كيف تكذب على أسير

 



نعم يا صاحبي. في رسائلنا الى أخي الذي طال أسره كنا، نحن الأخوة الباقين، نتناوب الكذب. ما خفف علينا هو أن الرسائل لم تكن بتلك الكثرة: ثلاث أو أربع في السنة. من المحرج أن نعترف بذلك ولكن.. نعم. كنا رغم فرحنا بتلقي أخباره ورسائله (خصوصاً رسالته الأولى التي طمأنتنا الى أنه على قيد الحياة) نشعر بثقل المهمة، أعني مهمة الرد على تلك الرسائل، فنتملص منها أحياناً أو نرميها الواحد على الآخر، ليس لقصور في قدرتنا على تدبيج الرسائل (فأنت تعرف بأننا بيت شعر ونثر وأدب) ولكن.. ماذا أقول لك: هل جربت هذا النوع من الكذب الذي لا لون له، لا أعني لمرة أو مرتين ولكن لمرات ومرات، على مدى اثني عشر عاما طوالا؟
في الرسائل الأولى كنا نذكر الجميع بالأسماء..
- (الوالد والوالدة الكريمان يدعوان لك على الدوام، والأخوة والأخوات: فلان وفلان وفلان وفلانة.. )
نذكرهم واحداً واحدا بالأسماء، والأعمام والأخوال والعمات والخالات.. حتى ينتهي الفراغ الذي خصصه الصليب الأحمر على الورقة لذوي الأسير، وعندها فقط نتنفس الصعداء.
ماذا؟ ولماذا نكذب؟ وماذا نقول له يا صاحبي؟ هل نخبره أن أخاه الصغير "سلام" الذي اعتقل قبل أن يقع هو في الأسر، ما زال مصيره مجهولا، وسوف يظل مجهولا الى الأبد.
- (خذوني الى قبر سلام. أريد أن أزور قبره)
هكذا قال لنا وكأنه يحدث نفسه بعد عودته وافاقته من صدمته بسماع كل تلك الأحداث التي جرت في غيابه- فنظر واحدنا للآخر في حيرة ووجوم. ماذا نقول له؟ هل نقول له إنا لم نعثر له على قبر؟
نعم. في الرسالة الأولى لم نكذب عليه غير هذه الكذبة ..
- (فلان وفلان وفلان.. وسلام.. وفلانة وفلانة بخير ويسلمون عليك)
لكن الأكاذيب أخذت تزداد يوما بعد يوم:
- "الحاجة الوالدة الحنون تسلم عليك وتقبل جبينك وتدعو لك في كل صلاة"
كلا، لم نخبره أن الوالدة لم تعد تصلي ولا تقبِّل أحداً من بنيها وأحفادها. الوالدة الحنون كانت –كما تعلم- قد أصيبت بالشلل الرباعي بعد الجلطة الثانية التي أعقبت بأيام تلقيها لتابوت ابنها الأصغر سمير (التابوت الذي ضم بقايا جسده الذي بعثرته قذيفة عمياء على سواتر الحرب). لا. لا. أنا لا أتحدث عن الجلطة الأولى عندما زرتها أنت وأمك في المستشفى، تلك التي أصابتها بعد أن ثرثرت نساء الحي بأخبار في التلفزيون تتحدث عن قيام الأعداء بقتل الأسرى ورجعت الى البيت وهي تعول وتصيح لقد قتلوا أخاكم.. لا، تلك لم تأخذ سوى نصف جسدها! أما هذه فقد حولتها الى تمثال للقهر، الى شبحٍ باهت، الى كومة من العظام اليابسة ووجه لا حياة فيه سوى للعينين المبتلين على الدوام.
غير أننا لم نتوقف عن الكذب:
- "الوالدة الحنون وسلام وسمير يرسلون قبلاتهم ويخصونك بالتحية والدعاء...."
في الرسائل التالية صرنا نقحم اسم أبينا في الكذبة. كان قد مات هو الآخر من القهر، أصابه التدخين المستمر بسرطان في الحنجرة أخرسه تماما لبضعة أشهر قبل ينضم للآخرين:
- " الوالدة الحنون والوالد الكريم وسلام وسمير يخصونك بالتحية والدعاء...."
أنت تتذكر أن أخي كان يتمتع بموهبة نادرة. نعم هي شيء أشبه بالحاسة السادسة وتوقع أمور بعينها، ليس بشكل حرفي تماماً ولكن.. ولماذا أوجع رأسك؟ هل تتذكر كيف توقع أن تنجب أختي الكبرى خمس بنات على التوالي؟ وكيف حلم، قبل وفاة جدي بأيام، بأننا نوزع اللحم على الجيران؟ وماذا قال عندما بدأ ذلك الشيطان بالظهور في التلفزيون وملأت صوره الجرائد والجدران والساحات والكتب المدرسية:
- "هذا الرجل سيحكم طويلاً، وسيغرق البلاد بالدم ويهلك الحرث والنسل ثم يموت ميتةً شنيعة"
أذكّرك بهذا يا عزيزي لأن أخي ظل محتفظاً بظلال من تلك الموهبة حتى وهو في أقفاص الأسر البعيدة؛ بدون مناسبة محددة ركز في إحدى رسائله على أختنا الصغرى التي كان يؤثرها على الجميع:
- "ما أخبار "حنّونه" وزوجها وأطفالها الحلوين؟ لا أدري لماذا صرت أتذكرهم كثيراً بل وأحلم بهم هذه الأيام! أمانة الله أن تقبّلوا لي وجوههم الحبيبة واحداً واحدا!"
تاريخ كتابة تلك السطور كان متوافقاً بشكل عجيب مع تاريخ هروبها مع زوجها وأطفالها بعد اعتقال أصدقائه الذين "اشتغلوا بالسياسة" ضاربين، عرض الحائط، بكل النصائح والتحذيرات. لقد أحس، وكان على حق، بأن دوره في الاعتقال والتغييب قد دنا فلملم أوراق اسرته وحقائبها على عجل. قبل أن يركب سيارة الأجرة التي توقفت قليلا عند بابنا نهر زوجته وطلب منها أن تكف عن البكاء لئلا تثير الشبهات ثم أخذني جانباً وقال لي:
- سآخذهم الى زاخو. لي رفاق وأصدقاء فيها. ومن هناك سأحاول تدبير أمري. لا تتوقعوا منا أية رسائل. عندما أشعر بأنكم لن تتعرضوا لخطورة بسببنا سأرسل لكم أخبارنا مع من أثق به.."
ولم تصل الأخبار!
حالتان اثنتان أصابتنا بارتباك شديد وحيَّرتنا في تدبير اكاذيب ملائمة لتلافيها: الأولى عندما طلب منا (وكانت تلك أول وآخر مرة يسمح فيها للأسرى من الجانبين بمثل هذا الترف) أن نرسل له صورة جماعية لكل أفراد الأسرة. يومها عقد مجلس العائلة (أعني من تبقى منها) اجتماعا تشاوريا توصلنا في نهايته الى أقل الحلول خطراً: أن نتجاهل الطلب!
غير أن الحالة الأصعب كانت في الرد على سؤاله الموجع المحرج الذي ظل يعيده في كل رسالة الى أن توقف من نفسه عن طرحه -ربما فهم الأمر بطريقة ما أو سمع بحالات مشابهة من زملائه الأسرى. كان السؤال في آخر رسالة يجيء فيها على ذكر الأمر موجها الى أخي الذي كان قد استشهد –ويا للسخرية- في نفس تاريخ كتابتها.
- "أخي الحبيب. أنا في غاية القلق على زوجتي وابني وابنتي الحبيبين، إذ لم أسمع أخبارهم منذ شهور طوال ولم أتلق رداً على رسائلي العديدة اليها. أخبرني يا أخي وصارحني أرجوك: ماذا جري لزوجتي وطفليِّ؟"
كان العبء في هذه المرة ثقيلاً عليَّ، أنا الذي كلفت بالرد؛ كان علي أولا أن أكتب باسم أخي الذي لم ينشف دمه بعد، وأن أجد طريقة ما لأطلب منه الكف عن هذا السؤال دون أن أصارحه بالحقيقة المرّة التي قد تقتله، دون أن أقول له أن حبيبته التي انتظرها سنوات طوال وتحمل المخاطر والتهديدات حتى ظفر بها بعد قصة حب جميلة وانجب منها هذين الطفلين الرائعين، أن هذه الحبيبة التي هدها الانتظار والحرمان والفقر قد بدأت التجاعيد تغزو وجهها الأبيض الرقيق وصارت خصل الشيب تعلن عن نفسها بكل وقاحة في شعرها الفاحم، دون أن أكاشفه بأن هذه الزوجة المسكينة قد حسمت أمرها أخيرا واتخذت قرارها الصعب: كان الحاج "أبو جواد" صاحب معمل الخياطة الذي تعمل فيه رجلاً طيباً على العموم، وقد تعهد بأن يوفر لها ولطفليها العيش الكريم ويأخذهم معه الى الخليج حيث بدأت أعماله بالازدهار، صحيح أنه يكبرها بعشرين عاماً، وصحيح أنه لم يستطع الانجاب رغم زيجاته الثلاث السابقات، لكنه كما قلت رجلٌ طيب.. وذو صحة جيدة، ومقتدر، وذو نفوذ، وبنفوذه هذا استطاع تسوية الأمور القانونية المتعلقة بانفصالها عن زوجها بكل يسر.
لا تنظر اليَّ هكذا! لو كان بإمكاننا مساعدتها وإبقاءها وطفليها الى جانبنا لما ترددنا. لا تهز رأسك يا هذا! ما بالك؟ هل فقدت ذاكرتك؟ أنسيت أننا كنا قد بدأنا حتى قبل ذلك بنزع الشبابيك وبيعها بعد ان بعنا الكتب والمزهريات والسجادات والمواعين؟!
...
بعد عودته المفاجئة التي يئسنا منها بكى أخي وضرب على صدره ورأسه ثم سكت طويلا وذهل عن العالم حتى قيل انه جن، لكنه استعاد وعيه شيئا فشيئا ووجد عملاً في فرن صمون قريبنا "غريب" وتزوج وانجب ثلاثة اولاد. صحيح ان أحدهم وجد مقتولا فوق احدى المزابل أيام التصفيات الطائفية (ما زلنا نعتقد، دون أن نواجهه بذلك، بأنه –بإصراره الغريب على تسميته بذلك الاسم الاستفزازي كان سببا لقيام –الجهة الاخرى- بخطفه وتصفيته) لكن بقي عنده ولدان اخران، شابان رائعان مربوعان -ما شاء الله- .. صحيح انه احدهما فقد رجله في انفجار شارع الكفاح الاخير وان الولد الثالث هاجر الى حيث لا ندري، لكنهما حيّان على الاقل.
...
أخي لم يعد يكتب رسائل لأحد، ولا حتى لابنه المسافر. أما نحن فما زلنا مضطرين الى الكذب، وما زلنا أحياناً ننشر صورا في الفيسبوك لنا ولأصدقائنا ونحن في المطاعم ونحن مبتسمون ليعلق عليها الأقرباء والأصدقاء في أطراف الأرض: منووورين.. شباب ما شاء الله! ...
نعم، وما زلنا نكتب احيانا رسائل الى الذي في العُلا نقول له:
- "كيف حالك. الجميع هنا يسلمون عليك ويقبلون يديك وينتظرون عودتك لهم بعد غيابك الذي طال.. طال كثيراً.."

10-12-2014


نشرت في جريدة العالم البغدادية

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية