التنين الحادي والخمسين0قصة مترجمة



التنين الحادي والخمسون


قصة: هيوود براون[1]

ترجمة: د. ماجد الحيدر




من بين جميع الطلبة في معهد الفروسية كان "جاوين لو كور هاردي"[2] أقلهم تبشيراً بالخير. كان قوياً طويل القامة، لكن مدرسيه سرعان ما اكتشفوا أنه يفتقر الى العزيمة، فقد كان يسرع الى الاختباء في الغابة حين يبدأ درس المثاقفة[3]، رغم أن زملاءه وأعضاء المعهد كانوا يحثونه على إبراز أفضل ما في طبيعته بأن يصيحوا به كي يخرج ويدق رقبته كما يفعل الرجال. وحتى عندما كانوا يخبرونه إن رؤوس الرماح ملفوفة بالقماش وإن الخيول ليست أكثر من بونيات[4] كان "جاوين" يرفض أن يتحمس.

في إحدى الأمسيات الربيعية كان مدير المعهد والأستاذ المساعد لشؤون الترفيه يناقشان هذه الحالة. وكان الأستاذ المساعد لا يرى حلاً سوى الطرد.

-"كلا" قال المدير وهو يتأمل التلال الأرجوانية التي تحيط بالمعهد "أعتقد أنني سأدربه على قتل التنائن "

-"لكنه قد يموت" اعترض الأستاذ المساعد.

-"هذا أمر وارد" أجاب المدير وقد أشرقت أساريره، لكنه أردف في رزانة "علينا أن نفكر بالمنفعة الأعظم، فنحن مسؤولون عن تكوين شخصية هذا الولد"

-"وهل تنائن هذا العام شرسة أكثر من المعتاد؟" قاطعه الأستاذ المساعد. كان هذا جزءً من طبعه، فقد كان يشعر بالضجر حين يشرع المدير بالحديث عن الأخلاق وعن مُثُل المعهد.

-"أسوأ من أي وقتٍ مضى" أجاب المدير "هناك عند التلال قتلتْ عددا من الفلاحين وبقرتين وخنزيراً، وإذا ما استمرت موجة الحر هذه فمن يعلم متى تشعل النار في الغابة بنفخة طائشة من منخريها"

-"وهل سيتحمل المعهد أية تبعات مالية إذا تعرض الفتى "كور هاردي" الى حادثٍ ما؟"

-"كلا" أجاب المدير بحصافة "العقد الموقّع يغطي كل هذه الأمور. لكنه -في الحقيقة- لن يموت، لأنني سأجهزه بكلمة سحرية قبل أن أرسله الى التلال"

-"هذه فكرة جيدة" قال الأستاذ "إنها تفعل الأعاجيب أحياناً"

ومنذ ذلك اليوم تخصص "جاوين" بالتنائن. وكان منهاجه الدراسي يتضمن دروساً عملية ونظرية. فكان يتلقى في الصباح محاضراتٍ مطولةً عن تاريخ التنائن وتشريحها وعاداتها وتقاليدها. لم يكن "جاوين" متفوقاً في هذه الدراسات، فقد كان يملك موهبة عظيمة ورائعة في نسيان الأشياء. لكنه كان يكشف بعد الظهر عن ميزة أفضل، إذ ينزل عندها الى المرج الجنوبي ويتمرن بفأسِ الحرب. ولقد كان في تمرينه هذا مثيراً للإعجاب حقاً. فقد كان في غاية السرعة والقوة والمهارة حتى إنه طوّر استعراضاً ماكراً في استخدام القوة. يقول الخريجون القدامى إنهم كانوا يشعرون بالإثارة وهم يراقبون "جاوين" إذ يقتحم الميدان نحو دمية التنين الورقية التي نصبت لتدريبه. كان يندفع راكضاً وهو يلوّح بفأسه ويصيح "فليصبك الطاعون!" أو غيرها من العبارات المتداولة في حرم المعهد. ولم يكن الأمر ليحتاج إلا الى ضربة واحدة ليطيح برأس التنين الدمية.

كانت مهمته تُزاد صعوبة بالتدريج؛ فقد استُبدِل الورق بنشارة الخشب المضغوطة وأخيراً بالخشب نفسه، لكن أصلب تلك الدمى لم تكن لتثير الخوف في نفس "جاوين"، إذ كانت ضربة واحدة تفي بالغرض على الدوام. صحيحٌ أن البعض ادعى أنه لم يكن يندفع بالتهور نفسه أو يرفع صوته بالقدر نفسه عندما كان تمرينه يطول حتى يحل الغسق وتلقي التنائن ظلالها الطويلة على أرض المرج، لكن هذه التهمة ربما شابها شيء من الخبث. على أية حال، قرر المدير مع نهاية شهر حزيران أن الوقت قد حان لأجراء الاختبار، ففي الليلة السابقة اقترب أحد التنائن من باحة المعهد وأكل عددا من رؤوس الخس من الحديقة. فارتأت إدارة المعهد أن "جاوين" أصبح مستعداً فمنحته شهادة دبلوم وفأساً جديدة واستدعاه المدير الى اجتماعٍ خاص.

-"اجلس" قال المدير "خذ سيجارة" ....تردد "جاوين"

-"أعرف أن هذا مخالف للوائح" قال المدير "لكنك نلت شهادتك الأولية ولم تعد صبيا. أنت رجل، وغدا ستخرج الى عالم الأفعال العظيمة"

تناول "جاوين" سيجارة وقدم له المدير علبة ثقاب لكنه أخرج علبته وشرع ينفذ الدخان بمهارةٍ أدهشت المدير.

-"لقد تعلمتَ هنا نظريات الحياة" قال المدير واصلاً خيط أفكاره "لكن الحياة على أية حال ليست نظريات فقط، الحياة حقائق، وهي تطالب الكبير والصغير على السواء بأن يواجه هذه الحقائق حتى لو كانت قاسية أو مرة أحياناً. مشكلتك، على سبيل المثال، هي ذبح التنائن"

-"يقولون أن التنائن في الغابة الجنوبية تبلغ الخمسمائة قدما طولاً" غامر "جاوين" بالقول وهو يشعر بالهلع.

-"هراء وأكاذيب!" قال المدير "لقد رأى مساعد الخوري واحداً منها من قمة تل آرثر. كان التنين يتشمس في الوادي. لم يتح لمساعد الخوري أن يطيل النظر إليه لأنه أحس بأن من واجبه أن يسرع بالعودة ويقدم لي تقريراً بالأمر، لكنه قال إن الوحش، أو لنقل السحلية الكبيرة، لم تزد إنجاً واحداً عن المائتي قدم. غير أن الأمر لا يتعلق بالحجم. بل إنك ستكتشف أن التنائن الكبيرة أسهل من تلك الصغيرة، فهي أبطأ وأقل عدوانية كما قيل لي. أضف لذلك أنني سأقوم بتجهيزك قبل ذهابك بطريقة لا تحتاج معها الى الخوف من أي تنين في العالم"

-"أرغب في طاقية مسحورة" قال "جاوين"

-"وما ذاك؟" أجاب المدير منزعجاً.

-"طاقية إخفاء" أوضح "جاوين"

أطلق المدير ضحكة متسامحة.

-"عليك ألا تصدق قصص العجائز تلك" قال المدير "لا يوجد شيء كهذا. قبعةً تجعلك خفياً، عجباً! وماذا تفعل بها؟ أنت حتى لم تظهر بعدُ. أي بنيّ، إن في مقدورك أن تسير من هنا الى لندن دون أن يكلف أحد نفسه عناء النظر اليك. أنت لاشيء. ولن تكون أكثر خفاءً مما أنت فيه"

كان "جاوين" على شفا النكوص الى عادته القديمة من الأنين والبكاء، لكن المدير طمأنه:

-"لا تقلق، سأعطيكَ شيئاً أفضل بكثير من الطاقية المسحورة. سأعطيك كلمة سحرية. كل ما عليك هو أن تنطق بهذه التعويذة السحرية مرةً واحدةً ولن يقدر أي تنين أن يؤذي شعرةً واحدةً في رأسك، وسوف تستطيع قطع رأسه على راحتك"

وسحب كتاباً ثقيلاً من رفٍ خلف منضدته وشرع بتقلبيه.

-"أحياناً" قال المدير "تتكون التعويذة من عبارة كاملة أو حتى جملةٍ برمتها. ربما أعطيك، على سبيل المثال"ليتحول الـ..."-لكن لا، هذا قد لا ينفع. أعتقد أن كلمة واحدة ستكون أكثر نفعاً مع التنائن"

-"كلمة قصيرة" اقترح "جاوين"

-"يجب ألا تكونَ شديدة القصر وإلا لن تكون قوية. هاك. هذه كلمة سحرية رائعة: "رامبلزنتز" هل تظن أنك قادر على تعلمها؟"

بذل "جاوين" جهده وفي خلال ساعة تقريباً بدا عليه أنه تمكن منها، وكان يقطع الدرس مرة بعد مرة ليسأل:

-"وماذا إذا نسيت أن أقول رامبلزنتز؟ هل يُحتمَل أن يؤذيني التنين؟"

وكان المدير يجيبه كل مرة:

-"لو قلت رامبلزنتز وحسب فسوف تكون في أمان تام"

ومع اقتراب الصباح بدا أن "جاوين" تقبل مهنته الجديدة. وعندما انبلج النهار شيعه المدير حتى حدود الغابة وأراه الجهة التي ينبغي أن يمضي فيها. فعلى مسافة ميلٍ الى الجنوب الغربي كانت غمامة من البخار تحوم فوق مرج مفتوح وسط الغابة وأكد له المدير أنه سيجد تحتها تنين ما. تقدم "جاوين" في بطء. وتساءل مع نفسه إن كان من الأفضل أن يندفع راكضاً كما في التمارين أو أن يسير نحوه على مهل وهو يصيح رامبلزنتز طوال الطريق.

لكن القدر حل المسألة نيابة عنه. فما أن دنا من حافة المرج حتى أبصره التنين وبادر الى التقدم نحوه. كان تنيناً ضخماً لكنه شرس للغاية على عكس ما قاله المدير. كان يتقدم وينفث من منخريه سحائب ضخمة من بخار ذي هسيسٍ مخيف فبدا مثل إبريق شايٍ عملاق أصيب بنوبة من الجنون.

كان التنين يقترب بسرعة عظيمة وكان خوف "جاوين" عظيماً هو الأخر فلم يملك من الوقت إلا ليقول رامبلزنتز مرة واحدة فقط لوح معها بفأسه وهوى على رقبة التنين فتدحرج رأسه على الأرض.

اضطر "جاوين" الى الاعتراف بأن قتل التنين الحقيقي أسهل بكثير من التنين الخشبي لو انه فقط نطق بكلمة رامبلزنتز، وعندما عاد الى المعهد حاملاً أذني التنين وقطعة صغيرة من ذيله قابله زملاؤه ومدرسوه بالحفاوة والتبجيل، لكن المدير رأى بحكمته أن يبعده عن الدلال وذلك بأن أصر على أن يمضي في عمله. في كل يوم، وعندما يكون الجو صاحياً، كان "جاوين" يستيقظ عند الفجر ويخرج ليقتل التنائن. أما في الأيام الماطرة فكان المدير يبقيه في الداخل ويفسر ذلك بأن الغابات تكون رطبة ومضرة بالصحة في تلك الأجواء وبأنه لا يريد أن يعرّض الولد الى مخاطر إضافية لا داعي لها. قليلة هي الأيام الصاحية التي لم ينجح فيها "جاوين" في اقتناص تنين، لكن الحظ حالفه مرة بشكل غير معتاد فاقتنص ثلاثة منها في يوم واحد: زوجاً وزوجة وقريبا كان يزوهما. وأخذ "جاوين" يطور شيئاً فشيئاً تكنيكه الخاص. فقد قال التلاميذ الذين كانوا يراقبونه أحياناً من مسافة بعيدة فوق قمة التل أنه كان في مرات كثيرة يسمح للتنين بالاقتراب الى مسافة بضعة أقدام قبل أن يقول رامبلزنتز. ثم إنه صار يلفظها بنبرة ساخرة أو يعمد الى استعراض براعته؛ ففي ذات مرة، وعندما كان المشاركون في سفرةٍ مدرسية قادمة من لندن يراقبون عمله، أقدم على منازلة التنين وقد شد ذراعه اليمنى خلف ظهره، لكن رأس المسكين طار بنفس السهولة المعتادة.

كان المدير يجد صعوبة متعاظمة في التحكم بالفتى كلما تعاظم سجله في قتل التنائن. فقد صار معتاداً على الانسلال في الليل والانهماك في حفلات سكر طويلة في حانة القرية. وقد حدث في صباح صيفي رائع بعد واحدة من جلسات العربدة هذه أن نهض قبيل الفجر وخرج باحثاً عن تنينه الخمسين. كان جسده ثقيلاً وعقله مشوشاً غير أنه كان ثقيلاً في مجال آخر أيضاً، فقد تبنى العادة الفظة بعض الشيء المتمثلة بحمل كل نياشينه وأشرطته وما الى ذلك عندما يخرج في أثر التنائن. كانت الأوسمة تبدأ من أعلى صدره وتنزل حتى بطنه، فكان وزنها ثمانية أرطال على أقل قدير.

عثر "جاوين" على تنين في نفس المرج الذي قتل فيه تنيناً أول مرة. كان متوسط الحجم لكنه طاعن في السن، كما ظهر من وجهه المجعد الذي جعل "جاوين" يجزم أنه لم ير مثيلاً له في البشاعة. ومما زاد في اشمئزاز الصبي أن التنين رفض التقدم فاضطر "جاوين" الى أن يسير نحوه. كان يصفر بفمه هو يقترب، ونظر اليه التنين في يأسٍ مشوب بالمكر. لقد سمع طبعاً بأخبار "جاوين" فلم يحرك ساكناً حتى عندما رفع الصبي فأسه ليقينه بأن لا خلاص له حتى لو اندفع مهاجماً بكل سرعته، فقد أخبروه أن هذا الصياد محروسٌ بتعويذةٍ سحرية فاكتفى بالانتظار، آملاً أن يحدث ما يقلب الأمور. رفع "جاوين" فأسه وفجأةً أنزلها ثانية وهو يختض من الخوف وقد شحب وجهه تماماً. شكَّ التنين بوجود خدعة ما.

-"ما الأمر؟" سأل في قلقٍ كاذب.

-"نسيتُ الكلمة السحرية" تمتم "جاوين".

-"يا للأسف" قال التنين "هذا هو السر إذن. أنت تدري، كل تلك السخافات السحرية تبدو لي بعيدة عن العدالة. ليس فيها روح رياضية كما اعتدنا على القول عندما كنت تنينا صغيراً. ولكن، وعلى كل حال، هذه مسألة وجهات نظر"

كان الخوف قد شل "جاوين" فارتفعت ثقة التنين بنفسه الى درجة عظيمة حتى لم يعد قادراً على مقاومة ما يغريه باستعراض بعض مواهبه.

-"هل يمكنني أن أفيدك بشيء؟" سأل التنين "ما هو الحرف الأول من الكلمة السحرية؟"

-"إنها تبدأ بالراء" أجاب "جاوين" في وهن.

-"دعنا نفكر" قال التنين "هذه المعلومة لا تفيدنا كثيراً، أليس كذلك؟ أي نوع من الكلمات هي، هل هو لقب؟ ماذا تقول؟"

لم يستطع "جاوين" إلا أن يومئ برأسه.

-"آه، طبعاً" صاح التنين "رجعي من أنصار الحزب الجمهوري؟"

هز "جاوين" رأسه نافياً.

-"حسنا إذن. من الأفضل أن نبدأ بالعمل. هل تستسلم؟"

شجع اقتراح التسوية هذا "جاوين" على أن يستجمع ما يكفي من شجاعته ليسأل:

-"وماذا ستفعل إذا استسلمتُ؟"

-"سآكلك بالطبع"

-"وإذا لم أستسلم؟"

-"سآكلك أيضاً"

-"لا فرق بالنسبة لي إذن، أليس كذلك؟" تأوه "جاوين".

-"لكن هناك فرق بالنسبة لي" قال التنين مبتسماً "أنا أفضّل ألاّ تستسلم"

انتظر التنين طويلاً حتى يسأل "جاوين" عن السبب، لكن الصبي كان أكثر خوفاً من أن ينطق بشيء، فاضطر التنين الى يعطي تفسيراً دون أن ينتظر دوره في المهزلة:

-"أنت تدري" قال التنين "إن لم تستسلم سيكون طعمك ألذ لأنك ستموت مفتَرساً"

كانت هذه إحدى حيل التنين القديمة المعروفة. فقد اعتاد عن طريق مثل هذه المراوغات أن يشل ضحاياه بالضحك ثم يقضي عليهم. لكن "جاوين" كان مشلولاً دون حاجة الى الضحك. ومع آخر كلمة من النكتة رجع التنين برأسه الى الخلف ثم انقض مهاجماً. في تلك الثانية أبرقت الكلمة السحرية في ذهن "جاوين" لكنه لم يملك الوقت كي ينطقها. كان لديه فقط وقتاً ليضرب بفأسه دون كلام فقابل اندفاع التنين بضربة قاصمة وضع فيها كل ما في ظهره وكتفيه من قوة. وكانت النتيجة رهيبة، فقد طار رأس التنين مائة ياردة تقريباً ثم حط على إحدى الأجمات.

زال خوف "جاوين" بعد موت التنين. لكنه كان في حالة من الذهول. كان شديد الحيرة والارتباك. فقطع أذني التنين دون أن يشعر تقريباً. وظل يفكر مرة بعد مرة "لم أنطق كلمة رامبلزنتز" كان متأكداً من ذلك ولكنه قتل التنين دون أدنى شك. بل إنه في الحقيقة لم يقتل واحداً بمثل هذه الشدة. ولم يسبق له أن أطار رأساً الى هذه المسافة. كان أفضل رقم سجله قبل ذلك هو خمس وعشرون ياردة في أفضل تقدير. وظل طوال طريق العودة الى معهد الفرسان يدمدم في داخله باحثاً عن تفسيرٍ لما حدث.

توجه من فوره الى مكتب المدير. وبعد أن أغلق الباب أخبر المدير بما حدث:

-"لم أقل رامبلزنتز" شرح للمدير بكل جد. فضحك المدير وقال:

-"أنا سعيد لأنك اكتشفت ذلك. هذا ما يجعلك أكثر بطولةً. ألا ترى ذلك؟ ها إنك تعرف الآن أن من قتل كل تلك التنائن هو أنت، لا كلمة رامبلزنتز التافهة الحمقاء"

تجهم وجه "جاوين" وسأل مديرَه:

-"لم تكن كلمة تلك إذن سحرية؟"

-"كلا بالطبع" أجاب المدير "يجب أن تكون أنضج من هذه السخافات. لا يوجد شيء اسمه كلمة سحرية"

-"لكنك أخبرتني أنها سحرية" احتج جاوين"لقد أخبرتني أنها سحرية. وتقول الآن إنها ليست كذلك"

-"لم تكن سحرية بالمعنى الحرفي" أجاب المدير "لكنها كانت أروعَ من ذلك بكثير؛ فقد منحَتك الكلمةُ الثقة بالنفس، وأزالت عنك كل مخاوفك. لو لم أخبرك بذلك لمتَّ من أول مرة. لقد كان الفضل لفأسك في إنجازاتك الرائعة"

أثار موقف "جاوين" حيرة المدير. لقد كان واضحاً ما أدخله هذا التفسير من اضطراب على نفسه، إذ ظل يقاطع حديث المدير الفلسفي والأخلاقي قائلاً:

-"لو لم أكن ضربتهم بقوة وسرعة هائلتين لكان أي واحد منهم قد سحقني مثل، مثل ...." وتلعثم باحثاً عن الكلمة المناسبة.

-"قشرة بيضة" اقترح المدير.

-"مثل قشرة بيضة" أكد "جاوين" وكررها عدة مرات. وظل الطلبة الذين جلسوا قربه خلال العشاء يسمعونه وهو يدمدم "مثل قشرة بيضة، مثل قشرة بيضة"

كان اليوم الثاني صحواً، لكن "جاوين" لم يستيقظ عند الفجر. بل إن الوقت كان قد شارف الظهر عندما وجده المدير منكمشاً في فراشه وقد تغطى حتى رأسه، فاستدعى المدير الأستاذ المساعد لشؤون الترفيه وجرجراه سوية حتى الغابة.

-"سيكون على ما يرام ما أن يضع زوجاً آخر من التنانين تحت حزامه" شرح المدير. فوافقه الأستاذ المساعد لشؤون الترفيه:

-"سيكون من العار إيقاف هذه السلسلة الرائعة من النجاحات"

-"بالتأكيد. لو حسبنا تنين البارحة سيكون قد قتل خمسيناً منها"

ودفعا الصبي نحو أجمة تعلقت فوقها غيمة نحيلة من البخار. كان تنينا صغيراً كما هو واضح، لكن "جاوين" لم يعد في تلك الليلة ولا في الليلة التالية. وبعد عدة أسابيع أقدم بعض شجعان المعهد على تفتيش الأجمة لكنهم لم يعثروا على ما يذكرهم بـ"جاوين" غير الأجزاء المعدنية من أوسمته، فلم تسلم حتى الأشرطة من الالتهام.

اتفق المدير مع الأستاذ المساعد لشؤون الترفيه على أن من الأفضل ألا يخبرا المعهد كيف أنجز "جاوين" هذا الرقم القياسي وأن لا بأس في كتمان الطريقة التي مات بها. فقد ارتأيا أن ذلك سيكون له أثر سلبي على معنويات التلاميذ. وبناءً على ذلك ظل "جاوين" يعيش في ذاكرة المعهد باعتباره أعظم أبطاله. ولا يستطيع زائر أن يغادر البناية هذه الأيام دون أن يرى الدرع العظيم المعلق على جدار صالة الطعام. كان خمسون زوجاً من آذان التنائن مثبتاً على الدرع وقد خُط تحته بحروفٍ مذهبة "جاوين لو كور هاردي" ثم وبخطٍ بسيط "قتل خمسين تنينا" ولم يصل أحد الى هذا الرقم القياسي.





[1] Heywood Campbell Broun (1888-1939) صحفي وناقد وناشط سياسي أمريكي. أسس نقابة الصحف الأمريكية وشارك بقلمه في الدفاع عن المحرومين والمظلومين وكان مؤمناً بقدرة الصحفي على معالجة الشرور والأمراض الاجتماعية والأخلاقية. بدأ حياته المهنية كاتباً للتعليقات الرياضية ثم تحول الى ناقد درامي الى جانب استمراره في كتابة الأعمدة اليومية وأشهرها عمود أسماه "يبدو لي" واظب على كتابته لسبع سنوات. شارك دون نجاح في انتخابات الكونغرس لعام 930 ممثلاً عن الاشتراكيين وكان أحد شعاراته التهكمية أثناءها "أفضّل أن أكون مصيباً على أن أكون روزفلت". ترعى نقابة الصحف الأمريكية جائزة سنوية باسمه تمنحها للصحفيين الذين يقدمون أعمالاً متميزة وخصوصا تلك التي تساعد على مكافحة الظلم. نشر العديد من الكتب والقصص والمقالات المجموعة. من أقواله الساخرة: سرعة البديهة هي الأقوال التي تتمنى لو إنك قلتها في حينها.

[2] Gawaine le Cœur-Hardy : جاوين في الإصل اسم أحد أبطال أسطورة الملك آرثر وفرسان المائدة المستديرة، وغريم أشهرهم السير "لانسيلوت" ويقال إنه حارب فارساً أخضر غامضاً. ومعنى "Cœur-Hardy " هو القلب الشجاع.

[3] المثاقفة "jousting" ضرب من الرياضة العنيفة كان شائعا في القرون الوسطى يتنازل فيها فارسان مدججان بالسلاح والدروع يندفع كل منهما نحو خصمه محاولا إسقاطه عن جواده بالرمح الذي يحمله.

[4] Pony فصيلة من الخيول الصغيرة الأحجام القصيرة القوائم.

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية