الرجل... الذي.. عقر.. الناقة..
د.ماجد الحيدر
"ز..ز..ز..."
كنت أسمع الأزيز وأشم رائحة الشواء وكأنهما يأتيان من مكان قَصيّ. كنت أشعر كأن السَفود المتقد لم يكن يدخل بين أقدامي .. وفي شحم خاصرتي.. لم أكن أحس إلا بلمزاتٍ لا تكاد تشعر..
-"أيها الكلْبُ الكَلِب. لمَ عقرتها؟"
هذا الكلام سمعته من قبل. ولكن أين ومتى؟ في أية ولادة أرضية أو سماوية؟ في أي نسخٍ أو مسخ؟
كان حديثهم يأتيني تارةً بوضوح وتارةً مثل نداءات بعيدة تتماوج في الهواء اللافح الثقيل.
لقد توقف الإحساس بالألم منذ يومين أو ساعتين أو ربما شهرين، فلقد فقد الوقت قيمته، والصرخات الأليمة المرتعشة التي كانت تهزني هزاً والرعب الذي يسبقها حلت محلها نظرات أعرف أنها ترتسم على وجهي بلهاء.. لا مبالية...
-"ألن تجيب أيها الخبيث ابن الخبيثة؟! لمَ عقرتها وأنزلت علينا العذاب المقيم؟؟"
-"مــاء!"
-"هنا لن تجد غير التراب نحشو به فاك، أما "هناك" فجزاؤك الحميم المسنون..."
... .... ....
كان القمر في يومه الأول ليلة ساقوني الى نادي السادات العظام. لم أبصر في ضوء المشاعل الخافق غير عمائمهم واللحى الكثة وبريق الخواتم والكؤوس الذهبية. وفيما بعد، حين تعودت عيناي على الضوء الشحيح صرت أعرف الوجوه.. كثير منهم كان من أصحابي.. رفاقي في ملاعب الصبا ومدرسة المعبد ورحلات القنص وغارات الطيش والمجون.. ما الذي غير وجوهم وكساها هذه الصلابة؟
هل قلتُ صلابة؟ لا لم تكن صلابة حقاً. كنت أقرأ فيها رغم العتمة شحوب الخوف الذي لا تخفيه المكابرة.
-"أوَتدري ما صنعتَ يا شقيُّ؟ .. أوَتدري ما جنيتَ يا أشقاها؟"
-"أتمزحون؟" أجبتهم وأنا أتمنى أن تنفرج الأساريرُ وتتفجر الضحكات. أعني أن ينتهي هذا المزاح الثقيل.
من أين جاءتني اللكمةُ الأولى؟
.....
-" علِّقوهُ إذَن من قدميه"
-" كلاّ من أذنيه "
-" كلاّ من .... "
.....
لمرّاتٍ قليلة، في الأيام الأولى فقط، كنت أجيبهم بإجابة واحدة رغم اختلاف تفاصيلها، كانت الإجابةُ / السؤالُ:
-أوَلَمْ تكونوا أنتم من توسّلَ إليَّ كي أفعلَ ذلك؟ ألم ترسموني بطلاً، نبياً، صنماً لأنني الوحيد الذي أُقدِم على الواجب الثقيل، ذاك الذي كنتم ترجونه وتخشونه، ذاك الحلم اللذيذ والكابوس المرعب... ألم أحرركم كما تمنيتم؟
-نحن يا ابن اللخناء؟ أترمينا بدائك وتنسَلُّ؟ أنحنُ التقاة الأطهار العابدون القانتون؟! أنحنُ يا ابن السقّاء الأحدب المجذوم؟ اسقوه القارَ الحامي في الدنيا قبل أن يُسقاه في الآخرة ! أحزموه في كومة من أخبث الحطب وأشعلوا فيه ناراً نصف متقدة ليطول عليه العذاب!
....
مرتين فقط أبصرت امرأتي. في المرة الأولى تركونا لوحدنا. وقفت على بعد خطوات وسألتني باكية متوسلة:
-ألم أحذرك منهم قبل هذا؟ ألم أسألك أن ترحم نفسك وعيالك وتهاجر في الأرض ذات الطول والعرض؟ ألم أخبرك أنهم هم الأقوياء الأثرياء القادرون، وأن منهم القائمون على المعابد كلها، القديم منها والجديد؟ أنظر: لقد اشتروا صكوك غفرانهم بقطيع من الأضحيات وبليلة أقاموها في ضياء البدر الآخذ بالأفول.. وتركوك ها هنا وحدك .. تتلقى عنهم العذاب والويل.
-قد فعلت هذا لأجلهم.. لأجل الحقول التي ديست، والأطفال الذين كانوا يشربون الماء ممزوجاً بالبول الكريه.
-وها هم يكافئونك بطريقتهم!؟ آه لو كنتَ لي من السامعين!
في المرة الثانية كانت أبعد قليلاً، وكانوا يمزقون عنها الثياب!
....
ثمة طنينٌ يتصاعد في أذني السليمة. دفقٌ من الماء البارد يلطم وجهي ويرغمني على أن أباعدَ بين جفوني المتورمة الِثقال.. يتصاعد الطنين ويتبيَّنُ شيئاً فشيئاً. يدخلان رجلان: رجلٌ من كل معبد، أعرفهما من ثيابهما:
-إسمع أيها الشقي.. إنها أصوات المعابد المهللة.. غدا هو العيد... غدا ستعلِن السماءُ عن رضاها وعفوها عن الجميع ... الجميع إلا أنت ... وغداً عند أول الفجر ستغسِلُ دماءُ نحرِكَ أرضَ الساحة ما بين المعبدين.. غداً.. غداً.. غداً....
-غداً هو العيد .. لقد اختفت آلامي !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق