للكاتب الهندي كاملشوار[1]
غلالة من الضباب تغطي كل شيء. لقد تجاوزت التاسعة صباحاً، غير أن دلهي مازالت أسيرة الضباب. الشوارع مبتلة، والأشجار نديّة، والرؤية غائمة. أما صخب الحياة وضوضاؤها فتتبدى في الأصوات، الأصوات التي تملأ الآذان. إنها تأتي من كل أرجاء المنزل. ها هو خادم آل فاشواني قد أوقد، كما في كل يوم، المدفأة التي بوسعك سماع أزيزها من وراء الجدار. وفي الغرفة المجاورة، يلمِّعُ آتول مافاني حذاءه. وفي الأعلى يضع السردارجي[2] دهن التثبيت الملمِّع على شاربيه، وخلف ستارة نافذته يومض مصباح كروي مثل لؤلؤة عملاقة. الأبواب كلها موصدة والشبابيك كلها مسدلة الستائر، لكن جلبة الحياة تتردد في أرجاء البناية. وفي الطابق الثالث كان فاسواني قد أغلق باب الحمام وأدار صنبور الماء.
تمضي الحافلات خلال الضباب، وأنين عجلاتها الثقال يدنو ثم يخبو في البعيد. عربات الركشو[3] تندفع في طيش. أحدهم ينزل عتلة عداد سيارة أجرة توقفت للتو، وجرس الهاتف يرن في عيادة الطبيب في البناية المجاورة، وثلة من الفتيات الذاهبات الى العمل يجتزن الزقاق الخلفي.
البرد قارس. وفي الشوارع المرتجفة تشق السيارات والحافلات طريقها في سحب الضباب وهي تطلق العنان لأبواقها. أما الأرصفة فهي تعج بالسائرين، لكن كل منهم (وقد تلفع بالضباب) يبدو مثل ندفة من القطن تذروها الريح.وكانت تلك الندف من القطن تتقدم في صمت نحو بحر الضباب ذاك.
الحافلات مكتظة بركابها، بعضهم يرتمي على المقاعد الباردة وسط شخوصٍ معلقة من الأذرع العرضية الممتدة مثل إيقونات للمسيح ولكن قضبان الحافلة اللامعة المتجمدة حلت محل المسامير المغروسة في الراحات.
وكان ثمة موكب جنائزي يتقدم على مهل من أقصى الشارع.
لا بد أنها الجنازة التي قرأت عنها قبل قليل في الجريدة: "توفي مساء اليوم في مستشفى إروٍين السيد سيث ديوانجاند، رجل الأعمال المحبوب البارز. وقد نقل جثمانه الى منزله، وسوف تشيع الجنازة في التاسعة من صباح الغد في شارع اريا ساماجا المؤدي الى ميدان بانجكوين لإحراق الموتى حيث تقام المراسيم النهائية"
لا بد أن هذا هو نعشه الذي يتقدم من نهاية الشارع. ثمة مجموعة من الناس يتدثرون باللفاعات ويعتمرون القبعات يسيرون خفه بصمت وبطء. لا يمكن رؤية كل التفاصيل بوضوح.
هناك طرقة على بابي. وضعت الصحيفة جانباً وفتحت. إنه أتول مافاني واقفاً على الباب:
" عندي مشكلة يا صديقي. لم يأت أحد ليأخذ الثياب للكي. هل يمكنني استعمال مكواتك؟"
تنفست الصعداء حين سمعت كلمات أتول، فقد كنت خائفاً من أن يسألني إن كنت سألحق بموكب التشييع. ناولته المكواة على الفور سعيداً بأنه لا يفكر إلا بِكيِّ بنطلونه ثم الانطلاق في جولة على السفارات. لقد كنت خائفاً، منذ أن قرأت خبر وفاة سيث ديوانجاند في الجريدة، من ظهور أحدهم ليقترح علي الانضمام الى الموكب برغم البرد الشديد. كان كل من في البناية على معرفة جيدة به، وكلهم أناس متكلفون يبالغون في إظهار الدماثة.
يهبط خادم السردارجي السلالم في جلبة ويفتح الباب ويهم بالخروج فأصيح به كي أزيد اطمئناني:
"ضارما ! الى أين؟"
وعندما يجيبني:
"ذاهب لشراء الزبد للسردارجي" أسرع بإخراج النقود وأطلب منه أن يأتيني ببعض السجائر.
السردارجي يرسل في طلب الزبدة لإفطاره، وهذا يعني، أنه هو الآخر، لا يخطط للانضمام الى موكب الجنازة، الأمر الذي زادني اطمئناناً: وبما أن كلاً من آتول مافاني والسردارجي لا ينويان الذهاب فإن الأمر مفروغ منه بالنسبة لي. هذان السيدان علاوة على آل فاسواني كانوا أكثر مني تردداً على منزل سيث ديوانجاند، أما أنا فلم أزره إلا في أربع أو خمس مناسبات. إذا لم يكونوا يفكرون في الذهاب فإن السؤال عن ضرورة ذهابي خارج نطاق البحث تماماً
وظهرت السيدة فاسواني في الشرفة الأمامية، وعلى وجهها الجذاب مسحة من شحوبٍ غريب، ولمسة من حمرةٍ تخلفت عن أحمر الشفاه الذي وضعته مساء الأمس. لم تكن ترتدي غير "روب" منزلي وقد عقدت خصلات شعرها الى الأعلى. "حبيبي" رنَّ صوتها "أحضر لي معجون الأسنان رجاءً"
وازداد اطمئناني. لا بد أن آل فاسواني هم أيضاً لن يحضروا المراسيم
ومن بعيد، عبر طريق آريا ساماج، يدنو الموكب على مهلٍ..
ويعود آتول مافاني ليرجع المكواة، فآخذها منه وأهم بإغلاق الباب، لكنه يدخل ويقول "هل سمعت بخبر موت سيث ديوانجاند بالأمس؟"
"لقد قرأت الخبر في الصحيفة للتو" أجبته ببرود محاولا قطع الطريق على مزيد من الحديث عن الموضوع. وجه آتول يلمع من النظافة، لا بد أنه قد حلق ذقنه قبل قليل.
"لقد كان فعلاً رجلاً ممتازا، ذلك الديوانجاند"
لو استمرت الملاحظات على هذا المنوال فسوف يترتب علي التزام أخلاقي بالانضمام الى موكب الجنازة، ولهذا أسرعت بالسؤال "ماذا حدث بشأن عملك ذاك؟"
"لقد أوشكت الماكنات على الوصول.وسوف أقبض عمولتي حالما يتم ذلك. شغل العمولات هذا أمر أحمق وعديم المعنى، لكن ما العمل؟ لو دبرت أمر ثمان أو عشر ماكنات فقط لاستطعت الشروع في تجارتي المستقلة" ويواصل آتول "أخي، لقد ساعدني كثيراً ديوانجاندجي عندما جئت الى هنا أول مرة. لولاه لما حصلت على عمل قط. الناس هنا يحترمونه فعلاً"
أشعر بوخزة في أذني عند سماعي اسم ديوانجاند، ثم يخرج السردارجي رأسه من النافذة ليسأل "سيد مافاني، متى نذهب؟"
"حسناً، لقد حددوا الساعة التاسعة، ولكن قد يحدث بعض التأخير بسبب البرد والضباب" لا بد أنهما يتحدثان عن الجنازة. كان خادم السردارجي قد أحضر لي السجائر وهو يعد الآن مائدة الشاي هناك في الطابق الأعلى. ثم تتكلم السيدة فاسواني "أعتقد بأن على بريميلا أن تكون هناك. ألا تتفق معي يا حبيبي؟"
"حسناً، ينبغي أن تكون هناك" يجيب السيد فاسواني وهو يجتاز الشرفة "أسرعي بالتهيؤ"
"هل ستأتي الى المقهى هذا لمساء؟" يسألني آتول.
"ربما" وألفُّ نفسي بالبطانية، أما هو فيعود الى غرفته.ثم يناديني بعد لحظات "أخي، هل خط الكهرباء مفتوح؟"
"نعم مفتوح" لا بد إنه يستخدم قضيب الغمس الكهربائي لتسخين الماء.
"تلميييييييع!" يعلن صباغ الأحذية الصغير بطريقته اليومية المؤدبة، فيستدعيه السردارجي الى الأعلى. يجلس الصبي في الخارج وينهمك في التلميع بينما يوجه السردارجي التعليمات لخادمه كيما يحضر الطعام دون تأخير في الواحدة تماما "لا تنس أن تقلي بعض الفلفل، وهيّئ بعض السلطة أيضاً"
أعرف أن الخادم شخص نذل، إنه لا يقدم الوجبات في مواعيدها ولم يسبق له قط أن طبخ ما طلبه منه السردارجي.
في الخارج ما زال الضباب الكثيف يغمر الشارع، ولا علامة على شروق الشمس. الرجل الذي يبيع الحمص وكعكات القمح جاء ونصب عربته كالمعتاد. إنه يلمّع الأطباق التي تقعقع بين يديه.
الحافلة رقم سبعة تغادر بمصلوبيها المعلقين داخلها، بينما يوزع الجابي البطاقات المسبقة الدفع على طابور من الواقفين وتخشخش قطع النقود المعدنية في كل مرة يعيد اليهم الباقي. إنه ليبدو، بزيه الغامق وسط تلك الكرات القطنية الغارقة بالضباب، مثل الشيطان نفسه.
واقترب الموكب الجنائزي قليلا.
"هل أرتدي سارياً أزرق؟" تسأل السيدة فاسواني، فيجيب السيد فاسواني بغمغمة تبين أنه منهمك بشد ربطة عنقه.
ينتهي الخادم من تنظيف بذلة السردارجي بالفرشاة ويعلقها في مكانها، بينما يقف السردارجي أمام المرآة وهو يلف عمامته.
يعاود آتول مافاني الظهور، وحقيبته الدبلوماسية في يده، وقد ارتدى البذلة التي خاطها الشهر الماضي. وجهه مفعم بالحيوية وحذاؤه يلمع. "ألن تذهب؟" يسألني. وقبل أن أسأله "الى أين؟" ينادي "هيا يا سردارجي، تأخر الوقت. لقد تعدت العاشرة"
بعد دقيقتين يشرع السردارجي بنزول السلالم. بينما ينظر فاسواني الى مافاني من أعلى السلم ويسأله "أين خطتَ هذه البذلة؟"
"هناك، في سوق الخان"
"إنها لطيفة جداً. سآخذ منك عنوان الخياط" ثم ينادي زوجته "هيا يا عزيزتي! سأنتظرك في الأسفل" وعندما يلتحق بمافاني والسردارجي يتحسس قماش البذلة ثم يسأل "هل البطانة هندية؟"
"انكليزية!"
"إنها ملائمة جدا" يقول وهو يدوّن على عجل عنوان الخياط الملصق بالبطانة. تظهر السيدة فاسواني في الشرفة فتبدو مثالا للكمال والنقاء في هذا الصباح البارد الرطب. يغمز السردارجي لمافاني ويبدأ بالصفير.
النعش الآن تحت نافذتي تماماً. بضعة أشخاص يسيرون خلفها، مستغرقين في الأحاديث، وزوج من السيارات يزحف بمواكبتها.
تنزل السيدة فاسواني السلالمَ وقد ثبتت وردة في شعرها، ويضبّط السردارجي المنديل البارز من جيب معطفه العلوي. وقبل أن يجتازوا الباب يسألني فاسواني "ألن تأتي؟"
"أسبقوني أنتم. سألحقكم بعد قليل" أجيب رغم أنني لا أعرف الى أين أذهب.
وتمضي الجنازة مبتعدة. تأتي سيارة من الخلف وتبطئ عندما تقترب من الموكب. يتبادل السائق بضع كلمات مع أحد المشيعين، ثم تندفع السيارة متقدمة. وتنسل بعدها السيارتان اللتان تتبعان الموكب وتندفعان وراءها.
أقف وأراقب السيدة فاسواني والرجال الثلاثة الآخرين وهم يتوجهون الى موقف سيارات الأجرة. تسدل السيدة فاسواني دثار الفراء على كتفيها أما السردارجي فهو أما أنه يقدم لها قفازاته الفرائية أو أنه يريها إياها فقط. يتقدم سائق التاكسي ويفتح لهم الباب فيدخل الأربعة. تنطلق السيارة الآن في هذا الاتجاه وأستطيع أن أسمع الضحكات في داخلها. يشير فاسواني نحو الموكب ويقول شيئاً للسائق.
أقف في هدوء وأراقب كل شيء، وأشعر بطريقة ما بأن أقل كان بوسعي فعله هو الانضمام الى موكب تشييع ديوانجاند. أعرف إبنه تمام المعرفة، وينبغي على الإنسان في أوقات كهذه أن يعلن تعاطفه حتى مع أعدائه. البرد يكاد يدمر عزيمتي، لكن مسألة الالتحاق بالجنازة تعذب ضميري.
تبطئ سيارة الأجرة عند اقترابها من النعش. يخرج مافاني رأسه ويقول شيئاً. ثم تستدير السيارة نحو اليمين وتنطلق الى الأمام.
اشعر بالهزيمة، فأرتدي معطفي وأضع خفين في قدمي وأنزل السلالم. تدفعني أقدامي بشكل آلي باتجاه الموكب فأجد نفسي وراء النعش تماماً. أربعة رجال يحملونه على الأكتاف، وسبعة آخرون يسيرون على جانبيه، سابعهم أنا. أتفكّر في الفرق الذي نراه حالما يموت المرء: قبل عام واحد فقط عندما تزوجت إبنة ديوانجاند حضر آلاف من الضيوف، وكانت السيارات تصطف أمام منزله..
وصلنا الى شارع لنكرود. بعد الاستدارة التالية سنبلغ ميدان بانجكوين لإحراق الموتى. عندما يستدير الموكب أرى حشداً من الناس وصَفّاً من السيارات. وهناك أيضاً عدد من الدراجات. ثمة لغط يتصاعد من مجموعة من النسوة الواقفات على جنب، كل منهن بتسريحة شعر مختلفة. كن واقفات هناك بنفس الطريقة من الانغماس في اللذة التي تراها في كونوتبليس[4]. يتصاعد دخان السجائر من جمع الرجال ويمتزج مع الضباب، وتبرق الشفاه الحمر والأسنان البيض في أفواه النساء وهن يتحدثن ويتحدثن وفي عيونهن غطرسةٌ وكِبَر...
كان النعش قد أُنزِل ووضع فوق منصة. يخيم الصمت الآن فيما يتجمع الحشد المتفرق حول الجسد المسجى، والسائقون الذين يحملون باقات وأكاليل من الزهور يقفون بانتظار إشارة من أعين سيداتهم.
وقعت عيني على فاسواني. إنه يحاول أن يشير الى زوجته كي تذهب لإلقاء النظرة الأخيرة على الجثمان لكنها تواصل الوقوف في مكانها والحديث مع النسوة الأخريات. وقريبا منهن يقف السردارجي وآتول مافاني.
رفع الغطاء عن وجه الميت وشرعت السيدات الآن بوضع الزهور والأكاليل حوله، وتراجع السائقون وقد انتهت مهمتهم ووقفوا يدخنون قرب سياراتهم.
إحدى السيدات، بعد أن فرغت من وضع إكليلها، تخرج منديلا من جيبها، وتضعه على عينيها، وتنشُقُ قليلاً ثم تخطو الى الوراء. وبدأت كل النسوة بإخراج مناديلهن وصرتَ تسمع أصوات الأنوف التي تنفخ فيها.
أشعل بعض الرجال أعواد البخور وغرسوها حول رأس الجثمان ثم وقفوا دون حراك. وبدا من الأصوات أن حزناً متزايداً قد هيمن على قلوب السيدات. يخرج آتول مافاني ورقة من حقيبته ويريها لفاسواني. أعتقد أنها عريضة لجواز سفر.
إنهم يحملون الجثمان الآن الى داخل ساحة الحرق. يقف الحشد خارج البوابة وهم يراقبون. وانهى السائقون سجائرهم أو أطفؤوها ووقفوا على أهبة الاستعداد قرب سياراتهم.
صار الجثمان الآن داخل المحرقة. وهاهم السيدات والسادة الذين جاؤوا لتقديم العزاء يبدؤون بالمغادرة. وصار بإمكان المرء سماع أصوات الأبواب وهي تفتح وتغلق. ودارت محركات الدراجات وشرع بعض الحاضرين بالسير نحو محطة حافلات ريدنغ رود.
وما زال الضباب كثيفاً...
تمر الحافلات، وتقول السيدة فاسواني "لقد دعتنا بريميلا هذا المساء. سوف تأتي معنا، أليس كذلك يا حبيبي؟ ستكون هناك سيارة بانتظارنا. حسناً، اتفقنا؟"
ويهز فاسواني رأسه موافقاً.
السيدات اللائي يغادرن بالسيارات يبتسمن ويودع بعضهن البعض. وتنطلق السيارات..
آتول مافاني والسردارجي يتوجهان سيراً نحو موقف الحافلات. لو كنت أرتدي ثيابا لائقة لتوجهت من فوري الى عملي. لكنها الحادية عشرة والنصف.
أوقدت النار في المحرقة، وجلس أربعة رجال أو خمسة على مصطبة تحت إحدى الأشجار. إنهم مثلي، وجدوا أنفسهم داخلين الى الساحة. لا بد أنهم قرروا أخذ إجازة هذا اليوم، وإلا لكانوا يستعدون الآن للذهاب الى أعمالهم.
لا أستطيع أن أقرر إن كنتُ سأعود الى البيت وأغتسل وأذهب الى المكتب أم سأستغل عذر الوفاة لأحصل على إجازة. نعم، لقد توفي أحدهم بالفعل، وها أنا عائد من موكب تشييعه!
[1] Kamleshwar Prasad Saxena قاص وكاتب سينمائي وتلفزيوني بارز وأحد رواد القصة الحديثة في الهند، ولد عام 1932 وتوفي عام 2007
[2] السردار: وتعني القائد أو المقدم وتطلق على صاحب المكانة السياسية أو العسكرية، وكثيرا ما يضاف المقطع "جي" الى بعض الأسماء والألقاب لمزيد من التعظيم.
[3] عربات الركشو rickshaw عربات مغطاة ذات عجلتين يجرها إنسان أو تربط الى دراجة.
[4] Connaught Place أحد أكبر وأشهر الأحياء التجارية في نيودلهي.