هذه صورتي-قصة قصيرة



هذه صورتي

د. ماجد الحيدر

هذه –كما طلبتَ أيها الصديق الياباني- أحدث صورة لي أرسلها لك عبر "الماسنجر" وأرجو أن تصل إليك ....

ها .. وصلَتْ !؟ أمر عجيب ! لم يستغرق الأمر سوى عشرين دقيقة.. يبدو أن خط الانترنت عندنا قوي هذه الليلة ! .. لا تبتسم !

تقول إنك تفاجأتَ بها ؟ .. لا لم ألتقطها في المستشفى .. التقطتها قبل قليل بكاميرا الحاسبة..

ليس فيها –على ما أظن- ما يثير العجب .. تقول إنها تحتاج الى تفسير؟ مفاتيح ؟ ماذا .. هل تحسبها خريطة لقارة مجهولة !؟

حسناً ، حسناً .. كما أن كل خريطةٍ تحتاج الى تفسير ما ، سأقدّم –في سرورٍ- مفتاح خريطتي .. أعني صورتي – لا فرق فاسألْ!

تسألني عن هذا الشيء الذي يلتف حول عنقي؟

هذه ياقة من البلاستك المقوى.. سنادةٌ للرقبة يتخذها المصابون بتآكل الفقرات العنقية. وأسباب التآكل كثيرة، كما تعلم، منها الهرم المُبكِر وكثرة الانحناء ، نعم كثرة الإنحاء لرفع الأحمال وتقبيل الأيدي والأرجل أو لالتقاط الفُتات أو ربما بحكم العادة المتوارَثة عند شعوبنا.

الانحناء لمن ؟

لكثيرين .. بعضهم نراهم في كل مكان .. وبعضهم قد لا نراهم طيلة حياتنا..

ملاحظة: لا يظهر في الصورة حزام الظهر، وهو حزامٌ من البلاستك المقوّى، أو سنادةٌ للظهر يتخذها المصابون بانزلاق الفقرات القطنية... هذا الانزلاق-كما يعلم أكثر الناس- يأتي من أسبابٍ كثيرة، منها –ثانيةً- الهرم المبكر وكثرة الأحمال وتعود الانحناء!

لماذا تلف هذا الشيء بمنديل من القماش؟

هذا لامتصاص العرق.. درجة الحرارة ها هنا في الليل 45 درجة مئوية.. أما في النهار فـ "....."، عفواً ، هذه زلّةُ لسان !

منديلك رمادي، ستائر شباكك كذلك، وقميصك رمادي ..؟

أنتَ أكثرُ ذكاءً مما توقعت! هذا اللون هو الأكثر اقترابا من الحقيقة، الأكثر ابتعادا عن الأحلام، الأكثر تحملاً للأوساخ، الأقرب الى لون أيامنا الـ"..." عفواً هذه زلّة لسانٍ أخرى!

لكن هذا ليس كل شيء؛ هنا يجب أن تختار الألوان بعناية. لا، ليس من أجل الأناقة أو مواكبة الموضة أو غيرها من السخافات! الألوان هنا قد تسبب موتك إذا لم تحسن اختيارها: مرة قبل أربعين عاماً خرجت أمي للتسوق ومعها أخي ذو الأعوام الخمسة فاعترضها رجال ذوو شوارب ثخينة كانوا يسمون أنفسهم "الحرس القومي" .. أشرعوا بوجهها رشاشات كان اسمها "بورسعيد" مهداة من رجل كان اسمه "جمال عبد الناصر" وأخذوا يشتمونها ويصرخون بوجهها. لم تكن أمي تجيد العربية، لكنها فهمت بعضا من كلماتهم: أحمر! شيوعي! كلبة! فارتمت على أقدامهم تتوسل لإنقاذ الصغير... أخي الذي لم تحسن اختيار لون قميصه!

ما هذا الذي وراءك .. في خلفية الصورة؟

هذا شباك .. شباك عادي مفتوح على الليل. والأشرطة الملصقة عليه أمر ضروري من أجل الانفجارات .. أحياناً تأتيني منه بعض النسمات التي تضل طريقها ، والكثير الكثير من الأصوات.

مثلاً ؟

مثلاً : نقيق الضفادع، مواء القطط الشبقة، أصوات الانفجارات كما ذكرت، بكاء أطفال الجيران في السطوح وهم يتقلبون من لسعات البق، أصوات أقدامٍ تفر وأخرى تكر، صراخ المآذن المتنافسة (هذا شيء لن تفهمه) أصوات مارينز يصرخون : ((Go, Go, Go!... وأخيراً : صوتٌ لا يسمعه غيرنا ، نحن المصابون بانزلاق الأهواء : صوتُ رنّاتِ قيثارٍ قديم .. بسبعة أوتارٍ من الذهب .. يأتي من بعيد ... من الجنوب .. من تلّةٍ في أور .. أنصِت: إنه يجيء ويروح .. ممتزجاً بصوت فيروز القادم لنجدتي ... من الغرفة الثانية .. الغرفة التي لا أراها!

2006

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية