العالم في عين امرأة-الحلقة الأولى-إميلي ديكنسون

العالم في عين امرأة : شاعرات عالميات

الحلقة الأولى

ترجمة وتقديم : د. ماجد الحيدر

هذه إضمامة من أزاهير أبدعتها عبقريات عدد من أميرات الشعر الإنكليزي الحديث. ولقد أقدمنا على ترجمة هذه المختارات لما لمسناه من أن القارئ العربي عموما لا يعرف إلا النزر اليسير عما قدمته الشاعرات الإنكليزيات من إسهامات في أنطولوجيا الشعر الإنكليزي بينا هو على إطلاع حسن بمبدعات أخريات في مجال القصة والرواية مثل فرجينيا وولف وبيرل بك ومارغريت ميتشيل وهارييت ستو والأخوات برونتي وغيرهن. ولسنا في هذا التقديم الموجز في معرض تعريف الأدب النسوي أو مزايا وصفات الشعر النسوي بالتحديد لكنا نشير الى أننا سنقف في هذه المختارات على نماذج مختلفة من الأساليب الفنية والتوجهات النفسية أو المواقف الفكرية بدءا من الصوفية وانتهاء بالثائرة المتمردة يجمعها كلها انشغال إنساني عميق وإحساس مرهف بالحياة: بأحزانها وأفراحها، بآمالها وقسوتها، بجمالها ومظالمها، كل ذلك بعين المرأة الذكية المرهفة التي لا تخطئ التفاصيل. بقي أن نحيل الى أن الدارسين يطلقون أحيانا تسمية الأدب الإنكليزي على كل ما يكتب باللغة الإنكليزية بغض النظر عن جنسية الكاتب أو الكاتبة وهو ما يفسر إدراج شاعرتين أمريكيتين ضمن هذه المجموعة.


إميلي ديكنسون (1830-1886)

Emily Dickinson



هذه المرأة واحدة من أشهر الشاعرات الأمريكيات، ناهيك عن كونها واحدة من أهم الكتاب في تاريخ الأدب الأمريكي برمته. إن قصائدها البسيطة في بنائها، الحادة الذكاء في أفكارها، الشديدة العمق في أحاسيسها، تستمد مادتها وصورها من قضايا الإنسان الأساسية: من آلام الحب وأفراحه، من طبيعة الموت التي لا يسبر غورها، الجنس، ويلات الحروب، الدين، الدعوة الى المرح، التأمل في أهمية الموسيقى والأدب والفن.

ولدت عام 1830 في مدينة آمهيرست بولاية ماساتشوستس في إقليم نيو إنجلاند شمالي شرقي الولايات المتحدة وكانت الأخت الوسطى بين ثلاثة أبناء لمحام كبير وعضو في مجلس النواب هو "إدوارد ديكنسون" أما جدها فقد كان واحدا من مؤسسي جامعة آمهيرست. كانت ديكنسون شديدة التعلق ببلدتها التي نشأت ودرست فيها ولم تغادرها إلا بضع مرات لضرورات قاهرة، بل أنها ظلت تعيش في نفس المنزل طيلة السنوات الثلاثين الأخيرة من حياتها. لم تنشر ديكنسون خلال حياتها سوى عشر من قصائدها التي ناهزت الألفي قصيدة ولم يظهر المجلد الأول من "قصائد لإميلي ديكنسون" إلا عام 1890، أي بعد رحيلها بأربعة أعوام. ولعل هذه التفاصيل كانت إحدى الأسباب وراء الانطباع السائد عنها بأنها كانت امرأة انطوائية قليلة الاختلاط، حتى أن البعض أطلق عليها لقب "صوفية نيو إنجلاند". والحقيقة أن الذين نشروا أعمالها أول مرة بعد وفاتها شكلوا الصورة التي رسموها عنها وعن أعمالها كي تطابق القوالب السائدة في زمانهم عن المرأة-الأديبة وعمدوا الى إخفاء تلك الصفات التي لم تطابق ذلك القالب السائد. ولقد ظلت هذه الصورة عالقة في الأذهان حتى في عام 1976 حين عرضت مسرحية "حسناء آمهيرست" :- المرأة التي ترفل في الثياب البيضاء، الحساسة، الانعزالية بطبعها، التي يعذبها حب سري من طرف واحد. غير أن الصورة الحقيقية لشاعرتنا مختلفة تماما؛ فلقد كانت حسب شهادة أقرب المقربين إليها آنسة مرحة تحب صحبة الناس-رغم دقة اختيارها لأصدقائها- وكانت تستقبل في بيتها الكثير من الأصحاب وتداوم على مراسلات مطولة مع أقربائها وخلصائها ومرشديها الروحيين والفكريين وكانت تتمتع بحب وألفة عظيمين إزاء زوجة أخيها التي عاشت في جوارها أكثر من خمسة وثلاثين عاما شاركتها خلالها ولعها بالموسيقى والأدب والأزهار وخصتها بأكثر من أربعمائة من قصائدها التي تتخذ هيئة رسائل شخصية.

كانت ديكنسون شديدة الإعجاب بترجمة الملك جيمز للإنجيل وبشعراء وكتاب أمثال وليم شكسبير وجون ملتون وجارلز ديكنز وإليزابيث براوننغ ويظهر أسلوبها الشعري تأثرا واضحا بكل من إليزابيث براوننغ وزوجها روبرت براوننغ والشاعرين الإنجليزيين جون كيتس وجورج هربرت.

إستخدمت ديكنسون العديد من الأوزان الشعرية السائدة في التراتيل وخصوصا البحر الإيامبي الرباعي (أربعة أزواج من المقاطع في البيت الواحد يكون المقطع الثاني في كل منها مشددا أو منبورا) كما استخدمت بكثرة ما يعرف بالقافية الشاذة (off-rhymes) ومثال على ذلك تقفية كلمة (ocean) مع كلمة (noon) أو كلمة (seam) مع كلمة (swim). وكانت لديكنسون طريقة مدهشة في استخدام اللغة اليومية العادية وهي طريقة تدعى التأليف -أي جعل الشيء مألوفا (defamiliarization) من شأنها حسب قولها أن "تستخلص إحساسا عجيبا من معانٍ عادية". والمقاطع الآتية من قصيدتها "طير أتى خلال الممشى" تقدم مثالا على هذه التقنية :

طير أتى خلال الممشى

.. نهل قطرة من ندى

.. نفض رأسه المخملي ..(ثم)

نشر ريش الجناحين

وحلق الى بيته الناعم.. (بينما)

تتقافز الفراشات على ضفاف الظهيرة

إن أبياتها الشعرية القصيرة التي تتكثف باستخدام الكنايات القوية والاستخدام الواسع لما يعرف بالحذف (ellipsis) أي حذف الكلمات التي يمكن أن يفهم القارئ وجودها في أمكنة معينة تناقض بشدة أسلوب الشاعر الأمريكي العظيم والت ويتمان الذي كان معاصرا لها وهو الأسلوب القائم على الجمل الشعرية الطويلة وإغفال القافية والابتعاد عن الأوزان المنتظمة.

كان لتركتها من القصائد المكتوبة بخط يدها أن تسلط بعض الضوء على تطور أسلوبها: إذ بينما نجدها في قصائدها المبكرة تلجأ الى الأساليب الفنية التقليدية وتخط ما تكتب بطريقة تحاكي قواعد الطباعة الرسمية نراها تبدأ لاحقا بالالتفات الى الجوانب البصرية لأعمالها؛ فتروح مثلا ترتب الأبيات وتجزئها بطرق غاية في التفرد لكي تبرز مدلولات بعينها أو تبتدع أشكالا غريبة من رسم الأحرف الهجائية لكي تركز أو تتلاعب بالأحاسيس التي تثيرها القصيدة كما تعمد الى تضمين مقاطع مستلة من الروايات والصحف وحتى الإنجيل كيما تعزز استخدامها الخاص للغة.

رغم أن إميلي ديكنسون نشرت النزر اليسير من قصائدها خلال حياتها فإنها "نشرت" بنفسها ما يناهز ثلث أشعارها بواسطة رسائلها التي جاوزت الألف التي كتبتها الى أكثر من مائة مراسل بينهم العديد من الشعراء والأدباء والنقاد. إن طريقتها في جمع حوالي الثماني مائة من قصائدها في عشرين دفترا وتوزيع عدة مئات منها بين طيات رسائلها صار يعرف على نطاق واسع بطريقة إميلي ديكنسون في النشر الشخصي، أضف لذلك أنها كانت طوال ثلاثة عقود تتلو الكثير من قصائدها على ضيوفها وأصدقائها.

تشمل أعمالها المنشورة : "أشعار إميلي ديكنسون" (في ثلاثة مجلدات عام 1955) و"رسائل إميلي ديكنسون" (في ثلاثة مجلدات عام 1958) و"مخطوطات إميلي ديكنسون" (في مجلدين 1981).



"1"

سماع طير يغني

سماع طير يغني

ربما أمر مألوف

وربما إلهي في جماله

وليس سواءً

غناء الطير فردا

وغناؤه على حشد من السامعين

طراز الآذان

يكسو ما تسمعه

بالقتامة أو بالحسن

وكونه ساحرا

أو كونه عقيما

شيء تقرره الدواخل

"اللحن في الشجرة"

يقول المتشكك فأجيب :

"لا يا سيدي ، إنه بداخلك" !


"2"

في غفلة تنمو الجبال

في غفلةٍ تنمو الجبال

وتنهض أجرامها الأرجوانية

دون جهدٍ أو عناء

دون عونٍ أو ثناء

وفي ابتسامة الفرح العريضة

تطيل الشمس النظر في وجوهها الأزلية

وترمقها للمرة الأخيرة

وقد اصطبغت بالضياء الذهبي

تائقة الى صحبة الليل


"3"

العربة

لأني لم أستطع أن أتوقف من أجله

تعطف الموت … وتوقف من أجلي.

لم يكن في العربة غيرنا :

أنا والموت والخلود

وانطلقنا على مهلٍ

دونما عجالة

ورميت بعيدا

بكل كدي وعنائي

وبكل راحتي

نظير لطفه ودماثته


"4"

قصيدة

لم أر السباخ الموحلات

لم أر البحر يوما

بيد أني أعرف شجيرات الخلنج[1]

وشكل الأمواج

لم أتحدث الى الرب

لم أزر الفردوس

لكني أعرف المكان يقينا

وكأن صحيفتي أضحت في يميني


"5"

وضعت قوتي في يدي

وضعت قوتي في يدي [2]

ومضيت أتحدى العالم

لم أكن بقوة داود

لكني كنت أشجع بمرتين

وصوبت حجارتي

لكن الوحيد الذي هوى كان : أنا

هل كان "جالوت" مفرط الكبر

أم أنني كنت مفرطة في الصغر ؟


[1] الخلنج (heather) : ضرب من النباتات الخشبية تكثر في بقاع كثيرة من العالم وكانت العرب تتخذ من خشبها صحافا للطعام.

[2] في العهد القديم يتحدى العملاق جالوت (غولياث) (Goliath) داود الفتي فيصرعه الأخير بحجر من مقلاعه.

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية