بمناسبة كتابي "عبور الحاجز..قصائد من الشعر العالمي" الصادر عن دار المأمون
.. ولمبتدأ جملة العنوان الخبرية الاحتجاجية التهكمية التعجبية التفجعية شقّان: كلمة "ترجمةُ" المرفوعة وجوبا لا اختيارا وشكلاً لا حقيقةً، ثم كلمة "الشعرِ" المكسورةِ المقسورةِ المجرورةِ المضافةِ إليها. لكن الإضافة ليست من وليد الصدفة العمياء أو شطحات الخيال المحلّق الذي يجيز إضافة الأسماء والصفات الى ما لا تجوز الإضافة إليه ليخرج بعبارات ليست بذات معنى أو وجود محقَّق مؤكَّد كمثل قولك "إعمار العراق" أو "حرية الرأي" أو "دور المثقف" أو "احترام الرأي الآخر" الى آخر ذلك من تركيب المضاف والمضاف اليه المعسَّل المنمَّق المتناقض المنثور على صفحات الجرائد وأفواه الساسة الجهابذة الأعلام.
أقول إن لهذه الإضافة ما يبررها، من جهة التشاكل والتقارب واستقامة المعنى أولاً: فالترجمة فن، والشعر فن؛ والترجمة همٌّ والشعر هم؛ والترجمةُ جهدٌ عقيمٌ في عراقنا السعيد العظيم والشعر لا يقل عنه عقماً: يشهد على ذلك نادي اتحاد الأدباء الزاخر بالشعراء الطاوين الضامرين المفلسين العاكفين على العويل، وتشهد على ذلك قبور شعرائنا المهزومين المهجرين المهاجرين التي تناثرت في المشارق والمغارب.
أما ثانياً فإن من الشعراء من لا يكتفي بأن ينوء طوعا بحمل صليب الشعر الثقيل المدمى ليجرجره في الأسواق بين حشود من السوقة والمرابين والعسس وأصحاب السلطان من المشاة والراكبين وكلهم -إلا أقل القليل- من الهازئين الساخرين الناقمين الذين يرمونهم بكل ما يقع بين أيديهم بدءً من الحجارة أو قشور البطيخ وصولاً الى "القرارات الحكيمة" و"المكرمات السخيّة" التي تشبه البصق في الوجوه!
أقول أن بعضاً من هؤلاء الشعراء –ومنهم العبد الفقير- لا يكتفي بحمل صليبه بل يأبى إلا أن "يزيّن" جبينه بإكليل من أشواك الترجمة التي تنغرس عميقاً في جلودهم وتقطر منها الدماء التي لا تعدم من ينقع فيها ريشة دجاجة منتوفة أو قلم خشبي من العصر المسماري ليخط على أسمالهم قولاً أثيراً لا يخلو من الحكمة والصدق: هذا مجنون آخر جمع الشعر الى الترجمة!
وتراهم –أعني المجانين- رغم هذا مقبلين فرحين راضين ولسان حالهم يردد مع المغني بلسان عراقي فصيح:
أتباهه بيّه جروحْ واضحكْ واسيس الروحْ والبيّه بيّه !
وهم في كل ذلك معرضون عن التمثل بمصاير من سبقهم من الأولين والآخرين، مدبرون عن نصائح المحذرين مِن جمعِ الوِزرين، ابتداءً من عمرو بن بحر البصري المولد البغدادي الوفاة وانتهاءً بروبرت بن فروست السانفرانسسكوي المولد-النيو انجلاندي الوفاة !
لكنني فيما يلي من السطور أضيف الى نصائحهم بعضاً مما وقع لي وما جربتُه -لا ما سمعتُ به- من مضحكٍ مبكٍ عسى أن يرتدع المرتدعون: فلسوف تكون مخطئاً –أي زميلي الشاعر/المترجم- إذا حسبت أنك ستلاقي الجزاء على سهر الليالي الطوال وتقرح الجفون الثِقال وانحناء الظهور بالأحمال بحثاً عن المعاني وظلالها وإدراك مراد الشاعر الذي تترجم عنه أو ما رسم بقلمه من تصاوير وأحاسيس وانفعالات ثم البحث عما يقابلها من كلمات وجمل وإيقاعات الخ.. فلسنا في زمن يتهافت فيه الناس على تذوّق الشعر ناهيكَ عن شراء كتابٍ، أي كتاب، وناهيك ثانيةً عن كتب الشعر وناهيك ثالثةً عن كتب الشعر المترجم!
فالقوم واحد من اثنين: مشغولٌ بلقمةِ العيش وصفيحةِ النفط وحبّة الدواء ، أو مشغولٌ بتعظيمِ الكرش وتثبيت العرش وضم القرش الى القرش.. والأدب والثقافة والفن والشعر ليس مما يدخل في استحقاقات آخر الشهر لدى الرهط الأولين ولا مما يدخل في "الاستحقاقات الانتخابية" أو الطائفية لدى الرهط الآخرين.
ولا يغرنك أنك أودعت كتابك عند دار نشرٍ تسمت باسم دار الرشيد أو دار الحكمة أو دار المأمون الذي كان يزن الكتب المترجمة بالأصفر الرنّان .. فالقوم فيها أكثر منك فقراً وإقصاءً وتهميشاً وتعلقاً بحبال المستحيل.. وهم معك في نفس الطرف من الوادي الذي تصرخ فيه وما من مجيب.. وهم لا يملكون ما يكافئونك به من مال سوى دنانير أربعة لاغيرها لكل كلمة تترجمها.. نعم أربعة دنانير يستنكف عنها كاتب عرائضٍ عند باب محكمة لم يسمع في حياته بشكسبير أو بايرون ولا يفرق بين المدرسة السريالية ومدرسة "القائد المؤسس النموذجية" أو "شهيد ... التأسيسية". وحتى لو طالبت بهذه المكافأة البخسة على ما بذلت فقد يصادف أن تجد "خزانة" الدار خاوية مكنوسة كبيت مال المسلمين تحتَ والٍ مؤتمن أمين لأن أسيادنا الجدد قد تركوها لمصيرها كما فعلوا بكل المؤسسات الثقافية الحكومية منها والـ"مدنية" أوانا بحجة "التمويل الذاتي" وآونة بحجة "تجميد الأرصدة" وثالثة (وهم في هذا محقون) بسبب تدهور الكفاءة التصفيقية والتملقية للمثقف العراقي الأصيل بعد التاسع من نيسان "الأغر" إلا من نفرٍ لا تخلو منه الساحة في كل زمان ومكان.
أما إذا كنت من الباحثين عن الكسب المعنوي مما يدعوه البعض مجداً أو شهرة فإن بينك وبين ذلك خرط القتاد! فلن تنهمر عليك "اللقاءات" ولن تتسابق عليك "الفضائيات" ولن تقرأ عن عملك المجهد المضني غير خبر مقتضب في زاوية من صحيفة يقرفص في خجل جوار تقرير مصور عن التوأم المحروس للسيدة "أنجلينا جولي" وزوجها الوسيم "براد بيت". ولن تسمع غير عبارة مجاملة موجزة لينقلب محدثك بعدها الى السؤال عن آخر أخبار السمراء الهيفاء "نور" وزوجها "مهند" الأشقر الغندور. وقلما تجد ناقدا يتناول كتابك بالتقييم أو التصحيح أو التصويب أو النصح أو حتى التجريح؛ فالنقد هو الآخر سلعة بائرة! لكنك لن تعدم موقعاً الكترونيا أو دار نشر أو صحيفة مطبوعة تستل ما تشاء من كتابك أو تعيد طبعه بالكامل دون إذن منك أو معرفة.. هذا إذا لم ينحله أحدهم لنفسه أو ينشره غفلاً من اسم المترجم في أحسن الأحوال!
أضف الى هذا أن فرحتك بخروج كتابك الى النور بعد طول انتظار لا تلبث أن تتبخر حين ترى "الأخطاء المطبعية" أو التغيرات التعسفية التي لا تعرف لها من سبب سوى "عقيدة" من قيَّم مخطوطتك وما تمليه اعتبارات "الوضع السياسي القائم" و قيود "السلامة الفكرية" واشتراطات "إيديولوجيا" الدولة السائدة. ولا تقل لي أننا في زمن جديد زالت فيه هذه القيود والاشتراطات والاعتبارات حتى لا أضطر الى إيراد أمثلة غاية في الجدّة والطرافة على حرص "الرقيب" وإن تغيرت تسميته على سلامته وسلامتك في زمن التكفير والتطبير فله منّا كلَّ شكرٍ وتقدير!
وخلاصة الرأي أيها الصديق فإني أنصحك على ألا تقدم على ترجمة الشعر إلا إذا تيقنتَ من جنونك جنوناً لا شفاء منه ولا رجعة عنه. أما إذا ألح عليك شيطان الترجمة فإن أمامك واحدا من طريقين: أن تتهرب منه حين يرسل في طلبك أو يجدُّ في ملاحقتك فتتذرع بالجنون المؤقت كما فعل الحكيم "أودسيوس" حين شد ثورين الى محراثه وراح يحرث ساحل البحر ويبذر فيه الملح سعياً الى التملص من وفود زملائه ملوك الإغريق الذين أرسلوا وراءه كي يشاركهم حربهم السخيفة من أجل الغانية "هيلين" وخاطفها الأرعن "باريس".. ولا يمنعنك من هذا حياءٌ أو خفر فأنْ تتظاهر بالجنون خير لك من أن تلازمه ويلازمك بقية العمر. وأما أن تترجم شيئاً آخر بعيدا عن الشعر والأدب ولا بأس في أن تترجم بضع وريقات عن زراعة الباذنجان أو شيء من هذا القبيل فقد تحصل نظير هذه الوريقات على عدد من الدولارات -لا الدنانير- تزيد على ما حصلت عليه طوال عمرك الأدبي العتيد.. وهذا قول مجرّب لا حكيم!
ألا هل بلّغتُ ؟ أللهم اشهد !!
18/8/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق