النشر الالكتروني.. ما له وما عليه
لقد أصبح كل من النشر الالكتروني والكتاب الالكتروني ظاهرتين راسختين لا غنى عنهما للعالم المعاصر حتى غدا الحديث عن ضرورتهما أو أهميتهما في هذا الوقت أشبه بالحديث عن ضرورة وأهمية الطائرة أو السيارة أو التلفزيون وغيرها من منجزات العلم والتكنلوجيا!
ولكن، ومثلما لم تختف وسائل المواصلات والاتصالات التقليدية بظهور اختراعات القرن العشرين، نظراً الى استمرار الحاجة اليها في بقاع عديدة من العالم، لوجود معوقات اقتصادية أو جغرافية أو طبيعية تحد من استعمالها هنا أو هناك أو بسبب تحولها الى استخدامات جديدة كوسائل للرياضة أو الترفيه أو المتعة على سبيل المثال، فإن الحاجة الى المنشور الورقي والكتاب المطبوع سوف تستمر بالتأكيد حتى فترة طويلة برغم الكم الهائل من المنشور الالكتروني على مواقع الانترنت أو مواقع التواصل أو المنتديات وغرف النقاش أو في وسائل النشر الالكتروني الأخرى॥
لسنا هنا إذن بصدد الدفاع عن هذا الأسلوب أو ذاك أو الحكم على قدرته على البقاء والاستمرار فهذه أمور تحددها مسيرة العلم والتكنولوجيا والحاجات الآنية والمستقبلية للإنسان، فالنشر الالكتروني يتقدم بخطى حثيثة ويكتسب يوما بعد يوم العديد من التحسينات والابتكارات المذهلة، غير أنه يترافق، شأنه شأن أي اختراع أو ابتكار أو أسلوب جديد، والعديدَ من المشاكل والصعوبات والمخاطر. من خبرتي المتواضعة في عالم النشر الالكتروني ومتابعتي منذ أواسط التسعينات لما يحدث في هذا العالم الرحب يمكنني أن ألخص النقاط التالية التي قد تحيط ببعض من مزايا وعيوب النشر الالكتروني، ولنبدأ أولا بالمزايا والحسنات:
1- ضمان الانتشار الواسع والسريع للمنتَج الفكري والثقافي وبشكل لا تستطيع المطبوعات التقليدية أن تجاريه في الحجم والمدى؛ فالمنشور الالكتروني يمكن أن يصل خلال لحظات الى أية بقعة في العالم متخطيا كل الحواجز الجغرافية والسياسية دون الحاجة الى المرور بالإجراءات الطويلة نسبيا المتعلقة بالتنضيد والإخراج الطباعي وعملية الطباعة نفسها ومن ثم إجراءات الشحن والتوزيع والتعرفة الكمركية والتسليم والاستلام والتسجيل ..الخ، وأن يطلع عليه عدد غير محدود من القراء والمهتمين.
2- رغم الحاجة الى بنية أساسية باهضة الثمن لدخول عالم الاتصالات الحديثة والانترنت والتقنيات الرقمية فإن النشر الالكتروني على المدى البعيد وفي الاستعمال اليومي زهيد الثمن الى حد بعيد إذا ما قورن بالتكاليف والمشقات التي يتحملها كل من الكاتب والناشر للمطبوع الورقي خصوصاً مع ارتفاع أسعار الورق والأحبار وأجهزة ومستلزمات الطاعة الأخرى.
3- النشر الالكتروني أكثر أمنا وسلامة من الناحية البيئية (السلامة المهنية لعمال المطابع، المخلفات الورقية والكيميائية..الخ)
4- المزايا المتعلقة بصغر المساحة المطلوبة في عملية إنتاج المنشور الالكتروني إذ يمكن لمكتب صغير أو غرفة صغيرة في أي منزل أن يخرجا الى الملأ صحيفة الكترونية يومية تحمل من المواد أضعاف ما تحمله أية مؤسسة صحفية عملاقة.
5- يوفر النشر الالكتروني للكاتب إمكانية تطوير وتعديل أو إعادة إصدار المادة المنشورة والتكيف مع ما يستجد من حقائق أو آراء في "طبعات" جديدة منقحة ويمنحه القدرة على التفاعل السريع مع الآخر وتقويم وتعديل التجارب والخبرات الثقافية.
6- يمنح النشر الالكتروني هامشا كبيرا لحرية الرأي والتعبير نتيجة عجز الرقابة الحكومية التقليدية والحواجز السياسية والثقافية عن منع وصول المادة الى المتلقي أو الناشر في معظم الأحيان.
7- سهولة التواصل والتفاهم والتفاعل بين الأطراف الأربعة للعملية الإبداعية : المبدع والناشر والمتلقي والناقد. كما يتيح النشر الالكتروني إمكانية عقد الندوات والحلقات النقاشية والمؤتمرات بين أشخاص متباعدين جغرافيا.
8- سهولة التنقل بين المصادر والمراجع والمتون المنشورة يضاف اليها القدرة التوثيقية والتبويبية الهائلة للنشر الالكتروني. لقد أدخل الكومبيوتر ثورة هائلة في مجال توثيق وأرشفة المطبوع الثقافي والعلمي وصار من المستحيل عمليا تعرض هذا المنشور للتلف أو التآكل أو الضياع أو الاندثار مهما طال الزمان أو كثر الاستعمال.
9- قدرة هذه التقنيات على تضمين الأبعاد الصوتية والصورية والتفاعلية في المادة المنشورة مما يضفي عليها قدرا كبيرا من الوضوح والتشويق. كما تتيح تقنيات النشر الالكتروني للقارئ الكثير من التسهيلات المتعلقة بالإخراج الفني للمادة المقروءة أو المنشورة كنوع الخط وحجمه ولونه وسطوعه الخ وهو ما يمكن لكل من القارئ والناشر والكاتب التحكم به بكل يسر.
10- انتفاء الحاجة الى التفرغ الكامل للناشر أو الكاتب (فالغالبية العظمى من القائمين على النشر الالكتروني وخصوصاً في المواقع الأدبية والثقافية أو المدونات الالكترونية أشخاص غير متفرغين يمارسون هذا العمل في بيوتهم وفي ساعات فراغهم دون الحاجة الى البنايات أو المكتبات والمطابع ودور الكتب العملاقة مع ما يرافق ذلك من متطلبات اقتصادية وبشرية من إدامة وصيانة وحفظ وتجليد وطاقة كهربائية وإجراءات أمنية وصحية الخ.
11- يوفر الانترنت إمكانيات الترجمة الآلية السريعة للمادة المنشورة سواء عن طريق محركات ومواقع الترجمة الآلية التي تتيح ترجمة النصوص برمتها (رغم أنها ما تزال بعيدة عن الدقة والسلاسة خصوصاً عند الترجمة من والى العربية) أو عن طريق استشارة المواقع الخاصة بأمهات المعاجم والموسوعات.
12- يساهم النشر الالكتروني في احتفاظ المغتربين والمهاجرين بعلاقتهم مع الثقافة الأم ولغتها ومتابعة (بل والمساهمة الجدية) ما يجري في أوطانهم من أحداث وتطورات.
13- يتيح النشر الالكتروني إمكانية تشكيل الروابط والتجمعات الثقافية بين أفراد متباعدين جغرافياً وكذلك في تبلور المدارس والاتجاهات الجديدة في الفلسفة والفكر والأدب. كما يتيح النشر الالكتروني تأسيس مواقع متخصصة في أدق فروع التخصصات العلمية والثقافية مما يسهل على الباحث والقارئ والكاتب تقليل الجهد والوقت الضائعين بسبب تشتت المواد المنشورة وظهورها أحيانا في مجلات أو مطبوعات بعيدة عن مجال البحث.
.
بيد أن تقنيات النشر الالكتروني تترافق كما أسلفنا مع عدد من الأعراض الجانبية والمحاذير التي يمكن تلخيصها في:
1-السهولة النسبية لانتحال وسرقة المادة المنشورة أو إعادة نشرها أو توزيعها بوسائل الكترونية أو مطبوعة دون الاتفاق مع الكاتب مما يشكل إجحافا بحق المبدع والناشر الأصليين وخصوصاً في البلدان التي لا تلتزم بقوانين حماية الملكية الفكرية. لقد حظيت الجوانب القانونية للنشر الالكتروني باهتمام كبير في الدول المتطورة بل إن المسائل التشريعية المتعلقة بالجريمة الالكترونية وحماية حقوق الملكية وحماية الخصوصية عبر الإنترنت وغيرها من المواضيع المتشعبة غدت مبحثاً أساسيا في الدراسات القانونية في الوقت الذي ما زلنا نتخبط في بدايات متعثرة.
2-غياب طقوس القراءة والكتابة التقليدية التي أضفى عليها الزمن مسحة من الإجلال والجمال والخصوصية الفردية والاسترخاء والحميمية وغياب الوسيط وخصوصا عند كبار السن أو من يشعر بفوات الأوان على التمرس في هذه التقنيات الحديثة.
3-قيام بعض الجهات باستغلال الحرية شبه المطلقة في هذا الميدان لنشر أفكار متطرفة أو لتجنيد الإرهابيين أو إثارة التعصب والكراهية العرقية أو الطائفية أو الدينية أو ممارسة النصب والاحتيال والشعوذة أو الانحراف الأخلاقي.
4-غياب الحد الأدنى من المعايير الفنية في اختيار المنشور في بعض المواقع وخصوصا مواقع الهواة أو المواقع التي لا تحرص على حسن اختيار ما تنشر مما يؤثر سلبيا في المستوى الثقافي واللغوي للمتلقين من الشباب خصوصاً.
5-عدم قدرة قطاعات واسعة من المجتمع (خصوصا في الدول الفقيرة والنامية) على اقتناء أجهزة الكومبيوتر وملحقاتها رغم أن أسعارها تتجه بشكل مطرد وسريع نحو الانخفاض عكس المطبوع الورقي الذي يميل الى الغلاء.
6-يفضل الكثير من المعلنين نشر إعلاناتهم على صفحات المطبوعات الورقية مما يجذب مردودا ماديا أعلى مما يقابله في المنشور الالكتروني رغم أن كفة الأمور تميل بالتدريج لصالح الأخير وخصوصاً في الدول المتقدمةً. وهذا ما يقودنا للإشارة الى ضعف أو غياب المردود المادي الذي يحصل عليه الناشر والكاتب في حالة المنشور الالكتروني في أغلب الأحيان (والحديث هنا ينطبق بشكل أكبر على الدول النامية والمتخلفة ومنها دول المنطقة العربية والشرق الأوسط).
7-الحاجة الى إمكانيات فنية وعلمية لمواكبة التطور اليومي في العالم الرقمي وعالم الاتصالات والتغلب على المشاكل المعروفة مثل الصيانة الدورية والحماية من الاختراقات والفايروسات وانتهاك الخصوصية.. الخ. ناهيك عن حاجة المستخدم والكاتب والناشر الى تدريب متخصص (ولو بأبسط أشكاله) قبل الولوج الى هذا العالم.
8- ما يزال البعض من الدوائر الأكاديمية وأصحاب الاختصاص والقائمين على البحوث العلمية في مجتمعاتنا ينظرون الى النشر الالكتروني نظرة دونية مفضلين الكتاب المطبوع لموثوقيته العالية حسب رأيهم، وقد يشجعهم على هذا ضعف الدقة والمصداقية في الكثير من المواد المنشورة على صفحات الانترنت بسبب سهولة واستسهال النشر مقارنة بالكتاب المطبوع.
9-المخاوف والمحاذير الصحية والنفسية المرتبطة بالاستعمال المطول لأجهزة الكومبيوتر والإدمان على الانترنت .. الخ.
لقد شهد العالم، خصوصا في العقدين الأخيرين، تغلبا تدريجيا ومضطرداً للثقافة البصرية والسمعية (ثقافة الملتيميديا) على الثقافة المقروءة المطبوعة أو المكتوبة، وصار المزيد والمزيد من الأجيال الشابة يحصلون على المعلومة والخبر والمادة الثقافية والفنية والعلمية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء القراءة والكتابة.. ولا أراني مفرطاً في الخيال إذا رسمت صورة لعالمنا بعد عشرات السنين وقد تقلصت فيه معرفة القراءة أو الكتابة الى حدودها الدنيا وأصبحت حكراً على فئة قليلة منتخبة من الناس نظرا لسهولة حصول القطاع الواسع من الجمهور العادي على المعلومة واكتسابها وتبادلها بالطرق غير التقليدية التي لا تحتاج الى دراية كبيرة بالقراءة والكتابة.
غير أن تصوير الأمر وكأنه صراع بين المطبوع الورقي والالكتروني فيه أيضا قدر من مجانبة الحقيقة، فالمنشور الالكتروني لن يلغي، سريعاً، المجلة والصحيفة والكتاب المطبوع وإنما سيؤدي (حسب رأي الكثير) الى مزيد من التطور والتكيف مع المعطيات الجديدة، وهذا ما دفع غالبية المؤسسات ودور النشر (على سبيل المثال) الى الجمع بين الأسلوبين وإصدار طبعات الكترونية الى جانب الطبعات الورقية لمنشوراتها.
لقد ساهم النشر الالكتروني (الى جانب وسائل الاتصال الجماهيري العالمية الأخرى كالإذاعات العالمية والقنوات الفضائية) في دفع وتعزيز ظاهرتين متزامنتين من ظواهر العولمة الثقافية وأعني المضي قدما في تشكيل خطاب ثقافي (وضمير وذوق عالمي) موحد وفي الوقت نفسه القدرة على نشر مظاهر الثقافة المحلية للشعوب وانفتاح وتعريف الآخرين على تلك الثقافات المحلية.
غير أننا ينبغي أن نشير أخيراً الى أن التقنية لوحدها لا تخلق شعبا مثقفاً أو مجتمعا متنوراً، فالشعب الذي يفتقر الى تقاليد راسخة في الاهتمام بالثقافة والكتاب لا يمكن أن يتحول بين ليلة وضحاها الى شعب قارئ مثقف بمجرد إدخال تقنية حديثة مهما بلغت من تقدم.
هناك تعليق واحد:
مقال جيد وشامل يا أستاذنا.. دمت بخير.
إرسال تعليق