مقعد للبكاء



لم أفعل الشيءَ الكثير لتبديد نوبة حزنكَ التي تفجرتْ فوق مكتبي. لم أردد حكمة ما، ولم أتذكر – بل لم أحاول أن أتذكر- بيتا من الشعر أو قصةً وعظية.

لقد تركتُكَ تبكي. ولقد كان لذلك وقعُ السحر: لقد بكيتَ كالطفل، وكنتَ تعيدُ على مسامعي وكأنكَ تحدّث نفسكَ:

- "رباه، كم أنا تعيس! كم أنا شقي، تافهٌ عديمُ الحول .. ضائع! رباه كم أثقلتني حمولي!"

ولم أقل شيئا؛ ليس لأني رجلٌ قاسٍ. كلا، ولا لصلابةٍ قد أدّعيها.. فأنا نفسي إنسانٌ شديدُ الهشاشةِ و سريعُ الكسرِ كالبسكويت. وليسَ لأنَّ المفاجأةَ عقدتْ لساني؛ فلقد بكى الجميعُ وهم جالسونَ في مقعدكَ هذا، ربما لأنني أعرفُ كيف أكتمُ أسرارَكم (…. قلبي المُعنّى الذي جعلوه مدفنا للأسرار) أو لأنني أجيدُ تقديمَ كأسٍ من الماءِ الباردِ وفنجانٍ من القهوةِ وبضع كلماتٍ خرقاءَ تُريحهم بعض الشيء وتُعفيهم من خجلٍ أو ندمٍ قد يعتري المرءَ في أعقابِ موجةٍ كهذه من الاعترافات.

ورفعتَ عينيكَ المحمرتينِ إلى عينيَّ فتحاشيتُهما ثم استزدتُكَ بهمهمةٍ متسائلةٍ فأجبتَني :

" لقد أتعبَني هذا العبءُ الذي يثقلُ كاهلي، أتعبني هذا الركضُ المجنونُ وراءَ لقمةِ الخبز. أتعبني تحملُ الإهاناتِ والمساوماتِ البليدةِ اليومية "

وطلبتَ مني سيجارة ففتحتُ درجَ المكتبِ وأخرجتُ العلبةَ والكبريتَ ووضعتُها فوق المكتبِ وقّربتُ منكَ منفضةَ الرماد (أنا لا أدخّن ولكني أحتفظُ دائما بهذه الأشياء تحسبا للظروف، ألم أقلْ بأني قسيسٌ ماهر!) وامتصصتَ نفسا سريعا ثم قمتَ فجأة.

- " هاك !" قلتَ لي وأدخلتَ يدك الى جيبِ سروالكَ الخلفي وأخرجتَ منها بطاقتكَ النقابيةَ القديمةَ ووضعتَها أمام وجهي " أنظرْ كيف كان شكلي قبل خمس عشرة سنة !" لقد كان ذلك جزءً من المأساة سبقَ لي مشاهدتُهُ، لكني تظاهرتُ بالدهشةِ وقلت:

- - " يا الله ! لَكَمْ تغيرَ شكلُك !"

- "وقلبي تغير أكثر"

وطويتَ المحفظةَ باعتناء وأعدتَها الى جيبكَ وجلستَ

" لقد شختُ من داخلي عشرةَ قرون !"

ومرت لحظات صمت ثقال. ولقد سرَت العدوى الى صدري، ها قد بدأتُ أحس بالضيق والكآبة، إن عينيَّ لَتكتضانِ بشيءٍ ساخنٍ يرفضُ النزول….آه! يا لَضغطِ الدمِ اللعين! وسمعتُ فمي يقول:

- " أنظرْ يا صديقي. ربما لو عدتَ الى ولعكَ القديمِ بالقراءة .."

قاطعتَني سريعا (لماذا أسمحُ لكم بمقاطعتي كثيرا ؟):

_ "أية قراءةٍ هذي التي تتحدثُ عنها في زمنِ الجوعِ والتايفوئيد؟! يخيّل إليّ أحيانا أنني لن أُوفقَ حتى في كتابةِ اسمي!"

-"ربما قد ينفعُ شيءٌ من الحبِ في مثلِ حالتكَ، ألم ترَ الى صديقنا ... كيف تغيّرَ بعد أن وقع في شَرَكِ غزالٍ شريدْ! لقد صغرَ عشرينَ عاما!" قلتُ ممازحا رغم أني تذكرتُه وهو يجلسُ قبل أسبوعٍ فقط وفي الكرسي نفسه، يبكي ويلعنُ الحبَّ ومَنْ اخترعَه!

لم تُفلِح في الامساك بخيط الفكاهةِ الذي ألقيتُه في الفراغ فضججتَ متأوها:

- "لعنةُ الله على آبائهم! أيُّ بَطَرٍ هذا الذي يخوضونَ فيه؟ إني أفكرُّ ألفَ مرة، ثم مرتين، في حذاءِ ابنتي الممزقِ قبل أن أستسلمَ لأيةِ سخلةٍ حمقاءَ قد تحاولُ ولوجَ جنتي الآسنة!"

- "لم يبقَ إلا أن تصبرَ وتنتظر. فعسى أن يأتي الفرجُ عما قريب!"

- "عظَّمَ اللهُ أجركَ وأجزلَ لك! ألم تعرفْ أن فرجاً قد مات وأنْتَنَ؟" أجَبتَني مبتسما، وقد عدتَ الى لعبتكَ المفضلة في حيازةِ الجُمَلِ ذات الاستخدام المزدوج، وكان هذا إيذانا بانتهاء نوبةِ يأسِك.

وشربتَ قدحَ الماء وبللت يدك ووجهَكَ بما تبقى وأخرجتَ منديلكَ المتهرئَ ومسحتَ وجهكَ وأفرغْتَ ما بأنفِكَ، ونفثْتَ آهةً طويلةً ثم انتصبتَ واقفا. إعتذرتَ عن إزعاجي ولمّحتَ على استحياءٍ الى رغبتِكَ في أن يبقى ما قلتَه طيَّ الكتمانِ فوعدتُك خيرا.

- "إسمعْ ! " قلتَ لي ضاحكا "ربما لو قسّمتُ جسدي نصفينِ.. ربما سيعيشُ أحدهما وسيكونُ طفلاً سعيداً لا يعرفُ الشقاء !"

- "ربما !" أجبتُكَ وقد رسمتُ على وجهي تقطيبةَ تفكيرٍ ساخرةٍ "علينا أن نجربَ في أقربِ فرصةٍ"

وضحكنا معا.

- " أراكَ في المساء " أومأتُ برأسي موافقا. توجهتَ الى الباب لكنكَ استدرتَ عائدا الى السيجارة التي كانت قد انطفأت ووضعتَها خلف أذنك بحركةٍ هزليةٍ داعرة.

- - "خذ العلبةَ كلها" ناديتك.

- "لا يا عزيزي" جاء صوتُك وأنت تنزلُ السلالم " أنا ولدٌ مهذب !"

نهضتُ لأزيلَ الفوضى الصغيرةَ التي أحدثها وجودُكَ واستعداداً للمغادرة. رنَّ جرسُ الهاتف. كان صديقاً آخر:

- "ألم تغادرْ بعدُ؟…. حمدا لله! ….أريدُكَ في أمرٍ هام… نعم، نعم، متاعبُ جديدة…. سآتيكَ بعد ربع ساعة……. آه، كم أريد أن أتحدثَ اليك…… إني أشعر بالضيق….. إن رأسي ليكاد ينفجر… لن ينفعَ الحديثُ في الهاتف …… إنتظرني… سآتيك!

2001



اللوحة للفنان العالمي فان كوخ

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية