العالم في عين امرأة : شاعرات عالميات
الحلقة الخامسة
ترجمة وتقديم : د. ماجد الحيدر
هذه إضمامة من أزاهير أبدعتها عبقريات عدد من أميرات الشعر الإنكليزي الحديث. ولقد أقدمنا على ترجمة هذه المختارات لما لمسناه من أن القارئ العربي عموما لا يعرف إلا النزر اليسير عما قدمته الشاعرات الإنكليزيات من إسهامات في أنطولوجيا الشعر الإنكليزي بينا هو على إطلاع حسن بمبدعات أخريات في مجال القصة والرواية مثل فرجينيا وولف وبيرل بك ومارغريت ميتشيل وهارييت ستو والأخوات برونتي وغيرهن. ولسنا في هذا التقديم الموجز في معرض تعريف الأدب النسوي أو مزايا وصفات الشعر النسوي بالتحديد لكنا نشير الى أننا سنقف في هذه المختارات على نماذج مختلفة من الأساليب الفنية والتوجهات النفسية أو المواقف الفكرية بدءا من الصوفية وانتهاء بالثائرة المتمردة يجمعها كلها انشغال إنساني عميق وإحساس مرهف بالحياة: بأحزانها وأفراحها، بآمالها وقسوتها، بجمالها ومظالمها، كل ذلك بعين المرأة الذكية المرهفة التي لا تخطئ التفاصيل. بقي أن نحيل الى أن الدارسين يطلقون أحيانا تسمية الأدب الإنكليزي على كل ما يكتب باللغة الإنكليزية بغض النظر عن جنسية الكاتب أو الكاتبة وهو ما يفسر إدراج شاعرتين أمريكيتين ضمن هذه المجموعة.
سلفيا بلاث (1932-1963)
Plath Sylvia
شاعرة وقاصة أمريكية، عرفت أعمالها بخيالاتها الوحشية وانهماكها في مواضيع الموت والاغتراب وتدمير الإنسان لذاته. لم تحز شهرتها إلا بعد انتحارها حيث تنامت شعبيتها ومكانتها حتى عدت مع حلول السبعينات من القرن الماضي واحدة من أعظم الشعراء المعاصرين.
في مقتبل عمرها هيمنت عليها رغبة شديدة في كتابة أشياء متميزة تفوق بها أقرانها فكان أن نشرت أول قصائدها ولما تزل في الثامنة من عمرها. دخلت العديد من المسابقات الأدبية وفازت فيها وحصلت عام 1955 على منحة دراسية في كلية سمث ثم غادرت الى جامعة كامبرج في بريطانيا في منحة مماثلة حيث التقت بالشاعر الإنكليزي الشهير "تيد هيوز" (1930-1998) وتزوجت منه عام 1956. أصدرت عام 1960 أول أعمالها المهمة "الصرح العظيم" وهو مجموعة من الأشعار كتبت بين عامي 1956 و 1960 كشفت عن أسلوبها البارع الدقيق الشديد الخصوصية، أردفتها عام 1963 بروايتها الوحيدة "ضجيج النواقيس" التي تصف فيها الانهيار العقلي لفتاة جامعية تتعرض لضغوط الحياة في الولايات المتحدة مما يدفعها الى محاولة الانتحار. أما الأعمال التي نشرت بعد وفاتها فتشمل "أريال" 1965، "عبور الماء" 1971 وهما مجموعتان شعريتان عكست الأولى (التي عدها النقاد أفضل أعمالها) هواجس الموت واستغراقها المتزايد في الذات ، "رعب جون وإنجيل الأحلام" 1977 وهي مجموعة من القصص القصيرة والقطع النثرية، إضافة الى عدد من كتب الأطفال والمراسلات كما فازت "الأعمال الشعرية الكاملة لسلفيا بلاث" بجائزة "بولتزر" لعام 1982، وهو الكتاب الذي أعده زوجها "تيد هيوز" الذي تحمل طيلة حياته اللوم والنقد من أنصار ومعجبي سلفيا بلاث الذين حملوه مسؤولية موتها خصوصا أنه كان يرفض الحديث عنها حتى عام وفاته حين أصدر كتابه "رسائل عيد الميلاد" الذي ضم 88 قصيدة كلها تقريبا موجهة الى بلاث وتتميز بصراحتها وإخلاصها الشديد .
"1"
آخر الكلمات
لا أريد صندوقا عاديا
أريد تابوتا من حجر
بخطوط كجلد النمور
ووجه مستدير كالقمر
لأحدق فيه
أريد أن أراهم حين يجيئون
ينقبون عن الجذور
بين المعادن البكماء
بل أكاد الساعة أراهم :
بوجوههم الشاحبة البعيدة كالنجوم.
هم الآن لا شيء ، ولا حتى أطفال
أخالهم دون آباء أو أمهات
مثل الآلهة الأولى.
سيتساءلون عن أهميتي
علي أن أحلي أيامي وأحفظها كالفاكهة !
مرآتي تغيب في الضباب
بضعة أنفاس وتنطفي تماما.
الزهور والوجوه تستحيل ملاءة بيضاء.
أنا لا أثق بالروح
إنها تفر كالبخار في الأحلام
من ثقب في الفم أو ثقوب العيون.
ليس في وسعي إيقافها
ويوما ما لن تعود
لكن الأشياء ليست هكذا
إنها تبقى ببريقها الخصوصي الصغير
الذي يلهبه كثر الاستعمال
وتكاد تخرخر كالقطط
وحين تبرد أخامصي
ستمدني أعين فيروزاتي بالعزاء
دعوني أستصحب أواني مطبخي النحاسية
لسوف تزهر قدوري الحمراء كأزهار ليلية عبقة
ستلفني بضمادات ، ستحفظ قلبي
في رزمة أنيقة تحت أقدامي.
سيصعب علي أن أعرف نفسي
في الظلام الدامس
وبريق هذه الأشياء الصغيرة
أحلى من محيا عشتار
"2"
أغنية الصباح
الحب أطلق حراكك
فمضيت كساعة ذهبية سمينة
القابلة ربتت باطن قدميك
فأخذت صرختك العارية
مكانها بين العناصر
وترددت أصداء أصواتنا
تمجد وصولك وتعظمه :
تمثال جديد
في المتحف البارد
عريك يظلل احساسنا بالأمان
نقف حولك مندهشين مثل جدران
الغيمة صارت أمك أكثر مني
الغيمة التي تقطر من جسدها مرايا
تعكس اندثارها البطيء
على يد الرياح
مثل أنفاس الفراشات
تترد أنفاسك طوال الليل
بين الزهور القرنفلية المنبسطة
فانهض لأنصت لها:
فيموج في أسماعي بحر بعيد
صرخة واحدة
فإذا بي أزل من سريري
برداء نومي الفكتوري
وتفتح فمك النظيف كأفواه القطط
النافذة المربعة
يغمرها الضوء وتبتلع نجومها الكسلى
فتروح تجرب حفنة الأنغام التي تعرفها
وترتفع الأصوات مثل بالونات
"3"
أغنية حب الصبية المجنونة
أغمض عيني فيخر الكون ميتا
أفتح أجفاني فتولد الأشياء من جديد
(أظن أني صنعتك في رأسي)
تخرج النجوم لترقص الفالتز
بثياب حمر وزرق
ويعدو الظلام مقتحما كيفما شاء
أغمض عيني فيخر الكون ميتا
حلمت أنك أغويتني للسرير
وغنيت لي ذاهلا
قبلتني في جنون
(أظن أني صنعتك في رأسي)
تهوي الآلهة من السماء
تنطفي نيران الجحيم
وتخرج الملائكة وحاشية الشيطان
أغمض عيني فيخر الكون ميتا
خلت أنك عدت كما وعدت
لكنني شخت ونسيت اسمك
(أظن أني صنعتك في رأسي)
كان الأجدر بي
أن أعشق طائر الرعود
فهو على الأقل
يهدر عائدا في الربيع
أغمض عيني فيخر الكون ميتا
(أظن أني صنعتك في رأسي)
"4"
حياة
تلمسها : لا تخش منها أن تجفل كمقلة العين :
أرض النفوذ هذي
المستديرة مثل بيضة ، الصافية كدمعة.
هنا يمكث الأمس ، والعام الذي مضى …
سعف النخيل الفتي ، والزنابق
واضحات مثل زهور
فوق النسيج الشاسع الساكن الريح
لستائر طرزتها التصاوير.
بأظفارك اقرع الزجاج
لسوف يرن كأجراس صينية تثيرها أرق النسمات
ولكن ما من أحد يرفع ناظريه اليها
أو يتكلف الرد
فالقاطنون خفاف كالفلين
وكلهم منشغل الى الأبد
عند أقدامهم ينحني موج البحر في خط وحيد
لا يدفعهم غضب الى انتهاك الحدود
هم معلقون في الهواء
تشدهم أعنة قصيرات
يضربون الأرض كجياد المواكب
وفوق الرؤوس ثمة غيوم
زاهيات ، ذوات خصلات
كوسائد فكتورية
هذه العشيرة من وجوه عيد فالنتين[1]
قد تسر أحد الجامعين
إنها لتبدو حقيقية
مثل خزف صيني.
وفي مكان آخر
سيكون المنظر أكثر وضوحا
إذ ينهمر الضوء دون انقطاع
فيغشي الأبصار
وتسحب امرأة ظلها في دائرة
حول صحن صغير
عادي من صحون المستشفيات
يشبه القمر ، أو قصاصة من ورق فارغ
وكأنه خارج من حرب
خاطفة تخصه هو وحده
إنها تحيا في هدوء
دونما ارتباط
كجنين في حافظة زجاجية
كالمنزل المتداعي
كالبحر إذ استوى وافترش لوحة ما.
أبعادها الكثيرة
تمنعها من الدخول
والحزن والغضب المطرودان
يغادرانها الآن
والمستقبل مثل نورسة رمادية
تثرثر في صوت الرحيل الذي كصوت القطط
والهرم والخوف
يرعيانها مثل ممرضتين
بينا ثمة رجل غريق
يشكو من برد فظيع
يزحف
خارجا من البحر
"5"
المرآة
فضية أنا وصارمة
ومبرأة من الانحياز والهوى
أبتلع أنا كل ما أرى
دون إبطاء ، وكما هو
دونما غشاوة من حب أو بغضاء.
أنا لست صادقة وحسب
-كعين اله صغير بأربعة زوايا-
لكني أمضي جل وقتي متأملة جانبي الآخر
الجانب الوردي المبقع
الذي أطلت فيه النظر
حتى حسبته شطرا من قلبي
لكنه يضطرب ويترجرج
وتفرقنا الوجوه والعتمة
المرة تلو الأخرى
**
أنا الساعةَ بحيرةٌ
تنحني على صفحتي إمرأةٌ
تفتش في امتدادي عن حقيقتها ،
ثم تستدير الى أولئك المنافقين : القمر و الشموع
ها أنا أبصر ظهرها وأعكسه في أمانة
فتكافئني بدموعٍ ، واهتزاز في اليدين.
مهمةٌ أنا عندها.
إنها تجيء وتذهب ،
ويحل وجهها مكان العتمة كل صباح.
في داخلي أغرقت ذات يوم صبيةٌ صغيرةً ،
وفي داخلي تقفز نحوها يوما بعد يوم
إمراةٌ عجوز
مثل سمكة مريعة.
"6"
سوناتة الى إيفا
حسنا ، لنقل أن في وسعك
أن تأخذ جمجمة وتحطمها
كما تحطم ساعة فوق الجدار
ستسحق العظام بين راحتي الرغبة الحديديتين
تأخذها ، تتفحص حطام المعادن والأحجار الثمينة
هذه كانت امرأة : بكل أحابيلها وقصص الحب
التي تفشيها الهندسة الصامتة
للعجلات المسننة والأسطوانات المحطمة
والنزوات الميكانيكية
واللوالب العاطلة للرطانات التي لم تُقَل بعد
ما من امرئ أو نصف إله
يقدر أن يلم أنقاض الأحلام التي صدئت
والعجلات المعدنية المثلمة
لأحاديث تافهة
عن الطقس ، والعطور ، والسياسة ، والمثل الثابتة.
أما الطائر الأخرق فيقفز عاليا
ثم ينحني ثملا ليغني
للساعة الثالثة عشرة التي طاشت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق