ضحك كالبكاء-ماذا فعلتم بكتبي أيها الـــ .....

ماذا فعلتم بكتبي أيها...؟

د. ماجد الحيدر




أعترفُ الآن أن "أبطال المقاومة الشريفة" قد أصابوني بدهشةٍ كبيرةٍ عقدت لساني وأوقدت في فؤادي ناراً لن تخمدَ حتى أمَدٍ طويل..

فمنذ أن خطَّ أولئك الأمّيون على أسوارِ بيوتنا المهجورة عبارتهم الشهيرة "وقف الدولة السلاّمية" ويقصدون طبعاً "الإسلامية" وأنا أتوقعُ بين اللحظة والأخرى أن أسمع أخبار قيامهم بنهبِ أثاثِ بيتي المتواضع أو تحويله الى مخزنٍ للسلاح أو مقر لاحتجاز الرهائن وقطع الرؤوس في ظل الغياب المخزي لسلطة الدولة أو سلطات الاحتلال.

كنتُ أتوقعُ مثلاً أن ينهبوا مبردات الهواء القديمة أو غسّالة الثياب أو أثاث غرفة النوم المتداعي أو حتى الصور العائلية المعلقة بالجدران وملاعق الشاي الصدئة أو "باربيات" صغيرتي وخلايا النحل الأثيرة وبراميل النفط الفارغة.. فهذه كلها غنائم ثمينة في نظر قومٍ اعتادوا النهبَ والسلبَ منذ عصور الجاهليةِ الأولى.

ويقيناً أنهم حينَ كسروا أقفالَ البيت واقتحموا غرفهِ الواحدة بعد الأخرى لم يأبهوا لنسخ القرآن التي تركتْ زوجتي المسكينة واحدةً منها في كل غرفةٍ ظنّاً منها أنها قد تردعهم أو "تهز شواربهم"!

لكنَّ شيئاً واحداً لم أكن أخشى عليه من السرقة رغم أنه الأعزّ على قلبي من بين ما تركتُ ورائي : أعني آلاف الكتب التي أفنيتُ عمري في جمعها وكتبَ أطفالي التي كنتُ أباهي الناسَ بأنها من أوسع مكتبات الأطفال الشخصية في بلدي الحبيب.

كنتُ أقولُ لنفسي: هذه في نظرهم مجرّد أكوام من الورق البالي، وماذا يصنع هؤلاء بالكتب؟ هل سمعت عن أنعامٍ تقرأُ الكتب؟!

لذلك فرشتُ بعض البسط في إحدى الغرف العليا وكدّستُ فوقها الكتبَ تاركاً لهم خزاناتها الخشبية والمعدنية جرداء خاوية كي تكونَ خفيفةً على "السواعد السمراء" وهي تحملها نحو المضارب القريبة.

قلتُ لم أكن أتوقّعُ أن يسرقوا كتبي، لكنني كنتُ أتوقعُ بالطبع أن يقوموا –في نوبةٍ من حميّتهم الجاهلية- بإتلافها أو إحراقها كما تفعلُ كلُّ موجات الجراد الغازية على مرِّ التاريخ.. لكنْ أن يزجّوها في الشاحنات التي أفرغتْ بيتي ويحملوها نحو أوجارهم الآسنة فهذا مالا أفهمه ولا أحسبُ أنهم فعلوا مثله من قبل!

وحينَ أقلِّبُ الفكر في أسبابِ فعلتهم هذه تتبادر الى ذهني بضع تفسيرات كلها بعيدٌ عن الاحتمال:

فهل انقلبَ خفافيش الظلام فجأة الى أناسٍ متنورين محبين للثقافةِ والعلمِ والأدب؟

هذا احتمال مستحيل رغم أن السيد المالكي اضطر مرةً الى اختيار أحدهم لشغل أرفع منصبٍ ثقافي (حكومي طبعا) إرضاءً لإخوته الأعداء في دولة المحاصصات الطائفية المجيدة!

أم أن الكتبَ صارت تشكّلُ سلعةً ذات قيمةٍ نقدية أو تبادلية (على حدّ تعبير الأخوة الاقتصاديين) في ظلّ الأزمة الأمنية والإنسانية والاقتصادية الخانقة التي يعيشها المواطن العراقي والتي جعلتهُ يُضربُ عن ارتياد المكتبات أو اقتناء الكتب؟

هذا احتمالٌ سأهمله عن طيبِ خاطر!

أم أنَ مقامات مدني صالح وروايات همنغواي وهيغو ومحفوظ ودوستويفسكي، ودواوين المتنبي وأبي نؤاس والحطيئة وعمر بن أبي ربيعة، ومسرحيات شكسبير وراسين ومحي الدين زنكنه، وكتاب القراءة الخلدونية والفيزياء المسلية وقواعد اللغة الفرنسية صارت مادة أولية لإعداد "العبوات النافسة" و"السيارات المفخفخة" -على حد تعبير أحد معارفنا البسطاء؟

أظن أن هذا اختراعٌ لم تتوصل إليه عبقرياتهم بعدُ!

ولكن ماذا يفعلون بها بربّكم ؟

هل يوقدون بها المدافئ؟

كلا فنحنُ في ذروة الصيف.

هل يشعلون بها "تنانير" الخبز "الحلال"؟

كلا، ففي عشرات البساتين اليابسة التي قتلوا أو هجروا أصحابها ما يكفي من الخشب لإيقاد جهنمٍ "محلية الصنع"!

أم أنهم-وهذا خاطر عجيب- سينكبّون على دراسة وحفظ ما في بطونها استعداداً للمشاركة في مسابقات من يربح المليون ... أو المليونين؟

هذا أيضاً احتمال ضعيفٌ للغاية؛ فالمليون والمليونان والعشرة يمكنهم الحصول عليها بطرفة عين عن طريق عملية اختطاف "جهادية" واحدة من تلك التي بلغوا في إتقانها حد الكمال.. ولا كمال إلا لله!

لستُ أدري!

أعترفُ الآن بأنني عاجزٌ عن الجواب.

لذلك سأحتسب، وأصطبر، وأضطر الى الانتظار عسى أن تكشف قابلات الأيام سر هذه "العملية النوعية غير المسبوقة".

وحتى ذلك الوقت أتمنى ... أقولُ أتمنى أن تُخطئَ فيهم قوانين مندل وداروين ليخرجَ من بين ظهرانيهم خِنّوصٌ يسوقه الفضول الى تقليب واحد من تلك الكتب ليقرأ ما في صفحاته كي يشهدَ العالم فتحاً تاريخياً يعطي البشرية بصيصاً من الأمل ويخفف عن قلبي فجيعة فقداني لكتبي.. كتبي التي لحقت بالشهداءِ والقدّيسين!

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية