عن البطل العاري وبندقيتيه






عن البطل العاري وبندقيتيه!
قراءة في رواية عبد الكريم يحيى (شابٌ عارٍ يحمل بندقيتين)



في روايته الجديدة (شاب عار يحمل بندقيتين) يتناول عبد الكريم يحيى بشكل رئيس مفهوم البطولة: بجوانبها النفسية والاجتماعية والتاريخية. وهو إذ يفعل هذا يتجنب الأسلوب التمجيدي الخطابي الذي قد يتورط فيه البعض. إنه يجرد البطولة من طابعها الخارق ويعرض البطل كما هو

: إنساناً وجد نفسه بطلاً بين ليلة وضحاها دون أن يفكر بذلك أو يضعه نصب عينيه! إنه البطل بالمصادفة ، البطل بسبب اليأس، البطل لأسباب بعضها خارج عن إرادته: الحرمان من الحبيبة .. جافشين!
البطولة هنا هروب (أو رفض) من واقع اجتماعي مرير. والبطل إذ يقرر الانضمام الى الثوار وتوجيه بندقيته الى العدو الخارجي فإنه يعد قراره قبل كل شيء رفضا لإذلال ولظلم داخلي متراكمين. ولهذا لا نجد البطل يتحدث كثيرا في "السياسة" أو "الايديولوجية" أو "القومية".. إنه يعرف شيئا واحدا .. إنه مظلوم، مسلوب من حقه في الحياة والحب والكرامة!
في النسخة التي قرأتها وعشت ولادتها قبل أن تدفع للطباعة، والتي حذفت منها أجزاء لأسباب لا أعرفها، كانت الرواية تبدأ في زمن مستقبل. مستقبل لا يشي بكثير من الأمل رغم التغيرات المظهرية؛ فالسارد يعود الى مدينته من بلاد الغربة ليجدها (بعلاقاتها الاجتماعية ومنظومتها القيمية) كما تركها قبل سنوات طوال باستثناء أنها قد تحولت الى قرية متضخمة حديثة المظهر ما زالت سلالة الآغا تتحكم فيها متلاعبة بسلطة القانون المدنية،  حتى أننا نرى أحد أفراد عائلة الآغا وهو يصول ويجول ويروغ من عقوبة على جريمة قتلٍ طائشة بفضل نفوذه العشائري تماما مثلما يفعل أحد أسلافه عندما يحصل بفضل نفوذ ابيه وماله على عفو خاص باعتباره يساريا ملاحقا من العهد الملكي رغم أنه يحكم بالإعدام غيابياً  بسبب قتله فلاحا شيوعيا تجرأ على تحدي سلطة أبيه!
 

وفي رحلة السارد في مدينته يبحث عن سر هذا التمثال المنتصب في وسطها: تمثال لشاب نصف عارٍ يحمل بدقيتين، فيأخذنا مستخدما تقنيات الفلاش باك وتداخل الأصوات والنبش في أوراق من مذكرات البطل الرئيسي، يأخذنا في رحلة مثيرة مليئة بعشرات التفاصيل (هل تحسب كثرتها له أم عليه؟) في أجواء القرية الكردية عبر قرن من الزمان: تفاصيل عن الحب، الزواج، الطفولة وألعابها، الثأر، سطوة الحكام المحليين، العلاقات الاجتماعية، تحولات الوعي السياسي والديني والطبقي، جمال الطبيعة وقسوتها.. الخ.
ودلير، الشاب البيشمركة الذي كان يغتسل عاريا في نبع الماء وقد لطخ جسده بالطين بدلا عن الصابون، يفاجأ بجنديين من العدو جاءا لحمل الماء فيقرر بسرعة خاطفة أن يهاجمهما قبل أن يهاجماه، فيجرح أحدهما ويغنم بندقيته ثم يشرع بالفرار عاريا وهو يحمل بندقيته علاوة على البندقية المغنومة، فيما يبدأ جنود الفوج المرابط قريباً من النبع، الخائفون الذين لا يعرفون ما الذي جاء بهم الى هذه البيئة الغريبة المعادية، بإطلاق نارٍ عشوائي كثيف يغطي على رعبهم. وتنتشر الحكاية، وتأخذ أبعاداً واسعة: تتحول في حكايات الثوار التي تتوارثها الأجيال الى هجوم بطولي من دلير يقتل فيه ثلاثة جنود ويجرح الرابع ويسقط فوجاً كاملاً ويشعل فتيل انتفاضة تجبر العدو على الفرار من المنطقة، وتتحول عند الجيش النظامي الى (هجوم لأكثر من مئة مسلح من العصاة من جهة.. ومجموعة أخرى بعدد مماثل من جهة أخرى.. خسائرنا جندي جريح.. خسائرهم عشرة قتلى.. قمنا بانسحاب تكتيكي!)
أعتقد بأن عنوان الرواية نفسه يحمل الكثير من المدلولات؛ إنه شاب عارٍ إلا من طيبته وأحزانه، وهو يحمل بندقيتين ربما في إشارة الى إنه يحارب على جبهتين: داخلية-نفسية-اجتماعية وأخرى مع عدوٍ خارجي يحاول إركاع شعبه! ومأساة دلير المتهور، الحالم، العاشق، الذي يقتحم الموت، المتمرد الذي يسجن لمخالفته الأوامر العسكرية لقيادة الثورة، مأساته أنه لا يستطيع الذوبان. إنه يريد أن يغرد بأغنيته الشخصية البسيطة في عالم تصم فيه الآذان أصوات الرصاص وأنين القرى المقصوفة وضربات السياط. إنه في النهاية (لا يريد شيئاً سوى جافشين) وهو رغم بطولاته الشخصية التي صارت كالأساطير لا ينسى إنسانيته وحبه للسلام وتجرده من الأحقاد، فيكتب في مذكراته أن "الحرب أقدم الحلول وأغباها وأكثرها بدائية وتكلفة وعقما. لا أحد يحبها ولكن إذا اقترب شبحها ستخوض غمارها سواء بحريتك أو مجبرا للدفاع عن نفسك.. الحرب استمرار للسياسة بوسائل أكثر غباءً وعنفاً ودموية"
ربما لن يفاجأ القارئ بأن البطل المقابل antagonist  في هذه الرواية (والذي يكاد يحتل مساحة موازية لمساحة دلير) ليس سوى الآغا (الجد والإبن والحفيد وابن الحفيد الخ) إنه، منذ أجيال وأجيال، الجامع لكل السلطات، الذي يتحالف أحيانا مع رجل الدين ولكن من منطلق العلاقة الشرقية القديمة بين العالِم والحاكِم. ويتحالف على الدوام مع أصحاب النفوذ في الموصل وبغداد والانكليز الخ مهما تغيروا وتبدلت مسمياتهم وشعاراتهم. إنه يتحكم (بسلطة الطاغية الأبوي) بأدق تفاصيل الحياة الشخصية لأتباعه-رعاياه، ويفرض همينته على آغوات القرى المجاورة وهم من أقربائه الأقل منه بطشاً وله القدرة أيضا على التكيف مع تحولات السلطة والتحايل على القوانين بل وحتى التحالف مع الثورة الناهضة واحتلال مواقع مهمة فيها.( في إحدى الالتقاطات المهمة وذات المغزى العميق يكتشف الشباب الهاربون من ظلم الأغا أن ابنه يستلم منصبا قياديا في صفوف الثوار!)
والعجيب أن صور الحفيد والابن والجد تختلط في النهاية في الذهن وتغيب الحدود بينها؛ فالبطش والقسوة هما السمتان الغالبتان على تصرفاتهم، وتهديد سلطتهم ونفوذهم هو الخط الأحمر الذي يمكنهم أن يرتكبوا دونه أية جريمة. وهم إذ يقدمون على القتل بدم بارد يفلسفون جرائمهم (رغم اختلاف مستويات ذكائهم) مرددين دون وعي ما يلجأ اليه الطغاة من مبررات على مدى التاريخ: أقتل كي لا تقتل. الحزم حليف الظفر. كن ميت القلب. الله يريدهم فقراء الخ
في روايته الثانية هذه (بعد روايته أغنيات الطريق الى حلبجه – 2014) يريد عبد الكريم يحيى، القادم بقوة وثقة من عالم النقد الأدبي الى عالم الرواية، أن يقول الكثير من الأشياء في صفحات قليلة، وأن يسرد الكثير من الأحداث ويرسم صوراً قلمية للعديد من أبطاله، وهذه بالطبع، غواية يصعب التملص منها دون الإمعان في التكثيف والتتابع السريع للفصول والمشاهد المتداخلة، رغم أن الكاتب-السارد (ربما بسبب خلفيته النقدية  وقراءاته النهمة) لا يستطيع امساك نفسه في بعض الأحيان عن الاسترسال في عرض أحكامه ووجهات نظره الشخصية في بعض الأحداث والتحولات. وأنا شخصياً أتأمل منه أن يصل هذا الجزء بأجزاء أخرى.

صدرت الرواية مؤخراً في 172  صفحة من القطع المتوسط عن دار سبيريز للطباعة والنشر في دهوك وصمم غلافها الفنان نجم الدين بيري. لوحة الغلاف من جريدة أخبار لندن المصورة في 9 تشرين الثاني 1895 .

(نشرت في جريدة الزمان البغدادية)

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية