حكاية الصبي المليح الذي يحب كرة القدم


 

الى إبراهيم البهرزي

1)
كان هناك صبي مليح. ذو شعرٍ جعد مائل الى الاصفرار، وجسد ضامرٍ نحيل.. ضامر لكن قوي.
من بين الكثير من الأمور التي يهواها مَن في عمره.. كان يحب كرة القدم ويعشقها أكثر من أي شيء آخر. لذلك انخرط منذ طفولته المبكرة في اللعب مع أصدقائه الآخرين، في الملعب الترابي القريب من الشارع العام، ذلك الذي يشق مدينته الصغيرة.
كم مرة عاد الى البيت بقدمٍ مخلوعة ليتلقى توبيخ أمه وكَمّادة العجين والدهن السحرية الساخنة!
كم مرة دخلت عليهم عصابات من الصبية الأشقياء من محلات أخرى ليعتدوا عليهم ويخربوا ملعبهم لكنه يقف مع أصحابه.. يتصدون لهم ويدافعون عن ساحتهم الأثيرة.
كم مرة، بعد انتهاء تلك المعارك الطفولية، مسحوا أنوفهم النازفة وشفاههم المتورمة وهم يضحكون في مرح ويتذكرون تفاصيل المعركة ويسخرون من رفاقهم الذين جبنوا وفروا منها..
وكم مرة، في تلك الأيام بالذات، كان يتعمد المرور من أمام شباك بنت الجيران ذات الضفيرة الشقراء ليتباهى برجولته وجراحه أمامها!

2)
حين ودّع الساحةَ لم يكن ذلك الصبي الضامر النحيل..
انكفأ الى بيته أياما وأسابيع. كانت أمه تشعر بأن "الولد" ليس على ما يرام. وحين كانت تسأله: "لماذا كففت عن الخروج للعب مع أصحابك؟" كان يكتفي بالصمت أو بواحد من الأعذار الكثيرة: "لم أعد أحب هذه اللعبة السخيفة".. "لقد كبرت على اللعب".. "أنا مريض" .. "وأين هم أولاد الكلب الذين كنت ألعب معهم؟ لقد تفرقوا وهجروا الملعب!"
وحين تخرج من الغرفة.. كان يستغرق في ذهول طويل.

3)
سنوات الصبا تمر سريعاً..
صارت الكرة ذكرى قديمة.. مثل شريط سينمائي رمادي.
قيل انه غضب من الطريقة الفاشلة في إدارة الفريق.. تلك التي سببت لهم خسارات متتالية.
قيل انه شعر بالغبن حين اختاروا لاعبا لا يدانيه في المهارة ليكون كابتن الفريق..
قيل ان رئيس الفريق طرده واتهمه بأنه مشاغب غير منضبط..
قيل ان واحدا من الصبية الأشرار من فريق المحلة الأخرى قد انفرد به ذات ظهيرة وأخرج له خنجراً مرهفا وقال له أنظر: سأغرس هذا الخنجر في بطنك إن لم تلتحق بفريقنا أو تترك ذلك الفريق على الأقل..
قيل انه أصيب بالتهاب في الكبد جعله يتعب وتنقطع أنفاسه كلما جرى..
وقال آخرون بل إن الفريق كله قد ساءت أحواله وتفرق لاعبوه ولم يعد ذلك الفريق المتماسك القوي الذي يحسبون له ألف حساب!

4)
وتمر الأعوام.. تمر ثقالاً.. مثل سلحفاة ضجرة..
وفي ذات يوم تناهى الى سمعه ضجيج خاله مألوفاً: كانوا ينظفون الساحة التي تحولت الى مستودعٍ للأنقاض. كان الفريق القديم يعود الى ملعبه!
ضحك كثيراً عندما طلب منه أحد أصدقائه أن يعاود اللعب معهم، لكنه (ودون أن يقترب كثيراً) صار يذهب لمشاهدتهم خلسة.
كانوا الآن فريقا غريبا يرغمك منظرهم على الابتسام. فيهم أصدقاؤه القدماء وقد نمت لهم كروش صغيرة أو صلعات مستديرة، ومعهم لاعبون جدد من صبية المحلة: قصار، طوال، سمان، ضامرون، شقر، سمر.. أولادهم وأولاد أخوتهم وأخواتهم. وكانت ثيابهم هي الأخرى بقياساتها وألوانها المتنافرة تبعث على الضحك. لكنهم، على أية حال، كانوا يلعبون.. يغالبون شيخوختهم وأمراضهم المزمنة ويتحملون عبث الصغار وألاعيبهم الشيطانية.. يشعرون بأنهم ما زالوا صالحين للعيش واللعب الأخرق والضحك.. والعراك!
وصار يخرج كل يوم ويدنو من الساحة أكثر فأكثر، لكنه لا يضع قدمه فيها أبداً، بل يظل يدور على حدودها أو يقتعد أحد الأحجار ليتفرج على فريقه القديم.
كان أحيانا يشتم اللاعبين أو يغلي بالغضب فيرميهم بالحصى.
أحيانا يصرخ: "أي فريق فاشل هذا! متى تتعلمون؟ كم كنت غبيا لأنني رضيت أن ألعب معكم ذات يوم!"
أحياناً يصيح "هذا رئيس الفريق مالكم قواد. لازم تغيروه!"
أحيانا يجرفه الحماس ولا يتمالك نفسه من إصدار التوجيهات "ولك زمال رقم سبعة إرفع لمنطقة الجزاء!"
أحياناً يضبط نفسه وهو يقفز فرحاً بتسجيل هدف لـ"فريقه" لكنه في أحيان أخرى يضحك بشماتةٍ حين يسجل الفريق المقابل هدفاً عليه.
أحيانا يسخر حين يسقط أحد زملائه القدامى أرضاً نتيجة خشونة متعمدة من خصم فظ، فينظر اليه وهو يتلوى من الألم أو يمسك أنفه النازف ثم يصيح "حيل بيكم كله صوجكم تستاهلون" لكنه يغالب رغبة عارمة في الذهاب اليه وتضميده.
أحيانا يستقبل لاعباً مطرودا أو خارجا من الفريق ويقول له "مو كتلك هذوله مو أوادم. ليش تلعب وياهم؟"
وبين الفينة والأخرى يلتفت الى من حوله من جمهور ويقول لهم "شوفوا. هذولة كلهم أولاد خرا.. كلهم لاعبون فاشلون.. أني علمتهم اللعب.. أخوات القحاب هؤلاء!"
وحين يأتيه تصديق على كلامه من مشجعين لفريق منافس أو يناوله أحدهم حصاةً ليرميهم بها.. يفرح قليلا لكن يده تتراخى ويشعر في داخله بانقباض غريب.
سُمعتُه القديمة كلاعب ماهر دفعت بالعديد من الفرق الى طلب تدريبها أو اللعب معها ولو لدقائق. لكنه كان يرفض بعناد أن يلعب مع فرق أخرى غير فريقه الأول.. فيقول لهم "اتركوني لحالي. لقد اعتزلت هذه اللعبة السخيفة. هذه لعبة زعاطيط!"
غير أنه، في داخله، يتحرق شوقاً الى اللعب مع أصدقائه القدامى، ويكاد يبكي حنينا الى تلك الأيام الجميلة.. حين كان صبياً مليحاً.. مقداماً..
حين كان لاعباً لا يبارى.. في فريق محلته الجميل!






نشرت في جريدة العالم البغدادية
9-10-2013

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية