(قصة قصيرة)
حين غادرتُ المدينةَ كانت ما تزال تحترق .. لم ألتفت ورائي لألقي عليها النظرةَ الأخيرةَ .. لكنني أحسستُ أن ألسنةَ اللهبِ ما تزالُ مرتفعةً ، أدركتُ ذلك من الهسيسِ الذي لا يكاد يُسمع ، وأخبرني بذلك الهواءُ ، ورملُ الصحراء الذي غاصتْ فيه أخفافُ راحلتي ، والكثبانُ التي اصطبغتْ بضياءٍ برتقاليٍ شفيف .([1])
كانت ناقتي هادئة على غير عادتها ، وهذا ما كان له أهميته في تلك الساعات ؛ فناقتي – نسيتُ أن أخبركم – هي معلمي الأول ، ودليلي الذي يفلسف لي الحياة . كانت هي من نصحني بإحراق هذه المدينة ، وكل المدائن التي أحرقتُها من قبل .
توقعت منها أن تفرح ، أن ترقص جذلا ، أو أن تهيج على الأقل . لكن عيونها قالت لي اليوم :
- لا شيء يهم ! لم يعد من شيء يمكن أن يثيرني أو يُدخِل الحزنَ أو السرور الى قلبي الهرِم .. كل شيءٍ تافهٌ .. كل شيءٍ عقيمٌ .. تفاهات ، تفاهات ، تفاهات مدى الأبصار .
ورفعتْ رأسها الى السماء برهةً ثم استوت وراحت تخب دونما اكتراث ([2])
لم يطل الأمر حتى ظهر لي الشيطان من جديد . وكما يفعل في البرّية الخارجة من كل مدينة أحرقها .. راح يساومني على ناقتي وزنادي وفتيلي . ورفضتُ كما في كل مرة . قلتُ له إن الوصايا تقول : لا تجرّبْ الإلهَ ربَّك . وقلتُ له أنْ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان . وقلت له أن "الجُمانة" ما رقأت أدمعُها مذ فارقتُها ، وإنها تنتظرني هناك .. في رُستاقها بالأهواز البعيدة . لكنه استل من الهواء مرآته السحرية وأراني صورة فرسان مدججين وصلبان شائكة وخيل مطهمة ، ورماح تلمع أسنتها في النقع ، وقال لي :
- حتامَ تفرّ من كورة الى كورة ؟ وهؤلاء جند ابن زياد يبحثون عنك منذ ألف عام . وقال لي إن ابن زياد لن يكتفيَ هذه المرة بأن يدور بك في أزقة البصرة وأسواقها. وإنهم قد اغتصبوا "الجُمانة" و "أناهيد" و "ليلى" و "سلمى" وأن الخليفة في دمشق قد أهدرَ دمكَ . غير أنني ضحكت ساخرا وقلت له :
- أبعدَ ألفٍ أخاف ابنَ سُميّة !؟ ([3])
وضرب الشيطان الهواء فاختفت المرآة . وضرب الهواءَ من جديد فإذا هو حية تسعى . وراح يماشيني ويكلمني في صدق ظاهر وقال :
- أنا أعلم أنك تحب أن تراني بهيئتي هذي .
فأومأتُ مصدّقا . وقال لي :
- أما تعبتَ وأنتَ لما تزلْ تُساقُ من سجنٍ الى سجن ، من البصرة الى سجستانَ ومن الطفّ الى كابلستان ومن رامهرمز الى قندهار ومن دمشق الى الموصل ؟
فقلت له :
- ليس بعدُ !
وقال إنه مثل أخٍ لي كبيرٍ فسكتُّ موافقا ، لكن ناقتي أدارت رقبتها الطويلة اليه في وقارٍ ورمقَتْهُ بنظرةٍ تائهةٍ لا معنىً لها ، ثم عادت تجترّ ضجرها.
أسكتَتْهُ تلكم النظرة برهةً طويلةً ( لقد كان مثلي يَجِـلُّها ويحسَب لها حسابا عظيما) . ثم أنه شرع يتملقها ويحدو بأبيات لطرفة ولبيد . حتى إذا اطمأن لها صعّد في الهواء رويدا ودنا مني وهمس :
- نشدْتُكَ بحقّ بُردٍ والأراك ، وبما بين صُلب الزمان وترائبه من نُطَفِ الشعراء والفلاسفة والمجانينَ ومشعلي الحرائقِ .. أن تبيعني عُدّتكَ السحريةَ هذي.
- وما تصنعُ بها ؟ سألته وأنا أدرى بالجواب.
- ألم أنبئك ألف حين أن لي هناك (وأشار الى المدى الغامض) مدنا أتوق الى إشعالها ، وأن لي –أنا الآخر- إبنَ زيادي الذي يتعقبني من قبل أن تهبط منها بمليون عام؟
- فلتشعلها بدمك ! ألستَ مصنوعا من نار ؟
- بلى ، ولكن ناري شائخة .. ناري كسيفة باردة !
وتهدج صوته .. وترقرت عيناه . ورأيتُ الشيطانَ يبكي .. رأيته مخذولا مهزوما. وكدتُ أميل عليه لأواسيه لكنه أدرك ما بخاطري فانقلب من حياءٍ غمامةً بيضاء صغيرة تُساقطُ من حولي رذاذا دافئا يرطب قميصي ولا يبلّه. وسمعته من خلل السحاب يتضرع اليّ:
- إذا لم يكن الى شرائها من سبيل ، فهل لكَ يا بن عمّ أن تعيرنيها بضعَ سويعات .. إن في حشايَ جمراً ولا كجمر الشياطين !
- وهل من ملكٍ يعير تاجه وصولجانه ؟
- أنا فعلت ، نعم .. ومن أجلكم أنتم ..
-وندمتَ ؟
-ندمتُ ؟ لا … ربما .. لكني أشعر أن هناك شيئا ناقصا في قصيدتي .. أحس أن لوحتي يعوزها لونٌ ما .
-أهو البرتقالي ؟
-البرتقالي ؟ ربما … ([4])
وهدرت ناقتي . ثم قرّتْ .. واستغرقت في تفكيرٍ عميق . وغمر الكونَ صمتٌ مريب . وبدأتُ أتوجسُ خيفةً . وراح الشيطان يتلوى ويكّتم تنهداته الواجلة.
وحدث أخيرا ما كنا جميعا – أنا وناقتي والشيطان- نترقبه ونخشاه ونتوق اليه مثل آلام طلقٍ محتوم .
وأرسلتْ ناقتي صيحةً عظيمة .. وانتفضتْ . وأستدارت صوب المغرب ، وأطلقت جِرانها للريح كمن به مسٌّ من جنون.
-الى أين ؟ "هتفتُ بها جزِعا" ليس هذا الطريقُ الى ديار "الجُمانة".
لكنها صمّت آذانها ، ومضت لا تلوي على شيء . كانت في حالٍ من الوجد والذهول وهي تشق طريقها بين أسراب القطا المفزوع .. واكفهرت الخيمة وجهرت بالعويل .. وحلّقت .. وابتلعها الظلام ..
أدركت أن لاجدوى من الرجاء فأفلتُّ الحبل ، ولعنتُ الزمان .. ولعنتُ عبّادا وعُبيدا .. ولعنت كل سلطانٍ ودعيّ .. ولعنت الشيطان .. ولعنتُ نفسي ..
ومن بعيد .. في ضوء الشفق الشاحب .. أبصرتُ أسوار مدينةٍ جديدة ..
7/11/2001
[1] قال صاحب الشعر والشعراء : ولماّ وُلّيَ سعيد بن عثمان بن عفّان خراسان استصحب يزيدا فلم يصحبه وصحب عبّاد بن زياد بن أبي سفيان فلم يحمده وكان عبّاد طويل اللحية عريضها فركب ذات يوم وابن مفرغ معه في موكبه فهبت الريح فنفشت لحيته فقال ابن مفرغ :
ألا ليتَ اللحى كانت حشيشا فنُعلفها دواب المسلمينا
[2] وقال صاحب الشعر والشعراء : وأخذه عبيد الله بن زياد فحبسه وعذبه .. وحمله على بعير وقرن به خنزيرة .. فطيف به في أزقة البصرة وأسواقها والناس يصيحون خلفه : إين جيست ؟
[3] وقال صاحب الأغاني : وطلب عليه (عباد بن زياد) العلل ودس الى قوم كان لهم عليه دَين فأمرهم أن يقدّموه اليه ففعلوا فحبسه وأضرّ به ، فبعث اليه أن بعني الأراكة وبُردا ، وكانت الأراكة قينةً لابن مفرغ وبردٌ غلامَه ، ربّاهما وكان شديد الضّن بهما ، فبعث اليه ابن مفرّغ مع الرسول : أيبيعُ المرءُ نفسه أو ولده ؟ فأضرَّ به عبّاد حتى أخذهما منه .
[4] ثم أن عبيد الله بن زياد أمر به فحُمل الى سجستان الى عباد بن زياد فحُبس بها فكان مما قال في الحبس :
حيّ ذا الزور وانهه أن يعودا إن بالباب حارسـين قعودا
من أســاوير لا ينون قـياما وخلاخيل تُسـهر المولودا
افإنس ؟ ما هكـذا صبر إنسٍ أم من الجن أم خلقتُ حديدا
لا ذعـرتُ الســوامَ في فلـــق الصبح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما والمنايا يرصدنني أن أحيدا
قال وتمثل الحسين بن علي (رض) بهذين البيتين لما أتته بيعة يزيد بن معاوية فعلم من معه أنه خارج عليه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق