الأمير والشاعر
كان الأمير متعَباً ؛ يسمع ولا ينصت ، وينصت ولا يفهم. كان عائداً من سوح الحروب ، وصور الخيل المطعونة والأشلاء الممزقة والدم الذي يخالطه التراب لما تزل عالقة في ذهنه المشوش. وكان الشاعر متعباً هو الآخر .. لقد سهر الليل برمته يكتب هذه القصيدة . ورغم أنه كان معروفاً بين أقرانه الحاسدين بغزارة إنتاجه ( إذ ينجز في أيام الطلب الشديد ثلاثة أو أربعة من القطع المتوسطة الحجم والجودة ) ، أقول إنه رغم ذلك تعب كثيراً الليلة البارحة. وكان أكثر ما أتعبه حيرته في التوفيق بين ما سمعه – في السر – عن هذا الأمير الذي يقف أمامه مادحاً لأول مرة من بلادة وبطء تفكير (رغم قصص الشجاعة المتهورة) وبين الأسماء الكبيرة من العلماء النحارير الذين اعتادوا تناول العشاء على هذه المائدة الملكية عملاً بالتقليد القديم للعائلة .
-"إنهم لن يتركوني قبل أن يمزقوني وقصيدتي شر ممزق " قال الشاعر في سره.
كانت عيون الأمير الثقال تتنقل بين خاتمه الكبير والسقف ووجه الوزير وهي تتساءل في ضجر متى ينتهي هذا الحفل . وكانت عيون الشاعر تتنقل بين الرقعة الطويلة التي في يده ووجه الأمير الخالي من التعبير ووجه صاحب الخزانة البرم . وحين انتهى أخيرا من مطولته العظيمة كان يتصبب عرقاً .
لم ينتبه الأمير الى فراغ الشاعر من إنشاده فسادت برهة طويلة من الصمت المحرج كسرها الوزير حين انحنى على سيده وهمس في أذنه بشيء ، فرفع الأخير رأسه وأجال الطرف في الحاضرين وكأنه يراهم لأول مرة ثم هم بأن يسأل الوزير عمن يكون هذا الرجل المرتبك الواقف قبالته وبيده الرقعة الطويلة لولا أن الحاجب الأول قال :
- الشاعر يا مولاي يستأذنك في تقبيل الأرض بين يديك.
أومأ الأمير موافقاً فتقدم الشاعر وسجد أمام السرير العالي وهو يدعو بطول العمر ودوام النصر ولم يرفع رأسه إلا حين سقطت أمامه الصرة الصغيرة ذات الرنين المحبب، فأسرع بالتقاطها وخمن على الفور قيمة ما بداخلها وهجم على يد الأمير يقبلها .
قبل أن يرفضّ المجلس تقدم أحد الخصيان وهمس في أذن الحاجب الأول بشيء فنهض الحاجب متهللاً وهمس في أذن الأمير بشيء فنهض مولانا متهللاً ونهض الجميع ثم انحنوا حتى الأرض وهو يمر أمامهم مغادراً ..
لقد جاء الخبر من قهرمانة القصر بأن الجواري الجديدات اللائي جاء بهن الأمير الظافر من بلاد الكفار على أهبة الاستعداد وبانتظار تشريف سيدنا .
قبل أن يصل مولانا الى جناح الحريم التفت الى الحاجب الأول وسأله :
- ماذا كان ذلك الرجل يقول ؟
- الشاعر يا مولاي ؟
- الشاعر ؟ … نعم ، الشاعر .
- كان يقول إنك يا مولاي تجيد القتل !
- القتل ؟ … آه نعم ! القتل ! ذلك اختصاصي ! (قال الأمير بزهو بالغ ) أكرموا ذلك الشاعر من جديد .
كانت الدموع تكاد تطفر من عينيه لفرط سعادته وإحساسه بالزهو والفخار .
وتقدم مولانا على اسم الله ووضع رجله اليمنى في الجناح المعتم المعطر !
2001
اللوحة للفنان الكبير جواد سليم بعنوان مجلس الخليفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق