قصائد مختارة للشاعرة الامريكية آن سكستون
Sexton, Anne
(1924-1974)
ولدت آن سكستون في نيوتن-ماساتشوستس عام 1928. أكملت دراستها الأولية والتحقت بالدراسة الجامعية لكنها تركتها بعد عام واحد لتتزوج وهي في التاسعة عشرة. بعد إنجابها طفلتها الأولى أصيبت عام 1954بمرض الكآبة ما بعد الولادية وانهارت صحتها العقلية مما استدعى إدخالها المستشفى ثم ازداد تفاقم المرض يعد ولادتها لابنتها الثانية عام 1955 فأدخلت المستشفى ثانية وفصلت عن طفلتيها اللتين أرسلتا لتعيشا مع والدي زوجها فأقدمت في عيد ميلادها في العام نفسه على أولى محاولات انتحارها. في عام 1957 انضمت –بتشجيع من طبيبها الذي نصحها بمعاودة اهتمامها السابق بالشعر- الى ورشة شعرية في مركز لتعليم الكبار في بوسطن وسرعان ما برزت موهبتها وسطع نجمها وظهرت قصائدها في كبريات الصحف الأمريكية. كانت كتابة الشعر –كما اعترفت لأصدقائها- طريقتها الوحيدة لتحمل الحياة وتأجيل موتها حتى عام 1974 حين خسرت المعركة ضد المرض العقلي ووضعت حداً لحياتها رغم ما حازته من شهرةٍ ونجاح وتكريم شمل عضويتها في الجمعية الأمريكية للفنون والآداب والجمعية الملكية للآداب وحصولها على جائزة "البولتزر" للكتاب. تعد سكستن واحدة من أبرز الشعراء الاعترافيين" "confessional poets جنباً الى جنب مع سلفيا بلاث وروبرت لويل الذين تميز شعرهم بالجرأة والصراحة الشديدة والتطرق الى مواضيع شديدة الخصوصية والحساسية الأمر الذي لقي ترحيبا وتقديرا من البعض واستهجاناً من البعض الآخر. أصدرت العديد من المجموعات الشعرية والنثرية وكتب الأطفال والألبومات الصوتية ونالت شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة تافت رغم أنها لم تكمل تعليمها الجامعي.
"1"
القُبلة
فمي يتورَّدُ .. مثلَ جرحٍ.
عامٌ من القهرِ تحمّلتُهُ،
من ليالٍ مضجراتٍ ليس فيها
غيرَ أذرعٍ تآكلَتْ مرافقُها
وعلبٍ ناعماتٍ
من مناديلَ تصيحُ بي :
أيّتُها البكّاءةُ ، أيتها البكّاءةُ الحمقاء!
**
بالأمسِ.. كانَ جسدي عقيماً
لكنه الساعةَ .. ينشقُّ عندَ زواياهِ القائماتِ
ويمزِّقُ رداءَ "مريمَ" البالي .. عقدةً بعد عقدة.
هاكَ فانظرْ : إنهُ مشحونٌ بالبُروق:
زِنككك! أزيزٌ ... ثم انبعاث !
**
ولقد كانَ زورقاً ، يابساً ، مهجوراً
لا ملحَ في قعرِهِ.
يحنُّ للطلاءِ.
لم يكنْ أكثرَ من كومةِ أخشابٍ.
لكنكَ أخرجتَهُ للماءِ ، ورفَعتَ أشرعتَهُ
لقد اصطفيتَهِ للبحرِ!
**
عروقي تتوهّجُ .. إنّي لأَسمعُها
كَجوقٍ من الآلاتِ.
وهنا .. حيثُ كانتِ الطبولُ خُرساً
تلعبُ الأوتارُ في جنونٍ.
أنتَ فعلتَ هذا.
أيها العبقريُّ في العملِ
أيها الحبيبُ ..
وارتمى المؤلِّفُ في الحريق!
___________
"2"
نصائح الى شخصٍ عزيز
احترس من السلطة
فقد تدفنك حياً.تحت انهياراتها الثلجية.
ثلج .. ثلج .. ثلج قد يخنق جبلك.
**
احترس من الضغينة
يمكنها أن تفتحُ أشداقها فتطرحُ نفسك
لتلتهمُ ساقك .. كمجذوم منبوذ !
**
احترس من الأصدقاء
لأنك حينَ تخونهم ، كما ستفعلُ
سيدفنون رؤوسهم في المراحيض
ويسحبون الشافطة ويغيبون.
**
احترس من الذكاء
لأنه يعرف كثيراً حتى لا يعود يعرف شيئاً
ويتركك معلقاً من رأسك
يتشدق بالمعرفة وقلبك يسقط من فمك.
**
احترس من الألعاب ، من دور الممثل ،
من الخُطَب المُعَدَّة ، المعلومة ، المُلقاة،
لأنها ستخذلك
وستقف كأنك طفلٍ عارٍ
تتبولُ في مهدك !
**
احترس من الحبِّ
(ما لم يكن حقيقيا .. وكل عضوٍ فيك، حتى أصابع القدمين
يهتفُ: نعم )
لسوف يلفُّكَ مثل مومياءٍ
ولن يُسمعَ صراخُك
لن تكف عن الجري.
**
الحبُّ ؟ إن كان رجلا ، إن كان امرأة
لا بد أن يكون موجةً تريد التزحلق عليها
وأن تُسلمها جسدك ، أن تسلمها ضحكتك
وإن تمنحَ ، ساعةَ يأخذك الرمل المفروش بالحصى ،
أن تمنح الأرض دموعكَ.
أن تحب غيرك شيء كالصلاة لا يمكن التخطيط له.
أنت تسقط فحسب .. تسقط في أحضانه
لأن إيمانك يُبطِلُ إنكارك.
**
أيها الشخص العزيز
لو كنتُ مكانك لما أعرتُ نصائحي اهتماماً.
ولمزجتُ في عملٍ مشترك
بعضاً من كلماتي وبعضاً من كلماتك.
أنا لا أؤمن بحرفٍ مما قلت
إلا بعضها .. إلا كوني أعُدُّكَ مثل شجرةٍ يافعة
بأغصان مُلصقَة
عالمةً أنك ستمد الجذور
وتطلعَ أوراقاً خضرا حقيقية.
**
أفسح الطريق أفسِح الطريق أيها الشخص العزيز.
كاتبةُ الطابعةِ هذه
تحبك وأنت في طريقك
الى تلك الأوراق المرتجاة
لكنها تريد أن تكسر كؤوس الكريستال
في الاحتفال من أجلك ،
حينَ ترمي القشرة المعتمة
وتحلق في الأرجاء
كبالونٍ يطيرُ دونَ هدي
_____
"3"
لعنة بوجهِ المراثي
لماذا ، يا حبيبي ، نكثرُ الجدال ؟
قد تعبك من حديثك الورِع.
كذاك تعبتُ .. من كلِّ الموتى.
إنهم يرفضون الإصغاء.
فاتركهم لوحدهم
واسحب قدميك من المقبرة
إنهم مشغولون بموتهم؟
كان الجميع منهمكين بإلقاء اللوم:
على الخمس الأخير من كأس الشراب
على الأظافر القذرة وريش الدجاج
اللاصق بطين سلالم الباب الخلفي
والديدان التي تعيش خلف آذان القطط
والواعظ النحيل الشفتين
الذي رفض الزيارة غير مرّةٍ واحدة
في يومٍ غشيتهُ البراغيث
حين جاء يجر قدميه خلال الفِناء
باحثاً عن كبشِ فداءٍ.
واختبأتُ في المطبخ تحت كيس السجادة.
**
أرفضُ أن أتذكرَ الموتى
والموتى أنفسهم ملّوا الأمر كله.
لكنك أنتَ .. أنت تمضي قُدما
تمضي راجعاً الى الأسفل
الى المقبرة
وترقد حيث تظن وجوهم
وتُكَلِّمُ أحلامك الرديئة القديمة.
_________
"4"
45 شارع الرحمة
في حلمي
حلمي الحقيقي الذي ينفذ الى النخاع
من كل عظامي
أسير جيئةً وذهاباً في "بيكون هِل"
باحثة عن لوحة شارعٍ
عن شارع الرحمة بالتحديد ..
لا .. ليسَ موجوداً.
**
أجرب "باك بَيْ"
لا يوجد
لا يوجد.
ورغم هذا فأنا أعرف الرقم:
45 شارع الرحمة.
أعرف النوافذ ذات الزجاج المصبوغ
في ردهة البيت
وطبقات سلالمه الثلاث
وأرضياته الخشبية الملونة.
أعرف الأثاث
والأمَّ .. والجدة .. وأمَّ الجدة .. والخدم.
أعرف خزانة الخزف الانكليزي
ووعاء الثلج الزورقي ، فضة خالصة
حيث يجلس الزبد في مربعات متقنة
مثل أسنان عملاق غريب
فوق منضدة الخشب الماغوني الأحمر.
أعرفه جيداً
غير موجود.
**
أين ذهبتَ
يا 54 شارع الرحمة ؟
بأمَّ الجدة التي تركع
في الخامسة صباحاً.
في مشد خصرها المصنوع من عظم الحوت
وتتضرع .. برقةٍ لكن في ضراوة
لحوض الغسيل.
وتغفو في الظهيرة
في كرسيها الهزاز
والجدُّ يقيلُ في حجرة المؤونة
والجدة تضغط الجرس لخادمة الطابق الاسفل
و "نانا" وهي تهز أمّي
وزهرة كبيرة تغطي
خصلة الشعر فوق الجبين
حين تكون سليمةً أو حينَ تكونُ ..
وحيث ولِدَت وحيث ولدتني
أُماً ثالثةً في تسلسل الأجيال.
ببذور الدخيل الغريب التي تنمو
لتصير وردةً اسمها البشاعة.
**
أتمشى في رداءٍ أصفر
ومحفظة جيب بيضاء محشوةٍ بالسجائر
وما يكفي من الحبوب ، ومحفظة نقودي ومفاتيحي
وأنا في الثامنة والعشرين
أم هي الخامسة والأربعين ؟
أسيرُ .. وأسير.
وأشعل أعواد الثقاب عند علامات الشوارع
فهي ظلماء
ظلماء كالموتى اليابسين كالجلد
وأنا قد أضعت "فوردي" الخضراء
وبيتي في الضواحي
وطفليَّ الصغيرين
المدللين كغبار طلعٍ في نحلةٍ بداخلي
وبزوجٍ مسح عينيه
كي لا يرى باطني خارجاً
وأنا أسيرُ وأنظر
وهذا ليس حلماً
إنها فقط حياتي الملوثة بالزيت
حيث الناس يتذرعون
بالغياب عن مسرح الجريمة
والشوارع لا يمكن العثور عليها
طوال العمر.
**
أنزِلِ الظلال
أنا لا أبالي !
سمّري الأبواب يا رحمة
امسحي الأرقام
مزقي علامات الشوارع
ما الذي سيهم هذا الشحيح الذي
يريد امتلاك الماضي
الذي خرج في سفينة ميتة
وتركني وليس معي .. غير الأوراق
**
لا يوجد.
**
أفتح محفظة جيبي
كما تفعل النساء
فتسبح الأسماك جيئة وذهاباً
بين الدولارات وأصابع الحمرة
فانتشلها واحدة واحدة
وأرميها عند علامات الشوارع
وأرمي محفظة جيبي في "نهر تشارلز".
وأعود لأنتزعَ حلمي
وأصفُقُ الجدار الاسمنتي
للتقويم الأخرق الذي أعيشُ فيه
بحياتي
ومفكراتي التي انتشلتها الحبال.
______
"5"
آنا التي كانت مجنونة
آنا .. التي كانت مجنونة
عندي سكّينٌ تحت ابطي.
حينَ اقف على روؤس أصابعي
أنقرُ البرقيات.
هل أنا مرضٌ معدٍ ؟
هل جعلتكِ تجنّين ؟
هل جعلتُ الأصوات بغيضة هكذا ؟
هل طلبتُ منك تسلّقَ النافذة ؟
سامحيني .. سامحيني.
لا تقولي إنني فعلتُ ذلك
لا تقولي أنني
لا تقولي
**
صبي كلماتٍ مريميةً في وسادتنا
خذيني طفلةً طويلة نحيلة
في الثانية عشرة من عمرها
في أحضانك الغائرة
اهمسي مثل أوراق عشب
كُليني .. ابتلعيني مثل حلوى الكريمة
أدخليني في فمكِ
أدخليني
أدخلي.
**
أعطيني تقريراً عن حالة روحي
أعطيني بياناً مفصلاً عن أفعالي
ناوليني زهرة برية ودعيني أنصت الى جوفها
ضعيني في الركاب ومرري فوجاً من السائحين
رقّمي خطايايَ في لائحة البقالة ودعيني أشتريها
هل جعلتكِ تجنّين ؟
هل رفعت سماعات أذنك
وأدخلت فيها صافرات إنذارٍ ؟
هل فتحتُ الباب لطبيب الأمراض العقلية ذي الشاربين
الذي جرك خارجاً مثل عربة يد محملة بالذهب؟
هل جعلتكِ تجنّين ؟
أكتبي لي من القبر يا آنّا !
لستِ سوى رمادٍ لكن رغم ذاك
ارفعي قلم "الباركر" الذي أعطيتك إياه
واكتبي لي
اكتبي...
_______
"6"
17 آب
"مناسب لزيارة المستشفيات وللأعمال الخيرية. خصِّصْ بعض الوقت للعناية بصحتك"
سأكون منزعجة بالتأكيد
من المستشفى : منطقةِ الأجسادِ تلكَ ،
حيث الأجسادُ الملفوفةُ بالأشرطة البلاستيكية
والأجسادُ الموضوعة في صناديق خشبية
أو المستخدمة مثل الهواتف
والأجساد المصلوبة في العكازات
والأجساد التي تلبس أكياس مطاطية بين أفخاذها
والأجساد التي تتقيأ عصاراتها مثل سوائل التنظيف.
هنا .. في هذا المنزل
ثمة أجسادٌ أخرى :
كلما رأيتُ طفلاً في السادسة
يسبح في حمام سباحتنا
صوتٌ في داخلي يقول ما لا يُقال:
هيه . يوماً ما ستصبح عجوزاً وذاوياً
وسيدخلون في أنفك الأنابيب لتشرب طعامك
يوماً ما ستعود القهقرى ، ستنغلق كعلبة أحذية
وستُلعَنُ وأنت تشق الطريق الى الموت وأقدامك أولاً.
**
هنا ، في هذا المستشفى أقولُ :
ذاك ليس جسدي .. ليسَ جسدي
لستُ هنا لأراجعَ الأطباء
ليقرأوني كوصفةِ طبيخ.
لا .. أنا فتاة زهرة الربيع
الطائرة في الريح كقطعةٍ من الشمس.
في الردهة رقم 7 ثمة زهرات ربيع
من زبدةٍ ولآلئ
لكنْ جوارَ رجلٍ أعمى لا يقدر إلا
على أكل التويجات والعدِّ الى العشرة
الممرضاتُ من حوله يلعبنَ نطَّ الحبال ، ويرتجفن
كلما ترجرجت عيناه كالزئبق
ثم يرقصن من مريض لمريض لمريض
وينثرن كؤوس دواءٍ ورقِيّة صغيرة
ويلعبن لعبة الرمي والإمساك
بزجاجات الحُقَن المخدِّرة
وهنَّ ينتظرن حادثة جديدة.
أجسادٌ مجبولة من مواد مصنَّعة
أجسادٌ مقمَّطةٌ كالدُمى
أزورها وأتملقها وكل ما تفعله هو الهمهمة
مثل الحاسبات التي تنجزُ ضرائبنا دولاراً بعد آخر.
كل جسدٍ في حاويته.
يضع الجرّاحُ صمغه . ويُحشر كلُّ جسدٍ
في علبةِ آيس كريمه
ويُخاطُ ثانيةً لأجل الرحلة الطويلة ..
الى الوراء.