في الذكرى السنوية لرحيلي-قصة قصيرة




في الذكرى السنوية لرحيلي!

قصة: د. ماجد الحيدر

وأخيراً، وبعد يومٍ مرهقٍ طويل، آويت الى فراشي. وتمنع النوم عليَّ مثلما يفعل في مثل هذه الحالات. فالتجأت الى رزمة الصحف التي تكدست فوق المنضدة الصغيرة قرب رأسي. بدأت بملفٍّ كامل أصدرته إحدى الصحف الأسبوعية عن حياة عالم اللغة الراحل (...)، ثم ثنّيت بمقالتين قصيرتين في رثاء الفنان الراحل (..) وأردفتهما بمقالٍ طويل استغرق عددين من الصفحة الثقافية لجريدتي المفضلة عن ظروف رحيل الشاعر العالمي (...)
....ولا نوم بعدُ ..
تقلبت مرة بعد مرة.. حاولت أن أرغم عقلي على الاستسلام لكن دون جدوى، فعدت الى جرائدي: مقالٌ متوسط الحجم في الذكرى الأربعين لرحيل الشاعر العراقي الخالد (....) ثم قصة قصيرة لم تنشر من قبل للقاص الراحل (....) وخبر عن أمسية في اتحاد الأدباء بمناسبة رحيل الشاعر (...) ودراسة نفسية عن آلام الشاعر الرومانسي العذب (...) والظروف التي رافقت رحيله...
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحاً حين بدأت جنية النوم الرقيقة تداعب أجفاني مثل أم حانية ورأيتني أغرق في أحضانها..
هناك في العالم الآخر المعتم كنت جالساً في غرفةٍ تشبه مكتبي. نشرتُ الصفحات الداخلية للجريدة فأبصرت لدهشتي صورةً قديمةً لي هي بالمناسبة الأسوأ من بين صوري السيئة جميعاً.. الى اليمين منها قرأت عنواناً بدا مألوفاً لدي؛ شيئاً قريباً من:
"في ذكرى رحيل الشاعر -ثم اسمي بخطٍ مائلٍ مميَّز- .... ...تمظهرات المخيلة الجدلية وتأثيث النص الشعري في ...الخ"
لم أفهم بالطبع كلمة واحدة من المقال، ربما لأنني كنت نائماً أو ربما لبلادة قديمة تعتريني كلما واجهتني جملٌ عويصة كتلك التي امتلأت بها المقالة، غير إنني أكملت القراءة ثم رحت أبحث عن اسم الكاتب وحاولت دون جدوى أن أتذكره، ثم أعدت النظر في الصورة ووبّختُ نفسي لأنني لم أحظَ طيلة حياتي بلقطة فوتوغرافية أتركها لعيالي أبدو فيها حقاً مثل شاعرٍ راحل. لقد كنت أبدو في كل تصاويري على هيئةٍ من اثنتين: أما مثل رجلٍ برم ينتظر في نفاذ صبر أن يتخلص من ورطةٍ ما أو مثل امرئٍ يوشك أن ينفجر بالضحك.
(هناك انقطاع في تسلسل الحلم ما عدت أذكره.. ثم..)
رأيتُني في مكتب محرر الصفحة الأدبية أحاول إقناعه بأنني لم أمت بعد وبأن هذا الذي نشره ليس إلا فرية وتطاول فظ على اسم كاتب مبدع مجدد رفد -وما يزال- الساحة الأدبية بالكثير من المنجزات الإبداعية التي .. الخ..الخ..
ورأيتُني أطنب كثيراً وتزداد نشوتي وأنا أكيل المدح الى نفسي حتى شعرت والله أن أقدامي ترتفع رويدا في الهواء وأحسست بالدوار فجذبت سترتي بقوة الى الأسفل حتى عادتا ولامستا الأرض..
كان المحرر الذي تداخلت ملامحه بملامح مديري في الابتدائية ينصت إليّ في دماثة وصبر حتى إذا فرغت من حديثي تثاءب وسألني بأدب وكأنه يراني أول مرة:
- تفضل. ماذا تريد؟
تلوّت أمعائي من الغيظ لكنني تمالكت نفسي واعدت شكواي برمتها، غير أنه تثاءب من جديد وأعاد علي السؤال نفسه وكأنه لم يسمع شيئاً. عندها انفجرت غاضبا وتفوهت بكلمات لم اعد أتذكرها غير أنها كانت حتما على درجة من البشاعة والغضب جعلتني ارتعد وابكي وأخلط الكلمات. عندها فقط انتبه إليّ المحرر الذي غير شكله مرة ثانية فصار شبيها بالفيلسوف الراحل (...) وتساءل في نبرة استنكار واستصغار:
-هل تريد إخباري أنك ما تزال على قيد الحياة.. هئ هئ هئ! تعالوا يا أصدقاء، هلموا يا زملاء! أنظروا الى هذا الرجل! يدعي أنه حيٌ يرزق!
وتجمع في الحال حشد من الناس لا أعرف من أين جاءوا. يا إلهي! إنهم هم! الشاعر الراحل (..) والقاص الراحل (..) والفنان الراحل (...) والعالم الراحل(...) والشاعرة الراحلة(...) والمفكر الراحل(...) والراحل .. والراحل.. والراحل..
لم يظهروا نحوي –والحق يقال- شيئاً من العداء بل كانت نظراتهم الصامتة نصف الزائغة مليئة بالإشفاق والرثاء.
- يا أخي (قال لي المحرر الذي بدل سيماءه للمرة الثالثة) يا زميلي، يا عزيزي. إن كان ما تقوله صحيحاً فما هذه العفونة التي تفوح من جسدك؟ وما هذا الشحوب الذي يعتريك؟ ولماذا لا تلامس أقدامك الأرض؟
لم أعرف ما أقول، فلجأت الى الحيلة القديمة: السباب والتلويح بالقبضة المضمومة. واندلق كأس من الماء لا أدري كيف ظهر على المنضدة ثم هوت أرضا لوحة من الخزف الصيني الرقيق اعترضت يدي فأحدثت صوت تهشمٍ كضربة من ضربات سيمفونية بتهوفن الخامسة. حاول المحرر –الذي ما عدت قادراً على متابعة تحولاته- أن يهدئ من روعي فأمسك يدي لكنني جذبتها بقوة فإذا بها تنفصل عن كتفي مثل فخذ دجاجة أطيل سلقها..
أحسست برعبٍ هائل فصرخت صرخةً عظيمة وأطلقت ساقيّ للريح لكنهم كانوا ورائي دون أن يبذلوا كبير عناء..
(انقطاع ثانٍ في تسلسل الحلم .. ثم..)
كنت مسجىّ فوق منضدة مرتفعة من المرمر الأبلق. الى يميني وبمستوى كتفي جلس ثلاثة من الرجال الذين بدوا على قدر كبير من الوقار والأهمية وأمام كلٍ منهم ميكرفون معدني وكأس من الماء وعلبة من المناديل الورقية. الى يساري امتدت بضعة صفوف من الكراسي. كان الصف الأول مشغولاً بعدد من النساء والرجال في أعمار متفاوتة يتشح بعضهم بالسواد. والى الخلف منهم كانت القاعة مملوءة الى نصفها بالرجال الذين كانوا يلاحقونني قبل قليل، غير أن إحساساً مغايراً كان ينتابني هذه المرة، إحساسٌ بين الارتياح واللامبالاة .. إحساس رجلٍ يوشك على الانفجار بالضحك...!
...
في الصباح، حين صادفت وجهي في المرآة، قررت أن يكون أول شيء أفعله عند مغادرتي البيت هو التوجه نحو أقرب مصور والتقاط صورة جديدة... صورة تناسب شاعراً راحلاً !!



25/12/2005

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية