة من أجمل وأحب آنسات البلاط، تلك التي اختيرت لتكون جائزة الفتى إذا بانت براءته من جريمة التطلع الى امرأةٍ بهذا العلو عن مقامه. كانت الأميرة تكره تلك المخلوقة الحسناء، فلطالما رأتها، أو خيل لها أنها رأتها وهي ترمي بنظرات الإعجاب على شخص حبيبها، بل شكّت أحيانا بأن الفتى قد لاحظ تلك النظرات أو حتى قابلها بالمثل. كانت تراهما بين الآونة والأخرى وهما يتبادلان الحديث، ولكن للحظة أو اثنتين. غير أن الكثير يمكن أن يقال في فسحة صغيرة. ربما كان حديثا في أمورٍ شديد التفاهة، ولكن ما أدراها؟ كانت فتاة محبوبة، لكنها تجرأت على رفع ناظريها الى حبيب الأميرة، ولذلك فإنها -وبكل ضراوة الدماء الهمجية التي انتقلت إليها عبر سلالة طويلة من أسلافها البرابرة المقدسين- حقدت على الفتاة التي كانت ترتعش وتحمر خجلاً وراء ذلك الباب الصامت.
عندما استدار حبيبها ونظر اليها، والتقت عيناه بعينيها، وهي تجلس هناك، أكثر شحوباً واصفراراً من كل ذلك البحر المتلاطم من الوجوه القلقة المتطلعة من حولها، أدرك بنفاذ البصيرة الذي لا يملكه إلا من وحّد الحب أرواحهم، أدرك أنها تعلم علم اليقين أي البابين يجثم خلفه النمر وأيهما تقف خلفه الفتاة. كان يتوقع منها أن تعرف ذلك. فقد كان يفهم طباعها، وكانت روحه مطمئِّنة الى أنها لن تهدأ حتى تتفتح أمامها مغاليق السر الذي حُجب عن الجميع، وبضمنهم الملك نفسه. كان الأمل الوحيد الذي يحمل قدراً من التأكيد يعتمد على نجاح الأميرة في اكتشاف السر، ولقد أدرك منذ اللحظة التي أبصرها فيها أنها نجحت، كما يعرف في قرارة قلبه.
ثم جاءت تلك النظرة القلقة العجلى التي ألقت السؤال "أيهما؟"
السؤال الذي وضح أمامها وكأن الفتى صرخ به من حيث يقف. لم يكن ثمة وقتٍ لإضاعته؛ لقد ألقي السؤال في لمحة بصر ويجب الرد عليه في لمحة أخرى.
كانت ذراعها اليمنى ترتاح على حاجز الشرفة الوثير أمامها. رفعت يدها وأرسلت إشارة طفيفة خاطفة نحو اليمين. لم يرها أحد سوى حبيبها، فكل العيون سوى عينيه كانت مسمّرة على الرجل الذي في الحلبة.
استدار الفتى وعبر المسافة الخالية بخطوات واثقة سريعة. وتوقفت كل القلوب، وحُبست الأنفاس، وتسمرت كل العيون عليه. ودون أدنى تردد مضى نحو الباب الأيمن وفتحه.
والآن، فإن النقطة الأساسية في حكايتنا هي: هل خرج النمر من الباب؟ أم خرجت العروس؟
كلما تفكرنا في السؤال كلما تعسرت الإجابة عليه. فهي تتضمن دراسة القلب الإنساني الذي يقودنا خلال متاهات العاطفة الملتوية التي يصعب علينا إيجاد مخارجها. فكر في ذلك أيها القارئ المنصف، ليس كما لو كان القرار قرارك، بل قرار تلك الأميرة شبه البربرية، حامية الطباع، التي تتقلب روحها الهائجة بين نار اليأس ونار الغيرة. لقد خسرته الى الأبد، ولكن من الذي سيأخذه منها؟
كم مرة، في ساعات يقظتها أو في طيات أحلامها، أجفلت وقد جرفها رعب وحشي، ثم غطت وجهها بيديها وهي تفكر بحبيبها وهو يفتح الباب الذي تنتظر وراءه مخالب النمر التي لا تعرف الرحمة!
وكم وكم مرة رأته عند الباب الآخر!
كم، في أحلام يقظتها الأليمة الموجعة، صرّت على أسنانها ومزقت شعرها وهي تراه يثب في فرح عظيم إذ يفتح باب العروس! كم تلظت روحها وهي تراه يندفع لملاقاة تلك المرأة الأخرى، بخدودها المتوردة وعينيها اللتين تقدحان بفرحة النصر. وهي تراه يقودها خارجا وقد توهج كيانه بفرحة العودة الى الحياة. وهي تسمع صيحات الفرح التي تطلقها الجماهير، وضربات النواقيس المجلجلة السعيدة. وهي ترى الكاهن، وفي أثره أتباعه المبتهجين، يتقدم نحوهما ليعلن زواجهما أمام ناظريهما. ثم وهي تراهما يمضيان معاً فوق الطريق المفروش بالزهور، تحف بهما صيحات الحشود الصاخبة الجذلى التي تضيع وتغرق فيها صرختها اليائسة الوحيدة!
أليس من الأفضل له أن يموت من فوره، ليكون في انتظارها في أقاليم الحياة الأخرى شبه البربرية؟
ولكن ماذا عن ذلك النمر المخيف، تلك الصرخات، وتلك الدماء!
لقد بيَّنتْ جوابها في لحظة خاطفة، لكنه كان حصيلة أيام وليالٍ من التفكير المبرِّح. كانت تعلم أنها سوف تُسأل، ولقد قررت نوع إجابتها، وأشارت بيدها دون بصيص من التردد .... نحو اليمين!
إن قرارها ليس بالمسألة التي يجوز الاستخفاف بها، ولستُ أنا من يتجرأ على وضع نفسي موضع القادر على الإجابة. لذلك سأترك السؤال في عهدتكم:
من خرج من الباب المفتوح ... العروس ، أم النمر ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق