الغراب-قصة قصيرة


الغـــراب

في ذكرى ادغار ألن بو

ماجد الحيدر



حلما كان إذن ؟ .... أخبِـرنني يا كاهـنات المعـابد المقدســة، يا مـن يعــرفْنَ تـآويل كـل الرؤى الغـريبة.

حـلماً كان ؟

: لم أعرف كيف دخل غرفتي .. كان شيخاً قوي البـنية، مديد القامة، منحني الأكتاف بعض الشيء، وشعراتٌ بيضٌ نافرات أفلَتَتْ من طاقية رأسه المستديرة المنقوشة بكتابات لم أتبينها. كانت عيناه تلتمعان ببريق هائل السحر ومن أصابعه النحيفة الطويلة كانت أنهار صغيرة من الماء والأضواء تتدفق، لكنها لا تصل الى الأرض. اندفعت نحوه فرِحاً، قلت له: "إني أعرفك.. أنت هو!.. أنت هو !.. أنت الشاعر! ". لكنه تقدم بهدوء ووضع يده على فمي. لم يقل شيئاً غير أني أدركت أنه لا يريدني أن أذكر اسمه، ربما خوفاً عليّ من أمر يعرفه هو.

حين هدأتُ قليلاً لمس جبيني بيُمناه فأحسستُ أن روحي تتخلص من أثقال وأدران أتعبَتْها قرونا طوال. وهدرت في رأسي شيئاً فشيئاً أغنية زرقاء هو الذي ألـهَمَنيها.. أغنية تجيش بالسحر والأسرار والأمنيات. لكزني في مرفقي برقّة فوجدتُني في الخارج ..أسـير وحـيداً في شارع كليتنا القديم. قبل أن تعلو عمارات أباطرة الزمن المـرّ :-

الفندقُ العتيق الذي كان يأوي صديقي القادم من ريف الجنوب ما زال يترنح في المنعطف والمخبز الذي يقابله شرع بالتثاؤب. أصغر بكثيرٍ كنت أنا.. ربتما في العشرين. ها قد بدأ الفجر الصيفي يغمر في خجلٍ أسطح البيوت…دورية الشرطة المتأخرة النعسانة تجوب الشارع في مللٍ، وعصافير جريئات تتقافز فوق الاسفلت المشبع بطراوة الليل طاردةً الكسل من أجسادها الصغيرة...

هـل كنت حقـاً وحـيداً ؟….

لقد ، واللـهِ ، أحسست أن ألوفاً غيري لست أراها تتسكع كالأشباح الحيارى بين الخرائب والساحات..كانوا كلهم شعراء وفلاسفة جائعين. للبعض لحـى متلبدة ورؤوس مغبرة.أو وجوه شاحبة وعيون منطفئة تلوذ بنظارات سميكة بلون الرماد… كانوا كلهم في قمصان اندثرت منها الياقات، ووجوهٍ نسيت رائحة الصابون طويلاً.. كانوا كلهم … آه !

بعضهم ما يزال يلعق هزيمته، وبعضهم ما يزال تراب المقابر يعفر وجهه.. بعضهم خرجوا للتو من الأقبية الظلماء.. وبعضهم نبذهم الأهل والأصحاب الى الأبد.. والقليل.. القليل منهم ما يزال يغني بأصوات أدركها الخوف والوهن.

كانوا كلهـم تعساء ومنفيين..

كانوا كلهم لا يملكون ما يشترون به أقلاماً يكتبون بها وصاياهم أو تواريخ عارهم !

" أيتهـا الأغنية الزرقاء.. انتظري قليلاً !

" أيتها الأغنية الزرقاء .. لا تهربي منـي .."

" انتظري أيتها الأغنية.. ريثما أنال قلمـاً وأوراقا ! "

*** ***

في ناصية الشارع دكان يفتح حتى الصباح. فلأغتنم الفرصة إذن حين يجتمع أفراد الدورية عند بائعة اللبن التي افترشت زاويتها المعهودة للتو..تقدمت فرأيت الدكان مضاءً وحمدت اللـه إذ رأيت علبة من الأقلام تركن في إحدى الرفوف فابتعت احدها .. لن أتكلم كثيراً فربما يفضحني صوتي..

استدرت لأعود الى الخربة التي أقيم فيها. قلت لنفسي "سيكون مريباً أن أطلب ورقاً في هذا الوقت. إن هيئي البريّة المتوحشة تكفي وحدها لإثارة شك المختار / البائع ! .. علبة دخان فارغة التقطها من قارعة الطريق ستفي بحاجتي."

فجأة ومثل لعنة القتها ساحرة شمطاء ، مثل مرض مداهم، أحسست بعطش ضارٍ… لا ، ليس العطش !..إن بي رغبة لا تقاوم في شرابٍ بارد : مشروبٍ غـازيٍ على وجه التحديد ! يا للسماء! هل تعرف كل قواميس الأرض ماذا تدعو شهوة شاذة كهذه.. وفي آخر الليل !؟

نعم ..نعم أيها الخَبال ! إن في جعبتي بقية من نقود.!

أمسكت بالقنينة الباردة وشرعت بإفراغها في جوفي. واحسست بلذة عارمة تغزو جسدي برمته وتمتد الى أناملي. قلت لنفسي " هو ذا حقاً رحيق الالهة !"

*** ***

كيف حدث الأمر بالضبط ؟ لست أذكر إلاّ انني حين أفرغت القنينة وأردت إرجاعها أبت العاهرة أن تفارق فمي . ثمة رقى سود الصقتها بشفاهي وجعلتها تزداد التصاقا كلما دفعتها بعيداً.

- " ابتعدي ! " صحت بها " ابتعدي يا افعى الشيطان ! لم تكن إلا رغبة مجنونٍ عابرةٍ في آخرة الليل، فابتعدي ! "

هيهات.. هيهات !.. صارت القنينة تكبر وتعظم.. ها إنها تجثم الآن على صدري وتمتص منه الأنفاس. بذلت آخر ما تبقى من قواي قبل أن اموت اختناقاً فانفلتتْ وسقطتْ أرضاً وتهشمتْ. وكما في الحكايات رأيت بأم عيني كِسَر الزجاج المتناثر تتجمع ثانية وتتشكل على هيئة غرابٍ فاحم الريش، عريض الجناحين.

إنتابني فزع عظيم فانهزمت راكضاً دون وجه. لكن الغراب ظل يلاحقني. كان ينعب وهو يطير بثقة واطمئنان على علو أشبار قلائل فوق هامتي. وخيل لي أن في نعيبه ما يشبه كلام البشر. تعبت وأدركني اليأس وأبطأت، فأبطأ هو الآخر. وتوقفت فظل محوماً فوق رأسي… أخذ الصوت يزداد وضوحاً :

- " قاق..قاق.. ايها السـيد..أنت حصـتي.!

قـاق .. أيها السيد.. قاق.. أنت حصتي …! "




*** ***

ثلاثون عاماً مضت.

كسرت قلمي ورميته في النهر.

طلقت زوجتي، وأبدلت عملي ثلاثين مرة.

هجرت أهلي ورحلت من مدينتي.

غيرت شكلي ألف مرة ومرة.

لكن " غرابي " ما فارقني أبدا..

انصتـوا معـي .. ألا تسمعون :

- " أيها السيد .. أيها السيد .. أنت حصــتي ! "

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية