رائحة البطيخ
قصة قصيرة



صبيين كانا، في التاسعة عشرة من العمر والثامنة عشرة من العمر، في الصيف.. في آب بالتحديد.. في سيارة "واز" متهالكة بغطاءٍ قماشي مرقع.. على الطريق اللاهب بين الإسكندرية وبغداد. كانا عائدين من العمل الشاق الذي يبدأ في الخامسة صباحاً برحلةٍ مشابهة ولكن من بغداد الى الإسكندرية.
صبيين كانا ... أنهيا للتو دراستهما الثانوية.. يعملان في هذا المشروع الكبير كمساعدين للكهربائي .. يثقبان السقوف المسلحة والعوارض الأسمنتية الصماء، يحفران الأخاديد في جدران الطابوق المالح ، يقطعان الأنابيب المعدنية ، يمدانها في شبكات تبدو كالمتاهة فوق خارطة البناء.. ويعودان والشمس تنورٌ ساخن .. في هذه "الواز" الهادرة المقرقرة التي سلمهما إياها رب العمل ليحملا فيها العدد ومواد العمل ويعودا بها في العصر .. متعبَين .. متسخين.. وسعيدين .. نعم سعيدين.. أليسا فتيين .. قويين.. في الثامنة عشرة !؟
كان يجمعهما شيء أكبر من زمالة المدرسة، فمنذ التقيا قبل أربعة أعوام عرفا أن أشياء كثيرة تقرب بينهما : أفكار مشتركة، حب للشطرنج، للموسيقى ، للقراءة، للسياسة، وتعلق بهموم الناس وأحلامهم في عالمٍ جميل.. "نظيف كجناحٍ حمامة بيضاء" كما اعتاد أصغرهما .. القصير .. النحيل ... الذي يهوى الشعر أن يردد .. ولهذا لم يتركا فرصة ليكونا فيها معاً إلا واستغلاها.. كانا يحرصان على حضور المعارض الفنية في قاعة العرض القريبة، ومشاهدة الأفلام والمسرحيات الجديدة، والجولات الأسبوعية على مكتبات المتنبي والرشيد والسعدون. وعندما عرضت على أحدهما فرصة العمل الصيفي مع أحد أقربائه الأثرياء كان حريصاً على إشراك صاحبه معه كي يجمعا بعض النقود قبيل انطلاقتهما الجديدة في دروب الحياة .. الأول الى خارج البلاد كما كان يحلم على الدوام :
-ربما أعمل بحّاراً مثل ابن عمتي ... لا أستقر في ميناء إلا وأرحل الى آخر ... أشرعةٌ .. وجوهٌ .. بحار.. نساء .. أغنيات.. وخمر !
-أما أنا فسأكمل دراستي الجامعية وسأصبح مهندساً زراعياً إذا حالفني الحظ في القبول .. سوف أتزوج من حبيبتي وآخذها الى قريةٍ نائية... في ظل جبلٍ شاهق.. نزرع فيها قطعةَ أرضٍ صغيرة .. وسأجلس في الليالي عند موقدٍ حجري أبنيه بيدي .. أقرأ.. وأسمع الموسيقى .. وأكتب الشعر.. سأكون شاعراً عظيماً كما يقول الأستاذ بشار !
-إذا لم يحالفني الحظ في البحر سأعمل مصارعاً. ألا تقولون بأنني في وزن وقوة ثورين؟!
بَلا.. قويين كانا .. فتيينِ .. في الطريق الذي بدأ للتو يفقد شيئاً من حرارته ... في هذه "الواز" الهادرة، وصوت المغني الشجي يُسمع بالكاد من آلة التسجيل الصغيرة التي شُدت بطريقة مُضحكة فوق عداد السرعة العاطل :
لو غيِّمتْ دنياي...
لو غيِّمت دنياي...
دِنيه انته احس بيك ... والله يا بويه !!

واستدارا عند منعطف على يمين الطريق وتوقفا عند المحل الصغير ليبردا المحرك الملتهب ويشتريا قناني البيرة المعتادة : يسلمان "أبو ياقو" العجوز أربع قنانٍ فارغة ويستلمان أربعا غيرها "مجرشات" وكيساً من رقائق البطاطا .. ويتبادلان معه بعض الأحاديث الضاحكة والنكات الفاحشة التي تدور في أغلبها عن "أم ياقو" ولسانها الطويل ومغامرات العجوز الليلية معها. وعندما كانا يعودان الى السيارة كان حريصا على الخروج وراءهما والتلويح لهما وهما يغيبان عن بصره:
-الله معاكم.. توصلون بالسلامة ! .. كانا يذكرانه بياقو الذي لم يره منذ عشرين عاماً.
تثاقلا في رأس المنعطف الذي يعود بهما الى الشارع الرئيس ريثما يخلو الطريق قليلاً فمرت أمامها عربة حمل قديمةٌ تترنح تحت حمولة من البطيخ الأصفر المغطى بالحشائش وأعواد الريحان... هبت عليهما رائحة لذيذة كأنها قادمةٌ من حقولٍ مسحورة.. خليط من رائحة البطيخ والريحان ممزوجة بنسمة من هواءٍ الغروب القادم ربما من مسطح مائي قريب. نظر أحدهما الى الآخر وأشبعا صدريهما من الرائحة اللذيذة:
-لا تدع هذه السيارة تبتعد عنك كثيراً. سر خلفها حتى نصل الى بغداد ... ضع القناني تحت المقعد حتى لا يرونها في السيطرات العسكرية.. آه من هذه السيطرات ... كأننا مقبلون على حرب عالمية !
وسارا خلفها في مهل .. لم يكونا على عجالةٍ .. صبيان كانا وأمامهما العمر كله .. وتمنيا لو أن الطريق لا ينتهي ... وهذه الرائحة .. آه من هذه الرائحة! وصار صوت المغني أكثر وضوحاً... لو غيمت دنياي... لو غيمت دنياي !
... ... ...
-تقبل الله !
-تقبّل الله !
وانحنى الكهلان ليلتقطا نعليهما ويغادرا الجامع. لم ينظر أحدهما الى وجه الآخر سوى لحظة خاطفة. كانا مجرد كهلين التقيا بالصدفة في هذا الجامع الكبير ليؤديا صلاة المغرب. وسار الأول وهو يلهث ومر من أمام المقهى الذي يجلس على رصيفه صديقه الموظف الصحي وسأله سؤاله المعتاد:
-ها أبو محمد .. هل جاء دواء الضغط ؟
-ليس بعد.
-ودواء الربو؟
-ربما بعد غد.. لا تخف.. سأحجز لك علبتين.. ولكن عليك بتجديد بطاقة الأمراض المزمنة! تفضل. اجلس قليلاً يا حاج.
-لا.. شكراً.. سأسير الى البيت..
ومسح العرق عن وجهه المنتفخ المزرق. ومرّ من أمام محلات البقالة .. كان اثنان من الصبية ينزلان حملاً من البطيخ الأصفر .. وداهمت أنفه رائحة لذيذة .. كأنها قادمة من زمانٍ بعيد بعيد .. وتذكر فجأةً العجوز النحيل الذي التقاه وهو خارج من الجامع ... وسأل نفسه لماذا يبدو له هذا الوجه مألوفاً .. ربما رآه في الجيش؟ في البصرة؟ في مندلي؟ في الفاو؟.. أو ربما كان معه في الأسر؟ لم يكن متأكداً من شيء... فعشرون سنة من الأسر قد تفقد المرء الكثير من الذاكرة !!
وخرج الرجل النحيل القصير من الجامع .. وفتح القفل عن دراجته الهوائية المربوطة الى عمود الكهرباء المائل.. وانقبض صدره حين تذكر بأنه قد يهجر الدراجة الحبيبة بسبب آلام البواسير اللعينة... دراجته التي يحبها مثل .. مثل ولماذا يخجل من القول: مثل تلك الصبية التي لم تنتظره.. وفضلت ذلك الضابط الوسيم! أطلق زفيراً طويلاً ثم أخرج مشطه الصغير ومر به على شعره الفضي وشاربه الأشيب الكث.. وامتطى الدراجة بصعوبة .. ومرّ في الشارع نفسه.. أمام محلات البقالة نفسها.. وغمرت صدره رائحةٌ عجيبة .. خليط من رائحة البطيخ .. والريحان.. وتذكر فجأةً العجوز المترهل الذي التقاه وهو خارج من الجامع ... وسأل نفسه لماذا يبدو له هذا الوجه مألوفاً.. وأين يمكن أن يكون التقى به .. أيام الدراسة.. في الجيش .... أم يا ترى في السجن .. ما أدراه .. فسنوات التوقيف الثلاث صارت ذكرى بعيدة .. بعيدة .. لا يريد أن يتذكرها .. ولا يريد أن يتذكر تلك الورقة المشؤومة التي وقعها بيده الراجفة وأخرجته من الموقف الى المعهد الزراعي.. ثم الى جبهات الحرب .. وأخيراً الى سوق الدواجن حيث كشكه الحقير.. لم يكن متأكداً من شيء.. لكن حزناً مريراً غمر قلبه واغرورقت عيناه بالدموع دون سبب ظاهر .. ورنت في عقله أغنية بعيدة.. أغنية ظن أنه نسيها منذ زمن طويلٍ طويل.. وهناك أيضاً ... ربما على مبعدة أمتار قليلة .. كان صوت شجيٌ يملأ ذاكرة الرجل الآخر .... وانفرطت من عينه دمعةٌ مفاجئة ...
لو غيمت دنياي
لو غيمت .... دنياي !

دهوك 2/5/2009



ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية