حكاية الذي رجله أطول من لحافه



 

قال له جده:
- مدَّ رجليك على قدر غطاك..
كان صغيراً جداً.. ربما في الخامسة من عمره.. ففهم الأمر بشكل حرفي وأسرع متسلقاً جبل الأغطية والأفرشة والمخدات المكومة فوق المنضدة الخشبية القديمة التي تحتل جداراً كاملاً من الحجرة التي يتحلق فيها الجميع (أبوه وعماه وجده وأخوته الكبار) حول المدفأة النفطية الفستقية ذات اللهب الذي يتلاعب مثل جني أزرق قلق..
جلس هناك، وأخذ يبحث عن غطائه الصوفي الكاكي، ثم مد جسمه الضئيل وغطى رجليه، سحب الغطاء ثم أرجعه ثم مده ثانية، وشعر بالارتباك.. لم يعرف كيف ينفذ طلب جده.. وتعالت الضحكات في الغرفة، فشعر بالخجل الشديد وأسرع بالانزلاق والاختباء تحت المنضدة المغطاة حتى الأرض بفرشة من الخام الأسمر الثقيل اعتاد أن يندس وراءها كلما أراد شيئاً من الخلوة في هذا البيت الصغير المزدحم..
وواصل الآخرون حديثهم..
كان قد بدأ بعد انتهاء نشرة الأخبار، وكان، كالمعتاد، يدور منذ الأزل حول السياسة، الأقرباء والمعارف المعتقلين والمعدومين، السجون وقاعات التعذيب الرهيبة، خطب الرئيس الجديد المضحكة، منع التجوال، آخر المحاولات الانقلابية.. كان يحب الجلوس معهم وسماع تلك الكلمات الكبيرة، وعندما داعب عمه الأصغر رأسه وسأله:
- وأنت أيها السياسي الصغير، ما هي خططك؟
أجاب مندفعاً:
- سأقوم بانقلاب!
وتعالى الضحك فسأله العم من جديد وقد رسم على وجهه ملامح الجد:
- إنقلاب مرة واحدة؟ حسنا، وأين وصلت في ترتيبات انقلابك أيها الزعيم؟
فأجابه:
- أولاً سأوزع المنثورات (كان لا يجيد لفظ الشين) ثم أهجم بالطائرات على معسكر الرثيد!
- ومن ستعدم إذا نجح الانقلاب؟
- لازم أعدم؟
- طبعا. ما دام هناك انقلاب فهناك اعدام!
نسي أسماء الساسة والوزراء الذين كانوا يُشتَمون أمامه ليل نهار فأجاب في ارتباك:
- أنت ..وعمو.. وأبي!
وانفجروا بالقهقهات، ولطمه أبوه على قفاه:
- قم لا بارك الله فيك وفي انقلابك وفي أسنانك المكسرة!
وقال عمه الكبير وهو يقرص أنفه العرقان:
- أهذه خططك أيها الزعيم القواد؟!
لكن الجد فتح فمه فسكت الجميع:
- لا سياسة ولا أحزاب ولا إكلان خره! ابني مد رجليك على قدر غطاك!
**
- في المرة القادمة تعلّم أن تمد رجلك على قدر غطاك!
صاح الاستاذ "عباس الرهيب" بزميله كريم وقد احمر وجهه من الغضب ولوح بالعصا ثانية:
- افتح إيدك الأخرى.. ابن القندرة.. صاير فيلسوف.. تجادلني في تفسير كتاب الله!
فغاص هو في رحلته وأحس بقطرات دافئه تبلل ثيابه الداخلية!

**
- إبني.. هذا لمصلحتك.. حتى تتعلم أن تمد رجلك على قدر غطاك!
قال له العريف "شدهان" بلهجة تصالحية بعد أن عاقبه بالتمرغ في وحل معسكر التدريب لأنه تجرأ على تحدي أوامره.

**
- مد رجلك على قدر غطاك. ألم تتعظ من مصير زميليك؟!
قال له المدير مهدداً كي يمنعه من السؤال ثانية عن حسابات الدائرة ...

**
- مد رجلك على قدر غطاك
- مد رجلك على قدر غطاك

**
الان وهو على فراش المرض.. وكما يحدث للشيوخ الذين تقفز أمامهم ذكريات منسية غابرة.. تذكر حديث الانقلاب، فارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة وقال لابنته الساهرة على راحته:
- انظري.. هل طالت ارجلي؟
لم تفهم البنت مقصده ففسر لها:
- يقولون ان الانسان متى مات طالت رجلاه.
فأسرعت برسم دائرة تعويذة حول رأسه:
- اسم الله عليك يابه.. من عمري على عمرك!
- إرفعي هذا اللحاف الكريه.. اريد لحافا اخر.
- هل يضايقك ملمسه.. انه جديد.. هل هو ثقيل؟
- لا لا .. فقط أريد إبداله.. اسمعي.. اجلبي لي لحاف حمودي (ابنها في الابتدائية)
استغربت المرأة من طلبه لكنها أذعنت له. بعد دقيقتين كانت تحاول أن توفق بين الغطاء الصغير وقامة الرجل الطويلة.. أرادت أن تسحبه ليغطي القدمين الضامرتين الباردتين فنهرها العجوز:
- لا.. أتركي اللحاف وشأنه.. دعي قدمي مكشوفتين.. (ثم قال كمن يحدث نفسه) أريد أن أمد أرجلي الى أقصاها.. مرة واحدة قبل أن أموت.. (والتفت اليها) .. ونادي لي "حمودي".. أريد أن أراه.
كان الصغير قد مُنع من دخول الغرفة طوال الأيام الماضية فاندفع الى جده فرحاً وألقى بنفسه فوق صدره:
- جدي.. أحبك!
- وأنا أيضاً أحبك أيها الشيطان الصغير. ولكن حذار وإلا كسرت أضلاعي يا ابن الكلب... (وقبل عينيه وتشممه طويلاً وأشرق وجهه) إسمع يا ولد.. هل ترضى بأن تمنحني لحافك.. سأستعيره منك بضعة أيام، ربما بضع ساعات.. ماذا تقول؟ هل توافق؟
- نعم، نعم يا جدي.. وسأعطيك ألعابي كلها إن أردت..
- ربما أستعير منك بعضها إذا قمتُ.. ولكنني أريد أن أقول لك شيئاً، شيئاً مهما يا حمودي: إياك أن تثني رجليك أو تتمنى أن يكونا أقصر من لحافك.. العيب ليس في رجليك دائماً.. العيب أحياناً في الغطاء.. هل تفهمني أيها المشاغب الصغير.. وإياك أن تسمع كلام أمك وأبيك إذا أمراك أن تمد رجليك على قدر غطاك.. حتى لو خوفاك بالبرد.. إنهما رعديدان مثل الآخرين.. أما أنت ف"سبع" أليس كذلك؟
- نعم يا جدي.. أنا "ثبع" أنا بطل الأبطال!
- حيّاك يا بطلي!
وقرصه في أنفه العرقان.. وابتسم ابتسامة رضا عميق.. وأغمض عينيه.. وتمتع بالهواء البارد الذي يغسل قدميه..
2011

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية