الحادث

قصة للكاتب الجورجي: إراكي لوموري

حدث ذلك في يوم الأحد الحادي والعشرين من آذار عام 1982، في تمام الساعة الثالثة بعد الظهر، في المترو، داخل محطة "الجامعة التكنولوجية".

كان ما يناهز العشرين فرداً يقفون عند رصيف الانتظار. لم تستطع التحقيقات أن تحدد، لسوء الحظ، عددهم الدقيق؛ إذ يقول أغلب الشهود إنهم كانوا تسعة عشر، مع أن البعض يدّعي أنهم كانوا عشرين، اختفى أحدهم فيما بعد دون أن يترك أثراً. لكن لدينا- على أية حال- شهادة سبعة عشر مسافراً واثنين من موظفي المترو.

في الساعة الثالثة ودقيقتين بعد الظهر انبثق موكب من أعماق النفق متحركاً في الاتجاه المعاكس للقطار المتوقع وصوله. كان الموكب قافلةٌ من الجِمال يتقدمها بعير ضخم أبيض ذو سنامٍ وحيد بولغ في زينته. تقدم البعير مختالاً، بطريقة احتفالية، وكان الرجل الذي يعلوه ملتفعا بالبياض ، يشهر سيفاً محدودباً وعلى وجهه الملثم الأسمر ما ينم على الوقار والصرامة والتجهم.

ثم مرت في أعقابه جمال ذوات سنامين مثقلة بالأحمال يحدوها بداةٌ بسطاء تدل وجوههم الرزينة الواثقة اللامبالية على الإرهاق الشديد. اندفعت الجمال في خطى سريعات، كان عددها عشرةٌ أو ربما عشرين أو ثلاثين (إذ لا يوجد اتفاق حول هذه النقطة). وجاء في المؤخرة بعيرٌ بدا للوهلة الأولى مفتقراً الى من يحدو به لكن حاديه ما لبث أن ظهر. إن ملابسات هذه النقطة الأخيرة هي الأخرى غير واضحة.

تجاوبت أصداء سير القافلة داخل المحطة مع رائحة العرق اللاذعة الكريهة. وفي تمام الساعة الثالثة وأربع دقائق غابت القافلة داخل النفق.

في الساعة الثالثة وخمس دقائق خرج القطار من النفق ولم يلاحظ المهندس ولا المسافرون أي شيء غريب. أما التسعة عشر الواقفون في المحطة فقد تجمدوا كالأصنام.

وكان أول من عاد منهم الى الحياة رجل يدعى "كايوز كيكوري" (34 سنة، عاطل عن العمل، مدمن على السكر ومتطفل وذو محكوميات سابقة لارتكابه أعمال شغب صغيرة) وقد أثبت الفحص الطبي اللاحق أنه لم يكن صاحياً ساعة وقوع الحادث. في الساعة الثالثة وست دقائق انفجر في نوبة من الضحك تجمد الدم في العروق كان سببها –كما اتضح- تخيلات ناتجة عن هلاوس كحولية. استمر في الضحك خمساً وعشرين دقيقة ثم تدهورت حالته. هذه الأصوات المريعة أدت الى إصابة الآنسة "ديانياش" (37 سنة، عزباء، مساعدة مختبر في معهد الطب البيطري) بتقلصات هستيرية وولادة مبكرة، بالرغم من أنها ادعت فيما بعد أنها لم تكن حبلى، بل وأنها عذراء.

في اللحظة نفسها أغمي على الآنسة "روزا م. جالويفا" (51 سنة، ربة بيت) وارتطمت بالأرض فأصيبت بفطر في الجمجمة وقامت على الأثر برفع دعوى قضائية ضد إدارة المترو مطالبةً إياها بتعويضٍ قدره (500) روبل عن الأضرار التي أصابتها، بالرغم من أنها لم تعانِ إلا من ارتجاجٍ بسيط.

اندفع الركاب النازلون من القطار الى مساعدة الآنستين "ديانياش وجالويفا" لكن انتباههم انصرف في اللحظة عينها الى ما يلي: أغمي في وقتٍ واحدٍ على أربعة عشر شخصاً آخرين "ثمان نساء وستة رجال" فيما جثا رجلٌ يدعى "ب. م. بتروف" (67 سنة، متقاعد) على ركبتيه وشرع بالصلاة والنحيب واللطم على صدره. أما السيد "د. كوبلاش" (47 عاماً، عضو عاملٌ في الحزب، ومدير المنفذ التسويقي رقم 20 التابع لهيئة التعاونيات الاستهلاكية في تبليس" فقد ابيض شعره تماماً، ثم تساقط، ثم نما من جديد في غضون دقيقةٍ واحدةٍ فقط. شخص وحيد حافظ على صوابه ورباطة جأشه وهو السيد "م. زوريكاش" (20 سنة، عضو عصبة الشباب، والطالب في جامعة تبليس التقنية) الذي استحقت أفعاله كل إطراء، فقد أسرع حال دخوله الرصيف الى استدعاء الشرطة والإسعاف ثم توجه الى مساعدة الآنسة ديانياش. وخلال نصف ساعةٍ نم الفراغ من نقل المصابين والطفل الحديث الولادة (الجنس: ذكر، الوزن: 8 ليبرات) الى المستشفى المحلي. ثم بدأت الإجراءات الجنائية وبوشر في التحقيق. قام فريق من دائرة المباحث الجنائية برئاسة النقيب "أميران توروش" بتفقد الموقع وعثر على الدليل المادي الأول (والأخير كما تبين بعد أيام) على صحة إفادات الشهود: مادة صلبة صفراء-بنية ذات رائحة كريهة نفاذة، الوزن: "1" ليبرة.

قامت لجنة استثنائية من الخبراء من مختلف الأقسام والهيئات المعنية بفحص دقيق للمادة وتوصلت الى استنتاج مفاده إنها عبارة عن غائط حيواني (يحتمل أن يكون لبعير). وبعد استجوابات واستجوابات ثانوية مفصلة أعيد بناء الأحداث، بالرغم من أن ذلك لم يساعد قط على تفسير الحادثة.

كشفت التحقيقات عن العديد من الحقائق الملفتة للنظر، لكن أيا منها لم يكن يتعلق مباشرة بحادثة الحادي والعشرين من آذار: فقد اعترف "د. م. كوبلاش" أن يده امتدت في مناسبا عديدة الى البضائع الموجودة في المخازن التي يشرف عليها. وأقر "ج. ج. جيكوري" بأنه حصل على أموالٍ عن طريق الابتزاز. كما اعترف "ك. د. كارالاش" لتلقي الرشاوى بصورة منتظمة. أما "أ. ن. لايادز" فقد أقر بأنه تزوج من أربع نساء في أماكن متفرقة من جورجيا.. الخ .. الخ. لقد اكتشف كل الركاب تقريباً أموراً تستحق الندم. ومن الأرجح أن تكون تلك الاعترافات الطوعية ناجمة عن حالة الصدمة التي تعرضوا لها.

فشلت دائرة التحقيقات الجنائية، بالرغم من كل ما بذلت، في التأكد من وجود الراكب العشرين أو عدم وجوده من الأساس، كما لم تتوصل الى كيفية ومكان اختفائه، هذا إن كان موجوداً أصلاً. فقد ادعت الآنسة "أرينا دياليش" (19 سنة، عضو عصبة الشباب، طالبة في جامعة تبليس) وهي التي أعطت الوصف الأكثر تفصيلاً للشخص رقم 20 المفترض (طويل، نحيل، أجعد الشعر،، ذو ذقن غير حليق، يرتدي سروالا متآكلا من الجينز الأزرق وسترة جلدية، عمره بين عشرين واثنين وعشرين عاماً)، ادعت إن الرجل الغريب إلتحق بالقافلة، لكن الشهود الآخرين لم يعززوا ما ذكرت.

بعد ثلاثة أشهر من العمل الشاق توصلت لجنة الخبراء الى أن تلك الحادثة لم تكن غير حالة من التنويم المغناطيسي الجماعي، مضيفة أنها لم تتمكن مع ذلك من تفسير وجود الغائط الحيواني داخل النفق. ثم أغلقت القضية وحٌجِبت عن السجلات الرسمية. وظلت المدينة تعج بالأقاويل زمناً طويلاً: فكان البعض يعزو الحادث الى اصطفاف الأفلاك، فيما عزاها آخرون الى التأثيرات فوق الصوتية وآخرون غيرهم الى مثلث برمودا أو الأطباق الطائرة. وشيئاً فشيئاً عاد المواطنون التسعة عشر الى أعمالهم اليومية، وفعل الزمن والعلاج فعلهما (وقد غُفر لهم على أساس حالتهم النفسية الخطيرة). أما السادة "كيكوري وكوبلاش، ولايادز" وآخرون فقد قوموا سلوكهم. فقط الآنسة "جالويفا" ما تزال تطالب بالتعويض، أما الطفل الذي وضعته الآنسة "ديانياش" (والذي سمّته "محمود" لسبب مجهول) فهو في صحةٍ جيدة بالرغم من أنه يعيش دون أب. إنهم كلهم على ما يرام، غير أنهم يتجنبون ركوب المترو –هذه الوسيلة الرخيصة المريحة للنقل رغم غرابة أطوارها).

لكن هناك استثناءً واحداً: إن السيد "ديفاليش" ينزل من القطار كل يوم عند محطة الجامعة التكنولوجية ثم يمضي ليجلس على إحدى المصطبات وكأنه ينتظر شيئا ما.

ماذا ينتظر ؟؟

Sputnik 6/1990


ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية