سيرة-قصة قصيرة


سيرة

قصة قصيرة

د. ماجد الحيدر

يوم أولد ستستدين جدتي لأمي أجور المستشفى من جارتها أرملة الحرب الغنية. وسوف يرسلون الى أبي الذي انتهت إجازته قبل ولادتي بثلاثة أيام رسالة شفهية مع ابن عمته نائب ضابط الإعاشة في كتيبة الدروع، يخبروه فيها بولادة طفله الخامس ؛ أنا.

سيسأل نائب الضابط عن أبي فينبئه أحدهم بأنه موقوف في سجن الوحدة لأنه " ضرب " يومين على إجازته انتظاراً لولادتي. فيذهب الى مساعد آمر الوحدة " ابن ولايته " يتوسل من أجل إطلاق سراحي. فيوافق المساعد على مضض: " هذه آخر مرة ، فقط لخاطر عيونك " ثم مع نفسه : "ولخاطر الشامة السوداء الكبيرة تحت نهد ابنتك! "

وهو يسمع الأنباء سيكون أبي منهمكاً بشد أربطة حذائه العسكري الكبير ثم حلاقة ذقنه. وهو يتأهب للخروج من الموقف، يسأل ابن عمته عن الاسم الذي سموني به فيجيب : " موفق "، فـيعفط أحد الموقوفين بفمه ويقول : " من طـ….ي ! " فيضحك أبي ويقول له:

-" قوّاد ! سأرسل لك ربع العرق حصتك من الاحتفال الذي سأقيمه.. سأسكر الساتر كله هذه الليلة !

* * *

في الثامنة من عمري سيضربني معلم التربية الإسلامية كل يوم ويقول لي

-" ردد يا غبي : الله ربنا. محمد نبينا. الإسلام ديننا. الكعبة قبلتنا. المسلمون إخواننا. المسلمات أخواتنا ….."

فأحاول جاهدا، أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ونظرات التلاميذ تحاصرني وأنسى كل شيء وأخلط الأمور فيضربني المعلم من جديد.

في نهاية العام وعندما أستلم النتيجة النهائية : "راسب للسنة الثالثة على التوالي" أقرر ترك المدرسة نهائياً. وقبل أن أخرج اثقب إطار الدراجة الهوائية لمعلم التربية الإسلامية وأرمي زجاج إدارة المدرسة بحجر وأولي الأدبار. ‍

* * *

في عمر العاشرة سأقف على الرصيف وأصيح بصوت منغم :

-" بيض خشن ، ثلاثة بربع ! "

عندما تقترب دورية شرطة البلدية سأحمل سلتي وأهرب الى الزقاق الفرعي. وحين يقفون على عربة أبي التي يبيع فيها الملابس المستعملة سوف يخرج إليهم رجله المقطوعة في الحرب ويستعطفهم

-" يا أولاد عمي، كيف أعيش وأنا معوّق ولي سبعة أطفال ؟ " فيقرر كبير مراقبي البلدية السماح له باستعمال الرصيف لقاء إتاوة يومية‍. وفي المساء سيمر بي معلم التربية الإسلامية الذي يبدو أنه نسي شكلي فيرجوني أن أبيعه بعض البيض بسعر أقل. فأقول له

–" تأمر أستاذ! "

فينظر لي متعجباً من التفاتتي الودية !

* * *

في الثالثة عشرة سوف أمتلك عربة لبيع النفط يجرها حصان مستأجَر أعور. وسأصبغ عربتي بدهانٍ أخضر لماع وسأذهب بها الى نبيل الخطاط وأطلب منه أن يخط لي عليها بحروف كبيرة "الحسود لا يسود" وتحتها " محبوبة سوسن".

* * *

في السادسة عشرة سأذهب مع رفاقي الى حمام السوق وأغتسل غسلاً "تاريخياً" وأرتدي ثيابا مكوية وأذهب بصحبتهم الى مضارب الغجر في مدينة " ك" القريبة وهناك سوف أذوق طعم المرأة للمرة الأولى. وحين أنتهي سأشم في جسدها رائحة النفط !.

* * *

في سن العشرين سأكون قد تعلمت النوم في الحافلات والقطارات وحذائي العسكري في قدمي. وفي سن الثانية والعشرين ستزوجني أمي من ابنة أختها خلال إحدى أجازاتي وسأتغيب عن وحدتي ستة أيام وأحكَم بالسجن لمدة سنتين.

بعد ثمانية أشهر سيصلني خبر مولد طفلي الأول فأقرر أن أسميه "سعيد" فيعفط زميلان لي في القاووش في وقت واحد.

أخرج بعد سنة وشهر مستفيداً من قرار العفو.

سأتعلم في السجن استنشاق السيكوتين وتناول حبوب الآرتين.

* * *

في سن الثلاثين سيرسل لي أهلي مع ابن عمي سائق المدرعة كيساً من المعجنات المنزلية اليابسة وخبراً عن ولادة ابني الثالث فأترك تسميته لزوجتي.

* * *

في سن الخامسة والأربعين سأكون عائداً من الأسر فيجد لي أولاد الحلال عملا في محل الأخوين لتأجير الخيام المقوسة والكراسي ومكبرات الصوت وجميع مستلزمات إقامة مجالس الفاتحة.

سأكون مواضباً على الصلاة وأمتنع عن فاحش القول والفعل وسوف أتعلم بضع آيات قصار من الكتاب المجيد.. وسوف استغفر الله كثيراً !

* * *

في عمر الثـالثـة والخمـسين سوف يأتون بابني الكبير من جبهة الحرب ملفوفا بالعلم. وسوف يوصيني الجندي الذي يأتي بالجثمان أن لا أفتح التابوت لكي لا أصاب بالغثيان.

سيتبرع مالك المحل مشكوراً بتأجيري مستلزمات مجلس الفاتحة بنصف الثمن.

* * *

عندما أبلغ الستين سترسل لي ابنتي "سراب" المقيمة مع زوجها في اليمن أربعة أوراق لأحج بها بيت الله فأفرح كثيراُ وأدعو لها ولزوجها بطول العمر.

* * *

في السابعة والستين، في العاشرة صباحاً سأكون قد سئمت من الجلوس في الشمس، وحيداً في البيت. فالصغار ذهبوا الى المدرسة وكنتي ذهبت منذ الصباح الباكر مع ابنتيها لزيارة حفيدي الجريح في المستشفى العسكري بالعاصمة.

أشتهي شايا ساخنا فأقوم مترنحا الى الموقد وأشعله وحين يسخن الشاي أحاول بيدي المرتجفة أن أصب لنفسي قدحاً فيندلق الإبريق الساخن على حضني ويحرق أعضائي حرقا شديداً.

بعد يومين سيبدأ الجرح بالتقيح وبعد عشرة أيام سأموت.

* * *

سيقف قارئ القرآن الضرير على التابوت ويقول:

-" يا موفق يا ابن مسعودة. إعلمْ أنك يا عبد الله في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة. فإذا جاءك الملكان يسألانك فقل لهـم : الله ربي ، محمد نبيي ، الإسلام ديني، الكــعبة قبلتي …."

يهيلون التراب علي وأنا أنظر إليهم. وعند الغروب يأتي ملكان يحملان كتاباً كبيراً ويبدآن الاستجواب فأحاول جاهدا. أعتصر فكري وذاكرتي ويغمرني الحرج ، ونظرات الموتى من حولي تحاصرني وأنسى كل شيء وتختلط عليّ الأمور. ينظر الملكان أحدهما في وجه الآخر في أسف ويطويان الدفتر الكبير ويتركاني في حيرتي !

( 2000 )

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية