الأميرة-رواية مترجمة


الأميرة
رواية قصيرة

د. هـ. لورنس

ترجمة : ماجد الحيدر





بالنسبة الى أبيها، فهي "الأميرة". أما بالنسبة الى خالاتها وأخوالها في بوسطن فهي ليست سوى "دولي أوركيوهارت .. الكائن المسكين الصغير"..

كان "كولن أوركيوهارت" ذا مسٍ طفيفٍ من الجنون. ينحدر من أسرة اسكتلندية عريقة ويدعي أن دماً ملكياً يجري في عروقه. وفي هذه النقطة بالذات كان أنسباؤه الأمريكيون يقولون إنه "مخبول بعض الشيء". ذلك لأنهم لم يعودوا يتحملون سماع المزيد عن ماهية الدماء الاسكتلندية التي تزرّق عروقه، فالأمر برمته صار من قبيل السخف ومصدراً للحرج. والحقيقة الوحيدة التي كانوا يتذكرونها هي كونه لا ينتمي الى أسرة "ستيوارت"[1]

كان رجلاً وسيماً ذا عينين زرقاوين واسعتين تبدوان أحياناً كأنهما تحدقان في الفراغ، وشعر أسود ناعم أسدل على جبينٍ خفيض، وقوامٍ غاية في الجاذبية. فإذا أضفت الى ذلك صوتاً رائع النبرات يتصف في العادة بالخفوت والحياء ولكنه يغدو أحياناً قوياً رناناً كالبرونز، عندها تستطيع أن تدرك مجموع تلكم المفاتن.

يخيل إليك كبطلٍ كلتي قديم[2] إذ لم ينقصه إلا ارتداء التنورة الاسكتلندية الرمادية التي تكشف عن ركبتيه وتعليق كيس الدراهم الفرائي التقليدي. وكان صوته يبدو آتياً من أعماق ذلك الماضي الأوسياني[3].

لقد نُظر اليه كواحدٍ من اولئك السادة المهذبين الذين يمتلكون دخلاً كافياً لكن من دون ثراء، ممن كانوا لخمسين خلت يتسكعون على غير هدى هنا وهناك، دون أن يبلغوا مكاناً ما، ودون أن يفعلوا شيئاً ما، ودون أن يصبحوا، بالتحديد، شيئاً ما. ورغم هذا فهو يستقبل بالترحاب والمودة في الأوساط الراقية في غير واحد من الأقطار.

لقد ظل عازبا عن الزواج حتى ناهز الأربعين حين التقى بالآنسة الغنية "بريسكوت" من "نيو إنكلاند".

فُتنت "حنا بريسكوت" ذات السنوات الإثنتين والعشرين بالرجل ذي الشعر الفاحم الناعم والعينين الزرقاوين الواسعتين الغامضتين. كانت نساء كثيرات قد وقعن في حبه قبلها، لكن "كولن أوركيوهارت" بغموضه المعهود تجنب أية ارتباطات قاطعة.

عاشت السيدة أوركيوهارت أعواماً ثلاثاً في هالة الضباب والسحر التي أضفاها حضور زوجها، ثم أرهقها الأمر. كانت الحال أشبه بالعيش مع شبحٍ ساحر. فهو يتعامل مع أغلب الأمور بتغافل كامل ، بل قل شبحي. صحيح أنه ظل على الدوام فاتناً ، دمثاً ، ومهذباً، ولطيفا بصوته الموسيقي الخافت، لكنه غير حاضر قط. وحين ننظر للأمر برمته فإنه لم يكن موجوداً البتة .. "أبداً ما هنا " كما يقال بالعامية.

أصبح مع نهاية العام الأول أباً لبنت صغيرة، ولكن ذلك لم يضف عليه المزيد من الوجود المادي. وفي غضون الأشهر الأولى صار جماله بالذات وطبيعته الموسيقية الساحرة أمرين لا يطاقان بالنسبة إليها… الصدى الغريب .. كان مثل صدىً حي! وحتى بشرته نفسها لم تكن لتبدو لمن يلمسها مثل بشرة إنسان حقيقي!

ربما يعود السبب الى أن به مسٌ من الجنون. تيقنت من ذلك ليلة ولدت ابنتها.:

-"آه . هكذا أخيراً حضرت أميرتي الصغيرة"

قال في تلك الليلة بصوته الكلتي الغنائي الخارج من أعماق حنجرته مثل ترنيمة جذلة وهو يتمايل طرباً.

كانت طفلة ضئيلة ضعيفة ذات عينين زرقاوين واسعتين مندهشتين. عمدوها باسم "ماري هنرييتا" لكنها كانت تنادي ذلك الكائن الضئيل "يا دميتي" وأما هو فكان يسميها على الدوام "أميرتي".

لم يعد يجدي معه أي هجوم عنيف، إنه يكتفي بأن يفتح عينيه الزرقاوين الواسعتين لتصبحا أكثر اتساعاً ويلبس مظهراً طفولياً هادئاً لا يحيد عنه.

لم تكن "حنا بريسكوت" قوية البنية، ولم تمتلك يوماً رغبة عارمة بالحياة. وهكذا ماتت فجأة عندما بلغت طفلتها عامها الثاني. شعر آل "بريسكوت" بحقدٍ دفين مكتوم حيال "كولن أوركيوهارت". قالوا إنه رجل أناني، ولذلك قطعوا ما كان يصل "حنا" من مالٍ بعد شهر واحد من دفنها في "فلورنسا"، بعد أن ألحوا على الأب بأن يعهد لهم بالصغيرة ، وبعد أن أجابهم بكل لطفٍ وكل "موسيقيّة" ولكن بكل إصرارٍ بالرفض القاطع. لقد تصرف إزاء آل "بريسكوت" وكأنهم ليسوا من عالمه، أو ليسوا أشياء حقيقية بالنسبة اليه، بل ظواهر عرضية أو غراموفونات ، آلات حاكية ينبغي أن يجاب عليها. ولقد كان يجيبهم بالفعل، لكنه لم يعر أي اهتمام الى حقيقة وجودهم. وعزموا على مقاضاته أمام المحاكم باعتباره غير أهل لرعاية الصغير، لكن ذلك كان سيثير الفضائح. ولذلك لجئوا في النهاية الى أبسط الحلول.. نفضوا عنه أيديهم. لكنهم واظبوا على إرسال رسائلهم الوسواسية الى الطفلة وعلى نفحها ببعض الهدايا النقدية المتواضعة في أعياد الميلاد وفي ذكرى رحيل أمها.

ظل الأقرباء البوسطنيون أعواماً طويلة مجرد حقيقة لفظية بالنسبة الى الأميرة. وبقيت مع أبيها الذي يرتحل على الدوام، ولو بوسائل متواضعة، ويعيش من دخله المتوسط. ولم تسافر هي قط الى أمريكا.

تنقلت الطفلة من حاضنة الى أخرى: في ايطاليا كانت هناك إحدى الـ "كونتادينات"، وفي الهند إحدى الـ "أيّا"ت، وفي ألمانيا كان لديها فتاة شقراء من الفلاحين. كان الأب وابنته لا يكادان ينفصلان عن بعضهما البعض. لم يكن الأب رجلاً انطوائيا؛ فحيثما ذهب كان يشاهَد وهو يلبي الدعوات الرسمية ويخرج للغداء أو للشاي وفي النادر للعشاء. وفي كل الأحوال برفقة الصغيرة. واعتاد الناس على تسميتها بالأميرة "أوركيوهارت" كما لو كان هذا اسمها بالمعمودية.

كانت الفتاة مخلوقاً عذبا خفيف الظل، بشعرها الذهبي الغامق الذي استحال الى بني ناعم، وبعينيها الزرقاوين الواسعتين الجاحظتين قليلا اللتين تميزتا منذ البداية بالصراحة والذكاء المفرطين. كانت بالغة رشيدة على الدوام رغم أنها لم تكبر في الحقيقة أبداً : دائماً طفولية ، ودائماً حكيمة الى حدٍ غريب.

لقد كانت غلطة أبيها:

-" ينبغي على أميرتي ألا تلقي كبير اهتمام الى الناس، أو الى ما يقولون أو يفعلون" لطالما ردد عليها "الناس لا يعرفون ما هم قائلون أو فاعلون. إنهم يثرثرون ويثرثرون . يؤذون بعضهم البعض وكثيراً ما يؤذون أنفسهم الى درجة البكاء. لكن لا تلقي بالاً يا أميرتي الصغيرة، فكل ذلك محض هراء. إن في داخل كل انسان كائنا آخر، وحشا عديم المبالاة. إنزعي عنهم كل ما يقولون ويفعلون أو يحسون مثلما ينزع الطاهي قشور البصل. وعندها سترين في لب كل انسانٍ .. سترين شيطاناً أخضر اللون يستحيل عليك انتزاعه . هذا الشيطان الأخضر لا يتغير أبداً، لا يبالي قط بكل ما يحدث للأوراق الخارجية للمرء، لكل اللغو وكل الأزواج والزوجات والأطفال، كل المآزق وكل الهرج والمرج. إنزعي كل القشور عنهم وستجدين على الدوام ثمة شيطاناً أخضر منتصباً في كل امرأة ورجل. ذلك الشيطان هو الذات الحقيقية للرجل والذات الحقيقية للمرأة. إنه لا يبالي بأيٍ كان، فهو ينتمي الى عالم الشياطين والجنيات البدائيين، أولئك الذين لا يبالون قط. ورغم ذلك فإن هناك شياطين كبارا وآخرين وضيعين ، وهناك جنيات شيطانية رائعات وأخريات سوقيات...ولكن، ما من جنيّة ملكية بقيت الى اليوم… أنتِ فقط يا أميرتي الصغيرة . أنتِ آخر من تبقـى من العرق الملكــي للبشر الغابرين. أنتِ الأخيرة يا أميرتي، ولا أحد سواك. أنا وأنتِ آخر من تبقى. وعندما أموت لن يبقى إلاك. ولهذا يا حبيبتي أنت لن تعيري اهتماماً كبيراً لأي انسان في هذا العالم، لأن شياطينهم جميعاً تافهة سوقية. إنها ليست ملكية الانحدار. أنت فقط الملكية، من بعدي أنا. تذكري ذلك على الدوام، وتذكري دوماً أنه هذا هو "سرنا الكبير". إذا ما أخبرتِ الناس سيحاولون قتلك. إنهم جميعاً يحسدونك لأنك أميرة. إنه سرنا الكبير يا حبيبتي: أنا أمير، وأنتِ أميرة. وإننا ننحدر من ذلك الدم الغابر القديم. وإننا لمحتفظون بسرنا هذا بيننا نحن الاثنين. وهكذا يا عزيزتي عليكِ أن تعاملي الناس بكل أدب، فالنبالة تقتضي هذا [4]. غير أن عليك ألا تنسي بأنك أنتِ فقط آخر الأميرات، وأن كل من عداك دونك أنت، دونك في النبل، وأقرب منك الى العامية.

عامليهم بأدب ولطف ورفق يا حبيبتي. لكنكِ أنتِ الأميرة، وهم العامة. لا تجعليهم أبداً أنداداً لكِ. إنهم ليسوا كذلك. ستجدينهم على الدوام يفتقرون الى اللمسة الملكية، تلك التي لا يملكها سواك"

وتعلمت الأميرة الدرس باكراً: درسها الأول في الكتمان المطلق وفي استحالة أية علاقة حميمة إلا مع أبيها، ودرسها الثاني في التأدب البسيط ذي مسحة التفضل. ومنذ طفولتها تبلور شيء ما في شخصيتها، شيء جعلها واضحة، صافية كالبلور، ولكن لا سبيل الى النفاذ اليها.

-"يا للطفلة العزيزة!" كانت مضيفاتها يعلقن "كم هي لطيفة! وكم هي عتيقة الطراز! يالها من سيدة، تلك المخلوقة الضئيلة المسكينة"

كانت منتصبة القامة، تفيض حلاوة، صغيرة على الدوام بل وضئيلة الحجم. وعندما تقف الى جانب الرجل الضخم الأنيق المخبول قليلاً الذي هو أبوها كانت تبدو كطفلٍ أبدلته جنيات الحكايات. لم تكن ترتدي غير البسيط من الثياب، زرقاء في الغالب أو رمادية رقيقة، مع ياقة صغيرة من تطريز ميلانو القديم أو من الحرير المشغول بدقة. كانت يداها رقيقتين للغاية، حتى أن صوت البيانو ليبدو حين تعزف عليه كأنه يخرج من آلة "السبياينيت" الصغيرة.[5]

خارج المنزل كانت تفضل، بدلاً من المعطف، ارتداء عباءةٍ فضفاضة وقلنسوة أو نوعاً من القبعات الصغيرة من طراز القرن الثامن عشر. أما بشرتها فكانت نقية صافية كزهرة تفاح. لقد بدت وكأنها خطت لتوها خارجة من لوحة ما. لكن أحداً لم يعرف حتى يوم موتها تلكم اللوحة الغريبة التي حبسها أبوها بين أطرها التي لم تخرج عنها أبداً.

لمرتين اثنتين طالب جدها وجدتها وخالتها "مود" برؤيتها، مرة في روما والأخرى في باريس. وفي كلتا المرتين خرجوا من لقائها مفتونين مبهورين ، مفتخرين وممتعضين. كانت صغيرة رائعة الجمال، طاهرة القلب، ولكن ذكية وواثقة من نفسها ثقة غريبة. وتلكم اللمسة الواثقة من الدماثة المشوبة بالترفع وذلك البرود الداخلي هما بالذات ما أغاض أقرباءها الأمريكيين.

لم تفتن الصغيرة في الحق أحداً مثل جدها. كان مخلوب اللب بها، بل كان بطريقة ما يعشق المخلوقة الصغيرة البريئة. ولقد فاجأته زوجته مراراً بعد تلك اللقاءات وهو ساهم يطيل التفكير في حفيدته ويتحرق الى رؤيتها ثانية، وظل حتى النهاية متعلقاً بأهداب آماله الساذجة في أن تأتي وتعيش معه.

-" شكراً جزيلا يا جدي. إنك طيب للغاية. ولكن كما ترى، أنا وأبي ثنائي قديم جداً، ثنائي ذو نزوات غريبة، نعيش في عالمٍ خاصٍ بنا"

أفسح لها والدها المجال كي ترى العالم، من الخارج. وسمح لها بالقراءة. وفي سني مراهقتها قرأت "زولا" و"موباسان". وبعيون"زولا" و"موباسان" رأت باريس. وبعدها بقليل أخذت تقرأ لـ"تولستوي" و"دوستويفسكي". أربكها الأخير، ولكن بدا أنها تفهم الآخرين بشكلٍ حكيمٍ ولاذع، تماما كما فهمت حكايات "ديكاميرون"[6] التي قرأتها في لغتها الإيطالية القديمة، أو أشعار "نبلنغ"[7].

غريبةً كانت، وخارقة. كانت تفهم الأشياء بشكل حرفي تحت الضياء البارد الذي غابت عنه كل دفقة من نار. لم تكن مخلوقاً بشرياً بكل معنى الكلمة، لم تكن إلا كطفلةٍ أبدلتها الجنيات.

وأكسبها ذلك عداواتٍ غريبة: كان سواق المركبات والعتالون في محطات القطارات، وخصوصاً في روما وباريس يعاملونها حين تكون وحيدة بفظاظة وقسوة على حين غرة. كانوا يطيلون التحديق فيها ببغضٍ عنيف مفاجئ. كانوا يشعرون أن بها لامبالاة غريبة، بسيطة، مجردة. لامبالاة بكل ما يشعرون هم بأهميته. كانت عظيمة الثقة بنفسها. وكانت زهرة صباها خالية من كل عطر.

قد يحدث أن تنظر الى سائقٍ من روما، شهوانيٍ داعر، كما لو تتفرج على زخرفةٍ تصويرية مضحكة، الأمر الذي يدفعها الى الابتسام. كانت تعرف عنه كل شيء عن طريق "زولا".

أما التلطف المشوب بالكبرياء، ذاك التلطف الذي تصدر به أوامرها اليه، كما لو أنها –المخلوق الجميل الرقيق- هي وحدها الحقيقية، وإنه هو –الوحش الغليظ الفظ- لم يكن غير ضربٍ من "كاليبان[8] يتخبط في الوحل على حافة المستنقع المليء بأزهار اللوتس، ذلك التلطف الغريب كان يثير حنق الرجل، ابن البحر المتوسط، الذي يفاخر بفحولته، والذي ما يزال سر الشهوة الجنسية سره الوحيد. فإذا بوجهه يربد ويمتقع، وإذا به يتنمر عليها في وحشية وفظاظة بشعتين، لأنها بالنسبة اليه لا تملك غير اللامبالاة الشبيهة بالكفر والنابعة من عقمها هي.

لقاءات كهذه كانت ترعبها وتجعلها تدرك حاجتها الى دعمٍ خارجي. فقوة روحها لم تكن لتمتد حتى تشمل أولئك العامة الذين يمتلكون كل القوة الجسدية. لقد كانت تدرك الحقد العنيد وراء مهاجمتهم إياها، لكنها لم تفقد الصواب أبداً. كانت تنفحهم بعض المال بهدوء ثم تنزل وتولي الأدبار.

لكنها لحظات خطرة، لذلك تعلمت كيف تتهيأ لها. إنها الأميرة.. إنها جنية الشمال الرقيقة. فكيف عساها أن تفهم براكين الشهوة التي يفجرونها إزاءها في نوبات من الحقد والكراهية؟ ما كانوا أبداً يهاجمون أباها على هذه الشاكلة، وقد أدركت منذ وقت مبكر أن أمها، المرأة النيوإنكلندية الكامنة فيها هي ما كانوا يكرهون. لم يحدث، ولو لدقيقة واحدة، أن رأت بعينين رومانيتين قديمتين، أن رأت نفسها عقيمة، وردة مجدبة ترتدي حلة من تشامخٍ ولامبالاة لا تحتمل. لكن ذلك ما كان السائق الروماني يرى فيها: إنه يتوق الى تحطيم هذا البرعم العقيم. فجمالها اللاجنسي وسطوتها يدفعانه الى حالٍ من ثورةٍ وحشيةٍ.

حين بلغت التاسعة عشرة من العمر مات جدها تاركاً لها ثروةً يعتد بها في أيدٍ أمينة لأوصياء مسؤولين. كان عليهم أن يسلموها المال شريطة أن تقيم ستة أشهر في العام داخل الولايات المتحدة.

-"لماذا يفرضون عليّ الشروط؟" قالت لأبيها "أنا أرفض أن أسجن ستة أشهر في العام في الولايات المتحدة. سوف نخبرهم أن يحتفظوا بالنقود"

-"لنتصف بالحكمة يا أميرتي الصغيرة. لنكن حكيمين. كلا. نحن معدمون تقريباً، ولسناً بمأمنٍ من العدوان. أنا لن أسمح لكائن من كان أن يعتدي عليّ. أنا أمقت ذلك!" واتقدت عيناه إذ قال هذا "يمكن أن أقتل أي رجلٍ أو امرأةٍ إذا أغلظ لي. لكننا منفيان في هذا العالم، نحن بلا حول ولا قوة. وإذا صرنا فقراء بالفعل فإننا سنصبح غاية في الضعف وعندها سأموت. كلا يا أميرتي. لنأخذ نقودهم، وعندها لن يجرؤ أحد على أن يكون فظاً معنا. دعينا نأخذها كما لو إننا نرتدي بذلك ثياباً تقينا من عدوانهم.

هنا بدأت مرحلة جديدة، عندما أخذ الأب وابنته يقضون الأصياف قرب البحيرات الكبرى أو في كاليفورنيا أو في الجنوب الغربي. كان الأب شاعراً من نوع ما وكانت الابنة رسامة نوعا. كتب اشعاراً عن البحيرات وعن غابات الشجر الأحمر العملاق، وانجزت هي رسوماً لطيفة. كان رجلاً قوي البنية ويحب الخروج الى البرية ويحدث أحيانا أن يخرجا سوية أياما بأكملها، يجذفان في قارب صغير وينامان عند نيران المخيمات في العراء. يا للأميرة الرقيقة الصغيرة! لقد كانت باسلة على الدوام.. على الدوام باسلة. يحدث لها أن تمتطي معه ظهور الخيل عبر شعاب الجبال حتى لا تغدو من فرط إعيائها غير ذهن دون جسد يجلس منفرج الساقين على ظهر حصانٍ صغير. بيد أنها لم تستسلم أبداً. وفي الليل كان يلفها ببطانياتها فوق سرير من أماليد صنوبر بلسمية وهي مستلقية ترقب النجوم دون تذمر.. لقد كانت تؤدي دورها في الحياة. كانوا يسألونها والسنون تمضي: وهي تصبح شابة في الخامسة والعشرين، ثم امرأة في الثلاثين، أميرةً رقيقةً عذراء، "تعرف كل شيء" بشكل رزين هادئ مثل امرأة عجوز، باكراً بكل معنى الكلمة .. كانوا يسألونها:

-"ألم تفكري يوماً بما ستفعلين عندما يغادرك أبوك؟"

فكانت تطالع محدثها بذلك التجرد الساحر، البارد، الذي يميزها، وتجيب:

-"لا. لم أفكر بذلك"

كانت تملك بيتاً صغيراً جميلاً في لندن، وبيتاً آخر صغيراً مكتملاً في "كَنِكْتَكِت" وضعت على كل منهما مدبرة أمينة، فلها إن هي شاءت أن تختار بين منزلين. وكان لها العديد من المعارف المشوّقين من أهل الأدب والفن. فماذا تريد فوق ذلك؟

هكذا مرت السنون دون أن تشعر بها. كانت تتمتع بتلك الهبة التي تميز ملائكة الجن الذين لا هُم بالرجال ولا بالنساء: فيوم صارت في الثالثة والثلاثين بدت وكأنها ما تجاوزت الثالثة والعشرين. ورغم ذلك فإن والدها كان يشيخ، وتزداد غرابة أطواره. وصار عليها الآن أن ترعاه وتحميه وهو في جنونه الانفرادي. أمضى سنواته الأخيرة الثلاث في منزل "كَنِكْتَكِت". كان يزداد نفوراً، وتعاوده بين الحين والحين نوبات من عنفٍ تكاد تقتل الأميرة الصغيرة. فالأذى الجسدي كان في نظرها أمراً فظيعاً يكاد يحطم قلبها. بيد أنها عثرت على امرأة تصغرها بعدة سنوات، مرهفة، متعلمة، وعينتها مرافقة وممرضة للعجوز المجنون. وهكذا لم يعترف أحد بأمر جنونه بشكلٍ صريح. وأظهرت الآنسة "كيومن" ولاءً عاطفياً عميقاً للأميرة، وتعلقاً غريباً يشوبه الحب بالعجوز الوسيم اللطيف الأشيب الذي ما كان ليتذكر نوباته العنيفة بمجرد انقضائها.

كانت الأميرة في الثامنة والثلاثين عندما مات والدها. لم تتغير هي البتة. لما تزل ضئيلة الجرم، لما تزل مثل زهرةٍ جليلةٍ .. لا رائحة فيها. ولما يزل شعرها البني الأملس المقصوص الشبيه بلون فراء القندس الذي نشر برقة حول وجهها الشبيه بزهرة تفاح، الذي يزينه أنف مقوس فتبدو كلوحة شخصية مختالة من عصر النهضة. في صوتها، في سلوكها ومشيتها وجلوسها ووقوفها كانت تزداد هدوءً فكأنها زهرة تفتحت في مكان ظليل. من عينيها الزرقاوين كان يطل ذلك التحدي الأبدي المقتضب الذي تحول بمر السنين الى تهكم وسخرية. لقد كانت الأميرة. وفي تهكم كانت تنظر الى عالم أولئك الذين لا أمير لديهم.

رغم أن موت والدها قد خفف عن كاهلها لكن كل شيء من حولها بدا وكأنه قد تبخر. لطالما عاشت في ضرب من البيت الزجاجي، في جو مفعم بجنون أبيها. وعلى حين غرة رفع هذا البيت الزجاجي. فإذا بها مكشوفة في الهواء الطلق، الوسيع، الفج ، المبتذل.

ما العمل ؟ ما الذي ستفعله ؟

بدت كأنها تقف وجهاً لوجه أمام الفراغ المطلق. ما عاد لها غير الآنسة "كيومن" التي شاركتها سرها، وتقريباً في عاطفتها نحو أبيها. لقد أحست الأميرة في الحقيقة أن محبتها لأبيها المجنون قد انتقلت والى حد بعيد وبطريقة غريبة الى"شارلوت كيومن" خلال الأعوام الأخيرة.

صارت الآنسة كيومن الآن الإناء الذي ضم تلك العاطفة نحو الرجل الراحل، أما هي، الأميرة، فقد كانت إناءً خاوياً. إناءً خاوياً في مستودع الدنيا الكبير.

ما العمل ؟[9] ما الذي ستفعل ؟

أحست أنها طالما لا تقدر أن تتبخر كما يتبخر الكحول من قارورة مفتوحة فإن عليها أن تفعل شيئاً. لم تشعر طوال حياتها الماضية بوطأة المسؤولية ولم تشعر أبداً أن عليها أن تفعل شيئاً بعينه. كان ذلك متروكاً للعامة من الناس. أما وقد مات والدها فقد وجدت نفسها واقفة على حافة هذا الحشد من العامة، تقاسمهم لزوم "عمل" شيء ما. كان أمراً مهيناً بعض الشيء وقد شعرت الآن بأنها تتبذل. وفي الوقت نفسه فإنها وجدت نفسها تنظر الى الرجال بعينٍ أكثر دهاء؛ عين من تروم الزواج. ليس لأنها أحست بأي ولعٍ مفاجئ بالرجال، أو انجذاب اليهم. كلا، لم تزل في الأساس غير مهتمة بهم ولا منجذبة نحوهم، لكن "الزواج"، ذلك المفهوم المجرد المبهم فرض عليها نوعاً من السلطان. وقد آمنت بأن الزواج كفكرة مجردة مطلقة كان الشيء الذي يجب أن تقدم عليه، لقد أدركت كل الحقائق، لكن الرجل تراءى شيئاً من ممتلكات عقلها هي، لا كائناً آخر، شيئاً قائماً بذاته.

توفي والدها في الصيف، في الشهر الذي أعقب عيد ميلادها الثامن والثلاثين. وعندما انتهى كل شيء بدا واضحاً ما ينبغي فعله: السفر بالطبع، ومع الآنسة كيومن. فهمت المرأتان إحداهن الأخرى بشكل عميق، لكنهما ظلتا على الدوام في نظر إحداهن للأخرى: الآنسة أوركيوهارت والآنسة كيومن. واحتفظتا غريزياً بمسافة معينة فيما بينهما. فالآنسة كيومن، المنحدرة من عائلة فيلادليفية متمسكة بالتقاليد، الذكية رغم قلة أسفارها، والتي تصغر الأميرة بأربع سنوات، أحست بشكل عميق بأنها تلميذة لسيدتها، وكانت تشعر بنوع من التبجيل العاطفي نحو الأميرة التي بدت لناظريها خالدة، سرمدية الشباب. لم يكن في وسعها أن ترى صفوف الأحذية الصغيرة الطريفة الرائعة في خزانة الأميرة دون أن تحس بوخزة في قلبها، وخزة من عطفٍ واحترام يكاد يصل حد الرهبة.

وكانت الآنسة كيومن هي الأخرى طاهرة بريئة، لكن نظرة مندهشة متحيرة كانت تطل من عينيها. كانت ذات بشرة شاحبة صافية ورغم أن وجهها متناسق القسمات فإن نوعاً من الإنشداه يظهر على تعابيره، في حين تتمتع الأميرة بلمسة فريدة من جلال عصر النهضة. كان صوت الآنسة كيومن خافتاً يصل حد الهمس، وهو التأثير الحتمي لطول بقائها في غرفة السيد. غير أنه كان خفوتاً أجشاً.

لم ترغب الأميرة بالسفر الى أوربا. بل بدا الغرب وجهتها المقصودة. والآن وقد رحل أبوها شعرت أن عليها أن ترحل غرباً.. دائماً نحو الغرب، مقتفية بلا شك الطريق الامبراطوري الذي ينقطع فجأة على مسافة قليلة من الساحل الباسفيكي الذي يعج بحشود السابحين المترفين. لا ، ليس الساحل الباسفيكي. لقد فضلت التوقف قبل ذاك. فالجنوب الغربي أقل ابتذالاً. ولهذا قررت الذهاب الى نيومكسيكو.

وصلت هي والآنسة كيومن الى مزرعة "سيراجورد" قرب نهاية، آب عندما كانت الجموع تقفل راجعة الى الشرق. تقع المزرعة على ضفة نهر يخترق منطقة صحراوية تبعد أربعة أميال تقريباً عن أقدام الجبال، وميلا واحدا عن قرية هندية تدعى "سان كريستوبال". كانت مزرعة للأغنياء؛ فقد دفعت الأميرة مقابل إقامتها والآنسة كيومن ثلاثين دولاراً في اليوم، لكنها حصلت بالمقابل على كوخ صغير خاص داخل بستان لأشجار التفاح مع طباخ ممتاز، رغم أنها والآنسة كيومن كانتا تتناولان طعامهما في الأمسيات في قاعة الضيوف الكبيرة. ذلك لأن الأميرة لما تزل تعلل نفسها بفكرة الزواج.

كان ضيوف المزرعة من مختلف الأصناف، عدا الفقراء. وكانوا جميعا أغنياء من الناحية العملية وكان العديد منهم يتصف بالرومانسية. البعض منهم جذاب للغاية، بعضهم أناس عاديون، بعضهم من أهل السينما، ظرفاء جداً ولا يفتقرون الى الجاذبية رغم عاميتهم، والعديد منهم من اليهود. لم تعن الأميرة باليهود رغم أن الحديث معهم كان في العادة أكثر امتاعاً.

وهكذا فقد تحدثت كثيراً مع اليهود، مارست الرسم مع الفنانين، امتطت الخيل مع شباب جامعيين، وأمضت على العموم وقتاً طيباً. بيد أن إحساساً لازمها كإحساس سمكة خارج الماء أو طير في غابة غريبة. وظل "الزواج" فكرة مجردة تماماً، لا تقترن بأي واحد من أولئك الشبان، ولا حتى الظرفاء منهم.

كانت الأميرة تبدو في الخامسة والعشرين. فنضارة فمها، والبراءة الهادئة الرقيقة التي ترتسم على وجهها لا تعطيها يوماً واحدا أكثر. لم يفسد الأمر غير النظرة المقتضبة الفظة التي في عينيها. وعندما كانت "ترغم" على كتابة عمرها كانت تخط "ثمانية وعشرين" راسمة الرقم "اثنين" بشكل سيئ حتى لا يتبين "ثلاثة" واضحة.

لمح لها البعض بالزواج، وعلى وجه الخصوص فتيان جامعيون أشاروا الى الأمر من بعيد. لكنهم جميعاً سقطوا أمام نظرة الاستخفاف الساخرة التي يرونها في عينيها. فالأمر يبدو لها على قدر من منافاة العقل، والسخف، وقليل من الوقاحة من جانبهم.

الرجل الوحيد الذي أسر اهتمامها كان واحداً من المرشدين، رجلاً يدعى "روميرو" : "دومنغو روميرو". كان هو نفسه من باع المزرعة الى آل "ويليكون" قبل عشرة أعوام مقابل ألفي دولار. وسافر زمنا ثم ظهر ثانية في المكان. كان ابناً لروميرو العجوز، آخر أفراد العائلة الأسبانية التي ملكت في الماضي أميالاً من الأراضي حول "سان كريستوبال". لكن قدوم الرجل الأبيض، وضياع القطعان الكبيرة من الماشية، والكسل القاتل الذي غلب على الرجال في هذه الأرض الجرداء المحاذية للجبال قضى في النهاية على عائلة روميرو، وكان آخر الأحفاد مجرد فلاحين مكسيكيين. أنفق دومينغو، الوريث، دولاراته الألفين وعاد ليعمل عند البيض، وكان عندها يناهز الثلاثين، رجلاً طويلاً، صامتاً، بفم متجهم مقفل، وعينين سوداوين تطالعانك بشيء من كآبة.

كان يبدو من الخلف وسيما، ذا جسم قوي سوي، وقذالٍ حسن شديد الاسمرار، ومليئاً بالحيوية. غير أن وجهه الأسمر كان طويلاً ثقيل القسمات ويكاد يكون شرير الملامح بسبب ذلك الخلو الغريب من التعبير الذي يميز مكسيكيي منطقته. إنهم أقوياء ويبدون أصحاءً، لكن بنية أجسادهم وطبيعتهم تبدوان جامدتين، كما لو أنه ما من مكان، ما من مكان على الإطلاق لتندفع نحوه طاقاتهم. أما وجوههم التي انحدرت نحو ضربٍ من التثاقل الأشوه فقد بدت كأنها لا تملك مبرراً للحياة[10]. وكأن كل واحد من الرجال الفرادى، والسلالة كلها، لا يملكون مبرراً للعيش. إنهم ينتظرون: أما الموت وأما أن توقظهم الرغبة والأمل. أنك لترى في بعض العيون السود تلك النظرات التي تميز التائبين، وذلك الغموض السري الكئيب الشنيع الذي توحي به صورة الجمجمة والعظام المتقاطعة. لقد وجدوا معنى للحياة في تعذيب النفس، وفي تقديس الموت. ولأنهم لم يتمكنوا من انتزاع مغزى ايجابي لأنفسهم في هذا المشهد الذي وجدوا أنفسهم يولدون فيه، المشهد الهائل، الجميل الحقود في آنٍ معاً، تراهم يستديرون نحو أنفسهم ويعبدون الموت من خلال تعذيب الذات. وها هو الحزن الغامض الناتج عن ذلك يتجلى في عيونهم.

غير أن العيون الداكنة للمكسيكي، ثقيلة في الغالب ونصف حية، عدوانية أحياناً ورقيقة أحيانا أخرى، وكثيراً ما كساها ذلك البريق الهندي القاتل وتلكم الغشاوة الهندية القاتلة.

ربما كان دومينغو روميرو الصورة المثالية للمكسيكي، بوجهه النموذجي الثقيل الطويل الحليق، وفمه الذي يكاد يكون كئيباً حد التوحش: كانت عيونه سوداء ذات مرأى هندي. وهناك، في منتصف اليأس الذي يغشاها سوف ترى شرارة من الاعتداد والثقة بالنفس.. شرارة وحسب وسط هذا الظلام اليائس الذي لا يريم. غير أن هذه الشرارة إنما هي التي تميزه عن سائر الرجال. إنها تضفي على محياه نوعاً من رهافة الحس اليقظى، وقدراً من الجمال. كان يرتدي ثياباً أنيقة خفيفة وقبعة سوداء بقمة خفيضة بدلاً من غطاء الرأس الثقيل الذي يضعه المكسيكي العادي. كان صموتاً، منطوياً، يكاد لا يظهر في المشهد، ولهذا صار مرشداً ممتازاً يتمتع بذلك الذكاء اليقظان السريع الذي يتنبأ بالصعاب قبل نزولها. وكان يجيد الطبخ أيضاَ، فيروح ينحني على نار المخيم، محركاً يديه الضامرتين الرشيقتين السمراوين. العيب الوحيد الذي فيه هو إنه صعب المعاشرة؛ ولم يكن محدثاً لبقاً أو أليفاً.

-"أوه ، لا ترسل معنا روميرو" كان اليهود يقولون "أنت لا تقدر أن تحصل منه على أية استجابة".

كان السياح يجيئون ويذهبون، لكنهم لم ينظروا الى أعماقه إلا فيما ندر. لم يرَ أحد منهم على الإطلاق تلك الشرارة التي تتوسط عينيه، لم يكونوا أحياء بما يكفي كي يروها. لكن الأميرة لامستها ذات يوم، عندما اصطحبته دليلاً. كانت تصطاد السلمون في مجرى الوادي فيما انشغلت الآنسة كيومن بمطالعة كتاب ما، وقد أوثقت الجياد تحت الأشجار. كان روميرو يحاول تثبيت طعم مناسب الى سنارة الأميرة. وضع الطعم في السنارة وناولها إياها ناظراً في وجهها. في تلك اللحظة لمحت تلكم الشرارة في عينيه وأدركت على الفور أنه كان رجلاً حقيقياً وبأن شيطانه –كما كان والدها سيقول- كان شيطاناً ممتازاً. وتغير على الفور سلوكها نحوه.

كان قد أوقفها فوق صخرةٍ تطل على بركة ماء هادئة، أمام صف من أشجار الحور القطني[11]. كان الوقت أوائل أيلول وقد أصبح الماء يبرد بالفعل، لكن أوراق الحور لما تزل خضراً. وقفت الأميرة فوق الصخرة: امرأة ضئيلة لكن حسناء، في بلوزة ناعمة ضيقة رمادية وسروال للركوب حسن التفصيل رمادي اللون أيضاً، وحذاء طويل أسود، فيما يكافح شعرها البني المنثور مندفعاً من تحت قبعتها اللبادية الرمادية الصغيرة. امرأة ؟ ليس بالضبط. طفلة مستبدلة من نوع ما، انتصبت في لوحة تخطيطية فوق صخرة ناتئة في مجرى وادٍ ثائرٍ بري.

كانت تجيد استعمال السنارة، فقد جعل منها أبوها صائدة ماهرة. وكان روميرو بقميصه الأسود وسرواله العريض الأسود الذي حشر نهايتيه في حذاء ركوبٍ واسع أسود هو الآخر، يصطاد أسفل منها على مقربة وقد وضع قبعته فوق صخرة من خلفه وانحنى برأسه الأسود الى الأمام قليلاً وهو يراقب الماء. لقد اصطاد ثلاث أسماك وكان من وقت لآخر يلقي نظرة أعلى الجدول نحو الأميرة الواقفة هناك بكل عذوبة. رأى أنها لم تصطد شيئاً بعد فأسرع بوضع سنارته جانباً في هدوء وتقدم نحوها. تفحص بعينيه الذكيتين سنارتها، وتفحص موضع وقوفها ثم أقترح بلطفٍ بعض التغييرات واضعاً يديه السمراوين الحساستين قبالتها. ثم تنحى في هدوء ووقف متكئاً على إحدى الأشجار وشرع بمراقبتها. كان يمد لها يد العون من بعيد. أدركت هي ذلك، وارتعشت، وفي خلال لحظة علقت سنارتها بشيء، وفي دقيقتين كانت قد اصطادت سمكة جيدة.

تطلعت اليه سريعاً وقد التمعت عيناها، وتضرج خداها. وعندما التقت عيناهما ارتسمت على وجهه ابتسامة محيية، مفاجئة للغاية، وذات جمالٍ غريب. أدركت أنه يساعدها، وأحست في وجوده بأنها في كنف حنان رجولي ماكر لم تألفه من قبل، فتورد خداها واكفهرت عيناها الزرقاوين. وصارت من بعد تبحث عنه وتتطلع على الدوام اليه، والى ذلك الخيط الغامض من العطف الرجولي الذي كان قادراً على منحه إياها، كأنه يخرج من صدره، من أعماق قلبه.. وكان هذا شيئاً لم تألفه من قبل.

ونمت بينهما مودة مبهمة غير معلنة. أحبت صوته، أحبت مظهره وحضوره. كانت الإسبانية لغته "الطبيعية" وكان يتكلم الإنجليزية كأنها لغة أجنبية، بطيئة الى حدٍ ما، ينتابها شيء من التردد، ولكن في جهارةٍ حزينةٍ وكئيبة تخلفت عن لغته الإسبانية[12]. كان في منظره نوع من الاتزان الحاذق: لحيته حليقة على الدوام، وشعره الخشن الطويل قليلاً من الأمام مهندم بعناية من الخلف. ومنحه قميصه الأسود الناعم المصنوع من الكشمير، وحزامه الجلدي العريض وسرواله الأسود الفضفاض الحسن التفصيل الذي ينتهي داخل جزمة رعاة البقر العريضة الموشاة.. منحه كل ذلك قدراً من أناقةٍ لا تخبو. لم يكن يضع على حذائه ابزيماً أو حلقات فضية. كانت أحذيته موشاة فقط في أعلاها بتلبيسة من جلدٍ أبيض. كان يبدو رشيقاً، أهيف القد، ورغم ذلك بالغ القوة.

في الوقت نفسه كان يمنحها بشكل مبهم إحساسا بأن الموت منه غير بعيد. ربما كان هو الآخر نصف عاشقٍ للموت. ومهما كان الأمر فإن إحساسها ذاك صيره شخصا "محتملا" بالنسبة اليها.

لقد جعل منها صغر جسمها فارسة ممتازة. سلموها في المزرعة فرساً كميتا ذات لون محبب وبنية متينة ورقبة عريضة قوية وظهر أجوف فكانت فرساً لا يشق لها غبار. كانت تدعى "تانسي" وكان عيبها الوحيد هو العيب المعتاد في الأفراس : المزاج الهستيري. وهكذا أخذت الأميرة تنطلق كل يوم نحو الجبال على صهوات الخيل برفقة الآنسة كيومن وروميرو. وفي إحدى المرات خيما في البرية أياما عديدة مصطحبين صديقين آخرين من الفريق.

-"أعتقد أني أفضل الأمر أكثر حين نكون نحن الثلاثة لوحدنا" قالت الأميرة لروميرو فمنحها واحدة من ابتساماته تلك، التي تضفي على وجهه شكلاً جديداً. من المدهش أن لا أحد من الرجال البيض كان قادراً على أن يظهر لها ذلك العطف وتلك الرقة، تلك القدرة على العون الصامت من البعد: سواء عندما تخفق في الصيد، أو عندما ترهقها فرسها أو تصاب تانسي فجأة بالرعب. وكأن روميرو كان قادراً على أن يرسل لها "من القلب" شعاعاً خفياً من العون والمؤازرة. لم تعرف شيئاً كهذا من قبل، وكان ذلك يجعلها ترتجف ارتجافاً. ثم تلك الابتسامة التي تجعد فجأة وجهه الأسمر وتكشف عن أسنانه البيض القوية. كانت تجعد وجهه حتى يغدو مثل تصوير زخرفي متوحش. غير أن فيها لهيباً معتماً من العطف نحوها، وشيئاً يبلغ من الدفء حداً يجعلها تشعر بالزهو بذاتها الأميرية الحقيقية. ثم تلك الومضة الحية، الخفية في عينيه، التي أبصرتها والتي تعرف أنه يعرف أنها أبصرتها. لقد خلقت نوعاً من التفاهم بينهما، تفاهم صامت رقيق. وهنا، في هذا الفهم المتبادل، كان يغدو رقيقاً مثل امرأة.

ورغم ذلك كله فإن حضوره كان يطرد من بالها فكرة الزواج الملازمة لها، ولسبب ما لم تستطع فكرة الزواج منه هو بالذات أن تدخل عقلها الصغير الغريب. ولم يكن ذلك بسبب واضح محدد. فقد كان في شخصه رجلاً مهذباً، وكانت هي تملك من المال ما يكفيهما، فلم تكن هناك معضلة حقيقية، ولا كانت هي بالتقليدية. كلا، الآن أدركت السبب: إن شيطانيهما يصلحان للزواج، ولربما كانا متزوجين فعلاً، لكن ذاتيهما كآنسة تدعى أوركيوهارت وسيد يدعى دومينغو كانا لسبب ما غير متوافقين. إن بينهما ألفة عجيبة وتفاهماً رقيقاً. لكنها لم تدرك قط كيف يمكن أن يؤدي ذلك الى الزواج. ولربما كان بمقدورها وبسهولة أكبر أن تقترن بواحد من أولئك الشبان الظرفاء من هارفرد أو ييل.[13]

ومضى الوقت، تركته يمضي. وجاءت أيام أيلول الأخيرة، واصفرت أشجار الحور الرجراج [14] فوق الجبال، وأخذت شجيرات السنديان تميل الى الاحمرار.، لكن أشجار الحور القطني في الوادي وحول الجدول لما تتغير بعد.

-"متى ترحلين؟" سألها روميرو مثبتاً فيها عينيه الداكنتين الصريحتين.

-"في نهاية أكتوبر. لقد وعدت أن أكون في "سانتا بربارا" بحلول نوفمبر."

كان يحاول إخفاء الشرارة التي في عينيه، لكنها رأت التثاقل الكئيب المميز على فمه المتجهم.

كانت قد شكت له مراراً من أنها لم تشاهد حيواناً بريا خلا بعض السناجب العادية أو المخططة وربما قنفذاً أو جرذا برياً ما، لكنها لم تر غزالاً أو دباً أو أسداً.

-"أليس من حيوانات أكبر في هذه الجبال؟" سألت بخيبة أمل.

-"بلى. هنالك بعض الغزلان. لقد رأيت آثارها. ورأيت أيضاً آثاراً لدب"

-"ولكن لماذا لا يستطيع المرء أن يرى الحيوانات نفسها؟" وبدت حزينة مستاءة مثل طفلة.

-"رؤيتها فيه بعض الصعوبة. إنها لن تسمح لك بالاقتراب منها. عليك أن تلبثي ساكنة عند الأماكن التي ترتادها، وإلا فعليك أن تتعقبي آثاراً مسافة طويلة"

-"لن أطيق الرحيل دون أن أراها : دباً أو غزالاً ما"

وغمرت وجهه فجأة ابتسامة متسامحة.

-"حسناً، وماذا تريدين؟ هل تريدين الصعود الى مكان في الجبال وانتظار مجيئها؟"

-"نعم" أجابت ناظرة اليه بدفقة مفاجئة من طيشٍ ساذج. واستعاد وجهه على الفور مسحة الحزن والإحساس بالمسؤولية.

-"حسناً" قال بشيء من التهكم ولمسة من السخرية "عليك أن تجدي منزلاً، فالجو في الليل شديد البرد، وعليك قضاء الليل كله داخل بيت ما"

-"أليس هناك من بيوت في الأعالي؟"

-"بلى. أمتلك هناك كوخاً صغيراً، بناه أحد الباحثين عن الذهب قبل زمن طويل. يمكنك الذهاب الى هناك وقضاء ليلة فيه. لربما ترين شيئاً. ربما!… لست متأكداً. وقد لا يأتي شيء"

-"وما مقدار الفرصة"

-"حسناً. لا أعرف. في آخر مرة كنت فيها هناك رأيت ثلاثة غزلان نزلت تشرب الماء، كما اصطدت راكونين[15]. ولكن قد لا نرى شيئاً هذه المرة"

-"هل هناك ماء في تلك الأنحاء ؟"

-"اجل. هناك بركة مستديرة صغيرة ، تعرفين، تحت أشجار الراتنج [16] تصب فيها مياه الجليد"

-"أهي بعيدة ؟ "

-"نعم. الى حدٍ ما. أترين الى تلك الحافة الناتئة هناك ؟" واستدار صوب الجبال ورفع يده في إيماءة مؤثرة للغاية باتجاه الغرب مشيراً الى البعد "تلك الحافة حيث لا أشجار. صخور فقط" كانت عيناه السوداوان تحدقان في المدى البعيد ووجهه جامداً كأنما يعتصره الألم "تستديرين حول القمة ثم الى الأمام، ثم تهبطين من خلال أشجار الراتنج الى حيث يوجد الكوخ. أبي هو اشترى موضع التنقيب ذلك من منقب أعلن إفلاسه، لكن لم يعثر أحد على أي ذهب أو على أي شيء آخر. لم يذهب أحد الى هناك. هناك موحش جداً!"

راقبت الأميرة الكتلة الهائلة، الرائعة الجاثمة من جبال روكي. كان الوقت أوائل أكتوبر، وقد بدأت أشجار الحور الرجراج تنزع عنها أوراقها الذهبية. وفي الأعالي كانت أشجار الراتنج والصفصاف تضرب من بعيد الى السمرة، فيما كانت البقع الكبيرة المستوية من أشجار البلوط فوق المرتفعات حمراء بلون الدم.

-"هل أستطيع الصعود الى هناك؟" سألته وقد استدارت اليه والتقت بالشرارة التي في عينيه. كان وجهه مثقلاً بالمسؤولية.

-"نعم. تستطيعين الذهاب. لكن سيكون هناك ثلج على القمة. برد فظيع، ووحدة فظيعة"

-"إني لعازمة على الذهاب" قالت بإصرار.

-"حسناً. تستطيعين الذهاب، ما دمت راغبة بذلك"

لكنها شكّت في أن آل ويليكسون سيدعونها تذهب، على الأقل لوحدها مع روميرو والآنسة كيومنز. غير أن العناد المميز في طبعها، وهو العناد الذي ربما امتزج بالجنون، قد استحوذ عليها. كانت تريد أن تخترق الجبال وتنظر الى قلبها الخفي. كانت تريد أن تنحدر الى ذلك الكوخ تحت أشجار الراتنج قرب البركة الجبلية ذات الماء الأخضر الرقراق. كانت تريد أن ترى حيوانات البر وهي تتحرك هنا وهناك ، في لاوعيها البري.

-"لنخبر آل ويليكسون بأننا نروم التنزه عند وادي "فريجيولس" هكذا قالت له.

كانت الرحلة الى ذلك الوادي أمراً معتاداً ليس فيه مشقة. فلا برد هناك ولا وحشة، وفي إمكانهم أن يبيتوا في منزل خشبي أسموه فندقاً. التفت روميرو اليها سريعاً وأجاب:

-"إن أردتِ قول ذلك. أخبري السيدة ويليكسون بنفسك. أعرف تماماً أنها ستفقد صوابها معي إن أخذتك الى الجبال نحو ذلك المكان. وعلي الذهاب أولاً مع حصانٍ محمل بالأمتعة لآخذ الكثير من الأغطية وبعض الخبز. ربما لن تتحمل الآنسة كيومنز الأمر، ربما لن تستطيع. الرحلة شاقة"

كان يتحدث ويفكر، بتلك الطريقة المكسيكية الثقيلة المفككة.

-"لا تلق بالا " أصبحت الأميرة على حين غرة مصممة ومتصلبة في سطوتها "أريد أن أفعلها. سأرتب الأمور مع السيدة ويليكسون، وستذهب أنت يوم السبت"

هز رأسه ببطء وقال:

-" يجب أن أذهب يوم الأحد مع حصان الأمتعة والبطانيات. لا يمكن قبل الأحد"

-"حسن جداً ، سننطلق إذن يوم الاثنين" قالتها بشيء من الاستياء، فقد كرهت أن يعارضها أحد أدنى معارضة. أدرك أنه إذا ما انطلق بالأمتعة فجر الأحد فلن يعود إلا في وقت متأخر من الليل، لكنه وافق على أن ينطلقوا صباح الاثنين، في السابعة. وتم إخبار الآنسة كيومنز بالتحضير لرحلة فريجيولس. أمضى روميرو يوم الأحد خارجاً ولم يكن قد ظهر عندما أخلدت الأميرة الى النوم. لكنها شاهدته صباح الاثنين عندما كانت ترتدي ثيابها وهو يقود الجياد الثلاثة من الحظيرة. وكانت معنوياتها مرتفعة.

تجمع بعض الجليد عند حافات سواقي الري فقد كان الليل بارداً. وزحفت السناجب نحو دفء الشمس واستلقت بأعين واسعة، قلقة، بكماء، وقد منعها الخدر من الجري. قالت الأميرة:

-"ربما نظل في الخارج يومين أو ثلاثة"

فأجابتها السيدة ويليكسون، المرأة الفتية البارعة من شيكاغو:

-"حسن إذن. لن نبدأ بالقلق عليكم قبل يوم الخميس" وأضافت " على أية حال فإن روميرو سيعتني بكم، إنه جدير بالثقة حقاً"

عندما توجهوا صوب الجبال كانت الشمس قد أشرقت لتوها على الصحراء، فلونت أشجار الخشب الزيتي والقصع[17] بضياء شاحب شحوب الرمال الرمادية، وأنارت السهل الفسيح الذي يحيطهم. والى اليمين التمعت ظلال قرى الهنود الطينية، منبسطة تكاد لا ترى فوق هذا السهل .. تراباً فوق تراب! والى الوراء امتدت المزرعة وحزم من أشجار الحور القطني المزغبة التي اصفرت ذراها تحت السماء الزرقاء الرائعة. كان الخريف ينثر ألوانه في المسافات الشاسعة الى الجنوب الغربي. لكن الثلاثة كانوا يخبّون على الطريق صوب الشمس التي تلألأت كالذهب فوق كتلة الجبال الهائلة وقد شرعت منحدراتها الجانبية تشع باصفرار ملتهبة بضياء آخر تحت الزرقة الباردة للسماء الشاحبة. أما المنحدرات الأمامية فقد كانت في الظل، مغمورة بحمرة أشجار البلوط واللون الذهبي الباهت لأشجار الحور والسواد المزرق للصفصاف والزرقة الرمادية للصخور، فيما كان الوادي طافحاً بزرقةٍ عميقة.

قادوا الجياد فرادى، في رتل يتقدمه روميرو على حصانٍ أدهم، وقد ارتدى هو الآخر ثياباً سوداء راسماً بقعة حالكة مضطربة في ذلك الشحوب الرقيق للمنظر، حيث توشحت حتى أشجار الصنوبر البعيدة بغشاءٍ من شحوبٍ أزرق بدلاً من لونها الأخضر. سار روميرو صامتاً في محاذاة أشجار الخشب الزيتي المزغبة وتلته الأميرة على فرسها الكميت. أما الآنسة كيومنز التي ما كانت تشعر بالارتياح على حصانها فقد سارت في النهاية، في الغبار الشاحب الذي أثاره الباقون، وكان حصانها يعطس أحياناً فتجفل هي.

لكنهم مضوا قدماً في خبب لطيف. لم ينظر روميرو الى ما حوله، كان بمقدوره سماع الحوافر التي تتبعه، وكان هذا كل ما يريد. أما الأميرة فقد شعرت بعجزٍ غريب إزاء هذا الرجل اللامبالي الذي يسير مبتعداً على الدوام. لكنها ظلت فرحة تياهة.

دنوا من التلال السفحية المستديرة الشاحبة، المنقطة ببقعٍ سوداء مستديرة من أشجار الأرز والبنيون[18]. صلصلت الجياد وقعقعت فوق الصخور، وكانوا يصادفون بين الحين والحين واحدة من أشجار الخشب الزيتي الكبيرة الممتلئة وقد أبرزت باقة من أزهار صوفية ناعمة مثل ذهب خالص. وانعطفوا نحو الظلال الزرقاء، ثم صعّدوا في منحدر صخري شديد الميلان. وامتدت الأرض الشاحبة بعيداً الى الأسفل، الى الوراء، ثم هبطوا الى ظلال وادي سان كريستوبال.

كان الجدول يتدفق طافحاً سريعاً. وكانت الجياد تنتزع في مسيرها بين وقت وآخر باقة من العشب. وأخذ الطريق يضيق، ويمتلئ بالصخور التي لفتها الظلال. وساد البرد والعتمة والجياد تتسلق وتتسلق مصعِّدة نحو الأعالي. وتزاحمت جذوع الأشجار حول الجدول الظليل الهادئ الذي يضيق. كانوا في غمرة أشجار الحور التي نمت منتصبة، ناعمة، رشيقة الى علو شاهق، وفوقهم كانت الذرى الذهبية .. كانت الشمس. وبعيداً الى الأسفل، في المكان الذي كانت الجياد تجاهد لتتسلق الصخور وتدور حول جذوع الشجر كانت الظلال الزرقاء لما تزل جنباً الى جنب مع خرير المياه. وكنت تجد بين الفينة والأخرى أطواقاً مدلاة من لحية العجوز[19]،.أو زهرة غرنوق شاحبة[20] محشورة هنا أو هناك، بين الطحالب والصخور، في هذه البقعة العذراء. وها هي القشعريرة تغمر قلب الأميرة من جديد، وهي تبصر أي تشابك لليأس والبِلى يقبع في هذه الغابات البكر.

زحفوا نازلين، وخوضوا وعبروا الجدول، ثم تسلقوا الصخور ومضوا عبر شعاب الجانب الآخر من الجبل. توقف حصان روميرو الأدهم ملقياً نظرةً حيرى على الأشجار الساقطة ثم قفز من فوقها بخفة، وتبعته كميت الأميرة في حذر، لكن جواد الآنسة كيومنز الأشقر هاج وتمنع، فصار لزاما أن يدار به من حول الأشجار. وفي الهدوء الغامر نفسه الذي لا يقطعه إلا وقع حوافر الجياد وصوت تناثر الماء الذي يخوضون فيه شقوا طريقهم نحو الأعالي، يغمرهم الظل المتشابك الكثيف للوادي.

أحياناً وهم يعبرون الجدول كانت الأميرة تلقي نظرة خاطفة على الذرى فإذا بقلبها يحتبس بين أضلاعها؛ فهناك في العلى، بعيداً في السماء، كانت قمم الجبال تلمع في اصفرار مرقش بأشجار تنوب راتنجية سمراء، صافية كأزهار نرجس برية، تواجه هذه الزرقة الفيروزية الشاحبة التي تمتد عالية جليلة فوق الظلال الزرقاء المعتمة التي تسير الأميرة فيها. وعندما يعبرون المنحدرات الأكثر اتساعاً كانت تحاول الإمساك بأغصان البلوط الحمراء كالدم، غير دارية بما ينتابها من أحاسيس.

أصبحوا الآن على ارتفاع كبير، وربما أشرفوا بعض الأحيان فوق الوادي نفسه، في الأخاديد الخفيضة، تحت القمم المنقطة ذات البريق الذهبي، التي شمخت دونهم. وغطّوا من جديد، وعبروا الجدول، وسارت الجياد في حذر شديد فوق ملاءة كثيفة من أغصان الحور الساقطة المهشمة فإذا بهم يتخبطون فجأة بين كتلة من الصخور. وتقدم الأدهم وعبر وهو يهز ذيله أما الأميرة فقد تركت فرسها تختار موضع قدميها فعبرت هي الأخرى تلك الكتلة الصخرية وعندها سمعوا الجلبة المسعورة للأشقر في آخرتهم. وانتبهت الأميرة الى وجه روميرو وهو ينظر حوله في انتباه شيطاني غريب ثم تلفتت هي الأخرى كي ترى الأشقر يعرج في محاذاة الصخور وقد احمرت إحدى ركبتيه الشقراوين الباهتتين من أثر الدماء. وصرخت الآنسة كيومنز:

-"لقد كاد أن يهوي"

ترجل روميرو وأسرع في نزول الممر، وشرع بتفحص الركبة الجريحة، بعد أن هدأ من روع الحصان.

-"هل هو جريح ؟ " صرخت الآنسة كيومنز في قلق وترجلت سريعاً. وصاحت حين رأت الدم يسيل في خيط رفيع من القائمة النحيلة الشقراء:

-"آه ، يا إلهي ! أليس هذا فظيعاً! "

كانت تتحدث بصوت متوجع وهي شاحبة. تفحص روميرو ركبة الحصان، ثم جعله يمشي بضع خطوات، ثم انتصب واقفاً وهز رأسه.

-"ليس بذلك السوء! لم ينكسر شيء! "

وانكب ثانية على الركبة الجريحة ثم رفع بصره الى الأميرة وقال:

-"يمكنه الاستمرار، ليس الأمر بالغ السوء "

ونظرت الأميرة من علٍ الى الوجه الأسمر في صمت، وصاحت الآنسة كيومنز :

-"ماذا ؟ أيستمر في الصعود حتى هناك؟ لِكَم من الساعات؟"

-"خمس تقريبا " أجاب روميرو ببساطة.

-"خمس ساعات! " صاحت الآنسة كيومنز "حصان بركبة عرجاء! وجبل شديد الانحدار! وَيْ ! "

-"نعم. أنه وعر حقاً في الأعلى" قال روميرو دافعاً قبعته الى الوراء ومحدقاً بالركبة النازفة فيما وقف الأشقر في حزنٍ أليم.

-"لكني أظن أنه سيفلح في صعوده" أضاف الرجل.

-"آه " صاحت الآنسة كيومنز وعيونها تكتضان فجأة بدموع حبيسة " لن أفكر بذلك. لن أصعد به الى هناك، ولو أعطوني مال الدنيا "

-"ولم لا تفعلين؟ " سأل روميرو.

-"هذا سيؤلمه "

انحنى روميرو من جديد على ركبة الحصان.

-"ربما يؤلمه قليلاً، لكنه سينجح، ولن تتيبس ساقه"

-"ماذا! أمتطيه خمس ساعات صاعدة هذه الجبال الوعرة! " صاحت الآنسة كيومنز " لا أستطيع. أبداً لا أستطيع. سأقتاده قليلاً وأرى إن كان بمقدوره السير. لكني "لا أستطيع" ركوبه ثانية. لا أستطيع. دعاني أمشي على قدمي"

-" ولكن يا عزيزتي الآنسة كيومنز، إذا قال روميرو أنه سيكون بخير –" قالت الأميرة فقاطعتها الآنسة كيومنز:

-"أنا أعرف أنه يتألم. آه. لا أستطيع أبداً تحمل ذلك"

ولم يجدِ شيءٌ مع الآنسة كيومنز. فقد كانت فكرة الحيوان الجريح تضعها دائماً في حالة هستيرية.

تقدموا قليلاً سائرين وهم يقودون الأشقر. كان يعرج بشكل سيئ نوعاً ما. وجلست الآنسة كيومنز على صخرة.

-"وَيْ ! إن رؤيته عذاب لا يطاق! إنها لوحشية! "

-"سيتوقف عن العرج بعد قليل إن لم تلقي اليه بالاً " قال روميرو "أنه الآن يتملقك ويبالغ في العرج كي يثير انتباهك"

-"لا أظن أن هناك مجالاً للتملق" أجابت الآنسة كيومنز بمرارة "بإمكانك أن ترى كم يتألم"

-"الأمر لا يؤلم كثيراً" قال روميرو. ولزمت الآنسة كيومنز الصمت في عداء.

كانت ورطة حقيقية. وتوقف الفريق دونما حراك على قارعة الطريق: الأميرة على سرجها، الآنسة كيومنز جالسة على الصخرة، وروميرو الملفوف بالسواد يقف بعيداً قرب الأشقر المتعب.

-"حسناً" قال الرجل أخيراً واختلس نظرة سريعة الى الحصان المنشغل بقضم الأعشاب الجبلية وهو يدوس على الأعنة المدلاة "أظن إذن أن علينا الرجوع"

"لا. أوه، لا!" رن صوت الأميرة التي أعولت بغضب وحزن عظيمين، لكنها سرعان ما كبحت جماح نفسها. ونهضت الآنسة كيومنز في نشاط وقالت في وقار وبرود:

-"دعاني أعد بالأشقر، وامضيا أنتما الإثنان"

استقبلا كلماتها بصمت. وحدقت اليها الأميرة بسخرية تقارب الوحشية.

-"لم يمض علينا غير ساعتين" قالت الآنسة كيومنز "ولا أمانع البتة في قيادته والعودة به. لكني لا أستطيع ركوبه. لا أستطيع امتطاءه بركبته تلك"

واستقبلا كلماتها هذه ايضاً بصمت قاتل، وظل روميرو ساكنا خامدا.

-"حسن إذن" قالت الأميرة "قوديه وارجعي. ستكونين بخير. لن يصيبك سوء على أية حال. أخبريهم أننا واصلنا الرحلة وأننا سنعود غداً أو بعد غد"

كانت تتكلم ببرود ووضوح. ذلك لأنها لم تكن لتطيق أية معارضة.

-"الأفضل أن نعود جميعاً ونأتي في يوم آخر" قال روميرو دون تصميم.

-"لن يكون هناك يوم آخر!" صاحت الأميرة "أنا أريد الاستمرار" ونظرت مباشرة الى عينيه، والتقت بالشرارة التي فيهما.

رفع روميرو كتفيه قليلاً وقال:

-"إن كنت تريدين ذلك. سأمضي معك. لكن يمكن للآنسة كيومنز أن تركب حصاني حتى آخر الوادي فيما أقود الأشقر، ثم أرجع اليك"

ورتبوا الأمر على ذلك. وضعوا سرج الآنسة كيومنز على الحصان الأدهم وأمسك روميرو بعنان الحصان الأشقر وأقفلا راجعين. ومضت الأميرة لوحدها وصعّدت في بطءٍ شديد. كان الغضب المحتدم على الآنسة كيومنز يعميها عن كل ما حولها؛ فاكتفت بأن ترخي زمام فرسها لتسير كما يحلو لها. رافقتها نوبة الغضب الغريبة طوال ساعة تقريباً. وكانت في هذا الوقت قد ارتقت الى علوٍ لا يستهان به. سارت الفرس بعزم طوال الوقت، ثم انكشفا على منحدر عارٍ، ودار الشِعب خلال سيقان الحور الرجراج الهشة. كانت الريح تهب هنا، حيث تعرت بعض الأشجار لتوها، فيما تهز أخريات أقراص أوراقها الخالصة الصفار، الشبيهة بتويجات الأزهار، بينما يبدو المنحدر قبالتها مثل كتلة متماسكة من الصوف تشع باصفرار نرجسي، ناعمة مثل فراء ثعلب ذهبي، صفراء كنرجسات حية في الريح، في شمس الجبال العالية.

توقفت ونظرت الى الوراء. كانت المنحدرات العظيمة القريبة مرقشة بالذهب وبسمرة أشجار الراتنج مثل نسر لم يطرح ريشه. وكان الضوء المنبسط يلمع فوقها. وبعيداً، عبر فسحة الوادي كانت ترى الزرقة الشاحبة للصحراء الشبيهة بسطح بيضة امتد فوقها الصدع المعتم المتغضن الذي شكله وادي ريو كراند. والى البعيد، البعيد انتصبت الجبال الزرق على الأفق مثل صف من الملائكة.

وفكرت في مغامرتها: ها هي الآن تمضي وحيدة مع روميرو. لكنها واثقة تمام الثقة من نفسها، ولم يكن روميرو من الرجال الذين قد يلمسونها ضد إرادتها. كانت هذه فكرتها الأولى. وتملكتها رغبة واحدة ثابتة هي أن تجتاز حافات الجبال وأن تنظر في الهيولى الداخلية لجبال روكي. لقد أرادت الذهاب مع روميرو بالتحديد لأن به شبهاً غريباً بها، ورابطة غريبة تربط بينهما. ولم تكن الآنسة كيومنز على أية حال غير نغمة ناشزة نافرة.

وتقدمت بفرسها. وانتهت أخيراً الى أكناف القمة. ورأت في البعد الانحناء العظيم من الصخور والأشجار الرمادية الميتة حيث ينتهي الجبل قبالة السماء. لكن في المدى القريب كانت أشجار الراتنج الكثيفة السمراء تقف كالأهداب الشائكة، وعند قدميها رقدت أكناف القمة: وادياً منبسطاً صغيراً من العشب اليابس وأشجار الحور الصفر المنتصبة بهدوء والجدول ينساب عبرها في قطرات كالخيط. كان وادياً أو هيكلاً ينصب منه الجدول في رفق نحو الصخور والأشجار السفلى للوادي. ومن حولها سادت رقة ملائكية: العشب اليابس الناعم، غياض من أشجار الحور الرقيقة الجذوع التي تُسقِط رقاقاتها مثل تويجات الزهور. ومثل الزهور كانت أشجار الحور تنتصب في أجمات وتنزع تويجاتها الصفراء المشرقة والجدول الصغير السريع ينساب في نعومة مثل خيطٍ رقيق بين العشب البري الذاوي.

هنا قد يتوقع المرء رؤية غزال أو خشف أو كائن بري ما كما لو كان في جنة صغيرة، وهنا كان عليها أن تنتظر روميرو حيث يتناولان الغداء. حلت سرج حصانها وأسقطته أرضاً في جلبةٍ، وتركت فرسها تتجول في حبلها المرخى الطويل. كم كانت تانسي جميلة بلونها الأسمر الضارب الى الحمرة بين الأوراق الصفر التي ترقد مثل الغشاوة التي تكسو تماثيل البرونز فوق الأرض الذابلة.

أما الأميرة نفسها فقد ارتدت كنزة صوفية ذات زغابات شاحبة ذابلة مثل العشب وسروال ركوب ذا لون برتقالي مصفر نقي. وشعرت بأنها في الصورة تماماً.

أخرجت من جيوب السرج رزمة الغداء ونشرت منديلاً صغيراً وجلست في انتظار روميرو. ثم أشعلت ناراً صغيرة وتناولت بيضة متبلة. ثم ركضت خلف تانسي التي كانت تبتعد عبر الجدول، وجلست أخيراً في الشمس: في السكون الرائق قرب أشجار الحور وانتظرت.

كانت السماء زرقاء. وكان جبلها الصغير ناعماً رقيقاً مثل أرض الأحلام. لكن المنحدرات العظيمة كانت ترتفع من أمامها ومن فوقها، شاهقة، معتمة بخصلات مدببة من أشجار الصفصاف، أو مكتضة بأشجار ميتة تنتصب كأهداب رمادية بين الصخور المتجهمة، أو مبقعة بالأسود والذهبي. إنها الجبال الفاتنة، الوحشية، المتجهمة، الفظة.. في لحظات رقتها.

رأت الأميرة تانسي تنتصب، ثم تشرع بالجري. وخرج من عتمة غابة الراتنج التي عبر الجدول شخصان مثل شبحين على ظهور الخيل. كانا هنديين راكبين يلتفان كالمومياء في بطانيات قطنية رمادية شاحبة وقد برزت بنادقهما من السرجين. وتقدما من فورهما نحوها، نحو خيط الدخان. وعندما اقتربا كشفا عن وجهيهما وحيياها ناظرين اليها بعيونهم السوداء في فضول. كان شعرهما الأسود متلبدا وعلى أكتافهما انسدلت جدائل طوال مغبرات. لقد بديا في غاية التعب.

ترجلا قرب نارها الصغيرة .. المخيم يعني المخيم! لفا البطانيات على حقويهما وأنزلا السرجين عن الحصانين الصغيرين وحلا وثاقهما ثم قعدا. أحدهما هندي فتي سبق أن التقته وأما الثاني فكان أكبر سناً.

-"أنتَ وحدك؟" سأل الأصغر

-"روميرو سيعود في غضون دقائق" قالت واختلست النظر الى الطريق من ورائها.

-"آه روميرو! أنتَ معه؟ أين ذاهبان أنتما؟"

-"حول القمة. وأنتما؟"

-"نذهب نحن أسفل ، الى بيولا"

-"كنتما خارجين للصيد؟ كم مضى عليكما؟"

-"نعم كنا خارجاً خمسة أيام" وضحك الأصغر ضحكة صغيرة لا مغزى لها.

-"هل ظفرتما بشيء؟"

-"كلا. رأينا آثار ظبيين، لكن لم نظفر بلا أي شيء"

ولاحظت الأميرة كتلة مشبوهة تحت أحد السرجين: غزال ملفوف بالتأكيد. لكنها لم تعلق بشيء.

-"لا بد أنكما شعرتما بالبرد"

-"نعم. باردة جداً في الليل. وجوعانين. ما أكلنا من البارحة. أكلنا كل ما عندنا" وأطلق ثانية ضحكته العديمة المعنى.

كانا يبدوان تحت جلدهما الداكن رجلين جائعين مهزولين. فتشت الأميرة عن الطعام في حقائب السرج، وعثرت على بعض الخبز وقطعة من اللحم المقدد –مؤونة السفر المعتادة-. ناولتهما إياه فشرعا بتحميص شرائح منه فوق النار على أعواد طويلة. وهكذا وجد روميرو المخيم الصغير عندما هبط المنحدر: الأميرة في سروالها البرتقالي وقد لفت رأسها بمنديل حريري أزرق وبني وهي جالسة قبالة الهنديين الأسودي الرأسين وبينهم نار المخيم، بينما انحنى احدهما يشوي اللحم وقد تدلت من شعره المجدول المعصوب ظفيرتان كأنهما سقطتا من التعب.

تقدم روميرو بوجهه الخالي من التعبير، وحياه الهنديان بالاسبانية. أنزل سرجه وأخرج بعض الطعام من الحقائب وجلس ليأكل عند النار. وذهبت الأميرة الى الجدول لتشرب وتغسل يديها.

-"عندكم قهوة؟" سأل الهنديان فأجاب روميرو :

-"لا نحمل قهوة"

تسكعوا قرابة الساعة في شمس الظهيرة الدافئة ثم أسرج روميرو الخيل. وظل الهنديان مقرفصين عند النار. إنطلق روميرو والأميرة مبتعدين وعبرا الجدول نحو غابة الراتنج التي خرج الهنديان منها من قبل وصاحا محيين بالهندية :أديوس!

حين صارا لوحدهما التفت روميرو ونظر اليها بفضول بطريقة لم تستطع فهمها، والتمعت عيناه ببريق قوي. فتساءلت للمرة الأولى إن كانت قد استعجلت الأمور.

-"أرجو أن لا تمانع بالذهاب معي بمفردنا" قالت الأميرة فأجابها:

-"إن أنتِ شئت"

انكشفا الآن عند أقدام المنحدر العظيم العاري لقمة روكي حيث تناثرت أشجار الراتنج الميتة النافرة مثل أهداب شائكة على جثة خنزير رمادي ممدد. قال روميرو إن المكسيكيين أحرقوا هذه الجبال قبل عشرين عاماً لطرد البيض منها. كان هذا القسم من منحدر القمة يشبه الجثة حقاً. وأخذت معالم الطريق تضيع حتى كادت أن تختفي تماماً لولا أن روميرو استدل بالأشجار الى أحرقتها إدارة الغابات. وتسلقا المنحدر الشبيه بالجثة، بين الراتنجات الرمادية الميتة المتهاوية، ثم خرجا للريح.

هبت الرياح مندفعة من ناحية الغرب صاعدة من الصحراء، عبر فم الوادي. وهناك، بعيداً عن فم الوادي كانت الصحراء ترقد مثل سراب عظيم وتميل مرتفعة شيئاً فشيئاً نحو الغرب، هائلة، شاحبة. وشق على الأميرة النظر.

مضت الجياد عبر المنحدر لساعة كاملة، صاعدة في جهدٍ عظيمٍ من أكفالها، تتوقف أحياناً كيما تتنفس، ثم تزحف من جديد، شاقة طريقها مرحلة بعد مرحلة، فوق هذا الجدار المائل المكفهر، والريح تضرب مثل قاطرةٍ هائلة.

بعد ساعة كاملة كانا يخبان فوق المنحنى ولم يعودا يجهدان في الصعود المباشر. وصار كل شيء حولهم ميتاً، رمادياً. وشقت الجياد طريقها فوق جثث الراتنجات الفضية-الرمادية. لكنهما أصبحا الآن قرب القمة، قرب الذروة. فصارت الجياد نفسها تعجل كي تطوي هذه النتفة الأخيرة.

سلكا طريقهما دائرين حتى بلغا رقعة من غابة الراتنجات قرب القمة ذاتها فأسرعا بولوجها هاربين من الريح الآلية الهائلة العملاقة التي صفرت في وحشية باردة شاحبة. وهكذا عبرا من خلال الستارة الظلماء من الأشجار، وانبثقا فوق القمة.

لا شيء يمتد أمامهم الآن سوى الجبال. الجبال العظيمة، الهائلة، التي تربض في عقدة عظيمة متشابكة خالية من أي روح أو حياة. وتحت الخصلات السوداء الشائكة للراتنجات القريبة رقدت بقع من الجليد الأبيض. كانت الوديان الخالية من الروح محض حفر من الصخر والراتنج أما القمم المستديرة والذرى المستدقة من الصخور الرمادية فكانت تتزاحم واحدة إثر الأخرى مثل قطيع هائل عظيم.

أخاف المشهد الأميرة. كان وحشياً للغاية. لم تكن تظنه بهذه الوحشية وهذا العداء للحياة. ورغم ذلك فقد حققت إحدى أمنياتها: لقد رأته، رأت اللب الهائل المخيف، البغيض، لجبال روكي. رأته هناك، تحت أعينها، في الرهبة الثقيلة العظيمة التي توقعها في النفس. وأرادت الرجوع. في هذه اللحظة أرادت الرجوع. لقد أشرفت ببصرها على تشابك أحشاء هذه الجبال، وشعرت بالخوف.. أرادت الرجوع. لكن روميرو كان يتقدم، على الجانب المحمي من الريح من غابة أشجار الراتنج، فوق تجاويف الجبال الداخلية. واستدار نحوها وأشار الى المنحدر بيده السمراء.

-"هنا كان أحد المنقبين يبحث عن الذهب"

كانت كومة رمادية من التراب المستخرج تنتصب قرب إحدى الحفر مثل وجرِ غريرٍ[21]عملاق. وقد بدت كأنها حديثة العهد بالحفر.

-"قبل وقتٍ قصير؟ "

-"كلا. منذ زمن طويل - عشرين أو ثلاثين عاماً " وأمسك زمام حصانه ونظر الى الجبال

-"أنظري. هناك يمتد طريق مصلحة الغابات؛ على امتداد تلك الحافات، ثم القمة، ثم بعيداً حتى يصل الى "لوسي تاون" حيث الطريق الحكومي. سنهبط الى هناك- حيث لا طريق- أنظري. وراء ذلك الجبل. أترين القمة؟ حيث لا أشجار، وقليل من العشب.؟"

ذراعه مرتفعة. يده السمراء تشير الى البعد. عيناه السوداوان تخترقان المسافات وهو جالس على صهوة جواده الأدهم الذي استدار نحوها: بدا في ناظريها غريباً منذراً بالشؤم. لم تكن ترى منه غير شيطانه. كانت تشعر بالدوار، وببعض الغثيان وهي على هذا الارتفاع. ولم تكن قادرة على أن "ترى" المزيد. لم تر غير نسرٍ يستدير محلقاً في الهواء فيُسقِط الضوء القادم من الغرب ظله في الأسفل.

-"هل سأنجح في الوصول الى ذلك البعد؟ " سألت الأميرة في وهن وفظاظة.

-"آه، نعم! كل شيء سهل الآن. لا مزيد من الأماكن الوعرة"

سارا على طول الحافة، صاعدين، نازلين، لازمين الجانب الداخلي المحمي من الريح، في الظل المعتم. كان الجو بارداً، ثم ارتفع الطريق من جديد. ووجدا نفسيهما فوق مسلك حاد ضيق يهوي الجبل من جانبيه الى أعماق سحيقة. وانتاب الأميرة خوف شديد. ونظرت هنيهة الى البعيد فأبصرت الصحراء، وحافات الصحراء، والمزيد من الصحراء، ثم المزيد من الحافات الزرق، تلمع في شحوب، هائلة، بعيدة نحو الأسافل، منحنية في شحوب هائل نحو الأفق الغربي. كان مشهداً مخيفاً، أثيريا في اتساعه الوامض، الشاحب، نصف الصقيل، الذي يميل صوب الغرب، فلم تستطع تحمل رؤيته. أما الى اليسار فكانت كتلة الجبال الخرقاء المتشابكة الراكعة في ثقلٍ عظيم.

أغمضت عينيها وتركت وعيها يتبخر، واقتفت الفرس آثار الطريق، ماضية في الريح من جديد. أدارا ظهريهما للرياح ميممين وجهيهما نحو الجبال. وخيل اليها أنهما انحرفا عن الطريق الذي ما عاد مرئياً.

-"كلا" قال مشيراً بيده المرفوعة "ألا ترين الى الأشجار المحروقة؟"

واستطاعت بعد أن استنفرت بعض وعيها أن تبصر فوق جذع راتنجة ميتة شاحبة آثاراً قديمة لفأس عملت في خشبها. لكن البرد والريح وهذا العلو الشاهق خدروا عقلها.

واستدارا ثانية وبدءا بالنزول. وأخبرها أنهما تركا الطريق كانت حوافر الخيل تنزلق فوق الحجارة الرخوة مستكشفة طريقها نحو الأسفل. كان الوقت عصرا والشمس تومض مندفعة في السماء الدنيا: إنها الرابعة تقريباً. ومضت الجياد بعزم. بطيئة لكن في عناد. وازداد الهواء برداً. كانا الآن بين القمم المتكتلة الثقال والوديان المقعرة الشديدة الميل. وصارت بالكاد تعي وجود روميرو.

ترجل وتقدم ليساعدها في النزول عن سرجها. وترنحت لكنها لم تكشف عن ضعفها.

-"يجب أن نزحف هنا نازلين. يمكنني اقتياد الجياد"

كانا فوق الحافات المرتفعة يواجهان منحدراً عارياً شديد الميلان يغطيه العشب الجبلي الشاحب المصفر الذي غشيته بأكمله أشعة الشمس الغربية. إنه منحدر شديد الميل. وأحست الأميرة أنها قد تنزلق وتهوي كما لو في زحليقة أطفال نحو الهوة العظيمة. لكنها لملمت نفسها والتمعت عيناها من جديد بالإثارة والتصميم. واندفعت الريح من جانبيها وتناهى الى سمعها عزيفها بين الأشجار في الأسفل البعيد. واصطبغ خداها ببقع مضيئة، وتطاير شعرها في الريح. كانت مثل مخلوقٍ بري، ملائكي، صغير.

-"كلا، سأقتاد فرسي بنفسي"

-"حاذري إذن من سقوطه فوقك" قال روميرو ثم ابتعد هابطاً ذلك المنحدر الشاهق الشاحب، فوق العشب الذابل، من صخرةٍ لأخرى، عائذاً بكل شق مائلٍ صغير. وأخذ الحصان من خلفه يثب، وينزلق، ويجمد أحياناً كالميت، دافعاً ساعديه الى الوراء، رافضاً كل تقدم. عندها كان روميرو يرفع عينيه نحوه ويجذب اللجام برفق ويشجع المخلوق الحائر المرتبك. وسرعان ما يعود الحصان ليرخي ساعديه في ارتعاش، ويواصل النزول.

وانطلقت الأميرة في تعقب متهورٍ أعمى. مترنحة لكن رشيقة. وأبصرها روميرو الذي واضب على الالتفات اليها لينظر كيف تتدبر أمرها؛ أبصرها ترفرف نازلة مثل طيرٍ صغيرٍ غريب: سروال ركوبها البرتقالي يخفق مثل قدمي إوزة، ورأسها الملفوف في المنديل الأزرق والأصفر يدور من هنا وهناك كرأس طائرٍ متوجٍ بالزرقة. وزلت الكميت وتمايلت خلفها، لكن الأميرة واصلت النزول في تهور وعزم، كبقعة حية ضئيلة فوق خاصرة الجبل الهائلة المصفرة الغائرة. صغيرة للغاية ! صغيرة كبيضة طائرٍ قصيمة. وأغرق المشهد عقل روميرو في ظلام الشك والعجب.

لكنهما كانا مرغمين على النزول كي يخرجا من هذه الريح الصرصر التي تخدر الأجساد. وانتصبت أشجار الراتنج في الأسفل، حيث ينبثق جدول صغير من بين الصخور. واندفع روميرو مبعداً، شاقاً الى الأسفل طريقاً متعرجة. ويعيداً من ورائه، في أعالي المنحدر، رفرفت الأميرة الزاهية، الصغيرة، وهي تمسك بالعنان المرخى الطويل للفرس المتثاقلة بأقدامها الأربعة المنزلقة.

وانتهوا أخيراً الى الأسفل. وجلس روميرو في الشمس قرب أجمات عليقٍ هندي انخفضت عن مهب الريح. ودنت الأميرة وخداها يضطرمان بالألوان في توهجٍ عجيب، عيناها زرقاوان قاتمتان، أكثر قتامة من منديل رأسها.

-"لقد فعلناها" قال روميرو.

-"نعم" قالت الأميرة وألقت الأعنة الى الأرض، وارتمت على العشب وقد عجزت عن الكلام، عجزت عن التفكير. لكنهما صارا، بنعمة من السماء، في الشمس، بعيداً عن مهب الريح.

استعادت في دقائق قليلة وعيها وتحكمها. وشربت قليلاً من الماء، بينما اعتنى روميرو بالسرجين. ثم انطلقا من جديد وهما يقتادان الفرسين مسافة أخرى أسفل الجدول. ثم صار بامكانهما معاودة الركوب. سارا نزولاً الى إحدى الضفاف، ثم ولجا غيضة في الوادي مكتضة بأشجار الحور، وسلكا طريقاً متعرجاً بين جذوع الشجر النحيلة الناعمة الشاحبة.وضياء الشمس يظهر ويختفي أمامهم، وأوراق الحور الاسطوانية تتموج بإشارات آلية غريبة وكأنها تنثر الضياء الذهبي أمام ناظريها. وسارا وسط نثارٍ من ذهبٍ يخطف الأبصار.

ثم دخلا في العتمة، بين أشجار الراتنج الصمغية الداكنة. كادت الأغصان الوحشية تسقطها من على الفرس المرة تلو المرة فكان عليها أن تتلوى وتتأرجح كي تتفاداها. غير أنهما رأيا ما يشبه الطريق القديم المندرس. وفجأةً انبثقا في الشمس، على حافة الغابة الصغيرة, وهناك أبصرا الكوخ الصغير، وقاع الوادي الصغير العاري إلا من الصخور الرمادية وأكوام الحجارة، والبركة المستديرة بمائها الأخضر، العميق، المعتم الخضرة وقد أوشكت الشمس على مغادرتها. بل إن الظلال ما لبثت أن غطت الكوخ والأميرة نفسها حالما ترجلت. لقد غمرتهم العتمة الدانية، عتمة الغسق. أما في الأعالي فقد ظلت الجبال سابحة في الضياء.

كان كوخاً صغيراً أشبه بجحر حفر في الأرض، قرب أشجار الراتنج بأرضية من تراب وباب بلا فواصل. لم يكن يتسع إلا لسريرٍ خشبي مبيت في الجدار وثلاثة جذوع مقطوعة جعلت مقاعد للجلوس ثم محلٍ يشبه الموقد .. ولا شيء آخر. لم يكن للحفرة أن تضم شخصين إلا في مشقة، وكان السقف قد زال منذ زمنٍ فنشر روميرو مكانه أغصان راتنج سميكة.

غزت المكان تلك العفونة الغريبة للغابة البدائية: عفونة الحيوانات وفضلاتها. عفونة البرية التي كانت الأميرة تعرف مقدار إثارتها للتقزز.

كانت تحس بالإرهاق والوهن. أسرع روميرو فأحضر قبضة من ناعم الأغصان وأشعل ناراً صغيرة في الموقد الحجري ثم خرج ليعتني بالجياد. وطفقت الأميرة ترمي الأعواد في النار في وهن وآلية، في ضربٍ من الإنشداه، وهي ترقب النار مسحورة مفتونة. لم يكن بمقدورها أن تزيد النار لئلا يحترق الكوخ. وتسلل الدخان من المدخنة البالية المصنوعة من حجر وطين. وعندما عاد روميرو وهو يحمل الأكياس والسرجين وعلقهما على الجدار جلست الأميرة على الجذع الخشبي قبالة الموقد القديم لتدفئ يديها الصغيرتين فوق اللهيب. والتمتع سروالها البرتقالي وكأنه نار ثانية. كانت في حالة من الذهول المطبق.

-"هل تتناولين الآن شيئاً من الويسكي أو الشاي أم تنتظرين بعض الحساء؟" سألها فنهضت ونظرت اليه بعينين مضيئتين ذاهلتين نصف مستوعبتين، والأوان تضطرم في خديها، وأجابته:

-"بعض الشاي، مع قليل من الويسكي. أين الإبريق؟ "

-"انتظري. سأحضر الأشياء"

التقطت عباءتها من السرج وتبعته الى العراء. كانا غارقين في هوة عميقة من الظلال، لكن السماء في الأعالي لما تزل مشرقة ، وذرى الجبال تلتمع بأشجار الحور كالتماع النار. وكانت الخيل تقضم العشب من بين الصخور. تسلق روميرو كومة من الحجارة الرمادية وشرع بإزالة الصخور والجذوع حتى كشف عن فوهة واحدة من حفر المنقبين القديمة. كان هذا مستودعه السري. أخرج لفافات من الأغطية، وأواني للطبخ، وموقداً نفطياً صغيراً، وفأساً .. عدة المخيمات المعتادة. بدا في نظر الأميرة خفيفاً، نشيطاً، طافقاً بحيوية وسرعةٍ أخافتاها بعض الشيء.

أمسكت بأحد القدور وانحدرت نحو البركة. كان الماء ساكناً وغامضاً للغاية وذا لون عميق الاخضرار ولكن في نقاء وشفافية كالزجاج. كم كان المكان بارداً! كم كان مليئاً بالغموض والخوف! ربضت عند الماء لتغسل القدر وهي ملفوفة بعباءتها الداكنة، وأحست بالبرد الشديد من فوقها، وبالظل الذي يجثم على كاهلها ويحنيها نحو الأرض مثل حملٍ ثقيل. كانت الشمس تغادر الذرى، وترحل لتتركها تحت العتمة العميقة التي سرعان ما ستسحقها سحقاً.

شرارات ؟ أم أعين ترصدها عبر الماء؟

حدقت مثل نائم مغناطيسي، واستطاعت بعينيها الحادتين أن تتعرف في الضباب على صورة شاحبةٍ لوشقٍ[22] يربض في الجانب الآخر من البركة، شاحباً كالصخور التي يجثم بينها. كان يراقبها بعيونٍ باردةٍ مكهربة فيها قوة غريبة، نوعٌ من التساؤل الجليدي وانعدام الخوف. رأت شواربه المندفعة وأذنيه المزغبتين المنتصبتين بقوة. كان يراقبها بفضولٍ حيوانيٍ بارد، وكان هذا شيئاً شيطانياً، شديد الوحشية.

أبدت حركة سريعة فدلقت الماء، واختفى الحيوان في طرفة عين، وقد ثنى ذيله الصغير، قافزاً مثل قطةٍ مذعورة غريبة ناعمة الحراك. كان مشهداً لا يخلو من السحر. ولكن ياله من ترقب جليدي، شيطاني، لا يعرف التعب! وارتجفت من البرد والخوف. كانت تعرف من قبل ما تثيره البراري من فزع وكراهية.

حمل روميرو لفافات الأفرشة وعدة المخيم الى الكوخ الخالي من النوافذ الذي خيم عليه الظلام. أشعل مصباحاً ثم خرج من جديد وبيده الفأس. وسمعته يقطع الأخشاب وهي تطعم النار بالحطب لتسخن الماء. وحين دخل وقد ملأ ذراعيه بعصي من شجيرات البلوط كانت قد رمت لتوها بعض الشاي في الماء الساخن.

-"إجلس لتشرب الشاي" قالت له.

سكب قليلاً من الويسكي المهرب[23] في أكواب الخزف، وجلسا في غمرة الصمت على الجذعين يرتشفان الشراب الساخن ويسعلان من أثر الدخان بين وقت وآخر.

-"لنحرق نحن عيدان البلوط هذه" قال روميرو "إنها لا تبعث الدخان كثيراً"

بدا لها غريباً ونائياً ولا يتفوه إلا بما يجب أن يقال. أما هي فكانت من جانبها بعيدةً عنه أيضاً. كانا بعيدين عن بعضهما، تفصلهما عوالم كاملة، لكنهما الآن على هذا القرب الشديد. حلّ لفافة من الأفرشة ونشر البطانيات وجلود الأغنام على السرير الخشبي.

-"أرقدي واستريحي" قال لها "وأنا أعد العشاء"

وقررت أن تفعل ذلك. لفت عباءتها حول نفسها واضطجعت معطية وجهها للجدار. وسمعته وهو يعد العشاء على الموقد النفطي الصغير، وسرعان ما شمت رائحة الحساء ثم سمعت أزيز الدجاج الذي يحمر في المقلاة.

-"تأكلين عشاءك الآن؟" سألها.

جلست في السرير بحركة قانطة متشنجة ودفعت شعرها للوراء وأحست بأنها محاصرة في زاوية.

-"ناولني إياه هنا" قالت له.

ناولها أولاً كوباً من الحساء. جلست بين الأغطية وتناولته على مهلٍ. كانت جائعة. ثم ناولها صحناً من قطع الدجاج المقلي وهلام الزبيب الزبد والخبز. كان الطعام لذيذاً. وأعد القهوة وهما يتناولان الدجاج. لم تتفوه بكلمة. كان الاستياء يملؤها.. كانت محاصرة.

عندما انتهى العشاء غسل الأطباق ونشفها ووضع كل شيء في محله لئلا يكتظ الكوخ الصغير. وأرسل خشب البلوط دفأه الطيب البهي. لبث بعض الوقت متحيراً ثم سألها:

-"تريدين أن تخلدي للنوم باكراً"

-"باكراً " أجابت " وأين ستنام؟"

-"سأصنع لي فراشاً هنا" وأشار الى الأرض قرب الجدار "البرد شديد في الخارج"

-"نعم" أجابته "أظنه كذلك"

جلست دون حراك، خداها ساخنان، وأفكار متصارعة تلف ذهنها. راقبته وهو يطوي البطانيات على الأرض ومن تحتها جلود الأغنام. ثم خرجت الى الليل.

كبيرة كانت النجوم، وكان المريخ يجلس على حافة أحد الجبال وكأنه دون ريب عين لامعة لأسدٍ جبلي جاثم. أما هي فكانت في الأسفل، عميقاً الى لأسفل، في نقرةٍ من الظلام. وبدا لها أنها تسمع وسط هذا الصمت العميق الفرقعة الخفية للبرد وشحنات الكهرباء التي تصدر عن غابة الراتنجات. وطغت على صفحة الماء نجيمات غريبة أجنبية. كان الليل آخذاً بالانجماد، وتناهى من فوق التلال عواء الذئاب المنغم الباكي. وتساءلت كيف ستكون حال الجياد.

وأقفلت نحو الكوخ وهي ترتجف قليلاً. وتبين الضياء الدافئ من خلال الشقوق. ودفعت الباب المتداعي النصف المفتوح.

-"ماذا عن الجياد؟ " سألته

-"حصاني الأدهم لن يذهب بعيداً. وفرسك ستظل معه – تريدين النوم الآن ؟"

-"أظن ذلك"

-"حسناً، سأعلف الجياد بعض الشوفان"

وخرج الى الليل.وتأخر في العودة بعض الشيء. كانت راقدة في سريرها وقد لفت نفسها بإحكام. نفخ على المصباح فأطفأه، ثم جلس في فراشه ليخلع ثياب، واضطجعت مديرة ظهرها، وسرعان ما غطّت في النوم في هذا الهدوء.

حلمت بأن السماء تسقط ثلجاً. وبأن الثلج يهمي عليها عبر السقف، ناعماً، ناعماً، وهي عاجزة. وكانت ستدفن تحته وهي حية. كانت تزداد برداً وتزداد، وكان الثلج يثقل على جسدها. كان الثلج يمتصها. واستيقظت برعشة مفاجئة تشبه الألم. كانت بردانة للغاية، ربما خدرت البطانيات الثقيلة جسدها. وخيل اليها أن قلبها عاجز عن الخفقان، وأحست أنها لن تستطيع الحراك. نهضت جالسة بارتعاشة أخرى. كان الظلام عميقاً، لم تكن هناك شرارة من نار. لقد أشتعل الخشب الخفيف عن آخره. جلست في الظلام الدامس الكثيف، لم تستطع أن ترى من خلال الشقوق غير نجمة وحيدة.

ماذا كانت تريد؟ آه، ماذا كانت تريد ؟

جلست في السرير وأخذت تهتز وتتمايل في بؤس. كانت تسمع التنفس المطرد للرجل النائم. كانت ترتجف من البرد. وبدا لها أن قلبها سيتوقف. أرادت الدفء والحماية. أرادت أن تُنتزَع من نفسها. لكنها في الوقت نفسه أرادت، وربما أكثر من أي شيء، أن تظل سليمة، سليمة، لم يلمسها أحد. أن لا يكون لأي كان سلطة عليها، أو حقاً يطالبها به. كانت هذه حاجة جامحة في نفسها: أن لا يكون لأي كان، وبالتحديد لأي رجل كان، أية حقوق أو سلطة عليها. أن لا تكون ملكاً لأيما شيء، أو أيما إنسان.

ولكن ذلك الشيء الآخر! وهذا البرد الشديد الذي يرجفها. وقلبها الذي لا يستطيع النبض!

آه. أما من أحد يعين قلبها على الخفقان!

حاولت أن تتكلم فلم تستطع. ثم حررت حنجرتها.

-"روميرو" قالت بصوت غريب " البرد شديد"

من أين جاء صوتها؟ وصوت من كان في هذا الظلام؟

وسمعته ينتصب جالساً ويقول بصوته المجفل الذي يتذبذب برنين خالته معادياً:

-"ماذا ؟ ما الأمر؟ ها؟"

-"أنا بردانة"

وقام من بين الأغطية ووقف بحذاء السرير.

-"أتريدينني أن أدفئك ؟"

-"نعم"

حالما رفعها بين ذراعيه أرادت أن تصرخ به أن لا يلمسها. وصلبت جسدها. لكنها لم تنبس ببنت شفة. أما هو فقد كان دافئاً، لكنه ذلك الدفء الحيواني الفظيع الذي يلغي وجودها ويسحقها. كان يلهث مثل حيوان مغتلم. واستسلمت هي لـ "هذا الشيء". لم تكن تريد أبدا، أبدا أن تستسلم. لكنها "رضيت" أن يحدث لها. وبإرادتها هي اضطجعت وتركته يحدث لكنها لم تكن تريده. لم تكن تريد أن تهاجَم أو تُمَس أو تُخاشَن. كانت تريد أن تحتفظ بنفسها لنفسها.

ورغم ذلك فقد وافقت على حدوثه، وحدث، ولهثت بشعورٍ من الارتياح والخلاص عندما انتهى كل شيء. وكان عليها رغم ذلك أن تظل في القبضة الصلبة القوية لهذا المخلوق الآخر، هذا الرجل. خشيت أن تكافح للتخلص. خافت كثيراً البرد الجليدي لذلك السرير الآخر.

-"هل تريدين الابتعاد عني؟" سألها بصوته الغريب.

آه لو كانت بعيدة بآلاف الأميال! ورغم ذلك فقد رضيت أن تكون بهذا القرب، وأجابته:

-"لا" وأحست بالفرح الغريب والفخر الذين غمراه من جديد، وعلى حسابها هي، لأنه ظفر بها. وأحست بأنها ضحية. وكان هو جذلاً بسلطته عليها، بتملكه، بمتعته.. وعندما حل الفجر كان يغط في النوم. انتصبت جالسة فجأة وقالت:

-"أريد ناراً"

فتح عينيه البنيتين على اتساعهما، وابتسم بترفٍ غريبٍ ناعم.

-"أريدك أن توقد لي ناراً" قالت له. ألقى نظرة عجلى على الشقوق المضاءة وتصلب وجهه الأسمر استقبالاً للنهار.

-"حسناً " قال لها "سأوقدها" وأخفت وجهها وهو يرتدي ثيابه. لم تتحمل النظر اليه. كان مصطبغاً بالترف والفخار. أخفت وجهها في يأسٍ تقريباً. ولكنها عندما شعرت بتيار الهواء البارد الذي داهمها عندما فتح الباب تسللت الى موضعه الدافئ في الفراش. ما أسرع ما انحسر الدفء عندما غادر المكان. أوقد ناراً ثم خرج وعاد بعد قليل وهو يحمل الماء.

-"إبقي في الفراش حتى تشرق الشمس" قال لها "الجو بارد جداً"

-"ناولني عباءتي"

لفت العباءة حول جسدها بإحكام ووقفت وسط البطانيات. كان الدفء قد بدأ يشع من النار

-"أفترض أننا سنبدأ بالرجوع حالما ننهي إفطارنا" قالت له.

كان جاثماً عند الموقد النفطي يقلي البيض المطروق. نظر اليها فجأةً كالمصعوق، وصوب عينيه البنيتين المتسعتين بالترف والنعومة.

-"أتريدين ذلك؟"

-"من الأفضل أن نعود بأسرع ما يمكن" قالت وهي تتجنب عينيه.

-"تريدين الابتعاد عني؟" أعاد عليها سؤال الليلة البارحة في نوع من الوجل.

-"أريد أن أبتعد عن هذا المكان" قالت بتصميم. وكان هذا صحيحاً. لقد أرادت قبل كل شيء أن تبتعد، أن تعود الى عالم البشر.

انتصب على قدميه بتمهل وهو يمسك المقلاة.

-"ألا تحبين ما جرى الليلة البارحة؟"

-"ليس كثيراً" أجابته "لماذا؟ هل تحبه أنت؟"

أنزل المقلاة ووقف يحدق في الجدار. وأدركت أنها سددت اليه ضربة قاسية. لكنها لم تلن. لقد كانت ترد الصاع بالصاع. كانت تريد استرداد نفسها بالكامل. فقد تشعر بإحساس غريب بأنه ما زال يمتلك جزءاً منها.

نظر اليها بوجهٍ مكفهرٍ كئيب وتملاها على مهلٍ.

-"أنتن الأمريكيات" قال لها "تحاولن دائماً الحط من قدر الرجال"

-"لست أمريكية" أجابته "أنا بريطانية. وأنا لا أريد الحط من قدر أحد. أنا فقط أريد الرجوع. الآن"

-"وماذا ستقولين عني، هناك في الأسفل؟"

-"سأقول إنك كنت لطيفاً معي للغاية، وطيباً جداً"

وجثم ثانية واستمر بتقليب البيض. ناولها صحنها وقهوتها وجلس الى طعامه. ولكنه لم يستطع أن يبتلع من شيئاً فنظر اليها وسألها:

-"ألا تحبين الليلة البارحة؟"

-"ليس كثيراً" أجابته رغم بعض الصعوبة "أنا لا أهتم بهذا النوع من الأمور"

وغمرت وجهه حيرة ذاهلة إزاء هذه الكلمات، وتلتها على الفور نظرة مكفهرة من غضب، ثم من يأسٍ متحجرٍ مشؤوم.

-"لا تفعلين؟"

-"ليس كثيراً" ردت عليه، ونظرت الى عينيه في عداءٍ راسخ.

وامتقع وجهه بلهيب مكفهر.

-"أنا أجعلك" قال لها وكأنه يحدث نفسه. ونهض وتناول ثيابها المعلقة على المشجب: الثوب الداخلي الكتاني الناعم، سروال الركوب البرتقالي، الكنزة الصوفية، المنديل الأزرق والأصفر، ثم التقط حذائي ركوبها والخفين الخرزيين وسحقها جميعاً بين ذراعيه وفتح الباب. ورأته وهو ينزل نحو البركة الخضراء الداكنة في الظل المتجمد لذلك الوادي العميق ويلقي الثياب على صفحة الماء المتجمد. ورأت الأميرة حاجاتها: الثوب الكتاني الأبيض، السروال البرتقالي، الأحذية السوداء والخفين الأزرقين، رأتها جميعاً منثورة في كومة متشابكة من الألوان، فوق المرآة الخضراء المعتمة الصافية، في الظل الأزرق. والتقط روميرو بعض الأحجار وضرب بها صفحة الماء حتى تكسر الجليد واختفت الثياب المرتعشة في الماء الذي يتكسر فيردد الوادي صدى تهشمه.

جلست بين الأغطية وقد غمرها اليأس، وشدت إليها بقوة عباءتها الزرقاء الشاحبة. وعاد روميرو من فوره الى الكوخ.

-"الآن ستظلين معي هاهنا"

واشتعلت بالغضب. والتقت عيناها الزرقاوين بعينيه. كانا مثل شيطانين يراقب أحدهما الآخر. وتكشف وجهه، من خلف هذا القنوط المقيم، عن توق شيطاني الى الموت. ورآها تنظر حولها وهي تستكشف الكوخ. ورآها وعينها على البندقية، فالتقطها وخرج. وعندما رجع جر سرجها وحمله الى البركة وألقاه فيها، ثم أخذ سرجه وفعل به الشيء نفسه.

-"والآن. هل ستبتعدين؟" قال وهو يتطلع اليها مبتسما.

فكرت في إقناعه وملاطفته، لكنها أدركت أن ذلك لن يعود مجديا بعد. جلست بين أغطيتها في ضرب من اليأس المتجمد، وقد تصلبت كالجليد من شدة الغضب. وأنهى روميرو بعض الأشغال المعتادة، ثم حمل بندقيته واختفى. نهضت في "بجامتها" الزرقاء وقد انكمشت في عباءتها ووقفت عند الباب. كانت البركة الخضراء الغامقة لما تزل ساكنة، وكانت المنحدرات الحجرية شاحبة متجمدة. ورقد في الوادي ظل عميق ساكن كالموت، ورأت الخيل من بعيد وهي تعلف. آه لو استطاعت الإمساك بواحد منها!

كانت الشمس الساطعة في منتصف طريقها الى أعالي الجبل، كانت الساعة التاسعة. ظلت وحدها طوال النهار، وكانت تشعر بخوف لم تكن تعرف له سببا؛ ربما كانت تلك الطقطقة الآتية من غابة الراتنج المعتمة، ربما ذلك التوحش القاسي لهذه الجبال. لكنها ظلت طوال النهار جالسة عند المدخل تتطلع الى بصيص من أمل. وظلت أمعاؤها تتقطع من الخوف. ورأت في المدى البعيد بقعة سوداء ربما تكون دباً يتسكع في الشمس فوق المنحدر المعشب الشاحب . وعندما رأت روميرو عند العصر وهو يدنو في حزن صامت حاملا بندقيته وغزالا ميتا، هدأ التقلص في أمعائها ثم شعرت بمزيد من البرد. كانت تحس إزاءه بخوف بارد كالجليد.

-"هناك لحم غزال" قال لها وهو يرمي الغزال القتيل عند قدميها "أنت لا ترغبين بالابتعاد عن هنا، هذا مكان جميل"

وانكمشت نحو الكوخ.

-"تعالي الى الشمس" قال لها وهو يتبعها. نظرت اليه بعينين خائفتين معاديتين "تعالي الى الشمس" أعاد عليها وهو يجرها من ذراعها في رفق بقبضته القوية. وأدركت أن لا جدوى من العصيان. قادها الى الخارج بهدوء وجلس في المدخل دون أن يفلت ذراعها.

-"إنها دافئة في الشمس" قال لها "أنظري، هذا مكان لطيف، وأنت امرأة بيضاء حلوة، لماذا تتصرفين معي بنذالة؟ اليس هذا مكانا لطيفا! تعالي! تعالي الى هنا! إنها دافئة هنا بالتأكيد"

وجرها اليه، ونزع عنها العباءة رغم مقاومتها المتحجرة، وضمها وهي في "البجامة" الزرقاء الخفيفة.

-"أنت بالتأكيد امرأة بيضاء صغيرة جميلة، صغيرة وجميلة. لن تكوني وضيعة معي –أنتِ لا تريدين ذلك- أنا أعرف أنك لا تريدين"

وكان عليها أن تستسلم له وهي متصلبة، عديمة الحول. وأشرقت الشمس على أديمها الأبيض الرقيق.

-"أنا بالتأكيد لن أبالي بالجحيم بعد هذا" قال لها وقد سيطر عليه من جديد مزاج من مرح مترف غريب. غير أنها كانت تقاومه –رغم ضعفها الخارجي- بكل صلابة وحزم وعندما تركها بعد ذلك قالت له على حين غرة:

-"تظن أن بمقدورك الاستحواذ عليّ بهذه الطريقة. لكنك لن تستطيع. لن تستطيع أبداً أن تستحوذ عليّ"

وقف ينظر اليها كالمصعوق وعلى محياه تتصارع مشاعر مختلفة: العجب، الدهشة، لمسة من خوف، وألم غير واعٍ يشوه وجهه حتى ليغدو أشبه بالقناع. ثم خرج دون أن ينطق بكلمة، علق الغزال القتيل على أحد الغصون وشرع بتقطيعه. وغطست الشمس بينما هو عاكف على جزارته هذه وحل الليل البارد من جديد.

-"هل ترين؟" قال لها وهو منكب على إعداد العشاء "أنا لن أدعك تذهبين. أتذكر أنك أنت ناديتني في الليل إن لي بعض الحق. إذا أردت أن تسوي الأمر في الحال، وأن تقولي أنك اردت البقاء معي فإننا سنسوي الأمر الآن وننزل الى المزرعة غدا ونتزوج أو نفعل ما تريدين، ولكن عليك أن تقولي أنك أردت البقاء معي، وإلا فإني سأبقى هنا، حتى يحدث شيء ما"

إنتظرت قليلا ثم أجابت:

-"لا أريد أن أكون مع أحد ضد إرادتي. أنا لا أكرهك. على الأقل لم أكرهك حتى حاولت وضع إرادتك فوق إرادتي. لن أسمح لأي كان أن يفرض إرادته عليّ. لن تنجح أنت ولن ينجح أحد. لن تستطيع وضعي رهن إرادتك، ولن يكون لديك متسع من الوقت للمحاول، فعما قريب سيرسلون من يبحث عني"

توقف عند جملتها الأخيرة وراح يفكر فيها فندمت على ما فرط منها، ثم عاد من جديد لينكب على تحضير الطعام.

لم يستطع أن يستحوذ عليها مهما كرر الانتهاك. لقد كانت روحها صلبة لا شرخ فيها كالماس. لكنه كان يستطيع تهشيمها. إنها تعرف ذلك ، وقد رضيت هي بأن تتهشم.

حاول مرارا بطريقة عنيفة كئيبة أن يوسع رغبته نحوها، وكانت في كل مرة تتمزق من الغضب وتشعر بأنها ميتة لا محالة. ذلك لأنه تمكن بطريقة غريبة من السيطرة عليها، على جزء منها لم تكن تدركه ولا تتمنى إدراكه. كانت تحس، وهي تتقلب في غضب حارق ممزق، بأن خيط حياتها سينفرط وبأنها لا بد ميتة. إنها النار الحارقة التي تعذبها من الداخل. آه لو عادت من جديد وحيدة، باردة، عذراء لم تمس! ترى هل سيمكنها أن تطيق نفسها مرة أخرى؟ لم تكرهه حتى الآن. كان الأمر أبعد من ذلك، مثل لعنة ممزقة حارقة. أما وجوده الشخصي فكانت بالكاد تشعر به.

في اليوم التالي لم يسمح لها بإيقاد النار لئلا يجلب الدخان الانتباه. كان يوما مكفهرا وكانت تحس ببرد شديد. ظل روميرو في الجوار، وسخن الحساء على الموقد النفطي. ورقدت هي بين البطانيات دون حراك. وعند العصر سحبت الأغطية فوق رأسها وانخرطت في بكاء شديد وهي التي لم يسبق لها أن بكت بشكل حقيقي طوال حياتها. جر البطانيات وكشف عن وجهها كي يرى سبب اهتزازها: كانت تنشج في نوبة هستيرية يائسة. أعاد الغطاء على وجهها وخرج. راح يتأمل الجبال حيث تجرجر الغيوم أذيالها وتخلف وراءها نتفاً من الثلج. كان يوما عاصفا، فظيعا. كان شيطان الشتاء يزحف على الأرض.

بكت طوال ساعات. وحل بينهما بعدها صمت عظيم. كانا الآن شخصين ميتين. ولم يلمسها بعد ذلك كرة أخرى. وعندما حل الليل رقدت وأخذت ترتجف مثل كلب محتضر. وأحست أن ارتجافها هذا سيمزق شيئا في جسدها فتموت. وأجبرت في النهاية على الكلام فقالت له من ين أسنانها التي تصطك:

-"هل لك أن تشعل نارا. أشعر بالبرد الشديد" وجاء صوته مجيبا:

-"هل تريدين المجيء اليّ؟"

-"أفضل لأن تشعل لي نارا" قالت واسنانها تصطك حتى لتنقسم الكلمات الى نصفين.

ونهض وأوقد نارا. وانتشر الدفء أخيرا وصار في إمكانها أن تنام.

وكان اليوم التالي قارس البرد. وهبت بعض الرياح، لكن الشمس أشرقت في النهاية. أخذ يتجول في صمت بوجه كوجوه الميتين. وأزداد الأمر كآبة. وبلغ من شبهه بالموت أن تمنت منه فعل أي شيء إلا الاستمرار في هذه التجاهل. لو سألها الآن أن تنزل معه الى الناس وتتزوج مه لفعلت. ماذا يهم؟ لا شيء يهم على أية حال. لكنه لم يشأ سؤالها. كانت الرغبة في داخله ميتة، ثقيلة مثل الجليد. واستمر في مراقبته حول المنزل.

في اليوم الرابع كانت جالسة في الشمس عند المدخل وقد لفت نفسها بإحدى البطانيات. رأت فارسين يصعدان قمة المنحدر المعشب، شخصين ضئيلين على البعد فأطلقت صيحة. رفع نظره سريعا ورآهما. كان الرجلان قد ترجلا وشرعا يبحثان عن آثار الطريق.

-"إنهم يبحثون عني" قالت الأميرة

-"حسن جدا !"[24] أجاب بالأسبانية وأحضر بندقيته وجلس على الأرض ووضعها على ركبتيه.

-"آه" صاحت به "لا تطلق النار!"

نظر اليها جانبيا وسألها:

-"لماذا؟ هل تحبين البقاء معي ؟"

-"كلا، ولكن لا تطلق"

-"لن أذهب الى السجن"

-"لا يتحتم عليك الذهاب –لا تطلق النار" لكنه دمدم:

-"سأطلق" وجثا من فوره على ركبتيه وصوب بدقة. وجلست الأميرة في نوبة من اليأس والشقاء. دوت الطلقة خارجة، ورأت على الفور أحد الحصانين يثب فوق المنحدر الشاحب المعشب ثم يتدحرج هاويا. وسقط الرجل على العشب ولم يعد يُرى. أما الثاني فقد تسلق صهوة حصانه وأخذ يعدو به فوق المنحدر الخطير في استدارةٍ طويلة حتى وصل أقرب شجرة راتنج يحتمي بها. بانغ! بانغ! بانغ! دوت طلقات روميرو. لكنه أخطأ في كل مرة. وقفز الحصان الهارب مثل الكنغر نحو ملجأ يحميه واختفى عن النظر. وتحصن روميرو خلف إحدى الصخور منتظرا أن يبدي الرجل أية إشارة تنم عنه. وساد الهدوء المتوتر تحت ضوء الشمس الساطع. جلست الأميرة على السرير وقد تكورت كما المشلول، وظل روميرو طوال ساعات، كما خيل لها، راكعا خلف صخرته بقميصه الأسود ورأسه الحاسر وهو يراقب ويراقب. كان ذا مظهر رشيق جميل. وتساءلت الأميرة لماذا لا تحس بالأسف عليه. لكن روحها كانت صلبة باردة، وما كان لقلبها أن يلين، رغم أنها مستعدة الآن لأن تعطي كل شيء إذا قيض له أن يلين. إذا أمكنها أن تناديه نداء الحب. ولكن لا. لم تكن تحبه. بل لم تستطع قط أن تحب أحداً. كان هذا أمراً راسخا مختوما في داخلها كمثل حقد قديم مقيم.

وأجفلت فجأة وكادت تسقط من السرير. ودوت من وراء الكوخ إطلاقة قريبة للغاية. وقفز روميرو في الهواء وتلوى وذراعاه ممدودتان، ثم دوت إطلاقة ثانية وهو لما يزل في الهواء… وهوى الى الأرض في صخب. وتلوى وقد قبض بكفيه على التراب قبالة باب الكوخ.

جلست الأميرة في سكون وجمود، تحدق في الرجل المنكب على وجهه على الأرض. بعد لحظات اقترب من الكوخ رجل يرتدي زي رجال إدارة الغابات: شاب يعتمر قبعة عريضة ويرتدي قميصا داكنا من الصوف الناعم، وحذائين للركوب وفي يده بندقية، وسار بخطى عراض نحو الجسد الممدد.

-"ظفرت بك يا روميرو!" قال بصوت عال وأدار الرجل الميت على ظهره. كانت بركة صغيرة من الدم قد انتشرت في المكان الذي كان فيه صدر روميرو.

-"همم ! " قال موظف إدارة الغابات "أظن أني أصبتك في مكان أقرب مما ظننت " وأقعى هناك يتأمل الرجل القتيل. وأيقظه النداء البعيد لرفيقه فانتصب واقفا.

-"هاللو بيل ! " صاح برفيقه "نعم ! ظفرت به ! قتلته ! بالتأكيد"

وخرج الثاني من الغابة راكبا حصانه الرمادي. كان ذا وجه متورد ودود وعينين بنيتين مستديرتين اتسعتا من الفزع. وسأل في قلق:

-"لم يفارق الحياة ؟ "

-"يبدو أنه فعلها" أجاب الشاب ببرود. ترجل الثاني وانحنى على الجثة، ثم وقف ثانية وهز رأسه.

-"نعم، نعم ! لقد مات حقا! إنه هو بالتأكيد. يا ولد ! إنه دومينغو روميرو"

-"نعم، أعرف ذلك" أجاب الشاب، ثم استدار في ارتباك ونظر داخل الكوخ الى حيث قبعت الأميرة ملفوفة بالبطانية وهي تحدق بعينين متسعتين كعيني بوم.

-"أهلا " قال الشاب وهو يدنو من الكوخ. ونزع قبعته محييا. آه، يا لشعور السخف الذي أحست به ! رغم أنه لم يقصد ذلك. لكنها لم تستطع الكلام، مهما كان ما تشعر به.

-"لماذا بدا هذا الرجل بإطلاق النار ؟" سألها الرجل.

بحثت عن الكلمات بشفتيها الخدرتين.

-" لقد فقد عقله !" قالت باقتناع كئيب، متلعثم.

-"يا إلهي ! أتعنين أنه قد جن ؟ واو ! هذا فظيع. هذا إذن يفسر كل شيء. همم !"

وقبل التفسير دون كثير جدال.

إستطاعا ببعض المشقة أن ينزلا بالأميرة الى المزرعة. لكنها كانت هي الأخرى قد مسها بعض الجنون.

-"لست متأكدة أين أنا" قالت للسيدة ويليكسون، وتمددت في السرير "هل لك أن تشرحي لي"

وشرحت السيدة ويليكسون بلباقة.

-"آه، نعم ! " قالت الأميرة " لقد تذكرت .. وقد تعرضت الى حادث في الجبال، أليس كذلك ؟ ألم نلتق برجل أصيب بالجنون؟"

أما ما جرى في الحقيقة فقد تكتموا عليه. وسافرت الأميرة شرقا برعاية الآنسة كيومنز بعد اسبوعين. كانت تبدو كأنها شفيت تماما. كانت الأميرة العذراء التي لم تمس. لكن شعرها المعقوف شاب عند الصدغين، واصطبغت عيناها بمسحة من الخبال. كان بها مس طفيف من الجنون.

-" منذ الحادثة التي عرضت لي في الجبال، عندما جن أحد الرجال وقتل الحصان الذي كنت أركبه فاضطر دليلي الى قتله، لم أعد أشعر بأني على ما يرام"هكذا صاغت الأمر.



وبعد زمن تزوجت من أحد الكهول. وبدت سعيدة راضية.

شاعر وقاص ومترجم - العراق
26/3/2002





[1] آل ستيوارت (House of Stuart) الأسرة الملكية التي حكمت اسكتلندا من عام 1371 وإنكلترا من عام 1603 لغاية عام 1714 عندما استلمت الحكم أسرة هانوفر.

[2] الكلت أو السلت (Celt) عرق هندو-أوربي سكن قديماً أجزاء من أوربا الغربية والجزر البريطانية وما تزال آثارهم اللغوية موجودة في اسكتلندا وويلز وايرلندا.

[3] نسبة الى (Ossian) وهو شاعر-محارب كتب الملاحم الآوسيانية التي تدور حول مغامرات الأبطال الغاليين في ايرلندا واسكتلندا في القرون الوسطى.

[4] في الأصل Noblesse Oblique .

[5] Spinet : آلة تشبه البيانو لكنها أصغر وأقل تعقيداً.

[6] Decameron (وتعني الأيام العشرة) : حكايات من فلورنسة عصر النهضة رويت على لسان عشرة أشخاص اعتزلوا الناس أثناء وباء الطاعون الكبير.

[7] The Nibelung poems مجموعة أشعار كتبها مؤلف نمساوي مجهول أوائل القرن الثالث عشر وتروي مغامرات البطل "سيغفريد"

[8] Caliban في مسرحية شكسبير "العاصفة" : مخلوق ممسوخ أخرق يعيش وحيداً في جزيرته.

[9] في الأصل بالفرنسية Quoi faire ?

[10] في الأصل بالفرنسية Raison d’ être .

[11] الحور القطني cottonwood : نوع من الأشجار الطويلة ذات أوراق مثلثة مسننة وبذور قطنية تصدر فروعها المتدلية أصواتا مجلجلة في الريح.



[12] حاولت كما سيلاحظ القارئ أن أحاكي قدر المستطاع بعض العجمة التي وردت في أحاديث الشخصيات ذات الأصول الهندية أو الأسبانية (المترجم)

[13] Yale جامعة أمريكية عريقة تقع في ولاية كنكتكت.

[14] الحور الرجراج Aspen ضرب من أشجار الحور (poplar) ترتعش أوراقه إذا هب عليها النسيم.

[15] الراكون Raccon حيوان ثديي يعيش في شمال أمريكا.

[16] الراتنجية أو البيسية Spruce أشجار من الفصيلة الصنوبرية تكثر في النصف الشمالي من الكرة الأرضية.

[17] القصع sage والخشب الزيتي greasewood ضربان من الشجر.

[18] البنيون Pinon نوع من الصنوبر الأمريكي.

[19] لحية العجوز old-man’-beard نوع من الحزازيات الشبيه بالطحال يتدلى في خصل كثيفة من أغصان الأشجار.

[20] زهرة الغرنوق Cranesbill نوع من أزهار الجيرانيوم.

[21] الغرير badger : حيوان ثديي قصير القوائم يحفر ثقوباً في الأرض يحتمي بها.

[22] الوشق أو القط البري bobcat حيوان متوحش يعيش في أمريكا الشمالية يعيش على الطيور والقوارض ويصل وزنه أحياناً الى 15 كلغم.

[23] كانت الولايات المتحدة قد حظرت في الفترة بين 1919 و 1933 بيع وتصنيع واستيراد الخمور.

[24] في الأصل بالأسبانية Muy bien! .

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية