عطارد
قصة: د.هـ.لورنس



اندفع الجميع في حركة غريبة واحدة ليحتموا تحت شرفة المطعم العميقة. محتشدين في صمت بين المقاعد الصغيرة. لم تكن السماء تمطر ، ولم تهب الريح بالفعل بل حل برد مفاجئ دفع الحشد إلى أن يلتصق بعضهم بالآخر.
ازدادوا التصاقاً شيئاً فشيئاً، في غمرة الظلام والترقب. لقد اتحدوا بشكل غريب وكأنهم انصهروا في جسدٍ واحد. وحين اندفعت موجة من الهواء الصقيعي البارد من خلال الشرفة ارتفعت همهمة خائفة. وكما تفعل الطيور تحت أوراق الشجر التصقوا اكثر فاكثر وكأنهم يبحثون عن ملجأٍ آمن في هذا الاتصال الجسدي.
بدت العتمة الحالكة كسواد الليل وكأنها ستبقى زمناً طويلاً. ثم تراقص البرق على حين غرة فوق أرضية المطعم والتمعت أضواء بيضاء واهتزت فوقها صاعدة نازلة كاشفة عن صورة رجل يهرول في الخارج. كان البرق يضيء نصفه الأسفل حتى الوركين وهو يمضي مسرعاً ،عارياً، شاحباً والنار تبرق من تحت أقدامه.بدا في عجلة من أمره، هذا الرجل الناري الذي لم يكن نصفه الأعلى مرئياً والذي تتطاير من أعقابه السنةٌ بيضاء صغيرة من اللهب.مرت أمامهم كالبرق صورة أفخاذه العبلة القوية وساقيه البيضاوين كالنار مندفعة في العراء، قبالة الشرفة وهي تجرجر من تحت كعوبها شعلاً صغيرةً من لهبٍ أبيض…كان يمضي مسرعاً إلى مكان ما..
في دوي الرعد الذي يصم الآذان تختفي كل المرئيات ، وترتج الأرض رجّـاً. وتتقافز البيوت في الظلام المطبق. وعندما تتسلل دوامة من ريح صَرصَرٍ باردة يتصاعد من بين الجموع أنينٌ خافتٌ من الرعب….إنه الانتظار الطويل : ما من مطرٍ يتخلل هذا الظلام الدامس.. وما من فرجٍ قريب.
وشق البرق من جديد صفحة السماء الحالكة في سطوع يعشي الأبصار، وارتفعت من خلال الغابة دمدمةٌ وحشيةٌ مريبة وانكشفت للناظر لوهلة واحدة كل الموائد الصغيرة وجذوع الأشجار المبهمة.
وانفجرت دمدمة الرعد المدوية ، فترنحت من هولها البيوت والجموع..هاهي العاصفة ترقص الآن فوق التلة نفسها . وانطلق من أعماق الغابة الصدى المتأخر لتمزق الأغصان.وامتد فوق الأرض من جديد وميض البرق الساطع، ولكن لم يتحرك شيء هذه المرة. ثم دوت كَرّةً أخرى من خلل الظلام دمدمةُ الرعد المتفجرة. هاهو الجمع يرتعد من الخوف إذ تبرق السماء المرة بعد المرة، ثم يرتفع ثانية صوت شيءٍ يتفجر، إذ تضرب الصاعقة في الغابة.
واندفعت أخيراً ريح هوجاء لتشق السكون حاملة معها وابلاً من الجليد عنيفاً وهديراً مفاجئاً يخترق الأشجار مثل هدير بحر متلاطم . أجفل الجمهور وتراجع مذعوراً حين لسعت كسر الجليد وجوههم كالنار . وتصاعد الهدير من أشجار الصنوبر وعلا حتى بدا وكأنه صمت من نوعٍ آخر لا يتخلله سوى أصوات أغصان تتهشم وجذوع تتهاوى وتتشظى بينما أخذ الإعصار يتجمع فوق التل.
ثم تساقط البَرَد في هديرٍ طغى على كل ما عداه من الأصوات وهو يجلد دون هوادة وجه الأرض وقمم الأشجار وسقوف البنايات.وفيما كان الجمع يندفع إلى داخل الأبنية خشية أن تسحقه كتل الثلج المتساقطة كانت أصوات تهشم الأشياء وتمزقها ما تزال تسمع وسط الفحيح الهادر الكئيب.
وفجأة انتهى كل شيء ، بعد ما حسبوه دهراً من الأهوال . وهناك في الخارج كانت الأضواء الصفراء تلتمع شاحبةً على صفحة الجليد وفوق كتلٍ لا تنتهي من حطام الشجر والهشيم.
كان البرد شديداً وكان كل شيء من حولهم يوحي بأجواء الشتاء القارص المتجمد. وفوق أرض الغابة الشاحبة السقيمة التي انتصبت أشجارها فوق الأرض الشهباء تناثرت أعدادٌ لا تحصى من كرات الثلج شاقةً طريقها إلى عمق ست بوصات مختلطةً بأغصان الشجر وكل ما خلفته العاصفة من حطام.
- نعم، نعم ! " قال الرجال وقد داهمتهم موجة من الشجاعة المفاجئة لدى رؤيتهم هالة الإصفرار التي غمرت الجو " الآن يمكننا أن نخرج !
وأطل بعض من أوائل الشجعان وشرعوا في التقاط كرات الجَمَد المتحجرة وتصويبها على الموائد المقلوبة.إلاّ أن البعض الآخر لم يتريث كثيراً وأسرع نحو محطة المصعد الجبلي ليتأكد إن كان الجهاز لا يزال شـغّالاً. كانت المحطة في الطرف الشمالي للتل. عاد الرجال من هناك وقالوا انها خالية من العاملين .فانتشر المتنزهون هنا وهناك ومضوا يتجولون في ترقب فوق الأرض التي ارتدت حلةً بيضاء من الجليد المتكسر تحت الأقدام وأخذوا ينتظرون قدوم عمال المصعد.
وهناك..في الطرف الجنوبي من برج المراقبة استلقى رجلان فوق الجليد الآخذ في الذوبان وقد استحالت البزات الزرقاء التي كانت عليهما إلى سواد متفحم…كان كلاهما قد فارق الحياة.وكانت الصاعقة قد جردت أحدهما من ثيابه فأضحى عارياً حتى الوركين..كان مضطجعاً هناك، وقد أدار وجهه نحو الجليد وخيطان من الدم يتدفقان من أنفه ليصبغا شاربيه الغليظين العسكريين الشقراوين.كان ملقى هناك، قرب الحجر النذري للإلــه عطارد. فيما تمدد رفيقه الشاب ووجهه إلى الأرض على بعد ياردات قليلة من خلفه.
أشرقت الشمس من جديد. حدق الجمع في هلع خائفين من لمس الجثتين..وتساءلوا علامَ جاء هذان الرجلان، عاملا المصعد، إلى هذا الطرف من التل على أية حال؟
كان المصعد عاطلاً، إذ طرأ عليه خلل ما أثناء العاصفة فشرع الناس بالنزول على أقدامهم عن التلة الجرداء فوق الثلج الزلق. وكانت الأرض في كل مكان قد ازدحمت بفروع الصنوبر وأغصانه المتهشمة المتشابكة وتعرت الأشجار المورقة والآجام من أوراقها تماماً وكأنما في معجزة. وفي أسفل التلة كانت الأرض جرداء عارية كما في الشتاء.
- إنه الشتاء بعينه ! " دمدم الناس وهم يهبطون في وجل عبر الممرات المتحدرة الملتفة، متجنبين فروع الصنوبر الهاوي.
وخلال ذلك…شرعت الشمس تتوهج في حرٍ شديــد !

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية