التجربة (قصة مترجمة)

التجربة

قصة قصيرة


للكاتب الجورجي: إراكلي لوموري

ترجمة: ماجد الحيدر


في الصباح الباكر رنّ جرس الهاتف. كان "كوجي" يغط في نومٍ عميقٍ لا ينوي الاستيقاظ منه، لكن الهاتف واصل الرنين فاضطر الى النهوض والرد عليه. بذل قصارى جهده ليعود الى وعيه ويفهم ما يسمع: هناك شخصٌ ما يُدعى "تيمو" يدعوه الى حفلِ زواجٍ لشخصٍ آخر يدعى "جينا" يقام في ضاحية "كوجوري" خارج "تبليسي".

واختلطت الأمور على "كوجي" .. أي "تيمو"؟ وعن أي "جينا" يتحدث؟ وما علاقة "كوجي" بكل ذلك؟

ولكن، وبعد أن أجهد فكره قليلاً، فهم، أو بالأحرى تذكر، كلاّ من "تيمو" و "جينا"؛ لقد كان هذان زميليه أيام الدراسة. بيد أنه، وبالرغم من تذكره إياهما، ظل عاجزاً عن فهم أي شيء؛ إذ لم يسبق أن ربطته بهما أية صداقة حميمة. وكان يعتقد على الدوام أنهما يستخفان به. وها قد مضت خمسة أعوام منذ أن تخرجوا جميعاً ولم يلتقوا منذ ذلك الحين، حتى أن أحداً منهما لم يكلف نفسه عناء تذكره ولو مرةً واحدة. والآن، يفاجَأ بدعوةٍ كهذه؟

واستعاد "كوجي" صوابه أخيراً، واستنتج أن زملاءه القدامى كانوا يكنّون له الاحترام فعلاً، بالرغم من أنهم ظلوا محافظين على المسافة ما بينه وبينهم، ولا بد أن سهمه قد صعد بينهم الآن لسببٍ ما. لم يستطع العثور على تفسيرٍ ثانٍ. وارتفعت معنويات "كوجي" لأن مثل هذه الإلتفاتة قد داعبت غروره.

-" وإذن أنا في نهاية الأمر لستُ ذلك النكرة!"

لم يكن "كوجي" قد أكمل ارتداء ثيابه حين داهمه "تيمو" وهجم عليه كالنمر، يحتضنه ويقبله هنا وهناك ثم يجره الى الشارع جراً.

-" لن تتصور مقدار تشوقنا إليك! يجب أن تأتي معنا في الحال. لا، لن نقبل أية أعذار! نحن نتحرق شوقا لرؤيتك، يا صديق الصبا، يا من أضحكَنا كثيراً! لسوف تستمتع حقاً! لقد طلب مني "جينا" أن آتي لاصطحابك."

كان في سكوك "تيمو" ضربٌ من الغرابة، وبدا عليه التوتر. مضى الاثنان الى السوق واقتنيا باقة من الأزهار ثم عددا من قناني الشمبانيا من احد الأكشاك الحقيرة. وظل "تيمو" يثرثر دون انقطاع ويلوك قصصا في غاية السخف ثم يروح يضحك عليها، ويتذكر أيام طفولته، وسنوات الدراسة، ويتحدث في نشوةٍ غامرةٍ عن "إيكا" عروس "جينا" ويصف جمالها الخارق وذكاءها وسجاياها الرائعة، وكيف بدأت العلاقة بينها وبين "جينا" منذ العام الأول للدراسة الجامعية حين تقدم الاثنان الى قسم علم النفس، ثم الحب الكبير الذي جمع بينهما، وكيف وقف الآباء الأغبياء في طريق سعادتهما، وكيف فرّا الى "كوجوري" وكيف رفض أهلوهما أن يستقبلاهما، وكيف أن الأصدقاء قرروا إقامة حفل الزفاف المتواضع هذا.

وأخذ "كوجي" يتطلع من نافذة الحافلة وهو يبتسم كالأبله الذي يتوقع حدثاً سعيداً، ويستشعر البرودة المحببة لقناني الشمبانيا في حضنه.

-" يا للروعة !" كان يفكر مع نفسه.

لم يستغرق الطريق الى "كوجوري" أكثر من ثلاث دقائق، أو هذا ما خُيل الى "كوجي". كانت بضع سيارات تقف خارج بناية كبيرة ذات طابقين وثمة صبية وصبايا ينعمون بالجمال والعافية والأناقة يشوون اللحم في ساحةٍ صغيرةٍ كستها أوراق الأشجار الصفراء.

هذا الهدوء غير المألوف، وهذه الأشجار الزاهية، وتلك الوجوه اللطيفة غمرت "كوجي" بأحاسيس رقيقة جيّاشة ، فأدرك الآن أنه يحب العالم بأسره.

-"أية روعة!" واصل التفكير.

في الداخل التقى بزملائه القدامى في المدرسة، واستقبله الجميع بالود والترحاب. استفسروا عن أحواله، وتحسروا على الأمس الغابر الجميل الذي ولّى سريعاً واشتكوا من قلة الوقت الذي لا يسمح لهم باللقاء إلا لماماً. وطفق الجميع يردد:

-" ألم تكن تلك أياماً طيبة؟"

ونسي "كوجي" تماماً أنه لم يحدث أن جمعته بهؤلاء أيّة صداقة حقّة، وأنه كان على الدوام يمقت المدرسة أيما مقت.

لم تقع عيناه على "جينا" و "إيكا" فاستنتج أن عملاً مهما اقتضى منهما الخروج. وفي هذه الأثناء كانت المائدة قد أعدت من أجل 20-25 ضيفا من الشباب الذين أفرغوا العديد من القناني في انتظار قدوم العروسين الذين تأخرا في الوصول.

وأخيرا صاح أحدهم: "ها قد وصلا!"

وهبّ الجميع واقفين، ورمى "تيمو" باقة الزهر بين يدي "كوجي" وانفتح الباب على مصراعيه، وظهر العريس والعروس.

وفجأةً فقدت كل الأشياء ملامحها في ناظريه وغامت في ضبابٍ كثيف. ثم انجرفت مولية الى حيث لا يعلم. وكأنها كانت انعكاسا في حزمةٍ من الضوء هائلة، ارتعشت ثم ذابت في الأثير. وغابت الكائنات جميعاً: الهواء والضياء والجدران والناس.

وتوقف الزمن.

لقد كانت العروس ... رجلاً!

"إيكا" كانت رجلاً!

رجلاً مربوعاً، بلحيةٍ وشاربين، في فستانٍ طويل أبيض.

وأوشك "كوجي" على الإغماء، وكاد الجنون يعتريه، ولم يستطع أن يصدّق عينيه.

وتفجر شيءٌ ما في رأسه مثل مليون "ميغاطن" من المتفجرات! وانقضت مليون مليون سنةٍ قبل أن يطلع عليه النور:-.... إنه ... يحلم!

وشعر ببعض التحسن، وتحرك الزمن من جديد. ونجح أخيراً في انتزاع عينيه بعيداً عن العروس –البيضاء كالثلج- ثم أحس بأن هناك من ينخسه من الخلف.

-"هيا، اذهب وهنّئ العروسين!"

كان ذلك صوت "تيمو" بالتأكيد. أما الباقون فقد اندفعوا صوبهما بالفعل وأحاطوا بهما معانقين ضاحكين كما لو أن شيئاً لم يحدث. وفرقعت قناني "الشمبانيا" هنا وهناك، وتكلّف "كوجي" مشقة هائلة ليخطو خطوتين ويتمتم ببعض الألفاظ، فعانقه "جينا" وقبّله في الخدّين، ومدّت "العروس" يدها "يده؟" فتبيّنها شائكة معروقة.

غاص كوجي" في أحد المقاعد وقد لفّه الذهول، وعض على شفتيه بكل ما أوتي من قوة. ولكنه أدرك –حتى دون أن يفعل ذلك- أنه لم يك يحلم. إنها الحقيقة بعينها. وتفكَّر في وجوم:

-"إما إنني مجنون تماماً أو إن العالم من حولي هو المجنون!"

وهمس "تيمو" في أذنه:

-" ما رأيك؟ أو ليست حسناء؟"

فهزّ "كوجي" رأسه.

كانت الوليمة في أوجها، وطفق المحتفلون، بعد أن أجهزوا على "الشمبانيا" يفتحون قناني النبيذ وينشدون أناشيد الاحتفاء بالزوجين العتيدين ويرجون لهما الرخاء والهناء!

-" وتأكدوا من قدوم ولي العهد في غضون تسعة أشهر!"

واظب "كوجي" على إتراع كأسه وهو خاوي الرأس، وصار بعد خمس عشرة دقيقة ثملاً تماماً فاستعاد قدرته على التفكير. واعترته فجأة رغبة عارمة في النهوض والجهر بالحقيقة بأعلى صوته، وأصبح الآن متحفزاً ومستعداً لفعل ذلك في أية لحظة، غير أنه لم يحرك ساكناً، واقتنع بالتدريج بأنه سيموت إذا لم يصرخ بالحقيقة في التو والساعة.

واصل الحاضرون المرح بينما كانت العروس تنهش في لذّةٍ غامرةٍ ساق دجاجة أمسكتها بيد ملفوفةٍ في قفّازٍ أبيض نقّعه النبيذ الأحمر. وراح "كوجي" يستعرض الضيوف فلم يلحظ في البدء أي شيء خارج عن المألوف، لكنه سرعان ما انتبه الى تعابير الضياع التي ارتسمت على أوجه أربعةٍ منهم فشعر ببعض التحسن وقال لنفسه:

-"وهكذا فأنا لست الوحيد"

-"استميحك العذر، هل أنت على معرفةٍ وثيقةٍ بـ .. إيكا؟" سأل واحداً من الأربعة.

-"لا، لست كذلك. لماذا تسأل؟"

-"هل تعجبك؟"

-"أوه، نعم! إنها رائعة الجمال!" تلفظ الشاب الكلمات الأخيرة في نشوة.

-"ولم تلحظ شيئاً؟ أليس كذلك؟" همس كوجي، فانفجر الشاب صائحاً:

-"ماذا تريد في النهاية؟ أغرب عن وجهي! أنا لا أعرف شيئاً!"

ورمى "كوجي" بنظرةٍ قاتلة جعلته يرتد على أعقابه.

ثم تقدم من ضيفٍ ثانٍ:

-"عذراً يا سيدي، ألم تلاحظ شيئاً غريباً؟"

-"مثل ماذا؟"

-"إيكا"

-"إنها جميلة، فاتنة، رقيقة، ذات حسنٍ لا يقاوَم! هل اكتفيت؟" وأشاح عينيه على غير هدى حتى استقرتا على كأس الشراب.

أما الضيفان الآخران فإنهما لم يتنازلا حتى بالرد عليه.





وأصبح "كوجي" محطماً فانهار في يأسً شديدٍ على أحد الكراسي وهو يغالب دموعه.

كان الحفل يوشك على الانتهاء، عندما شرع أحدهم يميل رأسه وسناناً، وأخذ الثاني يشعر بالغثيان، ومضى ثالثٌ يشرب لا لسببٍ محدد بل بدافع الاستمرارية لا غير. أما "كوجي" فإنه لم يقصِّر هو الآخر، بل ظل يشرب ويشرب حتى يتمكن من القيام وقول الحقيقة.

ونهض أخيراً... ولكن بدلاً من صيحة الغضب كان كل ما صدر عنه مجرد تمتمات بائسة انفجر معها في بكاءٍ مرير.

-"إنها لكذبة (نحيب) لا أعرف لماذا (نحيب) لماذا؟ لماذا؟ انظروا الى هذا، ليس.. إنها ليست (نحيب) أنظروا لماذا؟ إنها كذبة.. مستحيل (نحيب) آه (نحيب) ولكن لماذا؟...."

ثم استدار حول المائدة واندفع خارجا نحو الفناء.. نحو الظلمة..

وجاء دور "جينا" الذي لم يذق قطرةٌ طيلة الحفل، والذي كان ينصت الى "كوجي" باهتمام، فنهض وعليه سيماء الرضا ليعلن قائلاً:

-"أيها السيدات والسادة. أرجو أن تعيروني الانتباه. أصدقائي الأعزاء، لقد آن الأوان لنشرح لضيوفنا الخمسة حقيقة ما يدور وأن نقدم لهم اعتذارنا. لقد كان هذا نوعاً من التجربة العلمية النفسية لا أكثر، وهي تجري في العادة على الأطفال الصغار، إذ يتم مقدماً تنبيه تسعة أطفال من مجموع عشرة الى ضرورة أن يسمّوا الأحمرَ أبيضا وأن يشيروا الى الكرة باعتبارها مكعباً وهكذا، ويقوم الشريك العاشر –الغافل هما جرى من اتفاق- بترديد هذه الأكاذيب. إن هذا يحدث للأطفال. ولقد قررت إجراء اختبار من النوع نفسه، أي أن أضعكم في حالة من التوتر. أرجو أن تغفروا لي، لكن العلم هو العلم. وها قد شهدنا جميعاً نتيجة التجربة: إن المحاولة الوحيدة لقول الحقيقة باءت بالفشل الذريع. إسمحوا لي بالاعتذار مجدداً. ولكني كنت فعلاً في حاجةٍ ماسةٍ الى تجربةٍ كهذه.

والآن دعونا نواصل احتفالنا.. إن أمامنا الليل بطوله"

وقصفوا حتى الصباح.

ونسي الجميع أمر "كوجي" ...

Sputnik/ june/1990

ليست هناك تعليقات:

بحث هذه المدونة الإلكترونية