حدث في مقهى البرازيلية



في الخارج : يهمي المطر منذ ساعات الصباح الأول . يتراكض الناس كالمخابيل إذ تصب السماء جام غضبها في نوبة مفاجئة من غيثٍ منهمر. تضيء العربات مصابيحها رغم ما تبقى من ضياء العصر وكأنها تشارك الناس خوفهم المستريب.

الوحــل .. الوحـل ..ها هو يقتحم الرصيف وتتسلق منه الى نوافذ المقهى الرمادية بقع ممزوجة بالسخام تتناثر كأنها من فعل رسام نصف مشلول أصابه السأم .

في الداخل : تتصاعد الهمهمات وتخبو مثل موسيقى غامضة تتجاوب وعواء الروح المكتوم . هنا كلّ يغرق في أحزانه ، في أوهامه أو منافيه ، في كتاب يذهله عن هزيمته وفنجان من قهوة مريرة يحسوه على شرف يوم آخر يوشك على الانسلال من بين الأصابع الراجفة.

هو جالس منذ ساعات . لم يطو صفحة من الكتاب الذي ابتاعه في الصباح فاكتفى بالغرق في مقعده ومراقبة الشارع والحافلات المائلة التي تئن وتنفث البخار. أخبره العجوز جورج النادل أن شاعرا عظيما اعتاد الجلوس في هذا المكان وفي هذا المقعد بالتحديد في الأيام الخوالي . كان يستعيد الحكاية من العم جورج مرة تلو الأخرى مستمتعا بالمفارقة بين الشاعر المتهور الذي طوّف في جهات الدنيا الأربع وأحب أربعين امرأة في أربعين ميناء وخرج ظافرا … وبينه هو : المهزوم المتردد الذي لا يجرؤ حتى على إلقاء تحية الصباح على فتاته.

هبت نسمة من هواء بارد واندفع ضجيج الشارع الى الداخل حين فتحت الباب : إنه هو ، بائع السجائر الجوال ، كان محمر الأنف كالعادة ، يعلق فوق صدره بشريط عسكري عتيق إسودّ عند الرقبة صندوقه الصغير الذي ازدحمت حواشيه بتصاوير لممثلات مكتنزات الصدور ولاعبي كرةٍ مجهولين. أجفل وارتد حين رأى النظرة المهددة التي رمقه بها جورج فخرج ومسح الطين عن حذائه وعاد ليدور على الرواد. كان طفلاً مشاكسا ، جسورا . راقبه كثيرا وهو يقتحم على الجلاس خلوتهم أو نقاشاتهم الجادة الطويلة ، يعبث بالكتب والأقلام والصحف ، ويحتسي من أقداح شايهم دون استئذان ، يماحك ويطيل المساومة ، ويفرض على الجميع حضوره الصاخب البهيج وسجائره الرخيصة المبتلة.

كانت هذه المرة الأولى التي يتقدم فيها من هذا المتفرد الشاحب الكتوم :

- سجائر أستاذ ؟

(غمره ارتباك وأحس أن كل من في المقهى ينتظر الكلمات التي ستخرج من فمه )

- لا ، شكرا ( خرجت مثل صرير باب قديم فازداد ارتباكا )

- ولم لا يا عم ؟ ألا تعجبك هذه الأنواع كلها ؟ إشتر مني يا عم ، يخليك الله!

- دعني وشأني ! (قالها بما يشبه التوسل ) أنا لا أدخن.

- لماذا ؟

- ها؟

- لماذا لا تفعل ؟ هل هناك أطيب منها؟

- وما أدراك أنت ؟ هل جربتها ؟

- هل جربتها ؟ يقول هل جربتها! ( وراح يهز كفه في استخفاف شيخ عرك الحياة ) يا عمي أنا أدخن مذ كنت صغيرا !

- و أهلك ، هل يعرفون ؟

وتفحصه الصبي كأنه مستغرب من سذاجة السؤال.

- لطالما سرق أبي من سكائري ! أما أمي فتشتري مني بالمفرد حين تريد البكاء وحدها !

- ولكنك يا ( وكاد قول يا صغيري لكنه تراجع ) .. ألا تخاف على نفسك ؟ على صحتك ؟

- يا عمي من يعيش ؟!

وصعقه جواب الصغير، وأدخله في دوامة من التساؤلات : ألا ينطق هذا الطفل بالحكمة ؟ نعم، من يعيش ؟ وفيم ؟ والى أية غاية أو سبيل ؟

وأستغل البائع الصغير الفرصة فوضع على المنضدة علبة أخرجها دون تمييز وفتح يده وقبض النقود دون مقاومة ! ثم دار على عقبيه . أكمل جولته على الزبائن وشرب فنجانا من القهوة المرة دفع ثمنه مقدما وراح يتحدث الى النادل الواقف خلف ماكنة القهوة القديمة العاطلة . وحانت منه التفاتة فرآى زبونه الجديد يبتسم في بلادة وعيناه ثابتتان على علبة السجائر فرفع كتفيه في سخرية وقال في سره : يا له من مخبول !

- يا للفيلسوف الصغير ! (كان الشاحب الكتوم يردد مع نفسه للمرة العشرين )

ومزق الغلاف الشفاف بخراقة وأخرج إحدى السكائر ، شمها بعمق ووضعها بين شفتيه . لكنه اكتشف أنه لا يحمل ثقابا . ولأنه خجول جدا ، وكتوم جدا ، وغريب الأطوار جدا .. لم يجرؤ على طلب النار من أحد المجاورين .

- لا يهم ! ( قال في نفسه ) لا فرق في كل الأحوال .

وحاول أن يعيد السيجارة الى علبتها فتثنت وانكسرت فترك العلبة مفتوحة وراح يعبث بالكتاب:

- لا يهم ! حقا لا يهم !

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية