سبع مدن.. سبعة صواريخ

 


أرجوكم صدقوني. هل عرفتم عني أنني كذبت أو بالغتُ في رواية شيء من قبل؟ ولست مخبولا طبعا. لا أظن أن أحدكم يمكن أن يشكك في قواي العقلية أو يتهمني بتعاطي تلك الأمور التي يتحدثون عنها.
كل ما سأرويه لكم حدث لي أنا شخصياً، رأيته بعيني التي سيأكلها الدود وسمعته بأذني التي تسمع دبيب النمل.
حدث هذا قبل خمسة أيام. يوم الثلاثاء الماضي بالتحديد. قبيل الفجر بساعة أو ساعتين. كثيرا ما أستيقظ في مثل هذه الأوقات -كما تعرفون- لأتبول أو أشرب قدحا من الماء قبل أن أغط ثانية في النوم. رأيته هناك، جالساً بهدوء على الأريكة المواجهة للتلفزيون المطفأ. حاولت في البداية أن أقنع نفسي بأنني أحلم، لكن واقع الحال أكد لي عكس ذلك ولهذا تملكني خوف هائل خارج عن كل وصف؛ وأظن أن هذا أمر طبيعي يحدث لكل من يسوقه حظه –هل أقول العاثر- لمقابلة كائن خارق (قادم من كوكب بعيد أو من بعد فيزياوي أو روحي لا يمكن التأكد منه).
ها؟ هل بدأتم بالضحك؟ أنا أعذركم طبعاً ولكن ماذا ستقولون إذا سمعتم بقية الحكاية؟
لن أشغلكم بشكله أو طريقة كلامه أو مشيته أو ... الخ. فهذا كله سأتركه لمخيلتكم. سأدخل إذن في صلب الموضوع كما فعل هو معي:
كنت أفكر بما يمكن أن أفعل. هل أهجم عليه؟ هل أصرخ طالبا النجدة؟ هل أقفز من الشباك؟ لكنه كما يبدو كان يقرأ أفكاري فطلب مني أن أهدأ (كان لطيفا في الحق وربما ساحرا أيضا فسكن خوفي على الفور) عرفني بنفسه وقال إنه موفد من "هناك" وأفهمني بأنه قادمٌ في مهمة محددة وهي إقناعي-وإرغامي إن لزم الأمر، وهو أمر لا يريد أن يضطر اليه- على اختيار سبع مدن أرضية لتكون هدفاً لسلاحهم المدمر الجديد!
-ماذا؟؟؟ سلاح مدمر؟
-وفتاك الى درجة لا يمكن لعقلكم القاصر أن يدركها.
(طبعاً رفضت واستهجنت بشكل لا يقبل الشك. وقبل ذلك طلبت منه أن يكرر طلبه بأوضح العبارات وسألته بإلحاح شديد أن يتأكد مما يقول)
-سبع مدن .. سبعة مواطن للشرور والكراهية والغباء.. تختارها أنت.. نجرب عليها سلاحنا الجديد .. لا تسئ فهمي، فنحن في العادة أناس مسالمون، لكن الاحتياط واجب، ونحن ، أعني في كوكبنا، لدينا القدرة على توقع ما يحدث في المستقبل وإن بشكل غامض.. وأنتم ، أعني كوكبكم، تشكلون خطراً على الآخرين ومنهم مجموعتنا s22f3c إن كنت قد سمعتَ بها.
-نعم بالتأكيد (كانت كذبة مفضوحة بالطبع لكنني عدت الى السؤال) ولكن ماذا سيحدث لهذه المدن؟
-أعتقد بأنها ستباد تماماً .. تختفي عن الوجود؟
-وماذا ستستفيدون من إبادة هذه المدن ؟
-هذا أمر لا يمكنكم إدراكه. ولكن كان من الأجدر أن تسأل عما ستستفيدونه أنتم.
-نحن ؟ هل يمكن لعاقل أن يفكر بالاستفادة من عمل سادي كهذا؟
-ذلك يعتمد عليكم.. فكر مليا واختر سبعا من المدن التي تظنها الأكثر خطراً على مستقبل الحياة في كوكبكم وفي بقية الكواكب المأهولة.
-لكنكم ستدمرون مدنا بأكملها.
-مدنا كبرى رجاءً (صحح لي)
-ومدناً كبرى أيضاً! بكل ما فيها ومن فيها: الصغار والكبار، الأبرياء والمجرمين. إنه ببساطة أمر غير أخلاقي، وحشي.. جنوني..
-ولم لا؟ كتبكم المقدسة تتحدث عن كثير من تلك الحالات.
-هذا بحث آخر، تلك كانت مشيئة الله!
-أن يبيد مدنا أو قرى بأكملها؟
-نعم، ولا بد أن له –سبحانه- أسبابه ليفعل بها ذلك.
-مثلا؟
-مثلا. أن تعصيه، أو تكذب بأحد أنبيائه، أو تمتلئ بالجور أو الفسق أو الطغيان أو...
-وهذا ما نريده بالضبط: أن تختار لنا المدن السبع التي ملئت بالأمور الأخيرة التي ذكرتها، والتي تنشر الخراب والتطرف والأحقاد في كوكبكم.
(لم أكن وأنا أتحدث اليه في وضع يسمح لي بالتفكير .. مجرد التفكير في تنفيذ طلبه السخيف هذا.. ولكنني كنت أجادله .. أجادله فقط)
-ولكن لماذا اخترتموني أنا بالذات.
-لست وحدك. لقد قدمنا هذا الطلب الى عدد كبير من الأشخاص المختارين في كوكبكم. سنجمع النتائج ونحللها ثم نتخذ القرار. شيء مثل الاستفتاءات التي تجرونها بين الفينة والأخرى. أما لماذا اخترناك أنت بالذات فلا يمكن أن أعطيك سبباً محدداً. ربما لأنك شخص راجح العقل وقارئ جيد للتاريخ.. وغير متزوج! كما إننا قرأنا بعضاً مما كتبته في الصحف.
-وماذا إذا رفضت؟
-لا مشكلة. سنختار شخصا آخر من هذه البلدة (وتوجه الى النافذة وأزاح الستار وطلب مني أن أقترب) هاك. أنظر هناك (وأشار الى شبح يترنح تحت عمود النور في الشارع الخالي) يمكن أن نكلف ذلك الرجل هناك بأن يختار لنا ما نطلب.
-من، هبّاش العرقجي؟
-هل تعرفه؟
-ومن لا يعرفه في الحي، بل في المدينة كلها؟ انه عجوز وغد متسول لا يكاد يصحو من سكره.
-ربما يكون الشخص المناسب، ولم لا (وأشار بإصبعه نحوه فالتمتعت نهايته بضوء احمر خافت)
-ماذا تفعل وما هذا الضوء الخارج من إصبعك؟
-لا شيء. انني اسجل البيانات الخاصة بهذا الشخص. هاباس اركاجي..
- هبّاش العرقجي (صححت له وأنا غارق في ذهولي)
-لا يهم... اسمع أيها السيد. سنمنحك سبعة أيام بالتوقيت الأرضي، ونأمل أن تكون قد فكرت جيداً واخترت المدن المناسبة. ولعلمك: نحن نمنح مختارينا أفضلية أن لا يكونوا (هم وخمسة ممن يختارونهم) ممن ستشملهم الإبادة في حال قرروا أن تكون مدينتهم بالذات واحدة من المدن التي ستفنيها الصواريخ.
-أهذه رشوة؟
-لا. لكننا نعرف أنكم لا تفعلون شيئاً دون ثمن.
-ولكن اسمع يا سيد...
غير أنه كان قد اختفى.. اختفى مثلما جاء...
***
ماذا تقولون؟ ربما كان حلما أو هلوسات في آخر الليل؟
أنا أيضا فكرت في ذلك. قرصت نفسي لأتأكد بأنني لست نائما ثم ذهبت الى الحمام وغسلت وجهي بالماء البارد. حاولت أن أقنع نفسي بنسيان كل شيء، ولكن.. ماذا عن هذه الورقة التي وجدتها متروكة على المنضدة؟ هل تريدون أن أقرأها لكم؟ حسنا:
-الاسم الرباعي واللقب. محل السكن. العمر. الجنس. الديانة. ثم هذا الجدول الصغير: اسم المدينة التي ترشحها. واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة ستة سبعة. الدولة التي تقع فيها. سبب الاختيار بما لا يزيد على عشر كلمات للمدينة الواحدة. في حال كون مدينتكم ضمن المدن المرشحة، أذكر أسماء الأشخاص الذين تريد إنقاذهم مع ذكر الأسباب المقنعة، واحد اثنين ثلاثة أربعة خمسة. ثم هذه الرموز أو الأرقام المكتوبة بلغة لا أظن أن أحدا في الأرض يعرف كنهها..
***
ناولوني كأساً أخرى!
والآن. قلتم في أي يوم نحن؟ آها.. الأحد..؟
بقي إذن يومان. لا بل يوم ونصف. ثلاثون ساعة وعشرون دقيقة بالتحديد. أرجوكم. افعلوا شيئا.. ساعدوني في تحديد المدن السبع وإلا سرقوا صوتي ومنحوه لأي مجنون أو وغد يصادفونه في الشارع.. أرجوكم!


نشرت في صحيفة العالم البغدادية

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية