سلطة النص.. أم سلطة من ؟

ربما لا أعبر عن رأيي الشخصي فقط حين أؤكد أن "طريق الشعب" الغرّاء أصبحت، ومنذ عودتها الى الصدور العلني في بغداد الحبيبة -كما كانت طوال عقد السبعينات- النجمة الأكثر سطوعاً ونقاءً في سماء المنشور الثقافي العراقي جنباً الى جنب مع شقيقاتها الجميلات اللائي تلألأن بعد طول ظلام.

ومع تقديري وامتناني الشديدين لفتح الصفحات الثقافية للطريق الحبيبة أبوابها أمام الشعراء والكتاب الذين ترفعوا أيام العهد البائد عن اللهاث وراء صحافته البوقية المخزية فإن الأمر لا يمنع أن نشارك بين الفينة والأخرى في إبداء بعض ملاحظاتنا الودية التي يسوقها الحب والاعتزاز لها ولمحرريها الجنود المجهولين المثابرين.

مناسبة هذا الحديث ما تفضلت به جريدتنا من نشرها لقصيدتين قصيرتين لكاتب هذه السطور في عددها 199 الصادر يوم الأربعاء 5 تموز 2006. فقد أثارت جرة قلم صغيرة من المحرر الفاضل شُجونا كانت تعتمل في صدري لا تخص صحيفة بعينها بل يسهل ملاحظاتها ورصدها في غالبية صحافتنا الثقافية. جرة القلم الصغيرة هذه كانت تدخُّل المحرر الفاضل بتعديل كلمة (ملعشاء) الواردة في القصيدة الثانية بمفردتي (من العشاء) ظنا منه أن الشاعر أخطأ في الكلمة الأولى مما اقتضى منه التدخل لتقويم الخطأ. والحق أن من يطلع على الشعر العربي القديم وأمهات الكتب المختصة بالأدب والنحو يجد أن هذا الاستعمال لحرف الجر (مِن) أي حذف النون عند اتصاله بـ "أل" التعريف أمر شائع مباح لا غبار عليه وخصوصا إذا ما اقتضته الضرورة الشعرية (كما جاء في القصيدة أعلاه).

جاء في لسان العرب (مادة منن) ما يلي:

"قال أبو إِسحق: ويجوز حذف النون من (مِنْ) و(عَنْ) عند الأَلف واللام لالتقاء الساكنين، وحذفها من (مِنْ) أَكثر من حذفها من (عَنْ) لأَن دخول (مِن) في الكلام أَكثر من دخول (عَنْ) ، وأَنشد:

أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مأْلُكَةً غَيْر الذي قَدْ يقال ملكَذِبِ

(...) ابن الأَعرابي: يقال مِنَ الآن ومِلآن، يحذفون؛ وأَنشد:

أَلا أَبْلغَ بَني عَوْفٍ رَسولاً، فَمَا مِلآنَ في الطَّيْرِ اعتذارُ"

وجاء في الكامل في اللغة والأدب للمبرد :

"قال الحارث بن خالد المخزومي

عاهد الله إن نجا ملمنايا ليعودن بعدها حرميا

(........)

وقوله: ملمنايا يريد من المنايا، ولكنه حذف النون لقرب مخرجها من اللام، فكانتا كالحرفين يلتقيان على لفظ فيحذف أحدهما، ومن كلام العرب أن يحذفوا النون إذا لقيت لام المعرفة ظاهرة ...الخ"

يتضح من ذلك أن كاتب السطور تعمد إيراد لفظة (ملعشاء) لضرورات الوزن الشعري وهو في ذلك غير مجانب للصواب. أضف الى ذلك أن "التعديل" الذي جرى على تلكم اللفظة أخل بموسيقى القصيدة وإيقاعها.

إن هذه الحادثة جزء من حالةٍ أوسع تواجه العمل الأدبي –والشعري على وجه الخصوص- عند نشرها في صحافتنا اليومية والدورية، وأعني تدخل المحرر في النص الشعري الذي ينبغي –في رأيي المتواضع- أن ينشر كما يرد بغلطه وصوابه لكي يكون الشاعر مسؤولاً أمام القارئ والنقاد عما يكتبه. ولا أقصد بقولي هذا التغاضي عما يرد من أخطاءٍ لغوية أو طباعية واضحة صارخة لا جدال فيها، ولا أقصد أيضا أن ينشر ما يرد من كتابات المبتدئين على علاته دون فحص وتمحيص بل ينبغي الأخذ بيد هؤلاء نحو تطوير أدواتهم اللغوية والفنية، ولا أقصد –ثالثةً- أن يُنشَر كل ما يرد من نتاجات الأسماء "المعروفة" من غث وسمين لمجرد أن كاتبيها هم فلان وفلان. ولا يخالجني أدنى شك في أن جريدتنا الحبيبة بكادرها المثقف المتمرس أدرى بما أوردتُ من ملاحظات ولكن لكل جواد كبوة كما يقال!

يجرني هذا الحديث الى استذكار بعض الأمثلة الطريفة التي واجهتني شخصيا مع محرري الصفحات الثقافية في صحفنا العزيزة الأخرى:

في إحدى المناسبات نشرت لي صحيفة بغدادية عريقة مجموعة قصائد بعنوان "قصائد من مقبرة إمام سكران" جاء في أحد مقاطعها:

قبرٌ مجهول .. لامرأةٍ بثيابٍ سوداءَ

غير أن المحرر الفاضل غير كلمة سوداء الى "سود" ، مفسدا موسيقى القصيدة، لتوهمه عدم جواز وصف جمع التكسير لكلمة ثوب المذكرة بصفة مؤنثة، لكن الغريب في الأمر ورود عنوانٍ بارز بالخط العريض على نفس الصفحة في العدد التالي يصف الجبال بالبيضاء! والحق أن كلا من "البيض" و "البيضاء" وارد في وصف الجبال كما أن كلا من "السود" و "السوداء" وارد في وصف الثياب!

في مناسبة أخرى نشرت لي جريدة (ز) البغدادية قصيدة عنوانها "نشيد الى اللاجدوى" فأخطأت في حق الكاتب المسكين ثلاث مرات! مرة حين نشرت القصيدة في ركن مساهمات القراء متناسية أن العبد الفقير كاتب القصيدة نشر العشرات من القصائد والقصص والمقالات والأعمال المترجمة في الكثير من الصحف والمجلات العامة والمتخصصة وأنه عضو في اتحاد الأدباء ومؤلف لستة كتب منشورة غير ما ينتظر النشر! وهذا دليل على متابعة المحرر الجادة للحياة الثقافية العراقية! الخطأ الثاني كان في حذف المحرر لكلمة إنكليزية هي كلمة useless وردت في أكثر من مكان في القصيدة -وكانت في تقديري الضربة الأكثر أهمية في النص- ربما لتوهمه عدم جواز إدخال كلمات أجنبية في نص عربي متناسيا أن هذا أمر وارد مقبول لا في الشعر الحديث الذي يعج بنماذج مشابهة بل في أشعار جدنا أبي نواس وأجدادنا من شعراء الجاهلية! وكان الخطأ الثالث الذي أجهز على القصيدة حذف المحرر لكلمة "المكدّين" ووضع في مكانها كلمة "المستجدين" وهو يحسب أن الكلمة الأولى من العامي الهجين الذي يثير نخوة المرء في الحرص على سلامة العربية، وقد كان يكفيه أن يلقي نظرة سريعة على مادة "كدى" في "منجد الطلاب" وهو معجم مدرسي بسيط ليتبين خطأ اعتقاده!

الأمثلة كثيرة، وخصوصا في الشعر وشعر التفعلية بالتحديد، بعضها يثير الضحك وبعضها يثير السخط وبعضها الثالث لم يعد يثير شيئا لطول اعتيادنا عليها! غير أن الأمر في رأيي يستدعي الانتباه والاهتمام وهذه دعوة لكل الزملاء الى رفد هذا الموضوع باهتمامهم الجاد.

(نشرت في جريدة طريق الشعب البغدادية)


ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية